لعنة البريد الإلكتروني

١٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠١١بقلم نوزاد جعدان جعدان


متطفلٌ ولم يغير من طباعه، هكذا نشأ يحرجُ الناس بأسئلتهِ الفضولية،كأنه من فصيلة الطفيليات يقتاتُ من فتاتِ الآخرين وأسرارهم، فأول استفساراته للنساء عن أعمارهنّ وللمطلقاتِ عن سبب طلاقهنّ وللكتّاب عن أول خطأ إملائي أو قواعدي يصادفهُ.
منذ صغرهِ يحبُّ كشف أشياءٍ تأبى الظهور فكأنه حصّادة تعري الأرض بكشفِ أسرارها، ومرآة تبرز تجاعيد الوجه وأعذاره. نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
فهو طويل القامة ونحيل الجسم وله أنف طويل كمنقار نقار الخشبِ وشفاه رقيقة وأسنان تباعدت عن بعضها ورفضتِ الوحدة ، وشعر أحمر مجعّد كما تعتلي وجهه ندبة تبدو ككيس بلاستيكي معلقٍ على شريط كهرباء .

في خضم الثورة التقنية اقتنى فاروق حاسوباً واشترك بخدمة الشبكة العنكبوتية، وأول ما فعله اقتنى وحضّر برامج تطفلٍ على البريد الإلكتروني للآخرين وتعلم طرقاً لسرقة واقتحام بريد الناس، نبّش وسبر بريد الكثيرين ووصل إلى مبتغاه والساعة تدقّ اثنتي عشر دقة صباحاً ويوم يكتب شاهدة قبره ويوم يخط شهادة ميلاده، وهذا البريد الذي توصل إليه فيه الكثير من الصور والرسائل الشخصية التي تشبع فضول فاروق وحفر في لجّة البريد، فرأى صور نساءٍ عاريات وصور عائلات .

الغرفة هادئة وباردة جدا والرياح تعصف فتهتز النوافذ، والستائر تتموج كأنها نساء تتراقصن، وفاروق حرارته عالية فقد اكتشف في البريد المقتحم صورة امرأة ترقص وأخرى في حضن زوجها والأخرى تغتصب من قبل رجلٍ.
فتّش عن اسم مالك البريد وعثر عليه اسمه مازن وبعد أن أشبع فضوله سمع صوتَ خطوات تسير في الممر فحسبه والده،، فأطفأ الأنوار وخلد إلى النوم .

رأى فاروق في حلمه امرأة لها شعر طويل أسود مسترسل داكن لا تبدو ملامح وجهها جيدا لها عينان بيضاوان دون أحداق ومن فمها مُسح أحمر الشفاهِ بطريقة عشوائية حتى غطى وجهها، ترتدي فستاناً قصيراً من الصوفِ والخيط يُسحب من ثوبها رويداً رويداً حتّى تظهر عارية تماماً، تقتربُ من فاروق وهي تزحفُ وتحاول خنقهِ وهي تصرخ بصوت كصوت المبرد على الأظافر قائلة: سأقتلك يا قاتلي!..
يهرب منها فاروق ويفكر أين رآها فوجهها مألوف، وعندما وضعتْ خيط الفستان على رقبته، استيقظ فاروق وهو يتنفس الصعداءَ وظلام دامسٌ يغطي وجهَ الغرفة، جلس على فراشه وهو يلتفت حوله وفجأة أُنير مصباح الغرفة وانطفأ، وهدوءٌ تامٌ يدق مضجعه مواء قطة هستيرية من الشارعِ.
ترك فاروق فراشه واقترب من النافذة وحدّق في الشارع المظلمِ، مشط الطريق بعينيه وما من ضوء يرنو وقبل أن يغلق النافذة رنا ضوء خافت وراء الشجرة وكتف أحدهم يظهر، ازداد الضوء توهجاً حتى ظهرتْ امرأة تلبس فستاناً من الصوفِ الأبيضِ تنظر إليه بعينيها الخاليتين من الأحداق وتقترب من شبّاكهِ وفاروق سيموت رهبةً وخوفاً..

