النهضة العلمية والفكرية في أوروبا (الحلقة الخامسة)
قبل الحديث عن موضوع هذه الحلقة سأحاول تقويم المرحلة السابقة من تاريخ أوروبا الذي عرضنا له في الحلقات الماضية، وخاصة مرحلة حكم الكنيسة باسم الدين والدين منها براء في نقاط مختصرة:
1ـ أن النصرانية بعد انتقالها للغرب وبالذات عاصمة العلم في ذلك الوقت –روما- تم تجريدها من روحها وجوهرها الإلهي السماوي واختلطت بكثير من العقائد الوثنية والفلسفات والأفكار والأهواء البشرية.
2ـ النصرانية لا يوجد فيها تشريعات سياسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية وعلاقات دولية...إلخ يمكن أن تكون نظام حياة وحكم ودستور دولة، وكل ما في كتبها روايات تتناقض في بعضها لحياة وسيرة السيد المسيح عليه السلام منذ ولادته إلى أن توفاه الله تعالى ورفعه إليه.
3ـ أن التحالف الذي تم بين الوثنية البدائية والكنيسة كان ضرورة أملتها الظروف التاريخية في المجتمعات الأوروبية، ومثله التحالف والمشاركة في الحكم بين الكنيسة والملوك والأمراء الإقطاعيين، وكذلك خضوع أولئك الملوك والأمراء لسطوة وسلطان الكنيسة.
4ـ وعليه؛ فإن الدين لم يحكم أوروبا في القرون الوسطى ولكن الذي حكمها هم البشر، رجال الكنيسة والأباطرة والأمراء والإقطاعيين، وقد كان نظام الحكم فيها مقسم بينهما على النحو التالي:
* التنظيم الروحي: ويمثله رجال الدين ومجال عمله الكنائس والأديرة ووظيفته الوعظ والتوجيه للخلاص من "الخطيئة".
* التنظيم الزمني: وتمثله الدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية وميدانه شؤون الحياة الدنيوية.
ذلك يعني أنه من الوجهة العلمية كانت مرحلة العصور الوسطى الأوروبية هي استمرار لما قبلها من العصور اليونانية والرومانية، وأن الفصل بين الدين والسياسة كان موجوداً بالفعل، أي أن هناك نوعاً من (العلمانية الموضوعية) كان يسود الحياة الأوروبية طيلة القرون الوسطى.
النهضة العلمية والفكرية في أوروبا
تلك كانت حقيقة الأوضاع التي كانت عليها أوروبا في العصور الوسطى، وقد كانت الشعوب الأوروبية والملوك والأباطرة ورجال الدين الصغار يتحينون الفرصة لإعلان احتجاجهم والتمرد على سيطرة الكنيسة، لذلك لم تكد بوادر الاستنكار ضد تصرفات الكنيسة ولا سيما (صكوك الغفران) تبرز للعيان حتى انتهزها الملوك والأمراء فرصة سانحة لحماية الحركات المعارضة وتأجيج سعيرها، ولولا أن بعض مَنْ يُدعون بالمصلحين الكنسيين وعلى رأسهم مارتن لوثر وجدوا الحماية والعطف من الأمراء والنبلاء لما نجوا من قبضة الكنيسة.
