تحية طيبة وبعد
لكل من الأستاذ "عبد الرزاق أبو عامر" الذي هيأ لي فرصةً للحديث في موضوع كنت أتمنى أن يستفزني صاحب رأي سديد فأتحدث فيه
وللأستاذة ريمة التي نبهتني إلى ظاهرة لم أكن لألقي لها بالا فيما مضى، مع أنها واقعية وموجودة
أملا في مزيد من الأسئلة الكاشفة والمسفزة، فإنها تعلمني وتثريني، أكثر مما تفيدكم وتثريكم إجاباتي البسيطة عليها
أسامة عكنان
أسئلة الأستاذ عبد الرزاق أبو عامر
انطلاقا من السؤال الفارط ذي الصلة بمصطلحي (النبوة) و(الرسالة) وجوابكم المستفيض عليه.. ما صلة مصطلح (السيرة النبوية) بهذين المصطلحين؟ وإلى أي مدى يتميز مصطلح (السيرة) عن مصطلح (التاريخ)؟، وأيهما الأصل؟، وأيهما الفرع؟
الإجابة
مدخل تأسيسي للمسألة
نقر بداية بأن "السيرة النبوية" – بصرف النظر عن دلالتها الدينية المرجعية، تشريعية كانت أو إخبارية – لا تخرج في نهاية المطاف عن كونها "تاريخا" بالمعنى الحقيقي لمصطلح "تاريخ" بمعى من معانيه المتداولة والمتعارف عليها، لأنها في شكلها ومضمونها عبارة عن "سِجِل" و"وثيقة" تغطيان الحركة المجتمعية – بجميع تفاصيلها – التي حصلت في جغرافية زمانية ومكانية محددة، وهذا عبارة عن "تاريخ" في واحد من معاني هذا المصطلح.
وبالتالي فإن "السيرة" بقدر ما هي – من حيث طبيعتها الدينية المرجعية – منطواةٌ بصفتها "فرعا"، في المرجعية التي نطلق عليها مصطلح "السنة" بصفتها أصلا، فإنها – من حيث شكلها ومضمونها التاريخيين – منطواةٌ بصفتها "فرعا"، في "السجل البشري" ذي الفضاءات الممتدة زمانا ومكانا، والذي نطلق عليه مصطلح "التاريخ" بصفته أصلا. ونحن هنا لا نتحدث عن مصطلح "التاريخ" بصفته مصطلحا يؤشر على العلم الذي تتم في ضوء قوانينه وقواعده، عملية التوثيق والتسجيل للحدث التاريخي أو للواقعة التاريخية، وإنما نتحدث عنه عندما يتم التأشير به على "الحدث" أو على "الواقعة" نفسهما.
وإنه خارج نطاق كون السيرة فرعا والتاريخ أصلا، لا يتميَّز مصطلح "السيرة" إذا نُظر إليه من حيث دلالته على "التاريخية"، بأيِّ ميزةٍ على مصطلح "التاريخ" من حيث الدلالة نفسها. إن الميزة التي يمكننا إسباغها على هذا المصطلح، ربما تتأتى من القيمة "المرجعية التشريعية الإسلامية التقليدية" للسيرة ذاتها. ومن هنا فهي الميزة ذاتها التي يكتسبها – على هذا الصعيد – مصطلحُ "السنة" ذي الدلالة المرجعية التشريعية.
ومادام حديثنا عن "السيرة" – بموجب الأسئلة المطروحة من قِبَلِكم – قد جاء في سياقِ الحديث عن "التاريخ" من جهة، وعن "السُّنَّة" من جهة أخرى، من حيث كونها – أي السيرة - فرعا بالنسبة لـ "السنة" في "المرجعية الدينية"، وفرعا بالنسبة لـ "التاريخ" في "توثيق الجغرافية الزمانية والمكانية"، فإنه من باب إعطاء الموضوع المثار حقَّه "المعرفي"، العروج به إلى ما تقتضيه هذه الارتباطات من عناصر نحسب العروج إليها – في ظروف إعادة إنتاج "إسلام نبوة العقل" – أمرا بالغَ الأهمية، لأنه قد يساعدنا على وضع أيدينا على مكامن حلولٍ غير تقليدية ولا مسبوقة، للعُقَدِ المفصلية – تراجيدية التأثير - في علاقتنا بهذا الدين وبطريقة تعاطينا معه من جهة أولى، وفي علاقتنا بتاريخنا وبطريقة فهمنا له من جهة ثانية.
إن الوصول إلى هذه النقطة، وهي نقطة العروج بالموضوع إلى الفضاءات الأهم التي ترتبط به، يستدعي إلى الذهن مسائل خطيرة، نعتبرهما بمثابة الأدوات المعرفية القادرة على فكِّ كل الطلاسم، وعلى حل كل التناقضات، وعلى فتح كل المغاليق، في علاقتنا بمرجعيات الإسلام النقلية.. وهذه المسائل هي..
1 - شكل تلقي المرجعية "النقلية" جوهري في تحديد الموقف منها
2 - العلاقة التكاملية بين القرآن والسنة
3 - على أي أسس تعاد قراءة التاريخ العربي والإسلامي
"1"
شكل تلقي المرجعية "النقلية" جوهري في تحديد الموقف منها
يجب أن نفرِّق بين نوعين من أنواع التعامل مع شخصيَّة القائل والفاعل والمقرِّر "محمد بن عبد الله" صلى الله عليه وسلم، من حيث طبيعة التلقي عنه والسماع منه. النوع الأول، وهو النوع من التعامل الذي تَمَتَّعَ به من رآه وسمع منه مباشرة، حيث لا وجود على الإطلاق لأيٍّ من التحفظات التي طرحت نفسَها لاحقا على النوع الثاني من أنواع التعامل، فأوجدت لأجل التعاطي معه بإيجابية – أي مع هذا النوع الثاني – علمَ الحديث والرواية، وعلم الجرح والتعديل، وعلم الرجال. أماَّ النوع الثاني من التعاملات، وهو النوع الذي فرضت عليه طبيعة الأمور أن يتعرف على الأقوال والأفعال والتقريرات عبر شُحنةٍ تاريخية تنطبق عليها كافة التحفظات الممكنة والمحتملة على أيِّ مرويٍّ تاريخي من حيث المبدأ، فهو النوع الذي لا يمكننا نحن الآن، ولا يمكن لكافة البشر إلى قيام الساعة، أن نتعرَّف أو أن يتعرَّفوا على شخصية محمد بن عبد الله القائل والفاعل والمقرّر إلاَّ من خلاله، وليس من خلال النوع الأول.
