التواصل اللساني سليمة محفوظي

توصل الإنسان انطلاقاً من فطرته وحاجته الطبيعية إلى الاتصال من أجل التفاهم ونقل المعلومات، وخدمة لهذه الغاية أوجد لنفسه وسائل متنوعة، وكانت اللغة أرقاها، وأكثر فعالية في الإبلاغ غير أن استعماله لها لم يكن جزافيا وغير مضبوط، بل ظل مرتبطاً بنظام تكوينه مجموعة من القواعد، والغاية من كل ذلك ضمان نجاح الاتصال اللغوي.
وقد عدّ بذلك "الاتصال" ضرورة إنسانية لتماسك الأفراد والجماعات وحتّى الشعوب، فهو المحور المركزي الذي على أساسه يتشكل المجتمع وينمو ويتطور، بل صار كما يذكر "هوغ Hogue" يشكل جزءا من ديكور الإنسان الذي عرف تطورات مع مرور الزمن. ( )
ويؤدي التاريخ الإنساني أن الاتصال كان في بداية أمره يتم بواسطة الإشارة والرمز، ثم سرعان ما تنبه الإنسان إلى قدرات جهازه النطقي فاستعمله بأصوات متمايزة للتفاهم مع الآخرين، ثم تنبه إلى أعضائه الأخرى فاهتدى إلى الاتصال الكتابي ليبلغ غير الحاضر بين يديه وبهذا التّطور استطاع أن يجعل الآخرين يشاركون خبراته وأفكاره ومشاعره.
وقد ولد الاهتمام بـ "الاتصال" –بأشكاله المختلفة- علما يدرس ذلك وهو "علم الاتصال" وتعززت بقوة حاجة الإنسان إليه في العصر الحديث أضحى من الضروري دراسة قضاياه دراسة علمية، من أجل الإفادة منها في حل الإشكاليات التي تطرح في إطاره، وهذا ما يمكن ملاحظته أثناء الحرب العامية الثانية، والحرب الإعلامية التي دارت في الخليج العربي أيضاً.
ونظرا لهذه الأهمية فقد شغل موضوع "الاتصال" معظم العلماء والباحثين المختصين في مختلف فروع المعرفة الإنسانية، سواء في البحث في أركانه ومكوناته واللّغة التي تستعملها لنقل الرسالة الإبلاغية، أو في وظائفه ودوره في التأثير على الفرد، أوغير ذلك، وفي رحاب هذا التّنوع كان من الضروري الأخذ من النتائج العلمية التي تناولت مسائله بالبحث العلمي الدقيق، مثل اللّسانيات والبلاغة والتداولية وعلم الاجتماع وعلم النفس.
1-علم الاتصال نظرة تاريخية:
إن البحث في الاتصال قديم قدم الوجود البشري، ومردّ ذلك إلى الإنسان في حد ذاته الذي لا يستطيع أن يحقق وجوده بدون هذا الفعل، لذلك كان البحث في قضاياه ضاربا جذوره في أعماق الدراسات العلمية، ويجب أن نشير هاهنا إلى أن أول من وضع له هو اليوناني "كوراكس corax" ثم طورها تلميذه"تيزياس tisias" ( )
وكانت نظريتهما مبنية على أسلوب المرافعة، ذلك أن هذا الأسلوب يعد صناعة الإقناع كما اعتبر كل من "أرسطوAristote" (ت223ق.م) و"أفلاطونPlaton" (ت347ق.م) مؤسسي دراسات الاتصال بحكم أنهما توصلا إلى فكرة جوهرية مفادها أن الاتصال ماهو إلا فن، أو صناعة يمكن تعلمها بالتمرين، لذلك يمكن اعتبارها علما قائما بذاته'( )
وقدم العلماء العرب في العصور الوسطى أفكارا قيمة في الموضوع، لا تقل درجة عما هو موجود في الدراسات الحديثة، فقد كانت لديهم نظرات ثاقبة في وصف العملية الاتصالية وأركانها وشروطها ووظائفها، وهذا ما كان ماثلا في ثنايا مصنفاتهم ولقد انبثقت هذه العناية من حرصهم على لغتهم "لغة القرآن الكريم" والتي تتمثل في أدنى تأمل لها رسالة اتصالية موجهة للبشرية، فالقرآن الكريم يتمثل عملية الاتصال بكامل عناصرها
من المرسل ومرسل إليه وقناة اتصال وأثر(4) لذا دعا العقول لأن تتأمله وتبحث فيه، فكثرت المؤلفات التي تكشف عن أسراره.