أما العوامل التي ساعدت في القضاء على استبداد الكنيسة وتسلطها على أتباعها فهي كثيرة، نذكر منها ما اعتدنا على قراءته في معظم الكتب التي تحدثت عن الصراع الذي دار في الغرب بين الكنيسة ورجال الفكر والعلم:
1ـ تأثير العلوم والمعارف الإسلامية: عرفت أوروبا الطريق إلى النهضة بفضل مراكز الحضارة الإسلامية في الأندلس وصقلية وجنوب إيطالية التي كانت تشع نور العلم والمعرفة، وأيقظت العقل الأوروبي من سباته وأخذ يقتبس عن المسلمين طرائق البحث ومناهج التفكير العلمي إلى درجة أن الثقافة الإسلامية غزت الكنيسة نفسها، ما أثار رجال الكنيسة على الذين يتلقون علوم الكفار (المسلمين)، ويُعرضون عن التعاليم المقدسة فأعلنت حالة الطوارئ ضدهم وشكلت محاكم التفتيش في كل مكان تتصيدهم وتذيقهم صنوف النكال. وأصدرت منشورات بابوية جديدة تؤكد العقائد السابقة وتلعن وتحرم مخالفيها. حيث يذكر بعض المؤرخين الغربيين: "أن الباباوات بعد أن وقفوا على شغف العالم الأوروبي بالثقافة العربية، سعوا إلى مقاومتها بشتى الطرق، لأنها تشكل خطراً على أوروبا ودينها .. فقد كان يترتب على الذين يريدون الوقوف على حضارة عصرهم أن يجيدوا اللغة العربية، وللعربية فلسفتها، وفلسفتها تناقض الأناجيل، وكان العرب قد سادوا العالم بالقرآن الكريم". ويصف (غابريلي) في كتابه "تراث الإسلام" حال أوروبا النصرانية آنذاك، بقوله: "لقد استعربت (المسيحية) بسرعة لغوياً وثقافياً".
وقد اعترف كثير من مؤرخي الغرب ومستشرقيه بفضل الإسلام والمسلمين على العالم، وبفضل الحضارة الإسلامية على الإنسانية بما قدمته لها من نتاج فكري وحضاري ضخم. يقول سيديو: "كان المسلمون في القرون الوسطى منفردون في العلم والفلسفة والفنون وقد نشروهما أينما حلت أقدامهم، وتسربت منهم إلى أوروبا، فكانوا هم سببا في نهضتها وارتقائها". ويذهب إلى أن المسلمين هم في واقع الأمر أساتذة أوروبا في جميع فروع المعرفة. ويقول المؤرخ الفرنسي الدكتور جوستاف لوبون: "إن العرب أنشئوا بسرعة حضارة جديدة كثيرة الاختلاف عن الحضارات التي ظهرت سابقاً". ويقول ول ديورانت: "لقد ظل الإسلام قرون يتزعم العالم كله في القوة والنظام، وبسطه الملك، وجميل الطباع والأخلاق، وفي ارتفاع مستوى الحياة والتشريع الإنساني الرحيم، والتسامح الديني، والبحث العلمي، والعلوم، والطب والفلسفة ...ألخ". ومحمد أسد بأن الحضارة الغربية المعاصرة لم تُدَشن في مدن أوروبا: ".. ولسنا نبالغ إذا قلنا: إن العصر العلمي الحديث الذي نعيش فيه لم يدشن في مدن أوروبا النصرانية، ولكن في المراكز الإسلامية في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة". أما نيكسون فيقول: "... أما المكتشفات اليوم فلا تحسب شيئا مذكوراً إزاء ما نحن مدينون به للرواد العرب الذين كانوا مشعلاً وضّاءاً في القرون الوسطى المظلمة ولا سيما أوروبا ...".
2ـ النهضة العلمية الأوروبية: ومن النظريات التي لعبت دوراً في زعزعة ثقة الغربيين بالكنيسة:
* نظرية كوبرنيق (1543) الفلكية: فقبل هذه النظرية كانت الكنيسة تعتنق نظرية بطليموس التي تجعل الأرض مركز الكون وتقول أن الأجرام السماوية كافة تدور حولها وقد قالت نظرية كوبرنيق بعكس ذلك. وقد أيدها (جردانو برونو) الذي أحرقته الكنيسة سنة 1600م. ثم (جاليلو) الذي تراجع عن موقفه خوفاً من الإعدام. ولم يكد القرن السابع عشر يستهل حتى تبلور النزاع واتخذ شكلاً جديداً: فقد أصبح النزاع بين النص الذي تعتمد عليه الكنيسة وحججها الواهية وبين العقل والنظر الذي استند إليه أصحاب النظريات الجديدة. وثار العلماء ودعاة التجديد مطالبين بتقديس العقل واستقلاله بالمعرفة بعيداً عن الوحي، ولم يجرؤ دعاة المذهب العقلي (ديكارت) أول الأمر على إنكار الوحي بالكلية، بل جعلوا لكل من الطرفين دائرة خاصة يعمل فيها مستقلاً عن الآخر.