إن التفريق الدقيق بين هذين النوعين من أنواع التعامل مع مصدر الأقوال والأفعال والتقريرات ومنبعها، "محمد بن عبد الله"، يقتضي التنبيه إلى ضرورة التَّحرُّر أثناء "التعامل"، تحرُّراً تاما وكاملا، شكلا ومضمونا، من وهم الاعتقاد بـ "وحدة الحال المعرفية والدلاليَّة" بين من يسمع الرسول ويراه ويتعامل مع ما يرد عنه من ثم بشكل مباشر لا وسطاء فيه ولا سلاسل رواة. ومن يتعامل معه من خلال نصوصٍ منسوبة إليه وردته عبر حِقَبٍ زمنية طويلة، وعبر سلاسل معقدة من الروايات والأسانيد المتوارثَة، بكل ما يترتب على ذلك من تحفظات.
إن أهم وجه من أوجه انعدام وحدة الحال المعرفية والدلاليَّة بين السامع بالمشافهة والسامع بالرواية والإسناد، هو أن مقولةً مثل مقولة "لا تعارض بين النقل والعقل"، لا يمكنها أن تتحقق لدى أيِّ واحدٍ منهما بالطريقة نفسها التي تتحقَّق بها لدى الآخر، إلاَّ إذا تمَّ افتراض التساوي التام والمطلق بين السماع بالمشافهة والسماع بالرواية، في صحة النسبة إلى المصدر، وفي الدلالة والحُجِّيَّة من ثم، وهو الأمر الذي لا يتحقَّق بأي حال. فصحة النسبة إلى المصدر لدى السامع بالمشافهة مطلقة، بينما هي لدى السامع بالرواية نسبية مهما علت وارتفعت درجة اليقين والقطعيَّة فيها. وهو ما ينعكس حتما على الحجيَّة والدلاليَّة، لتغدوَ بدورها نسبية ظنية وليست قطعية بأَيِّ بحال.
إن الصحابي الذي سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو رآه مباشرة، يفهم من مقولة عدم تعارض العقل مع النقل، أن رسول الله لن ينطق أو يفعل أو يقرِّرَ ما يتعارض مع العقل كما يفرض نفسه على العقلاء آنذاك. أي أنه ينتظر أداءً محمَّدِيَّاً نقيا صافيا لا تشوبه شائبةُ تعارضٍ مهما كانت صغيرة مع العقل، وإلاَّ لشكَّك في نُبُوَّته وطعن فيها على الفور. بينما نحن الذين ما رأينا رسول الله ولا سمعنا عنه، ولا وصلتنا أقواله وأفعاله وتقريراته إلاَّ مروياتٍ في أسانيد يجرها في ذيله تاريخ مثقلٌ بالأكاذيب وأغبرة الريبة والشك والصراعات التي لا تنتهي على السلطة والمصلحة والنفوذ، فلا يكفينا افتراض أن مقولة عدم تعارض العقل مع النقل هي ذاتُ ما فهمه الصحابي وتعامل على أساسه مع رسول الله.
إن عدم تعارض العقل مع النقل بهذا المعنى لا يفيدنا في شيء ما لم نحاول إسقاطه على طبيعة وصول الرسول إلينا وخطابه لنا عبر أقواله وأفعاله وتقريراته. إننا بحاجة إلى مطابقة هذه النصوص المروية مع معطيات العقل لقبولها أو رفضها على أساس عقلانيتها أو لا عقلانيتها انطلاقا من افتراض أن ما كان منها غير عقلاني فلا يمكن لرسول الله أن يكون قد قاله أو فعله أو قرَّرَه أساساً. فإذا كان الصحابي يسمع صوت العقل في الأثير المرافق لأنفاس رسول الله وهي تنقل الكلمات والحروف والجمل، لمجرَّد أنه رسول الله الذي لن ينطق إلاَّ بما كان عقلانيا بالضرورة، فإننا نحن، إنما نسمع صوتَ رسول الله ونشتم رائحة نبوَته في العقل الصادح من تلك الحروف والكلمات والجمل المنثورة أمامنا فوق صفحات الكتب كالموات تنتظر من يحييها بعجنها بعصارات العقل والعقلانية.
إن كلَّ من يرفع شعار عدم تعارض العقل مع النقل ممن عاش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيُفْقِدُ شعارَه قيمَتَه ويحوِّلُه إلى لغو عقيم بلا معنى، إذا لم يقبل من حيث المبدأ إخضاع هذا الكم الهائل من المرويات أيا كانت مستويات صحتها السَّنَدِيَّة، إلى هذا الذي يدعو إلى عدم تعارض النص معه، وهو العقل. تماما كما فعل الصحابي من حيث الجوهر عندما افترض أن رسول الله لن يصرِّح بما يخالف عقله، وهو يستمع إلى أقواله وينظر إلى أفعاله.
