بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
اليد عضو من أعضاء الإنسان ولكنْ أصدق صفة فيها الحركة :
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الواحد والثلاثين من دروس سورة المائدة، ومع الآية الرابعة والستين، وهي قوله تعالى:
﴿ وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾
أيها الأخوة، اليد جارحة، عضو من أعضاء الإنسان، ولكنْ أصدق صفة فيها الحركة، تتحرك يمنة ويسرة، وارتفاعاً وانخفاضاً، فيها رسغ، الكف فيه أصابع، الأصابع فيها سلاميات، الإبهام له وظيفة، السبابة لها وظيفة، الوسطى لها وظيفة، فأوضَحُ عضو من أعضاء الإنسان تظهر فيه الحركة هو اليد. فاليد جارحة، لها الحركة، وحركتها حرة، بعض الأعضاء الحركة فيها محدودة، العمود الفقري حركته محدودة، يمكن أن ينثني، لكن في حدود لحركته، أما اليد فلها حركة مسبقة، يمنة ويسرة، ارتفاعاً وانخفاضاً، الكف تتحرك قبضاً وبسطاً، وحينما تمنع من الحركة، حينما تقيد تكون مغلولة.

إذا رضي الناس بقول إنسان فاسق وسكتوا وارتاحوا لقوله فكلهم آثمون :
قال تعالى:
﴿ وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ﴾
كيف؟ ورد في الكتب أن اليهود قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام تفرغوا لصناعة آلات الحرب، وبناء الحصون، وأهملوا الزراعة، فلما خابت محاصيلهم، وقلَّت أرزاقهم، قال زعيمهم (فينحاص): لماذا قبض الله يده عنا؟ بل:

﴿ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ﴾
الغريب أن الله عز وجل يقول:

﴿ وَقَالَتْ الْيَهُودُ ﴾
قال واحد منهم، بل قال زعيمهم، لأنهم سكتوا، وأسروا بهذا القول، إذاً جميع اليهود حملوا إثم هذا القائل، والذي عقر الناقة واحد، لكن الله عز وجل قال:

﴿ فعَقَرُوهَا ﴾
[ سورة الشعراء: 157 ]
إذا رضي الناس بقول إنسان وسكتوا، بل وارتاحوا لقوله فكلهم آثمون، وكأن كل واحد منهم قال هذه المقولة:

﴿ وَقَالَتْ الْيَهُودُ ﴾
مع أن الذي قال واحد، هو (فينحاص):

﴿ وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ﴾
أنواع الفقر :
لأنهم أهملوا زراعتهم فقلّت محاصيلهم نسبوا تقصيرهم إلى الله، هذا يقودنا إلى موضوع دقيق: هو أن هناك فقر الكسل، وهناك فقر القدر، وهناك فقر الإنفاق، فقر الإنفاق دعونا منه، هذا لكبار الصحابة، لسيدنا الصديق الذي أنفق كل ماله، ولم يقبل النبي من أحد من أصحابه أن ينفق كل ماله إلا الصديق، قال له: يا أبا بكر، ماذا أبقيت لنفسك؟ قال: الله ورسوله، هذا فقر الإنفاق، حالات نادرة.
لكن فقر القدر أن يكون الإنسان ذا عاهة تمنعه عن كسب رزقه، هذا الفقير فقير القدر معذور، لكن الفقر الذي لا يعذر صاحبه هو فقر الكسل، الإنسان حينما يقعد، لا يعمل، لا يبحث عن عمل، له عمل لا يتقنه، له عمل لا ينجزه، يتواكل، يسوف، يرجئ، يميل إلى الراحة، إلى النوم، إلى قبض المال من دون أن يقدم شيئاً، هذا كسل خطير، وهذا الكسل موجود في المجتمعات المتخلفة، في كسل، بالمجتمعات المتخلفة في فقر، لكن هذا الفقر أساسه الكسل، ليس هناك حركة، كلام فارغ، تتبع مشكلات الناس، كل إنسان مشغول بأخطاء الآخرين، يتابعها، يدقق فيها، يذيعها بين الناس، يشهر بهم، وكأنه يتلذذ بنقل هذه الأخبار، أما أن يعكف على نفسه، ويقوم بعمل نافع للأمة، فهذا السؤال الذي ينبغي أن يسأله كل إنسان: ماذا قدمت لأمتك إذا سألك الله عز وجل يوم القيامة: ماذا قدمت للمسلمين؟ هل قدمت لهم علماً؟ هل قدمت لهم مالاً؟ هل قدمت لهم خبرةً؟ هل قدمت لهم نصيحة؟ هل فكرت في مشكلاتهم؟ هل حملت همومهم؟ هل أقلقك وضعهم؟ هل آلمك ألمهم؟ هل ساءتك مساءتهم؟ ماذا فعلت؟ الإيمان حركة أيها الأخوة:

﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾
[ سورة الأنفال: 72]
أنت إذا اكتفيت بالإيمان لم تفعل شيئاً، هذا الضوء متألق، لو أنك قلت: أنا مؤمن أنه متألق، ماذا فعلت؟ هو متألق، أقررت بذلك أم لم تقر، الشمس ساطعة، قل: الشمس ساطعة ألف مرة، هي ساطعة، إن لم تقل ذلك تتهم بعقلك.

أن تكتفي بالإيمان دون أن ترفقه بعمل فهذه طامة الطامات :
إذاً أيها الأخوة، أن تكتفي بالإيمان دون أن ترفقه بعمل فهذه طامة الطامات، ومصيبة المصائب، إعجاب سلبي، نحن مؤمنون والحمد لله، مؤمنون بالله، برسول الله، بالجنة، بالنار، بالقضاء والقدر، ماذا فعلت؟
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾
[ سورة الكهف: 110 ]
حجمك عند الله بحجم عملك الصالح.

﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾
[ سورة الأحقاف: 19 ]
هناك أعمال لا تعد ولا تحصى أساسها المصلحة الشخصية لا وزن لها عند الله.

﴿ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ﴾
[ سورة الكهف: 105 ]
بعض آراء المفسرين فيما يتعلق بالآية التالية :
1 ـ حينما تعزو أخطاءك لقضاء الله وقدره تكون كاليهود :
أيها الأخوة، حينما تعزو أخطاءك لقضاء الله وقدره تكون كاليهود الذين قالوا:
﴿ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ﴾
التقِ مع أي إنسان، فرص العمل نادرة، هل بحثت عن عمل؟ هل فكرت في عمل مبدع؟ هل فكرت في عمل لم تسبق إليه؟ هل فكرت بإخلاص لخدمة الناس؟ الله موجود في كل عصر، وكل مصر، وبكل وقت، وبكل زمان، لا بد من حركة:

﴿ وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ﴾
هذا رأي من آراء المفسرين.

2 ـ حينما رأى اليهود فقر المسلمين وحاجتهم رأوهم لا شأن لهم عندهم إطلاقاً :
الرأي الآخر أن اليهود قالوا:
﴿ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ﴾
حينما رأوا فقر المسلمين وحاجتهم. النبي عليه الصلاة والسلام التقى بعدي بن حاتم، وكان عدي ملك من ملوك العرب، قال: يا عدي، لعله إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجته، المسلمون فقراء، وأيم الله ليوشكن المال أن يفيض بهم حتى لا يوجد من يأخذه.
هناك سرّ، لماذا كان النبي فقيراً؟ ولماذا كان ضعيفاً؟ لو كان قوياً لطمع الناس به، ليعتزوا به، ليتقووا به، لو كان غنياً لطمعوا بماله، فآمنوا به لا محبة بالله، ولا قناعة به، ولكن طمعاً بمصلحة، فلحكمة بالغةٍ بالغة جعل الله الأنبياء فقراء، وضعافاً، يُتَهمون بالكذب، وينامون في بيوتهم، يتهمونه بأنه مجنون، وينامون في بيوتهم، لكنك لا تستطيع أن تنطق بكلمة عن قوي، لا تنام في بيتك، يتهم أنه شاعر ومجنون، وله مآرب، ولا شيء، يرى النبي أصحابه يعذبون لا يستطيع أن يفعل شيئاً، يقول: صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة، أنت حينما تؤمن بإنسان ضعيف فقير، لكن الحق معه تكون بطلاً، عندئذٍ الله عز وجل يطمئن نبيه، ومن تبع نبيه.

﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾
[ سورة الضحى: 5]
القرآن الكريم اعتمد قيماً متاحة لكل واحد منا وهي قيم العلم والعمل :

إذاً الإنسان حينما يكون فقيراً أو ضعيفاً، أحياناً المصائب تولد البطولات، الحزن خلاق، أنت حينما تعطي نصف دخلك لأخيك، ودخلك لا يكفيك تكون بطلاً.
ذكرت مرة قصة، أن هذا الذي ورث أرضاً، ويعمل حاجباً في مدرسة، ودخله أربعة آلاف ليرة، وعنده ثمانية أولاد، عرض الأرض للبيع، فكان ثمنها ما يزيد على أربعة ملايين، ثروة كبيرة جداً لإنسان معدم، الذي اشتراها أراد أن يجعلها مسجداً، فلما علم أن هذا الفقير يبيعها لتكون مسجداً استحيا من الله، ومزق الإيصال، وقال: أنا أولى أن أقدمها لله منك، يقول هذا الغني الكبير: ما صغرت في حياتي كما صغرت أمام هذا الفقير المحسن. الحزن خلاق، قد تنشأ في بيئة فقيرة، قد يكون المال قليلاً، لكن ميزان الله لا علاقة له بالمال، القرآن الكريم اعتمد قيماً متاحة لكل واحد منا، اعتمد قيمة العلم، وقيمة العمل.

﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
[ سورة الزمر: 9]
﴿ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾
[ سورة المجادلة: 11]
واعتمد قيمة العمل:

﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾
[ سورة الأحقاف: 19 ]
﴿ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾
[ سورة فاطر: 10 ]
على الإنسان ابتغاء الرفعة عند الله عز وجل:
أما قيمة الذكاء، وقيمة الغنى، وقيمة الوسامة، وقيمة الجمال، وقيمة القوة، فهذه قيم مزيفة، يتعامل بها في حياتهم الدنيا، لذلك:
(( رب أشعث أغبر ذي طمرين ـ مدفوع بالأبواب ـ لو أقسم على الله لأبره ))
[ رواه أنس عن أبي هريرة ]
دخل على النبي الكريم رجل فقير جداً، فرحب النبي به ترحيباً لا مثيل له، فعجب، فقال: أهلاً يا من خبرني جبريل بقدومه، قال: أو مثلي؟! قال: نعم يا أخي، أنت خامل في الأرض علَم في السماء.

(( ابتغوا الرفعة عند الله ))
[ورد في الأثر]
(( كلكم من آدم وآدم من تراب ))
[الترمذي]
قد تكون في الدرجة السفلى من المقياس الاجتماعي، لكن قلامة ظفرك تعدل عند الله مليون إنسان، قد تكون في أدنى درجة من السلم الاجتماعي، ولك عند الله شأن كبير.

(( ابتغوا الرفعة عند الله ))
قال له: لعله إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتك، وأيم الله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعله يا عدي إنما يمنعك من دخول هذا الدين ما ترى من كثرة عدوه ـ الآن الأرض كلها تحارب الإسلام ـ وأيم الله، ليوشكن أن تسمع بالمرأة البابلية تحج البيت على بعيرها لا تخاف، ولعله إنما يمنعك من دخول من هذا الدين أنك ترى الملك والسلطان في غيرهم _ المسلمون مليار وثلاثمئة مليون، بكل إمكاناتهم وثرواتهم وموقعهم الجغرافي، وأنهم أمة واحدة، دينهم واحد، ولسانهم واحد، هل يستطيعون الآن بربكم أن يفعلوا شيئاً في الأرض؟! أبداً، قيمتهم ليست واضحة أبداً، هذا امتحان صعب نحن به، وهذا الذي أصابنا رسالة من الله: أن يا عبادي غيروا ما بأنفسكم حتى أغير ما بكم _ ولعله ما يمنعك دخول في هذا الدين أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البابلية مفتحة للعرب، وقد عاش عدي حتى رأى هذه الوعود الثلاثة. الرأي الآخر: أن اليهود قالوا:

﴿ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ﴾
لأن المسلمين فقراء، ضعاف، وهذا الذي يصرف الناس عن الإسلام الآن، دول فقيرة نامية متخلفة، الفقر مستشرٍ، والبطالة، هم أقوياء وأذكياء وأغنياء، ومعهم أسلحة فتاكة، وصواريخ، والإعلام بيدهم، والاقتصاد بيدهم، ونحن أمم متخلفة لا شأن لنا عندهم إطلاقاً.

3 ـ يد الله مغلولة عن عقابهم في الآخرة لأنهم شعب الله المختار :
رأي ثالث:
﴿ وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ﴾
أي مغلولة في الآخرة عن عقابنا.

﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ﴾
[سورة البقرة: 80]
نحن لا نعاقَب، لأننا شعب الله المختار.

﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ﴾
[ سورة المائدة: 18]


http://muntada.sawtalummah.com/showthread.php?t=1391