* نظرية الجاذبية الأرضية لإسحاق نيوتن (1642): التي جاءت مؤيدة بقانون رياضي مطرد أبهرت عقول الفئات المثقفة واتخذها أعداء الدين سلاحاً قوياً حتى لقد سميت "الثورة النيوتونية ". ولا شك أن نظرية نيوتن من أعظم النظريات العلمية أثراً في الحياة الأوروبية فهي التي وضعت الفكر المادي الغربي وإليها يعزى الفضل الأكبر في نجاح كل من المذهب العقلي والمذهب الطبيعي. كما أن مذهب الإيمان بإله مع إنكار الوحي والإلحاد ذاته مدينان لهذه النظرية من قريب أو بعيد، على أن هذه الآثار لم تظهر إلا فيما بعد.
* نظرية دارون التي نشرها عام 1859م (النشوء والارتقاء): كان العلم النيوتنى قد ألقي في روع أعداء الكنيسة إمكان تفسير الظواهر الطبيعية (ميكانيكياً) أي دون الحاجة إلى مدبر، لذلك تركز الصراع على إيجاد فكرة عن الحياة تقوم على قانون ميكانيكي كقانون نيوتن في الفلك. وقد استطاع دارون العثور على ذلك القانون المزعوم من طريق بعيد عن مجال الحياة والأحياء، إذ استوحاه من علم آخر هو (علم دراسة السكان) ومن نظرية (مالتوس) بالذات، فقد استنتج من إفناء الطبيعة للضعفاء لمصلحة بقاء الأقوياء، كما توهم مالتوس، قانونه في التطور المسمى "الانتقاء (أو الانتخاب) الطبيعي وبقاء الأنسب".
وقد مهدت نظرية دارون إلى انهيار العقيدة الدينية ونشر الإلحاد في أوروبا، وقد قال عنها أحد العلماء الغربيين "بأنها أبوها الكفر وأمها القذارة". ويقول (وليم جيمس) عن الأثر الداروينى في الأخلاق: "إن فلسفة النشوء والارتقاء قد ألغت المعايير الأخلاقية التي سبقتها كلها لأنها رأتها معايير ذاتية شخصية وقدمت لنا بدلها معياراً أخر نتعرف به على الخير من الشر وبما أن المعايير السابقة معايير نسبية فهي مدعاة للقلق والاضطراب وأما هذا المعيار الذي ارتضوه وهو أن الحسن ما قدر له أن يظهر ويبقى فهو معيار موضوعي محدد".
3ـ حركات الإصلاح الديني: معلوم أنه قامت عدة حركات دينية ضد مفاهيم الكنيسة الضالة الباطلة لم يُكتب لها النجاح وذلك نتيجة تحالف الإقطاعيين مع الكنيسة ضدها. وهناك حقيقة ينبغي ألا تغيب عن أذهاننا وهي أن تلك الحركات كانت دينية ولم تكن تمرداً على الكنيسة لأنها كنيسة بل لأنها "مالك إقطاعي". يقول ويلز "كانت ثورة الشعب على الكنيسة دينية … فلم يكن اعتراضهم على قوة الكنيسة بل على مساوئها ونواحي الضعف فيها ولا يقصد بها الفكاك من الرقابة بل طلب رقابة دينية أتم وأوفي … وقد اعترضوا على البابا لا لأنه الرأس الديني للعالم (المسيحي) بل لأنه لم يكن كذلك أي لأنه كان أميراً ثرياً دنيوياً بينما كان يجب أن يكون قائدهم الروحي".
ولكن من الحركات التي كُتب لها النجاح (حركة مارتن لوثر وكالفن) وأمثالهم، وقد كان من أخطر نتائج تلك الحركات وخاصة حركة مارتن لوثر:
أـ أنها حطمت الوحدة الشكلية للعالم الغربي النصراني، وأضعفت السلطة الكنسية المركزية بكثرة ما أحدثته من مذاهب وفرق لا حصر لها.