ومما دعم البحث العلمي لدى العرب توافرهم على ثلاث مدوّنات أساسية أثرت وقدمت أفكارا تتعلق بمباحث "علم الاتصال" وهي القرآن الكريم، والشعر الذي عد ديوان العرب، بل اعتبره البعض "الصحيفة السيارة( ) وكذلك الفنون النثرية كالخطابة والرسائل والتوقيعات والمناظرات.
وكان من النتائج دراسة هذه المدونات ظهور علوم كثيرة، تبحث في كل ما تقتضيه اللغة في هذه الأشكال الاتصالية، وما يمكن أن نقوله إنّ "علم الاتصال" كعلم قائم بذاته لم يظهر لديهم، ولكن يجب أن نذكر أنهم قدموا انطلاقا من التأليف المختلط لديهم آراء قيمة تتصل مباشرة بما يتأسس عليه البحث في هذا العلم.
ونستطيع أن نوضح ذلك على سبيل المثال بما ذكر ضمن علوم البلاغة التي تضم المعاني والبيان والبديع( ) فعلم المعاني اهتم بدراسة الأسلوب ككل، وذلك ليطابق مقتضى الحال، وليعبر عن المراد بأبلغ تعبير، أما البيان والبديع فمباحثهما عند العرب تتصل بجوهر "الاتصال" إذ يتعلقان بتنميق الجمل بالصور البيانية والمحسنات البديعة التي تجعل الرسالة اللغوية أكثر تعبيرا عن المراد، وتأثير في نفوس. ويمكننا أن نقول إن الدراسات اللغوية القديمة بمختلف اتجاهاتها قد أفادت في تناول العملية الاتصالية وعناصرها ووظائفها وغير ذلك.
فمن المفاهيم التي ذكروها ذات الصلة بهذا العلم، تلك الحدود المذكورة حول "البيان، الإبلاغ، والتبليغ، والبلاغة في حد ذاتها، وما بينوه في كلامهم عن شروط الاتصال البليغ والهادف، عما يتعلق بأركان الاتصال، وقد كان الجاحظ من أبرز العلماء الذين تناولوا هذه المسائل، يقول –على سبيل المثال لا الحصر-في البيان: "البيان اسم جامع لكل شيء كشف لك عن قناع المعنى، وهتك الحجاب دون ضمير حتى يفضى السامع إلى حقيقة.
ويهجم على محصوله كائنا ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان الدليل، لأن مدار الأمر. والغاية التي إليها يجري القائل والسامع أنما هو الفهم والإفهام، فبأي شيء بلغت الإفهام.
وأوضحت عن المعنى فذلك هو المعنى ، فذلك هو البيان في ذلك الموضوع( ).
فهذا القول يشرح الغاية الأساسية التي تتأسس عليها الرسالة اللغوية ، وهي الفهم و الإفهام في أحسن تعبير ،ويبين عناصر العملية الاتصالية التي ترجع إلى:
-القائل :ويقابل المتصل البليغ، المخاطب .
-السامع :المتلقي ، المخاطب .
-كل شيء كشف القناع : ويقابل الرسالة .
-الدليل : الوسيلة .
-الغاية التي يجري إليها القائل : الفهم و الإفهام و التأثير.
وتحدث انطلاقا من صحيفة البشر بن المعتمر (ت210هـ) عن شروط الخطيب، إذ من الضروري "أن يكون لفظك رشيقا عذبا، وعذبا سهلا، ويكون معناك مكشوفا قريبا معروفا، إما عند الخاصة إذ كنت للخاصة قصدت، وإما عند العامة إن كنت للعامة أردت"' ( ) فمن هذه الوصايا يطالب الجاحظ المرسل أن تكون ألفاظه رشيقة، وأسلوبه سهلا، وأن تكون له القدرة على إتقان جميع ضروب الكلام، بحيث ضروب الكلام، بحيث لا يصعب عليه وجه من وجوه القول.'( )
2-ماهية الاتصال:
إنّ مصطلح الاتصال Communication بالرغم من تداوله الواسع بين الأفراد والجماعات إلاّ أن مفاهيمه قد تنوعت وذكر العلماء أنه من الكلمة اللاتنية" Communisالتي تعني في أساسها المشاركة أي الاشتراك سواء في المعلومات وتبادلها أو في المشاعر والاتجاهات ووجهات النظر( )
ولكن ما يجب توضيحه في هذا المقام أنّ كلمة "الاتصال" تستخدم في السياقات مختلفة، لذلك تتضمن مدلولات عديدة، فباستعمالها المفرد تعني تبادل الأفكار والرسائل، أما في الجمع فتدل على الوسائل التي تحمل مضمون الاتصال.( )
وقد ورد في قاموس "أكسفوردOxford" أنّ الاتصال يعني "نقل أو توصيل أو تبادل المعلومات أو الأفكار بالكلام أو الكتابة أو بالإشارات"( ) فتبادل المعلومات يقتضي بالضرورة وجود مرسل ومستقبل أو أكثر في حالات متعددة، فحينما نتكلم نجد من يسمعنا، وعندما نكتب نتوقع من يقرأ لنا، وحينما نستخدم الإيماءات والابتسامات ننتظر لا محالة من يستقبلها.