إن مقولة عدم تعارض العقل مع النقل مقولة مُضَلِّلَة إذا لم تُحْسَم حدودُها حسما معرفيا واضحا. فهناك فرق كبير بين عدم تعارض العقل مع النقل، وبين عدم تعارض النقل مع العقل. أيهما هو الذي يجب ألاَّ يتعارض مع الآخر، العقل أم النقل. إن عدم التعارض المعرفي يقتضي سيِّدا معرفياًّ وتابعا معرفيا، ويفرض على التابع من ثمَّ عدم معارضة السَّيِّد، ولا يجيز وضع الاثنين في مستوى معرفي واحد. إن من يفعل ذلك يهرب من الحقيقة ويضلِّل الآخرين من حيث يدري أو لا يدري.
فعندما نقول.. "لا يجوز للعقل أن يعارضَ النصَّ"، فهذا يعني أن النَصَّ هو الأساس وأن معطياته المعرفية هي المعيار والمقياس، وأن على العقل إذا أراد أن يُدلي بدلوه في المعرفة، أن لا يخرج عن الحدود التي وضعها النص، وإلاَّ فإن معرفته المُساَقَة تلك هراء لا قيمة له. وعندما نقول.. "لا يجوز للنص أن يعارضَ العقل". فإن المعنى المعاكس هو الذي يفرض نفسه، لتغدوَ المعادلة مطروحة بشكل يطلب من النص أن لا يخرج عن الحدود والأطر المعيارية التي وضعها العقل للمعرفة.
إن مثل هذه المعادلة الغريبة لا يمكنها أن تكون مطروحة على ذهن من يعايش نزول الوحي، إطلاقا. لا يمكن لمن يسمع من نبي مُرْسَلٍ ويراه، أن تُثار لديه قضيةٌ عنوانها "تعارض المعقول مع الموحى به" – الذي هو المنقول بالنسبة للاَّحقين – لسبب بسيط هو أن الله الموجود في العقل وفي الوحي، حاضرٌ حضوراً كاملا في حالة معايشة الوحي. فثبوت النبوة بشكل أو بآخر يعني أن الرجل الذي يتلقى الخبر من السماء صادق، وبالتالي فمَنْ خَلَقَنا عقلاء مفكرين هو ذاته الذي يزودنا بمعارف عبر الوحي الذي نعايشه، وإذن فأين المعضلة؟! إنها غير موجودة على الإطلاق، لأن الله لن يكذب علينا، ولن يخالف في وحيه لنا ما أراده عبر عقولنا.
تبدأ المعضلة تتكشَّف وتتكون وتتعمَّق منذ اللحظة التي يتحول فيها الوحي من حالةٍ معايَشَةٍ نَعِمَ بها من رأوا النبي وسمعوا منه فارتاحوا من معضلة الرواية، إلى حالةٍ مُخْبَرٍ بها منقولة عبر التاريخ برجالٍ تُمَرَرُ من خلال مروياتهم وقصصهم وأساطيرهم وأكاذيبهم وصراعاتهم ونزواتهم وخلافتتهم وشهواتهم، كلُّ التبريرات المُرادَة لشرعنة كافة أوجه الصراع والاقتتال والاختلاف المتصَوَّرَة. وبما أنه لا مشكلة مثارة من هذا النوع إبان نزول الوحي، فإن إثارتَها بعد تَحَوُّلِ الوحي إلى منقول ومُخْبَرٍ به، تكتسب مبرِراتها وأهمِّيَتها من السعي إلى إعادة الأمور إلى نصابها، عبر تنقية المعقول النبوي الموحى به إلى شخص النبي، من اللاَّمعقول الخبري المكذوب به عليه.
إن استحالة افتراض تساوي حالتي الاستماع إلى النبي بالمشافهة المباشرة، والاستماع إليه عبر الرواية المنقولة، في ضرورة تطابق مُعْطَى العقل مع المضمون الوحيوي فيهما، نظرا لعدم ضمان تَحَرُّر الوحي بعد تحولِه إلى مادة منقوله، من عبث البشر وتحريفاتهم وقصورهم الفطري وتوظيفاتهم السياسية والمصلحية المختلفة، يقتضي التعامل مع تلك المادة الوحيوية المنقولة التي بين أيدينا - والتي لا نستطيع الجزم بتطابقها من عدمه مع الصيغة الموحى بها كما أوحي بها - بشكلٍ مختلفٍ عن طريقة التعامل المفترضة لأولئك الذين استمعوا إلى الرسول ورأوه مباشرة. ولأن العقل لا يخضع للتحريف، وليس مادة عرضةً للتلاعب بها تاريخيا كما هو شأن النقل الذي يتعرض وحده لعبث البشر، فلا شك إذن في أن العقل هو السيِّد المعرفي، وفي أن النصَّ هو التابع المعرفي الذي يجب أن يثبتَ مشروعيةَ ذاتِه من خلال عدم تعارضه مع العقل، وليس العكس.
فعندما لم تكن هناك قضية مُثارة عنوانها "تعارض العقل والوحي"، إباَّن نزول الوحي للأسباب الموضوعية التي ذكرناها، فلن نواجَهَ بعقل يطالب بمشروعيةٍ لوحيٍ يعارضه، ولا الوحي سيُصْدَم بعقلٍ يناصبه العداء أساساً. لأن هذا لن يحدثَ البَتَّة. ولكن عندما أثيرت القضيَّة وما كان لها إلاَّ أن تُثار، بسبب التاريخ ومنطق الرواية وهي تُنْقَلُ من جيلٍ إلى جيلٍ على أسِنَّة الحراب وعبر أنهار الدماء، فقد غدا من اللازم أن تثار بشكلها الصحيح الذي يضع العقل موضع السيِّد والنص والمنقول موضع التابع، كي تستقيمَ الأمور.
"2"
العلاقة التكاملية بين القرآن والسنة
إن سياق النصوص القرآنية التي تحدثت عن طاعة الجانب الرسالي في شخصية محمد بن عبد الله واتِّباَعِه، لم تَتَوَلَّ مهمة تحديد أبعاد وضوابط هذا الجانب. فهي لم تحدد لنا أن مهمة محمد الرسالية تنحصر في كذا أو أنها تمتد لتطال كذا أو أنها شاملة للمجالات الفلانية والفلانية في الحياة. بل هي ذكرت لنا الموضوع بدون توضيح أو تفصيل، الأمر الذي يشير قطعا إلى أن تحديد ضوابط هذا الجانب من جوانب شخصية الرسول مرهون برؤىً تجيء من خارج حدود النص القرآني، وبالتالي ومن باب أولى من خارج حدود النص السُّنِّي نفسه.
