أول الثوار..
بقلم لبنى ياسين
إهداء إلى شهداء الحرية
-1-


يتسلقُ سنواته العشرين مرحباً بالغد، يكبـِّله واقعٌ باردٌ لا حدود
لغطرسته، لا الليلُ يكتبُ نهاية ميعاده في قلبه، ولا النهارُ يحتفي بالضوء في حضرةِ
النبض، لكنه يصرُّ على رؤية غده مورقاً بالفرح، تكسوه زهور الوقت بتاجٍ من حلم لا
نهاية لتفاصيله.


هو يحبها.. بل يذوبُ حباً بها، هكذا اعتادَ أنْ يشرحَ شعورَه لنفسه كلما
عنـَّتْ تفاصيلُ ملامحِها الفتية في خاطره، تلك الصبية الجميلة التي لا تهرم، من
أجلِ ابتسامتها المفعمة بالنور يمكنُ له أن يصنعَ جناحين لقلبهِ ليطيرَ إليها
علَّها تنظرُ إليه ذاتَ فرحٍ، وتمنحه نفسها.


صعبةُ المنالِ حبيبته، دونها ألف ألف حارس، وألف قفل، تعيش بعيداً عن
حارتِه الفقيرة، في مكانٍ لا تغيبُ عنه الشمس، الشمس التي تنسى دائماً أن تتمطى في
زوايا حارتِه المتواضعة، يعتقدُ في نفسه أن الفقر لا يليقُ بجمال حبيبته، ولا هي
تليقُ به، الفقر وعاء صدئ يخرِّب مزاجَ الأشياء التي يحملها عنوة ليحكم أحلامها، كل
ليلة يضعُ شوقه مثخناً بأفكارٍ تناطحُ نفسَها في رأسِه على مخدة الأرق، لا أفكاره
تصمت ولا المخدة ترفقُ بحاله، يفكر بها، يشتهيها، يتقلـَّبُ محترقاً بأشواقه التي
تتزايدُ كل يومٍ، حبيبته التي لا تخلعُ عنها ثوبها الأحمر، تتبخترُ به على رؤوسِ
الأشهاد طاعنة بفتنتها عيونهم التي تحاولُ التهامها، تتقاتلُ العيونُ شبقاً لنيلها،
لكنها بعيدة كما نجم في السماء، تكتفي بوهجِ الغواية، وبريقِ الشهوة في العيون التي
تكسِرُها عتبة الخوف، وتمضي في طريقها يجللها الحزن، وترافقها خطى الخيبة وهي تراهم
لا يُقـْدِمُون.


تسابقه أفكاره، جديرٌ هو بعناقها، ربما كان فقيراً، ليس ربما.. هو فقيرٌ
فعلاً، كلُّ ما في ملامحه يشي بالفقر، حتى بنطاله وقميصه اللذين يبدلهما مع زوج آخر
لا يملك غيرها ثياباً تخفي عورة الفاقة، تشهدُ بمدى تواضع جيبه المثقوب.


لكنه شابٌ وسيمٌ، تتقاتلُ الأفكارُ في رأسه، تسكنه الأحلامُ ويسكنها،
يودعها سماء الأمل فتزهر كل يومٍ في قلبه ألفَ مرة، ويقاتلُ اليأسَ ويهزمه كلما
قارعه بوجهه الأصفر.


ليس لديه قامة ضخمة، ولا عضلات منتفخة كصديقه شهاب، وشهاب بالمناسبة رغم
بساطة فكره وثقافته، إلا أنه مولع بها أيضاً، يسحره ثوبها الأحمر، ونظراتها
الدافئة، وهي تسير وحدها مبتعدة عن العيون التي تلاحقها خطوة بخطوة، بينما يمشي
وراءها حارسها الأصلع بقامته الهائلة ووجهه البغيض، يوزع نظراته متوعداً من حوله
وكأنما هو يقول بعينيه "إياكم والاقتراب.. إلا جميلتي هذه" .


وللحق حتى شهاب يدرك بينه وبين نفسه أنه يستحقها مثل صديقه المفكر، ولكن
لأسباب مختلفة تماماً.



-2-


ها أنت يا سامي أمام حلمك، بينك وبين حسنائك أقل من خطوة، وأكثر من ألف
قدم، بينك وبينها حلم جميل قد يغدو وهماً، أو وهم مضلل قد يصبح حلماً، بينك وبينها
سيف سياف، وعضلات شهاب، وسلاح حارس، بينك وبينها ألف ناب مستعد لتمزيقك إرباً، وألف
مخلب ينتظر الفرصة للانقضاض عليك، بينك وبينها ألف مستحيل ونصف ممكن.


أي الخطى تقرب حبيبتك من كفيك؟ أي الخطى تجعل صدرك مأواها؟ أي الخطى
تمسك عنك خوفك وتجعل حريتك قيد لهفة؟


ها أنت يا سامي شاب تسلقت الكهولة أعتاب كتفيه، ومشط اليأس خطى أرقه، أي
الدروب تصلح لشيب أحلامك؟ وأي المنعطفات تلقي بأوجاعك بين ذراعيها؟ وأيها يودي بك
إلى وعر الهلاك؟


لا أنت تعرف ولا أنا، الدروب أصبحت ملتوية مثل أفكار شيطان أخرس، وحريتك
تخطو بعيداً عنك، سيخطفها السجان ويرحل بها بعيداً إن لم تفعل شيئا لتحتويها بين
ذراعي ولعك.