وذكر كارل "هوفلاندHof land أنّ الاتصال هوالعملية التي يقوم خلالها القائم بالاتصال بمنبهات (عادة رموز لغوية) لكي يعدل سلوك الأفراد مستقبلي الرسالة( ).
فالاتصال يهدف في أساسه إلى تعديل سلوك المستقبل، انطلاقا من تصور معين يقدمه المرسل في رسالته اللغوية.
أما معجم اللسانيات الذي أشرف عليه "جون ديبوا J.dubois فقدم تعريفين: أولهما: أن التواصل تبادل كلامي بين المتكلم الذي ينتج ملفوظا، أو قولا موجها نحو المتكلم أخر يرغب في السماع، أو إجابة واضحة أو ضمنية (Explicite ou implicite)وذلك تبعا لنموذج الملفوظ الذي أصدره المتكلم.
فالتواصل ضمن هذا المفهوم نشاط يقوم على التبادل الكلامي بين متكلم يوجه كلامه نحو متلق ليجلب انتباهه إلى هدف ما.
ثانيهما: التواصل حدث نبأ، ينقل من نقطة إلى أخرى، ونقل هذا النبأ يكون بواسطة مرسلة استقبلت عددا من الرسائل المفكوكةة( )
ويرى عبد الجليل مرتاض أن هذا المفهوم غامض، لأنه عمم ما يتصل باللغة وغيرها، إذ لم يقتصر فقط على اللغة لكونها الوسيلة الأساسية، بل تعدى ذلك إلى خارج اللغة( )
ولكن يجب أن نشير إلى أنه كانت اللغة أهم وسيلة للاتصال فإن هذا لا يعني إلغاء بقية الوسائل الأخرى، كتلك التي ذكرها الجاحظ( )ولذا أي تعريف للاتصال لا بد أن نأخذ بعين الاعتبار هذه الأمور.
فالاتصال عملية مركبة تقوم على استعمال وسيلة معينة-من أكثرها اللغة-لنقل المعلومات والخبرات إلى الآخرين، تتأسس على مجموعة من العناصر الضرورية لإنجاح الاتصال، وتبتغي إشراك المرسل إليه فيما يريده المتكلم، لذلك فهي هادفة إما بتلقي الإجابة عن متلقين، أو التأثير فيهم من أجل تبني فكرة ما، أو غير ذلك غايات الاتصال تتنوع.
3-شروط الاتصال:
لكي تتم عملية التواصل لابد من توافر مجموعة من الشروط التي تساعد على نجاحه، وهي متنوعة بحسب أركان الاتصال إذ هناك شروط خاصة بالمرسل، وأخرى متعلقة بالمرسل إليه، وأخرى مرتبطة بالرسالة وغير ذلك، ولكننا سنتحدث في هذا المقام عن بعض هذه الشروط عامة، على أن ننفصل أكثر في حلقات بحثنا حيث سنخصص لكل ركن مبحثا، وهذه الشروط هي:
-أن يأخذ المرسل بعين الاعتبار جميع التحولات العلمية والثقافية لمجتمعه.
-يجب أن يكون المرسل على وعي تام بمضمون الرسالة المراد تبليغها ومدى تعبيرها عن الواقع.
-العمل على ربط خبرة المرسل وأثرها في الوسط الخارجي بخبرة المستقبل للرسالة.