تقترب المرأة من نافذته وتحاول الصعود للوصول إليه والشجرة تتعرى وتأفل أوراقها،في تلك اللحظة رجع فاروق خطوتين إلى الوراء و أوصد الشبّاك، ففُتِح الباب وانطبق مصدراً هديراً عالياً، حدّق فاروق بالبابِ ثمَّ التفتَ إلى الوراءِ فرأى المرأة تدنو منه وهو يصرخ وصوته مختنقٌ ويداه تجمدتا، اقتربتْ منه ثم اختفتْ..

هرعَ فاروق إلى والده وهو يصرخ ويلهثُ :
-أبي أبي ..
-ما بكَ يا بني؟!..أراك أصفر الوجهِ والعرق على وجهك اتخذ ملاذا!.
- إني أرى فتاة في حلمي تحاول خنقي فاستيقظت ومازالت تتبعني .
-لا تخفْ يا بني، إنه حلم وكابوس مزعج ولستَ صغيرا حتى تخاف.
- لا يا أبي، ليس كابوساً إنها حقيقة .
- حسناً!..دعْ النور مضيئاً ونمْ.. تصبح على خير يا فاروق!.
فاروق من هذا فاروق أنا اسمي مازن وليس فاروق..
جلس فاروق وبدأ يفكر بالمرأة التي رآها فما قصتها؟..من تكون يا ترى ؟!..قلب الأمر في ذهنه وتذكر إنه رآها في البريد الذي اخترقه ثمَّ استسلم إلى النومِ..
جاء الصباح وأطفأ الرعب ليكتب نعوة الليل، حاولتْ الأم إيقاظ فاروق وهي تناديه :
-فاروق..قمْ واذهب إلى الجامعة قد تأخرتْ.
وفاروق في فراشه لا يتحرك مستاء من هذا الاسم، من فاروق أنا اسمي مازن قال في نفسهِ.
صرختْ الأم وبدأت تركله، فاستيقظ فاروق وصرخ في وجه أمه :
-أمي اسمي مازن وليس فاروق .
لم تستغرب الأم من جوابه فحسبته قد اتخذ اسم أحد مطربي البوب أو أحد المشاهير.
لبس لباسه بسرعة وانطلق إلى الجامعة دون أن يفطر، صاح به زملاؤه وفاروق لا يرد عليهم، جلس في المحاضرة يستمع إلى الدكتورة وهي تشرح الدرس، فبانتْ المرأة التي رآها في الحلم تقبع وراء الدكتورة بيدها سكين وربطة شعرها تسقط على الأرض ثمّ يتدلى شعرها على كتفيها حتى يغطي وجهها وتقترب منه وهي تصعد الدرج، اقتربت منه كثيرا حتى دوت صرخة فاروق وتوقف الدرس.
الدكتورة صرخت باسم فاروق وفاروق في دنيا أخرى :
-فاروق ...فاروق تعال إلى هنا .
-فاروق من فاروق!.. اسمي مازن يا دكتورة .
ضحك الطلاب وبدؤوا يسخرون منه، فغضبت الدكتورة وطردته من المحاضرة، خرج مسرعاً وقرر العودة إلى المنزل، خاف من الطريق وبدا حذرا من كل شيء.

عند وصوله إلى البيت جلس أمام الحاسوب وفتّش مرة أخرى في البريد الإلكتروني الذي اقتحمه ووجد صورة المرأة وكانت صورتها عارية تماما، حدّق في وجهها رآها تتحرك أمامه وتقترب من شاشة الحاسب حتى غطى وجهها الحاسوب رويداً رويداً ونقطة من الدماء تكبر مع وجهها حتى ملأتْ الشاشة، وعيناها الكبيرتان تسيل منهما الدماء، سحب فاروق مأخذ الكهرباء وخرج من الغرفة، كاد أن يبلل سرواله فاتجه إلى المرحاض، وهو يتبول شعر بيد تربت على كتفه، نظر وراءه فتبول على ثيابه .