ب ـ وضع الأساس الأول والرئيس لنشوء الدول القومية في أوروبا على أساس اللغة والعرق.
ج ـ إحداث انشقاق ثاني في الكنيسة الغربية أدى إلى ظهور مذهباً دينياً نصرانياً جديداً كان سبباً في تدمير أمتنا وضياع فلسطيننا وهو المذهب البروتستانتي.
دـ ساعدت على نشوء الطبقة البرجوازية في أوروبا التي دعمت حركات الخروج على الكنيسة والثورة ضد الإقطاع.
هـ أدت في النهاية إلى عودة العلمانية اللادينية الإغريقية-الرومانية إلى الحياة الأوروبية بأبشع صورها.
4ـ نشوء الطبقة البرجوازية: لقد أحدثت حركة لوثر وكالفن تحولات ظاهرة في الحياة الأوروبية وظهرت "الطبقة البرجوازية" مستندة إلى أقوال "لوثر وكالفن"، ومستفيدة من ثمار التقدم العلمي التجريبي وظل دور هذه الطبقة محدوداً حتى بدأ ما يسمى "الثورة الصناعية"، حيث بدأ المصنع يستأثر بما كان للأرض من قيمة ونفوذ واشتد التنافس بين رجال الصناعة في المدن والملاك الزراعيين في إقطاعيات الأرياف.
وهذا التحول أدى إلى تخلخل المجتمع الأوروبي وتغيير بعض ملامحه الثابتة، فابتدأت المدن الأوروبية في النمو وظهرت الطبقة الوسطى "البورجوازية"، فظهر منافس قوي للإقطاعيين يتمثل في طبقة تجار المدن البورجوازيين الذين كانوا بمثابة الطلائع للرأسماليين الكبار. وإلى جانب ذلك كان ظهور الورق والمطابع العامل الفعال في نشر اليقظة الشعبية ضد تحالف الكنيسة والإقطاع وتوسيع ميدانها. ولكن بظهور الآلات ذات القوى المحركة أصبح واضحاً أن المنافسة الصناعية الحرة لم تؤد إلى النتيجة التي كان يتوقعها الاقتصاديون والفلاسفة السياسيون، فقد كانت الأرباح تعود على أصحاب الصناعة والآلات وحدهم، ونهضت الآلات بأكبر عبء من العمل فامتلأت البلاد بالعمال العاطلين، ووجد أصحاب المصانع الأحرار أن ذلك فرصة لتخفيف الأجور وإطالة ساعات العمل.وتسارعت التحولات في المجتمعات الغربية.
5ـ الثورة الفرنسية: كل تلك التحولات آذنت بهبوب رياح التغيير على القارة وأنذرت بافتتاح عصر جديد مغاير للماضي في قيمه وتصوراته وأوضاعه، وكانت أحوال فرنسا الثقافية والاجتماعية تؤلها لافتتاح ذلك العصر. فكانت الثورة الفرنسية عام 1789م، وتمخضت الثورة عن نتائج بالغة الأهمية، فقد ولدت لأول مرة في تاريخ أوروبا (المسيحية) دولة جمهورية لا دينية، تقوم فلسفتها على الحكم باسم الشعب "وليس باسم الله "، وعلى حرية التدين بدلاً من الكثلكة، وعلى الحرية الشخصية بدلاً من التقيد بالأخلاق الدينية، وعلى دستور وضعي بدلا من قرارات الكنيسة.
وكان نجاح الثورة الفرنسية حافزاً قوياً لبقية الشعوب الأوروبية، فاندلعت الثورات المتتابعة وارتفعت صرخات المفكرين ممن يسمون "دعاة الحرية" منددين بالمساوئ التي يعج بها المجتمع والقيود التي يرزح الفرد تحت نيرها. وكان هنالك – بطبيعة الحال – فئة واحدة فقط تدرك النهاية الحقيقية والمغزى العميق للعملية، هذه الفئة هي طبقة "الرأسمالية" الذين يمثلون الخلاصة المتطورة للطبقة البرجوازية، وغني عن البيان القول بأن الرؤوس البارزة في هذه الطبقة هم "المرابون اليهود".