-التأكد من التجانس التام في النظام التواصلي بين المرسل والمستقبل لحمل الخبرات المراد نقلها من مرسل إلى المرسل إليه( )
4-البلاغة والتداولية:
تحتل البلاغة مكانة مرموقة في الدراسات الأدبية واللغوية، إذ أصبح ينظر إليها ليس كعلم لتحليل النصوص في بعدها الجمالي، بل هي تنزع لأن تكون علما واسعا للمجتمع( )
فقد تطورت في العصر الحديث، ويرجع ذلك إلى إفادتها من مناهج البحث في مختلف الحقول المعرفية، وهذا ما أشار إليه"هانريش بليثH.bleath" الذي يقول: "إن سبب هذه النهضة البلاغية يرجع، في مجال التنظير، إلى أهمية المتزايدة للسانيات التداولية، ونظريات التواصل والسيميائيات، والنقد الأيديولوجي، وكذا الشعرية اللسانية في مجال وصف الخصائص الإقناعية للنصوص وتقويمها.( )
وهذا للتقارب سره أن البلاغة تعالج قوة التأثير في الأخر وكيفية إقناعه، وبيان كل المقاصد التي يهدف الباث إلى تحقيقها، وهذه النقطة تعد من أهم مباحث التداولية التي تدرس التفاعل الاتصالي بين الخطيب والمخاطب، وما يحدثه الفعل الكلامي من تأثير.
وهذه المقاربة بين البلاغة وعلم الاتصال والتداولية بررتها مجموعة من الدراسات مستعينة في ذلك بالتراث البلاغي من جهة، ونتائج العلوم المستحدثة من جهة أخرى.
ومنطلقهم في ذلك أن البلاغة أول ما تنصرف إلى دراسته هو الابلاغ( )، وهذا الموضوع كان لازال المحور الأساسي الذي تتساءل حوله العلوم الثلاثة المذكورة.
وثمة باحثون قدموا بحوثا متنوعة ربطوا فيها بين البلاغة العربية ونظرية الاتصال، منهم جميل عبد المجيد في مؤلفه "البلاغة والاتصال"، والخفاجي في "نحو بلاغة جديدة التجديد بينهما، وتتعلق بماهية البلاغة، وكيفية التي يكون عليها المتكلم، وتحديد سمات الكلام البليغ، وغير ذلك من القضايا التي يدرسها علم الاتصال، وهذا ما وضحه عبد العزيز شرف الذي اعتبره مصطلح "البلاغة" المقابل الصحيح لـ"علم الاتصال"( )
قد نوضح هذا الأمر أكثر من المعنى الذي يدل عليه لفظ "البلاغة" فهي من >>بلغ الشيء يبلغ بلوغا وبلاغة وصل وانتهى، والبلاغ ما بلغك، والبلاغ(كافية الأخبار)، والإبلاغ الاتصال، وكذلك التبليغ( )وربط أبو هلال العسكري(395م) مفهومها بما يقتضيه مدلول، الاتصال، إذ عرفها بقوله:>>هي كل ما تبلغ به المعنى قلب السامع، فتمكنه في نفسه لتمكنه في نفسك، مع الصورة مقبولة ومعرض حسن( )ومنه نلاحظ أن البلاغة لديه تنطلق من فكرة التوجه إلى المستمع لاعتباره المقصود من الاتصال، فالمتكلم يراعي من يوجه إليه الكلام في إطار هذا التوضيح.
وهذا الطرح دعت البلاغة الجديدة إلى الاهتمام به، إذ يذكر"بيريلمانperelma" >> أن ما ينبغي أن يحتفظ به من البلاغة التقليدية أنما هو فكرة المستمعين التي تنبثق من فهم طبيعة الخطاب، فكل قول يوجه لمستمع، وغالبا ما ننسى أن الشيء ذاته يحدث بكل مكتوب، وبينما نتصور الخطاب بالنظر إلى المستمعين، فإن غياب القراء ماديا ربما يجعل الكاتب يظن أنه وحده في هذا العالم، بالرغم من أن نصه في الواقع مشروط دائما بهؤلاء الذين، واعيا أو بشكل غير واع<<( ) كان العسكري قد انطلق مما يوجه إليه الكلام في بيان حد البلاغة، فإن هذا يعني عدم اهتمامه بطرف الاتصال الأول: نقصد "المرسل" يدل قوله "لتمكنه في نفسك".
وهذه العلاقة بين طرفي الاتصال التي حرص على إبرازها هاهنا>> قد وجدت طريقها إلى نظرية الاتصال، وبالتالي إلى التداولية التي عنيت بالسياقات المختلفة وأطراف الموقف التواصلي عناية كبيرة. وإذا كان "لاوسبرجLawsberj " يرى أعن البلاغة نظام له بنية من الأشكال التصورية واللغوية يصلح لإحداث التأثير الذي ينشده المتكلم في موقف محدد، فإن "ليش U.leich" يرى أن البلاغة تداولية في تصميميها، إذ أنها ممارسة الاتصال بين المتكلم والسامع، بحيث يحلان إشكالية علاقتهما مستخدمين وسائل محددة للتأثير على بعضها<<
لكن أبا هلال لا يتوقف عند هذا الحد، لذلك ربط البلاغة بالمعرض الحسن والصورة المقبولة، فما يحيل عليه لفظ "المعرض" الشكل اللغوي الذي يتجلى منه الكلام، اما كلمة "الصورة" فتدل على الفكرة التي يريد المتكلم تبليغها، والغاية التي تريدها البلاغة هي إيصالالتصور كما هو في ذهن المتكلم إلى المتلقي، فالعسكري ربط البلاغة بالكلام البليغ الذيحرز المنفعة المقصودة، وهذا ما طرحته التداولية ضمن ما أصطلح عليه بالفعل الكلامي.