ساءتْ خلق فاروق لدرجة لا تحتمل فقد أمسى عصبي المزاج، يغضب لأهون الأسباب، يتعارك مع المارة، واشترى سكيناً عند لزوم العراكِ، استغرب من منظره حينما وقف أمام المرآة، فقد أمسى قصير القامة وعريض المنكبين وشعره أصبح أسودا ونبتَ في وجهه شاربين كثيفين والندبة على وجهه قد شفيتْ، ثم ترك الدراسة وأهله محتارون في أمره، فلم يتركوا طبيباً نفسياً إلا وأخذوه إليه ولم يكشف أحد حالته النفسية.
أخذته أمه إلى بعض السحرة ظناً منهم على أنه مسحورٌ، فسلب منها السحرة أموالاً طائلة مقابل طلاسم غير مفهومة كما لم يفهموها أنفسهم ، تكتب على الورق لا تكلف إلا حبراً على ورق .
أما والده بدأ بقراءة كتب السحر وتحضير الجان وما من فائدة، فالمرأة لا تترك فاروق، وتظهر له في أحلامه وواقعه.
ازدادت عقد فاروق فغدا يصرخ في وجه من يناديه باسم فاروق ويفرح لمن يناديه بمازن، بحثوا في المنزل عن هوية فاروق وملفات تثبت شخصيته ولم يجدوا، فقد اختفى كل دليل يثبت اسمه .
في انتصاف الليل يتوقف الأمل عن الظهور لذا يخلد الناس إلى النوم، أما فاروق ففرّ من المنزل وبدأ بالسير في الشارع، مرّ بالقرب من بيتٍ قديمٍ وبحث عن المفتاح ووجده تحت ظل شجرة في باحة المنزل، دخل ذاك البيت ورائحة نتنة تفوح منه كرائحة قطة ميتة، جلس فيه وهو يعرف كل غرض أين يكمن في البيت، اتخذ منه ملاذاً، اتجه إلى الحمام وبدأ يستحم بالماء اللافح أمام مرآة قديمة في الحمام، البخار يغطي وجه المرآة وفاروق يسمح البخار بيديه فتتضح صورة المرأة العارية في المرآة بعينيها الكبيرتين وتقترب منه، فخرج فاروق عارياً من الحمام، وعندما خرج انقطعت الكهرباء وصوت خطوات أقدام تتعالى، وضوء خافت يرنو دقق فيه فشاهد المرأة عارية تماما لا يستر جسمها أي شيء، تقف وراءه تارة وأمامه حيناً ثم تسقط على الأرض جثة هامدة وخلفها يقبع شاب بيده السكين ومن السكين تنزف الدماء .
دقق في الفتاة هي نفسها الفتاة الموجودة صورتها في البريد الإلكتروني، أغمي على فاروق هنيهة ثم استيقظ والعرق يسيل على جبينه كما يسيل البول على بلاط المرحاض الأبيض، اتجه إلى غرفة أخرى فيها حاسوب وفتح البريد الإلكتروني وحدق في صور الناس الموجودين فيه فسمع صوتاً ضعيفاً أنثوياً يناديه من النافذة : مازن سأقتلك يا مازن! .
نظر إلى النافذة فوجد الستائر تتراقص، نظر خلفه فوجد الفتاة تتعرى تدريجياً وتحمل سكيناً والدماء من عينيها تسيل بغزارة وهي تصرخ : يا قاتلي ..يا قاتلي!.
انقض فاروق سريعاً على مقبض الباب فاصطدم بشخص سأله وهو يرجف :
-من أنت؟..
-أنا أنت.
فرّ منه فاروق والأصوات تلاحقه : مازن أيها القاتل .
ووصل فاروق إلى سطح المنزل والكهرباء مازلت منقطعة وهو مستغرب كيف عمل الحاسوب دون كهرباء؟!، وقف تحت حبل الغسيل نظر فوقه فرأى فساتين نساء تتدلى على الحبل و نساء يدخلنّ في الفساتين ويخرجنّ.
ثمَّ رأى فتاة صغيرة تنشر لباسها الأبيض على حبل الغسيل وهي تتابع حركة فاروق وفزعه من فمها الكبير جدا وصوت بكائها الذي يثقب السمع، اختفت الفتاة وبقي ثوبها يهتز من على حبل الغسيل ثم ظهرت بقعة صغيرة على الثوب وبدأت تكبر حتى صار لون الثوب أحمراً قانياً، وضحكات النساء تتعالى على السطح تكاد تفقده سمعه وبخار كثيف يغطي المكان .
دخل إلى الغرفة ووضع شريطا في المسجلة، والشريط يدور بهدوء دون أي صوت حتى ملّ فاروق وقبل أن يشرع على إطفائه سمع صوتا خافتا من الشريط (سأقتلك يا قاتلي ) والصوت يعلو تدريجيا ومزيج من ضحكات وسخريات النساء والعويل والبكاء، وصراخ فتاة صغيرة تبكي بكاء نزقاً يكاد يثقب السمع وصرخات امرأة يتلاشى ويعلو، أخرج الشريط بسرعة فلمستْ يديه يدٌ باردة صغيرة، نظر إليها وإذ هي تلك الفتاة الصغيرة التي رآها على السطح، هرب مسرعاً.