أنت تدرك أنك تعجبها، لم تخبرك، لكنها بادلتك نظرات دافئة بعيون تحترف
الغواية، بعدها عادت وابتسمت لك من بعيد عن أسنان بيضاء مرصوفة يلتمع الضوء منعكساً
عن بياضها، كانت تتعمد أن تشجع نحيب خطواتك المترددة نحوها..فلماذا لا تخطو إليها
ولو فوق نهر دم؟!.


سامي.. اتخذْ قرارك يا بني، ادفع بخطوات حيرتك في اتجاه ما، ليكن
اتجاهاً واحداً فإن شتَّتَّ خطاك ضاعت وجهتك، لا بد وأن تنتبه إلى الدرب الذي تخطو
إليه، لا بد أن تعرف إن كان سينتهي بك بين ذراعيها أو ينتهي بها بين ذراعيك، حتى
ولو كان يومك الأخير على قارب الحياة.. إنها لك.. هذه المرأة الرائعة لم تخلق إلا
لك، فلمَ لا تكون شجاعاً ليوم واحد في حياتك وتتقدم باتجاهها؟!



-3-


ها أنت ذا تتحرك باتجاهها، أخيرا استطعت أن تفهم رموز بوصلتك، أن تحدد
اتجاهاتك، أن تفك رموز قافيتها التي استعصت عليك من قبل، اليوم فقط صرت تدرك إلى
أين تسير بك خطاك، واليوم.. صار بإمكانهم أن يخبروك بأنك ما عدت قاصراً، وأن قرارك
ملكك وحدك، وبأنك أخيراً صرت رجلاً.


الدرب ليس ممهداً كما تظن، الدرب ترابي موحل، على طرفيه تنبت الأشواك،
وتمدد هامتها لعنة مستديمة تتربص بخطاك، ستمزق الأشواك قدميك، وستترك خلفك في كل
خطوة قطرة دم طازجة، لكنك عندما تلقي بنفسك بين ذراعيها سيصبح الطريق ممهداً،
وستنسى أوجاعك، وستذوب في عناق طويل تلتحم فيه معها كما لم تحلم يوماً، ستستنشق
رائحة عطرها فتسْكَرُ حواسك في نشوة الضوء، وستغدو مأخوذا أكثر بجمال عينيها، ستدرك
تلك اللحظة أنها تستحق كل قطرة من دمك، وكل نبضة في قلبك..ستعرف يومها جيداً أنها
تستحق كل ما بذلته قرباناً لها..حتى آخر لحظة من حياتك.



-4-


آه يا أبي.. يمزقني في كل لحظة جرح آخر، وتنغرس شوكة جديدة في جسدي، ألف
جمرة تنحشر في حدقة عيني، ويتململ دمي في أوردتي، يغلي في عروقي، ينبثق من الشقوق
المتغلغلة في جسدي لتشربه الأرض العطشى ماءً مقدساً يوقظ حواس الفرح، بينما الآلام
تلتهم جسدي، تنتهك أطراف قلبي، وخنجر الوجع مغروس في رئتي تماماً، كل هذا المخاض يا
أبتي لتولد النشوة في معصم فؤادي، ليغدو النبض نغماً يتلو أناشيد الفرح، وتقيم
الأشواك عرسها على وقع نبضات قلبي، كل شيء فيَّ يحتفل، يرقص، كل شيء فيَّ ينسجُ
بساطاً للفرح القادم في ثوب أحمر.


ها هي أخيراً حريتي، حبيبتي، حظيتُ بها يا أبتي في غفلة من وجع
الضفاف العطشى، ومن العيون المتربصة بالشوق الكامن في صدري، سقطتُ بين ذراعيها
نازفاً، فبادرتني بدمعة ولهى، غسلتني بدموعها يا أبتي فانهارتْ آلامي وتلألأ اللون
في قلبي، رفعتُ رأسي نحوها، نظرتُ في عينيها فاستقبلني قوس قزح مرحباً، وشفيتُ من
أعتى جراحي، وأضاءَ الكونُ بين أصبعين من أصابعها، واختفى الوجعُ كما لو أنه لم يكن
هنا يوماً، وعادتْ إليَّ أطرافي التي تساقطتْ مني في زحمة الوجع على أرصفة الخيبة،
لم أعد أقوى على النظر إليها أكثر، فكلُّ ما فيّ بدأ يشعُّ ويتلاشى، وأنا أسقط تحتَ
قدميها مضرجاً بحلم أحمر، والنشوة يا أبي.. النشوة التي قتلتني وجعاً بمخاضها
تأخذني الآن من قمة رأسي حتى أخمص قدمي. كنت محقاً يا أبتي.. وحدها حبيبتي
"حرية" تستحق كل هذا الوجع.