من هنا فلا ملجأ لمعرفة ضوابط وحدود هذا الجانب وحدود باقي الجوانب من ثم، إلاَّ إلى مصدر المعرفة الأساسي وهو العقل. على أن يكون واضحا أن دور العقل يتحدد في هذا الخصوص من خلال ما يمكنه أن يظهر له من عناصر خاصة تحكم العلاقة بين كل من القرآن والسنة بصفتيهما قناتين تمر عبرهما المفردات المعرفية الواردة لنا عبر المصدر المعرفي نفسه، وهو الوحي. فالعقل ليس فيه في حدود معارفه الضرورية ما يشير إلى ما يجب أن تكون عليه ضوابط الرسالية في شخصية الرسول. وبما أن القرآن ليس فيه شيء من ذلك أيضا، فإن العقل من خلال ما يتحدد فيه من علاقات يفترضها بين القرآن والسنة، وذلك بحكم طبيعة كل منهما كما فرضت هذه الطبيعة نفسها عليه، يستطيع أن يستنبط هذه الضوابط والحدود استنباطا منطقيا، وهذا ما سيتضح لنا خطوة خطوة في سياق هذا التحليل.
إن الوحي كان يغطي على الدوام منطقة فراغ في المعرفة. وإن هذه المنطقة بدأت مع بواكير الوعي الإنساني كبيرة واسعة وراحت مع تطور هذا الوعي تتقلص تدريجيا إلى أن وصلت إلى أصغر ما تكون مساحةً في الوحي الأخير. فنحن لا نحتاج إلى كبير عناء أو جهد لنكتشف هذه الحقيقة، وذلك بإجراء مقارنة بسيطة وسريعة بين القرآن والتوراة مثلا، حيث تتبدى لنا من خلال هذه المقارنة، التغطية التفصيلية والدقيقة لجوانب واسعة في الحياة في التوراة، وإن غلب على معظمها النَّفَس الأسطوري. فيما لا يغطي القرآن بالقياس لما تغطيه التوراة إلاَّ جوانبَ ومساحاتٍ قليلة وصغيرة، وهذا علاوة على الاختلاف في طبيعة المعالجة للموضوعات المغطاة، بحيث يبدو واضحا أن عددا من تلك الموضوعات قد عولج في القرآن بصورة مختلفة عما تَمَّت معالجتُها بِها في التوراة، إلى درجة بدت معها تلك الموضوعات وكأنها موضوعات قرآنية الطابع، في حين أنها إنسانية الطابع، مثل موضوع "الشرك بالله"، الذي لا يسع القارئ له في القرآن إلاَّ أن يتصور أنه مفهوم عقدي قرآني محض. إن هذا التباين في حجم ونوع التغطية الوحيوية من التوراة إلى القرآن، يرجع إلى أن المساحات التي راح يغطيها العقل والتي راحت تغطيها التجربة كانت تتوسع وتزداد وتتنوع، وهي عند نزول القرآن كانت أوسع وأشمل بكثير مِماَّ كانت عليه عند نزول التوراة.
إن الله أنزلَ وحيه الأخير عبر قناتين نقليتين مختلفتين هما القرآن كلام الله المباشر، والسنة التي تعتبر بمثابة الأداءات الرسالية لشخصية محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام. ومادام الأمر كذلك فلا شك في أن لكل قناةٍ منهما دورَها الخاص على صعيد إظهار المعرفة وتزويدنا بها، وإلاَّ فإن هذه الثنائية تغدو عبثا لا طائل وراءه، وتصبح بالتالي فاقدةً لأي دلالة ذات قيمة أو منفعة. نستطيع أن نلاحظ أنه في الوقت الذي لا نجد أي حدود أو فواصل بين ما يُمكنه أن يكون كلام الله المباشر في التوراة وما يمكنه أن يكون تعليمات موسى عليه السلام، وأنه في الوقت الذي تذوب فيه تعليمات السيد المسيح في كلمات الله في الأناجيل، بحيث لا نستطيع أن نتبين أَيَّ حدود فاصلة بين قناتين وحيويتين مختلفتين ومتمايزتين، فإن الأمر في الوحي الأخير يختلف تَمام الاختلاف. فالحدود الفاصلة بين القناتين، الإلهية المباشرة والمحمدية النيابية أو المُكَمِّلَة، واضحةٌ وضوحا لا لبس فيه. وهو ما يجب أن تكون له دلالة تتناسب مع معتقد عدم العبث في الله. ولا يمكن لهذه الدلالة أن تكون واقعة خارج نطاق البعد الوظيفي لكل قناة من القناتين.
إن العقلَ من حيث المبدأ يرسم الحدود المعرفية الدقيقة للتعامل مع نصوص الوحي عامة، أياَّ كان عدد القنوات التي سيتم تمرير تعاليم الوحي عبرها ومن خلالها. إنه ينظر إليها نظرة واحدة وشاملة بصفتها جميعها تمثل الوحي، وبصفة معارفها تمثل جميعها المعارف الوحيوية. والعقل بما هو عقل ليس معنيا بالتفريق من حيث طريقة التعامل بين أيٍّ من قنوات الوحي وقنواته الأخرى، إلاَّ إذا كشف الوحي نفسه عن فروقات بين تلك القنوات وعن دلالات لتلك الفروقات على الصعيد المعرفي، سواء كان ذلك الكشف مباشرا وواضحا أو ضمنيا. عندئذ سيأخذ العقل هذه الفروقات بعين الاعتبار ليكمل مهمة التحديد المعرفي المنوطة به، إن كانت له مهمة واضحة ومحددة يستطيع القيام بها في ضوء الفروقات المعلنة وضوحا أو الملاحظة ضمنا بين تلك القنوات.