استغرب فاروق كيف تعمل المسجلة بدون كهرباء ثم جرب إشعال التلفاز كل شيء يعمل إلا الأنوار فشاهد النشرة الجوية، ومن غيمة بيضاء في التلفاز خرج وجه المرأة حتى أخذت مكان المذيعة ثم اقتربت من الشاشة ولباسها الصوفي يسحب منه الخيط رويداً رويداً ثم أمست عارية والدماء تنزل من عضوها التناسلي.

أطفأ التلفاز ودخل الغرفة التي يكمن فيها الحاسوب، دخل إلى البريد الإلكتروني وشاهد الصور، فظهر له صورة الفتاة الصغيرة وهي تمسك بيد شخص لا تبدو ملامحه وتختفي في تلاشٍ في الضباب.
خرج فاروق في تلك الليلة إلى الشارع يفكر بالصور والأخيلة التي تتحرك أمامه وترهبه تلك المناظر..
مضى قدماً واصطدم بأحد المارة الذي تعارك معه، فأخرج فاروق سكيناً وطعنه، لم يستطع الهروب فقبضتْ عليه الشرطة وطلبوا منه بطاقته الشخصية فلم يجدوها معه وسألوه عن اسمه فقال:
-اسمي مازن .
بحثت في منزله عن شيء يثبت شخصيته فم يجدوا وحين حضور أهله تبرى منهم، دققت الشرطة في سجلات الاسم الذي أعطاهم إياه فاروق، ووجدوا اسم مازن في سجلات الشرطة لكن مازن كان مجرماً ومغتصباً للفتيات ومشهّراً لهنّ فقد قتلتْ إحدى الفتيات بسببه لأنه لصق صورة وجهها على صورة امرأة عارية ونشرها عبر الشبكة العنكبوتية و لكن المجرم مازن قد أعدم من ثلاث سنوات خلتْ وصورته موجودة في سجلات الشرطة على حبل المشنقة .

حاولت الشرطة معرفة اسم فاروق الحقيقي مراراً وجربوا شتى الوسائل لمعرفة اسمه وجوابه لا يتغير : اسمي مازن، زجّوه في السجن بتهمة طعن شخص ومازال يقبع هناك بانتظار محاكمته الفاصلة .
الرابط
http://www.diwanalarab.com/spip.php?article29860#forum24581