وقد اشترط صاحب الصناعتين في موضع أخر للبلاغة فكرة جوهرية و>>هي أن يكون المعنى مفهوما واللفظ مقبولا<<( )وهما شرطا الاتصال الناجح كما نصت على ذلك المفاهيم المتداولة للاتصال.
إذن هناك صلة وثيقة بين البلاغة والاتصال، وفي هذا الأساس قدم تمام حسان قراءة مهمة وقيمة للمصطلح البلاغي القديم في ضوء البلاغة الحديثة، يقول:>> وعندي أن المعنى البلاغي للفظ البلاغة على المعنى الإبلاغ أو التواصل الذي هو موضوع من موضوعات علم الاتصال<<( )
والتداولية عند مؤسسها "اوستينAustin" >> جزء من علم أعم، هي دراسة التعامل اللغوي من حيث هو جزء من التعامل الاجتماعي، وبهذا التعريف ينتقل "اوستنAustin" باللغة من مستواها اللغوي إلى مستوى آخر هو المستوى الاجتماعي في نطاق التأثير والتأثر <<فالتداولية تدرس الاتصال اللغوي في إطاره الاجتماعي، والذي يملي خصوصيات تؤثر في الفعل الكلامي.
كما تركز التداولية على المقصدية التي لاتتجلى إلا من خلال الاتصال اللغوي في مقام معين، لذا فهي تهتم "بدراسة اللغة التي يستعملها المتكلم في عملية التواصل، وعوامل المقام المؤثرة في اختياره أدوات معينة دون أخرى للتعبير عن مقصده.( )
ومن خلال المخططين السابقين تتبين العلاقة بين البلاغة والتداولية والاتصال، باعتبار أن البلاغة كما ذكر بعض الدارسين هي "فن القول بشكل عام أو هي فن الوصول إلى اعتبار التعديل موقف مستمع أو قارئ( ) أما التداولية فتعني >> بالعلاقة بين بنية النص وعناصر الموقف التواصلي المرتبطة به بشكل منتظم، مما يطلق عليه سياق النص، ويأتي هذا ليغطي بطريقة منهجية منظمة المساحة التي أنتجت المقولة الشهيرة في البلاغة العربية لكل مقام مقال<< فكلاهما يركزان على التشكيل اللغوي الذي يكون في موقف المعين، وهذا ما يجعلهما>> تتّفقان في اعتمادهما على اللغة كأداة لممارسة الفعل على المتلقي، على أساس أن النص اللغوي في جملته إنما هو نص في موقف<<( )ومنه يتضح أن "البلاغة تداولية في صميمها، إذ أنها ممارسة الاتصال بين المتكلم والسامع بحيث يحلان إشكالية علاقتهما، مستخدمين وسائل محددة التأثير على بعضهما"( ).
وهما يلتقيان مع علم الاتصال الذي يهتم بالعناصر التي تسهم في انجاز اللغوي أيضا وتتبين العلاقة بدقة بين مكونات البلاغة والتداولية من جهة، وعناصر الاتصال من جهة أخرى، فالبلاغة هي من عمل بليغ يسعى إلى إيصال معنى إلى السامع في مقام معين، ولكنها تضيف أيضا السامع في إدراك المعنى المقصود كما أوضح ذلك أبو هلال العسكري الذي يقول: ربما كانت البلاغة في استماع الحسن "( ).
أما بالنسبة للقناة التي يسلكها الكلام فتظهر في وظيفة اللغة الأساسية، وحيث التواصل بشكليه الشفاهي والكتابي، ووظيفة الموضوع هي التي تحدد الواسطة.
أما العلاقة بين المرسل والمستقبل فتتحدد بالوظيفة الجمالية، فهي تعكس قدرات المتكلم وأسلوبه الخاص الذي يميزه عن غيره، وهذا ما ركزت عليه البلاغة، وبصفة أدق طريقة التبليغ، والتي تتحدد مع العملية التواصلية، ويمكن
أن نستعين في هذا المقام بالتفسير الإعلامي الذي يفترض أن الأدب يقوم على المجموعة من الأسس، نوضحها انطلاقا من النموذج الاتصالي الشهير لـ"لازويل Lazwel"( )
-من يقول؟
-يقول ماذا؟ الرسالة الإبداعية.