وبعبارة أخرى أكثر وضوحا، فإن العقل ومعه التجربة من ثم، إذا كان يضع مجموعة من المعايير التي على الوحي أن يخضع لها وأن يعمل معرفيا في ضوئها ويُفْهَمَ بالتالي على أساسها، فإن هذه المعايير تنطبق من حيث المبدأ على الوحي كله قرآنا وسنة، وإذا تبين أن للثنائية المرئية دلالة على صعيد الدور المعرفي، فإنها ستفرضُ – أي هذه الثنائية – معاييرَ جديدة تعمل داخل مساحة عمل المعايير العقلية والتجريبية. أي أن هنالك دائرتين للمعيارية تُعاَلَجُ في ضوئها نصوص الوحي. الأولى.. الدائرة العقلية التجريبية التي تُعاَلجَ فيها نصوص الوحي عموما قرآنا وسنة. والثانية.. وهي دائرة أصغر تعالج فيها نصوص إحدى قنوات الوحي في ضوء هيمنة القناة الأخرى. ولا يصح مطلقا افتراض تساوي القناتين في الدلالة الوظيفية لما في ذلك من العبث واللاحكمة وانتفاء المعنى والدلالة عن ورود نصوص الوحي عبر قناتين منفصلتين انفصالا تاما من حيث المبدأ.
من الواضح في الوحي الأخير الذي وصل إلينا عبر قناتين هما القرآن والسنة، أن الهيمنة والقيادة المعرفية إنما هي للقناة القرآنية. وأن القناة السُّنِّيَّة هي في هذا المجال تابعٌ ومقودٌ. إن نَظْمَ النص في القناة القرآنية يختلف عن نظم النص في القناة السُّنِّيَّة بصورة تُعطيه – أي النص القرآني – تميزا وتفردا بين مختلف طرق النظم في النصوص العربية عموما. فيما لا فرق بين نظم النص السُّنِّي وبين نظم أي نص اعتيادي آخر يتحدث به العرب في أحاديثهم العادية إلاَّ فيما قل وندر، وقد انعكست هذه الظاهرة على معايير التَثَبُّت التي وضعها القدماء لحفظ الوحي بقناتيه. ففي الوقت الذي كان فيه المُتَثَبِّتون من صحة النص المنسوب إلى القرآن يعتمدون على نظم النص أحيانا كثيرة لمعرفة قرآنيته من عدمها، بحيث كان من الصعب جدا أن يَمُرَّ إلى دائرة الاعتماد القرآني نص غير قرآني أصلا، فإن النَّظْمَ لم يكن ليسعفهم كواحد من معايير التثبت من صحة نصوص السنة. ولعله لهذا السبب كَثُرَ الكذب والوضع والضعف في القناة السنية، فيما انعدم ذلك في القناة القرآنية، مادام النظم السني لا يختلف عن النظم العربي المعتاد فيما كان الاختلاف واضحا جدا بين النظمين العربي المعتاد والقرآني.
من جهة أخرى فقد ُأْعِطَي النص القرآني حتى من قِبَلِ الرسول الأهميةَ القصوى في التبجيل والتقديس، وانعكس ذلك من ثم على تقديس واهتمام المسلمين به ذلك الاهتمام المعروف. دون أن ننسى أن القرآن نفسه قد أحاط نفسَه بصفته – كلام الله – بهالةٍ من التفرد ركزت على الهُوَّة السحيقة بينه كنص سماوي وبين أي نص آخر مهما كان، حتى لو كان نص الرسول محمد الذي عبَّر الوحي ذاته عن نفسه من خلاله كقناة من قناتيه المعتمدتين للتوصيل والتبليغ.
لا نريد إضاعة الوقت في إثبات ما هو مثبت. القرآن هو القناة الوحيوية صاحبة الهيمنة والقيادة والتوجيه والمعيارية بالقياس للقناة الثانية "السنة". وهذا يعني قطعا أنه بالإضافة إلى المعايير العقلية والتجريبية التي ستخضع لها السنة باعتبارها إحدى قنوات الوحي، فإنها ستعود لتخضع لمعايير قرآنية، بصفة هذه المعايير – وهي تهيمن وتقود – تمثل حقوقا معرفية عليا في مواجهة الحقوق المسموح بها معرفيا للسنة والتي هي بالنسبة لحقوق القرآن حقوقٌ دنيا.
والخلاصة أن هناك ثلاثة معايير للتَّثَبُّتِ من إلزامية المرويات المأثورة عن الرسول الكريم، هي المعيار العقلي والمعيار التجريبي والمعيار القرآني. وإذا كان نص السنة يُعاَلَج في ضوء المعيارية العقلية والمعيارية التجريبية كما يعالج نص القرآن ولا فرق، باعتباره الشق الثاني من الوحي، أي باعتباره في نهاية الأمر وحيا. فإنه في ضوء المعيارية القرآنية يُعالَج كما يُقَرِّرُ ذلك القرآن نصا أو اقتضاءً، وذلك بحكم الدلالات العقلية لمتطلبات ومقتضيات الهيمنة والتوجيه والقيادة في مجال المعرفة. إن نص السنة في نهاية المطاف سيُحاكَم محاكمة مركبة جدا، وكأننا بالعقل وبالتجربة نحدد مساحة الوحي، ليقوم القرآن في الخطوة التالية بتحديد مساحة السنة في ضوء مساحته هو وفي ضوء هيمنته هو.
ولأن القرآنَ وَحْيٌ كُلُّه، فهو مُلْزِمٌ كُلُّه بمختلف أوجه الإلزام التي يُمكن التوصل إليها عقلا أو قرآنا. وبالتالي فإنه يُكتفى لاعتبار أن ما نُسِب إلى الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام غيرَ مُلزمٍ، وأنه إماَّ من مَحْضِ بشريته، أو مِماَ نُسِبَ إليه خطاً، مجرد فشله في الحصول على استحقاقات الإلزام في ضوء المعايير العقلية والتجريبية والقرآنية المشار إليها أعلاه.. (بإمكانكم العودة إلى كتابنا "تجديد فهم الإسلام"، الفصل السادس ففيه تفصيل وشرح وتوضيح وتوسع).
"3"
على أي أسس تعاد قراءة التاريخ العربي والإسلامي
إذا كان ما سبق هو بمثابة حديث تأصيلي لآليات التَّثَبُّت من النقل - "القرآن والسنة" - من حيث هو تاريخ، فإن المسألة عند التثبت من الوقائع والأحداث التاريخية التي أعقبت انتقال الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى، وعند تطبيق الرؤية السابقة عليها، ستتخذ وجهةً تقودنا إلى نتائج شديدة الاختلاف عما في "سجل" تلك المرحلة من صيرورة وحراك تاريخيين. ولتكن أحداث مع اصطلح عليه في موروثنا التاريخي بـ "الفتنة" نموذجنا المعتمد في تكريس ما نود تكريسه.
تعتبر "الفتنة" أكثر ما في السجل التاريخي لتلك الفترة من الزمن، إثارة للجدل "المعرفي" بالدرجة الأولى، انطلاقا من سلسلة التناقضات التي تثيرها محتويات ذلك السجل بخصوصها من أحداث ووقائع تتناقض مع العقل والقرآن.
فنخبة الصحابة الذين قضى الرسول الكريم 23 عاما في تربيتهم وصقل نفوسهم وعقولهم وقيمهم وسلوكهم، والذين نزل فيهم القرآن متابعا ظروف حياتهم، مثنيا عليهم، حامدا معظم مواقفهم وسلوكاتهم، والذين رحل النبي الكريم وهو مطمئن إلى أنه سلم الأمانة لهم بوصفهم قادرين على حمل الرسالة ونشرها من بعده.. هؤلاء الصحابة – كما تروي لنا أحداث الفتنة في ذلك السجل المريب والغريب – اقتتلوا وأراقوا دماء بعضهم البعض، واختلفوا وتسببوا في تقسيم الأمة، وفي قتل عشرات الآلاف من المسلمين، بشكل لم يحصل بين العرب حتى قبل الإسلام!!
هؤلاء الصحابة – أيضا – وهم الذين زهدوا في الدنيا ومتاعها، وفي تحري الحق والعدل والإنصاف، كما يُرْوَى عنهم، عندما لا يتعلق الأمر بتسجيل وتوثيق الفتنة!! تكالبوا على الدنيا ومتاعها خلال أقل من عقدين من الزمان بعد موت معلمهم وقائدهم، فتنافسوا على أرض السواد في العراق، وتحول الكثيرون منهم إلى إقطاعيين لا يقلون بشاعة عن إقطاعيي أوربا في القرون الوسطى، وتعاملوا مع "مصر" باعتبارها بقرة حلوبا لنزواتهم ورغباتهم ولثرائهم، مستغلين حب الناس لهم بموجب صحبتهم للنبي الكريم، واقتتلوا من أجل المال ومن أجل السلطة، واتهم بعضهم البعض الآخر بالنهب والسلب، وتمرد بعضهم بلا حق على السلطة الشرعية، وتساهل آخرون في تطبيق العدالة وإقامة حدود الله.. إلخ.
هذا ما يُروى لنا في "سجل الفتنة"، مقدمات وصيرورت وتداعيات. لا بل إن كُتاَّبَ تلك الفترة من التاريخ، لا يحسون بأي حرج وهم يصفون "عثمان بن عفان" الشيخ الوقور العجوز الصحابي العظيم الحيي ذو النورين زوج ابنتي الرسول الكريم، باللص الذي سرق آلاف الدنانير من بيت مال المسلمين مستغلا مكانته كخليفة لهم، لأغراض عائلية، وهو الذي ما تُروي لنا سيرته في كل المناسبات، وخاصة عندما كان شابا يمكن أن يكون للدنيا ومتاعها مكان في حياته – باستثناء مناسبة الفتنة بطبيعة الحال – سوى أنه كان زاهدا متقشفا عازفا عن مباهج الدنيا، إلى درجة رفضه أن يبقي معه من ماله العظيم الذي لا تأكله النيران كما يقال، سوى ما يقيم أوده ويسد رمقه ورمق زوجته ابنة النبي العظيم، متبرعا دائما وأبدا بكل قوافله التجارية – التي كانت الأكبر والأضخم على الإطلاق - للمسلمين الفقراء وللدولة ولتجهيز الجيوش.. إلخ. هذا الرجل انقلب فجأة وبعد أقل من عشرين عاما من وفاه معلمه وقائده ونبيه، إلى شيخ عجوز لا هم له سوى تمييز أفراد عائلته ومنحهم المناصب والامتيازات، وتسخير بيت المال لرغباتهم التي لا تنتهي!!
ثم يفاجئنا "سجل الفتنة"، بأغرب التحليلات وأبعدها عن المنطق وأكثرها مجانبة للحقيقة، عندما يصر على تصوير أسباب وصول الفتنة إلى ذروتها التي – يؤكد ذلك السجل – على أنها طحنت عشرات الآلاف من المسلمين، وأطارت أعناق عشرات الصحابة الكبار المنتخبين، في "الجمل" و"صفين" و"النهروان".. إلخ، في خلافٍ على "بيعةٍ" خرج عنها وتمرد عليها "معاوية"، بسبب "طلب إقامة حدٍّ مشروع" رفض الالتزام به "علي". لتكون هذه الرواية التاريخية التي صدقناها واعتنقناها جزءا من الدين، بسبب ما دفعتنا إليه من كل أنواع التأويل والالتفاف على الحقائق الدينية، للخروج من المآزق المعرفية التي فرضتها علينا.. نقول.. لتكون هذه الرواية هي النقطة السوداء في تاريخنا الذي بُنِيَ لاحقا على هذا الافتراء والدجل اللذين أفرزتهما رواية ليس فيها من الحق شيء على الإطلاق!!