-لمن؟ المستمعين؟
-بأي وسيلة؟ المشافهة الكتابة.
-بأي تأثير؟ الأدوات والآليات التداولية( .)
وقد نذكر تعديل "ريموند يكسونR.yekson" الذي يضيف الموقف العام للاتصال، أو ما يقابل البلاغة العربية مقتضى الحال، وبالتالي يصبح النموذج كالآتي : من يقول؟ ماذا؟ لمن؟ وما تأثير ما يقال؟ وفي أي ظروف؟ ولأي هدف؟ وبأية وسيلة؟ وفي الأخير يأتي الموضوع الذي يكون وظيفة الإعلام، والمقصود بها نقل المعلومات مهما اختلفت، وهو المعنى الذي يجسده علم الاتصال( )
بعد عرض هذه الأفكار نلاحظ أنها ظلت ترتكز على فكرة جوهرية، وهي أن علم الاتصال تمثله البلاغة بكل شروطها، كونها تهتم بـ "الكلام الذي يرسل إرسالا، فتطلب منه الإفادة والإصابة وإفهام المعاني على وجه بديع، وتركيب لطيف وهي المعايير التي نزن بها الأسلوب على النحو من يتحقق بع غرض المنشى حيث يستخدم الكلمة في تحقيق ما يريد"( )
فهذا ما يتضح يقودنا إلى تحديد أبعاد الاتصال بشكله العام، والاتصال الأدبي أو الإبداعي بشكله الخاص، والتي ترجع إلى:
1-الكلام: وهو الملفوظ الذي يرسل من طرف المتكلم (مرسل، خطيب، شاعر، كاتب).
2-الإرسال: يتم عن طريق قناة (المشافهة أو الكتابة).
3-الرسالة: ما يريد المتكلم إبلاغه إلى الآخرين، وتقتضي حسن التأليف والتركيب.
4-الهدف: الإفادة والإصابة، وبالإضافة إلى بسط المعاني بأسلوب متأنق.
5-الكلمة: حين تستخدم في مكانها المناسب أو سياقها تؤدي دورها الفعال في تحقيق مقاصد المرسل، وهذا انطلاقا من المقولة المشهورة في البلاغة العربية، والتي توصي بأنه "لكل مقام مقال" وهذا ما ركزت عليه التداولية فهي- كما يذكر صلاح فضل-"العلم الذي يعني بالعلاقة بين بنية النص وموقف التواصلي المرتبطة به بشكل منظم"( )وقد ربطها بشكل مباشر بفكرة "مقتضى الحال "يقول: "ويأتي مفهوم التداولية هذا ليغطي بطريقة منهجية منظمة المساحة التي كان يشار إليها في البلاغة القديمة بعبارة "مقتضى الحال" والتي أنتجت المقولة الشهيرة في البلاغة العربية لكل مقام مقال"( ).
خاتمة:
بناء على هذه المعطيات حاولنا أن نكشف عن طبيعة العلاقة بين الاتصال اللساني والتداولية، انطلاقا من تلك الآراء والأفكار التي طرحها بعض العلماء، فلاحظنا من طرح المفاهيم المتعلقة بالاتصال اللساني والتداولية ذلك في اهتمامات هذه العلوم، فهي تبحث جميعها في طبيعة العملية الاتصالية وأركانها،و لكن هذا لا يعني لإلغاء طابع الاختصاص الذي يتطلب كل حقل، فإذا كانت البلاغة ترتكز على التقنيات التي تقتضيها الرسالة التي يشكلها المتكلم حتى يحقق غرضه المطلوب، فإن علم الاتصال يهتم بالعناصر التي تسهم في الانجاز اللغوي بغية ضبط الأساسيات التي تشارك في نجاح العملية الإبلاغية ككل، أما التداولية فتنهض بالكشف عن مقصدية المتكلم انطلاقا من طبيعة العلاقة بين الفعل اللغوي والموقف الاجتماعية






الهوامش

-1ينظر مدخل إلى نظريات الاتصال المعاصرة،، محمد مزيان، الجزائر منشورات دار لالة سكينة، ط1/ ص 11.
2"كوراكسcorax" و"تيزياسtisias" فيلسوفان يونانيان،عاشافي القرن الخامس قبل الميلاد في الصقلية(مستعمرة يونانية أنذاك)قبل السفسطائيين والاسكندر المقدوني، ويعدان من الاوائل الذين اهتموا بفن البلاغة، حيث وضعوا لها خصائصها التي ربطوها أكثر بالاقناع.