ولكن ما دليلنا على ما نقوله في ظل هذا الزخم الروائي التاريخي الذي يجعل منها حقيقة لا مجال لإنكارها؟!
في الواقع، نحن ننطلق في تفنيدنا لهذه الرواية ككل، وفي أطرها وسياقاتها الكليَّة، ودون الخوض في تفاصيلها، من مجموعة من الثوابت التي إذا صحت الرواية بشكلها الموروث والمُسَجَّل، فإنها تهوي وتسقط، بكل ما يعنيه سقوطها من كارثة مدوية، تفقدنا اليقين في "الله" وفي "رسوله" وفي "الإسلام" وفي كل "النبوات" من حيث المبدإ، لتغدو مسيرة الوحي مجرد عبث ومسرحية لا قيمة لها!!
قبل البدء في الحديث عن تلك الثوابت التي سنضعها في مقابلة حربٍ وجودية مع تلك الرواية، بحيث سيتضح لنا بهذه المقابلة أننا أمام خيار معرفي خطير، فإما الرواية بصورتها تلك، وإما تلك الثوابت، نحب أن نؤكد على حقيقة يجب أن يكون الوعي بها حاضرا لدينا باستمرار، فضلا عما سبق وأن ثبتناه بخصوص دلالة التعارض بين النقل والعقل في المسموع والمنقول، في تحليلنا السابق. وهذه الحقيقة هي أن تاريخ – بمعنى توقيت – البدء في تدوين السنة والسيرة والتاريخ العربي والإسلامي كله، بدأ في منتصف القرن الهجري الثاني، وليس قبل ذلك، حيث لم يكن يتم تداول أي خبر إلا بالمشافهة والرواية فقط.
وهذا يعني أن معرفتنا بحقبة "القرن والنصف الأولى" من تاريخنا، لا دليل عليها خارج نطاق ما كتبه لنا من بدءوا بالتدوين بعد حلول النصف الثاني من القرن الهجري الأول، أي بعد أن استقر السلطان لـ "بني العباس"، وبعد أن أصبح بالإمكان كتابة التاريخ بالشكل الذي تريده السلطة الحاكمة والقوى النافذة، بلا منازعة أو تسرُّبٍ للحقيقة إلا في أضيق الحدود.
وهذا بدوره لم يحدث إلا بعد أن كان صُناَّعُ التاريخ الحقيقيون السابقون - سواء كانوا "سلطة سياسية أموية" أو معارضة للسلطة – غالبا - "متشيعة لآل البيت" ولأعداء بني أمية - قد أغرقوا سوق المشافهة والنقل والرواية، بكل مبررات طمس الحقيقة وتجيير الوقائع والأحداث بالشكل الذي يخدم رؤية وبرنامج كل طرف.
أي أن مرحلة الكتابة والتدوين عندما بدأت، ما كان لها أن تتمكن من معرفة حقيقة ما حدث – حتى لو كانت في منتهى النزاهة – بسبب هيمنة الروح السياسية والمعتقدية الدينية التي سادت على مدى القرن ونصف القرن الأولى سوق الرواية والمشافهة وهيمنت عليه، مُكَرِّسَة ما وصلَنا وما ورثناه بكل ما فيه من أباطيل وخرافات وأساطير تعصى على التنقيح الحقيقي، بعد أن أصبح جزءٌ كبير من تلك الأساطير بمثابة مرتكزات وثوابت يتم الانطلاق منها لمحاكمة الباقي!!
أما الآن فلنعد للحديث عن الثوابت التي أشرنا إليها، والتي سنواجه بها وبمقتضياتها "رواية الفتنة" كما يقدمها لنا "السجل الأسطوري المريب" الذي دوَّن لنا تلك المرحلة..
ولكن ونظرا لضخامة الموضوع، وبسبب عدم قدرتنا على تمريره في رد أو مقالة صغيرة في موقع، ولأنه يتطلب وقتا ومساحات كبيرة من الحوار والنشر، فإننا سوف نورد تلك الثوابت على شكل عناوين وخطوط عريضة، مؤجلين عرضها في الموقع بهدوء وتؤدة وروية، موضوعا موضوعا وحسبما يتيحه الوقت.
راجين من الله أن يكون في تلك الخطوط العريضة والعناوين الرئيسة ما يعطي بعض الإشارات على الوجهة العامة لجوهر الموضوع الذي تثيره..
1 – "عروبة النبوة" و"نبوة العروبة"، و"عروبة الرسالة" و"رسالة العروبة".. "كيف تكونت وتطورت العروبة في رحم النبوة والرسالة، وكيف تكونت وتطورت النبوة والرسالة في رحم العروبة".. عدم انفصال العروبة عن النبوة وعن الرسالة من حيث الشراكة في المُكونات القيميَّة لكل منهما.. وهنا سوف نتطرق لمكونات العروبة من حيث القيم الأساسية المُكونة لها ولكل من النبوة والرسالة.. وهذه المكونات هي القيم الكبرى الرئيسة التالية.. "الحرية"، "العدالة"، "العائلة"، "الشراكة"، "الفروسية".. وهي القيم التي تميز بها العرب عن باقي الأمم في تلك الفترة من الزمن، والتي جعلتهم مؤهلين لحمل الرسالة، بعد أن جبلتهم النبوة عبر آلاف السنين ليكونوا على هذا النحو..