3ينظر مقدمة في وسائل الاتصال الجماهرية، فضيل دبليو، الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية، 1998،ص244
4ينظر تقنيات الاتصال التعليمي في القرآن والسنة، عبد العظيم عبد السلام الفرجاني، المغرب، دار المغرب، 2000ص141.

5تاريخ الشعب السياسي، أحمد الشايب ، القاهرة، (د.ت)، ص40-41
6ينظر علم الاعلام اللغوي، عبد العزيز شرف، مصر دار لونجمان للطبع، 1995، ص75.
7البيان والتبين، ج1 ص76.
-8المصدر نفسه،ج1 ص136.
-9ينظر البلاغة تطور وتاريخ، شوقي ضيف، مصر دار المعارف،ط2/ص37.
-10ينظر الاتصال الانساني ودوره في التفاعل الاجتماعي، ابراهيم أبو يعقوب، مصر مجدلاوي، (د.ت)،ص17.
-11ينظر: الاتصال ونظرياته المعاصرة، حسين عماد مكاوي وليلى حسين السيد، بيروت الدار المصرية اللبنانية، ط2/2002،ص15.
-12الاتصال الإنساني ودوره فير التفاعل الاجتماعي، ابراهيم أبو يعقوب، مصر دار مجدلاوي،(د.ت) ص17.
-13الاتصال والخدمة الاجتماعية، أميرة منصور يوسف علي، مصر المكتب الجامعي الحديث، 1999ص17.
Voir dictionnaire de linguistique, paris librairie la rousse, 1973,p ;96.
-14ينظر اللغة والتواصل، الجزائر دار هومة، 2000،ص78-79.
-15اللفظ والاشارة والخط والعقد والنصبة، ينظر: البيان والتبين، ج1، ص34.
-16ينظر: أهمية الوسائل التعليمية في عملية التعلم عامة وتعليم اللغة العربية للأجانب خاصة، أحمد وطاس، الجزائر المؤسسة الوطنية للكتاب،1988،ص42.
-17ينظر: البلاغة بوصفها نظرية للخطاب، محمد بوعزة، مجلة الراية المؤقتة، مج:3،ع1و2،1994،ص63.
-18البلاغة والأسلوبية نحو نموذج سيميائي لتحليل النص، هانريش بليث، ترجمة محمد العمري، المغرب منشورات دراسات سال، (د.ت)،ص15
-19ينظر: البلاغة والاتصال، جميل عبد المجيد، مصر دار غريب، 2000،ص16.
-20ينظر: علم البلاغة اللغوي، ص48. وينظر أيضا نحو بلاغة جديدة التجديد والتقليد، عبد العزيز شرف وعبد المنعم الخفاجي، مصر مكتبة غريب، 1996،ص56.
-21لسان العرب، ابن منظور، بيروت دار صادر،(د.ت)،مادة(بلغ).
-22الصناعتين،ص13.
-23بلاغة الخطاب وعلم النص، صلاح فضل، الكويت عالم المعرفة،1992،ص94-95.
-24علم لغة النص المفاهيم والاتجاهات، سعيد حسن بحيري، القاهرة مؤسسة المختار للنشر والتوزيع، ط1-2004،ص23.

-25المرجع نفسه،ص19.
-26قضايا المصطلح الأدبي، مجلة فصول،مجلد7العددان الثالث والرابع، أبريل-سبتمبر 1987،ص27.
-27مبادئ في اللسانيات، خولة طالب الابراهيمي، الجزائر دار القصبة للنشر والتوزيع،2000،ص156.
التداولية وتحليل الخطاب الأدبي، راضية خفيف بكري، مجلة الموقف الأدبي، دمشق اتحاد الكتاب العرب، العدد399، تموز2004، ص56.
28تحليل الخطاب، ج، براون وجسيرل، ترجمة وتعليق محمد لطفي الزليطي ومنير التريكي، السعودية جامعة الملك سعود للنشر العلمي،1997ص32.
-29بلاغة الخطاب وعلم النص، صلاح فضل،ص97.
-30المرجع نفسه،ص98.
-31المرجع نفسه،ص97.
.
-32الصناعتين،ص25.
-33الأصول دراسة ابستيمولوجية لأصول الفكر العربي، تمام حسان، المغرب دار الثقافة، ط1/1997ص187.
-34ازويل باحث مختص في العلوم السياسية، أول من اهتم بالتواصل الجماهيري، وتأثير وسائل الإعلام والاتصال في الفرد"La communication de masse"
-35نظر نماذج الاتصال في الفنون والإعلام والتعليم وإدارة الأعمال، عبد العزيز شرف، مصر الدار المصرية اللسانية، ط1،2003ص129.
-36ينظر المرجع نفسه، ص130.
-37التراكيب النحوية وسياقاتها المختلفة عند الإمام عبد القاهر الجرجاني، صالح بلعيد، الجزائر ديوان المطبوعات الجامعية، 1993،ص41.
-38بلاغة الخطاب وعلم النص، صلاح فضل، ص26
-39المرجع نفسه، ص26.
-40نفس المرجع ص27
-المصادر والمراجع:
-الاتصال الانساني ودوره في التفاعل الاجتماعي، ابراهيم أبو يعقوب، مصر دار مجدلاوي،(د.ت).
-الاتصال والخدمة الاجتماعية، أميرة منصور يوسف علي، مصر المكتب الجامعي الحديث، 1999.
-الاتصال والنظريات المعاصرة، حسين عماد مكاوي وليلى حسين السيد، بيروت الدار المصرية اللبنانية، ط2.
-الأصول دراسة ابستيمولوجية لأصول الفكر العربي، تمام حسان، المغرب دار الثقافة، ط1/1997.
-أهمية الوسائل التعليمة في عملية التعلم وتعليم اللغة العربية للأجانب خاصة، أحمد وطاس، الجزائر المؤسسة الوطنية للكتاب،1988.
-بلاغة الخطاب وعلم النص، صلاح فضل، الكويت عالم المعرفة،1992.
-البلاغة تطور وتاريخ، شوقي ضيف، مصر دار المعارف،ط2.
-البلاغة والاتصال، جميل عبد المجيد، مصر دار غريب، 2000.
-البلاغة الأسلوبية نحو نموذج سيميائي لتحليل النص، هانريش بليث، ترجمة محمد العمري، المغرب منشورات دراسات سال،(د.ت).
-البيان والتبيين، الجاحظ تحقيق عبد السلام هارون، بيروت دار الجيل، 1992.
-تاريخ الشعر السياسي، أحمد الشايب، القاهرة،(د.ت).
-تحليل الخطاب، ج. براون وج يول، ترجمة وتعليق محمد لطفي الزليطي ومنير التركي، السعودية جامعة الملك سعود للنشر العلمي،1997.
-التراكيب النحوية وسياقات المختلفة عند الإمام عبد القاهر الجرجاني، صالح بلعيد، الجزائر ديوان المطبوعات الجامعية،1993.
تقنيات الاتصال التعليمي في القرآن والسنة، عبد العظيم عبد السلام الفرجاني، المغرب، دار المغرب،2000.
-علم الإعلام اللغوي، عبد العزيز شرف، مصر دار لونجمان للطبع،1995.
-علم لغة النص المفاهيم والاتجاهات، سعيد حسن بحيري، القاهرة مؤسسة المختار للنشر والتوزيع،ط1/2004.
-لسان العرب، ابن منظور، بيروت دار صادر،(د.ت).
-اللغة والتواصل، عبد الجليل مرتاض، الجزائر دار هومة،2000.
-مبادئ في اللسانيات، خولة طالب الابراهيمي، الجزائر دار القصبة للنشر والتوزيع، 2000.
-مدخل إلى نظريات الاتصال المعاصر، محمد مزيان، الجزائر منشورات دار لالة سكينة،ط1.
-مقدمة في وسائل الاتصال الجماهرية، فضيل دبليو، الجزائر، مطبوعات الجامعية،1998.
-نحو البلاغة جديدة التجديد والتقليد، عبد العزيز شرف وعبد المنعم الخفاجي، مصر مكتبة غريب،1996.
-نماذج الاتصال في الفنون والإعلام والتعليم وإدارة الأعمال، عبد العزيز شرف، مصر الدار المصرية اللسانية،ط1،2003.

2- المراجع الأجنبية:
-Dictionnaire de linguistique , paris librairie la rousse,1973.
3- المجلات:
-البلاغة بوصفها نظرية للخطاب، محمد بوعزة، مجلة الراية المؤقتة، مج،3،ع1و2،1994.
-التداولية وتحليل الخطاب الأدبي، راضية خفيف بكري، مجلة الموقف الادبي، دمشق اتحاد الكتاب العرب، العدد 399،تموز2004.
-قضايا المصطلح الأدبي تمام حسان، مجلة فصول، مجلد7 العددان الثالث والرابع، أبريل-سبتمبر1987.