2 - بدء الانفصال بين العروبة والرسالة.. من خلال بدء الصراع بين "النزعة العروبية التبشيرية" للرسالة و"النزعة الإمبراطورية التوسعية" لها.. وهنا تكون قد بدأت المؤامرة على العروبة، والتي كانت أهم مظهر من مظاهر المؤامرة على الرسالة ذاتها.. حيث تم العمل على إظهار العروبة معزولة عن النبوة وعن الرسالة وعن قيمهما، بوصف العرب بأخس الصفات قبل الإسلام، تمهيدا لتبرير عودتهم إلى تلك الصفات بعد غياب القائد الرمز.. علما بأن الخط السابق سيكون قد أثبت أن الاختيار الرباني للعرب كي يحملوا الرسالة قام على تميزهم بتلك القيم الخمسة المشار إليها، لا بسبب انحطاطهم.. فالله لم يكن بحاجة لتحدي العالم بنشر رسالته بأمة متخلفة، بقدر ما كان معنيا بأن يثبت لنا وللعالم بأن سنته في الوجود تقتضي أن لا تكون مؤهلة لحمل الرسالة إلا أمة فيها تلك الصفات الخمسة بالدرجة الأولى..
3 - من مظاهر المؤامرة على العروبة وعلى الرسالة بعد انتصار النزعة الإمبراطورية للرسالة.. "تزييف تاريخ الرسالة وفصلها عن رسالة العروبة".. "تزييف تاريخ العروبة وفصلها عن عروبة الرسالة".. "فصل العربي واللغة العربية عن العروبة وعن الرسالة".. فبهذه السلسة من التزييفات والانسلاخات، تحولت العروبة من حاضنة ضرورية للرسالة ومن منتج قيمي لها، إلى كيان لا قيمة له ولا أهمية، ويمكن أن يتم الاستغناء عنه، وصب الرسالة في حاضنات غير عروبية.. وكلنا نعلم ما الذي نتج عن هذه المؤامرة من تشويه للرسالة التي لا يمكن لحاضنة غير حاضنة العروبة أن تحافظ على نقائها.. لا بل أصبحت الحواضن غير العروبية للرسالة تُصَدِّر للعرب منتجاتِها الرسالية ليتبناها العرب ولتدور العروبة في فلكها.. وفي هذا السياق لا يمكننا أن نغض الطرف عن واقع أن "الإسلام السياسي" الراهن الذي يدين به العرب، هو في معظم جوانبه إسلام "بريطاني المنشأ التنظيمي"، نشأ في كل من "إيران" و"الهند"، بأدوات "آرية هندية" و"فارسية إيرانية".. أما الإسلام السياسي العروبي، فهو الذي يحاول إعادة إنتاج "نبوة العقل" من رحم البلاء والتخلف الذي تعاني منه الرسالة منذ أن تم سلخُها عن حاضنتها العروبية..
4 - هل فشل القرآن الحكيم والرسول الكريم في إنتاج أمة العروبة والرسالة.. وهل فشلت النبوة والرسالة قبلهما في إنتاج أمة العروبة والرسالة.. فهذا على وجه الدقة والتحديد ما يمكن للعقيدة القائمة على "رواية الفتنة" الواردة في السجل التاريخي لتلك المرحلة أن تعنيه.. وهنا يجب أن يصار إلى إعادة إنتاج مرجعيات كتابة تاريخ العرب والعروبة والعربية والنبوة والرسالة على الأسس التالية.. "مسيرة النبوة والرسالة لم تكن لتفشل في مهمتها"، عبر كامل تاريخها منذ "إبراهيم" وحتى "محمد" عليهما الصلاة والسلام.. "القرآن والرسول كآخر مجليات للنبوة والرسالة لم يكونا ليفشلا في مهمتهما"، فينتجا جيلا يتحول إلى قتلة ومجرمين منتكسا حتى عن قيم العروبة التي كان عليها العرب قبل الإسلام الأخير..
5 – أما المتطلبات التأصيلية لإبقاء الهيمنة والسيادة لـ "النزعة الإمبراطورية للرسالة" والإقصاء التام لـ "النزعة العروبية التبشيرية" لها فيمكننا أن نوردها فيما يلي.. "النزوع إلى التكفير الديني".. "النزوع إلى الإقصاء السياسي.. وهو ما انبثقت عنه المقولة الثيوقراطية البدعة "آل البيت" و"أئمة آل البيت" وحقوقهم الإلهية والتي كانت وما تزال هي الإطار السياسي الديني لكل فرق الشيعة.. والمقولة الثيوقراطية البدعة المقابلة "الأئمة في قريش"، والتي كانت الإطار السياسي الديني المرجعي لبني أمية ولمعظم أهل السنة.. فانبثق عن كل ذلك تطور مفهوم الجزية وتأصيله، وتبلور مفهوم البراء والولاء، والنكوص عن العلمانية العروبية التي كانت سائدة قبل الإسلام، والانتكاس إلى الثيوقراطية البدائية بأسوأ معانيها، متجلية في ثيوقراطية خلافتي بني العباس وبني أمية قبلهما، وكل ما تلاهما اقتداء بهما بعدهما.. وتولد عن ذلك أيضا نزوع غير مسبوق في تاريخ العرب حتى قبل الإسلام، إلى الظلم الاجتماعي.. فتبلور مفهوم الدرجات والطبقات، وتبلورت السلبية القدرية أمام مفهوم الرزق وربطه بالمشيئة التعسفية لله، وتفشي مفهوم الصبر على البلاء بمعانيه التواكلية والقبولية، وتكونت المفاهيم التجارية والإقطاعية والعبودية للتنظيم الاقتصادي وتم تأصيلها دينيا، من رحم تلك البنى السياسية والمعتقدية المتمردة على عروبة الرسالة وعلى رسالة العروبة.. ثم ظهر مفهوم العالمية والقفز على مفهوم "القومية" و"الشعوبية" الذي تحدث عنه القرآن كأمر واقع "إنا جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا".. ليس توحيدا للبشرية بقدر ما هو تأصيل للتوسع الإمبراطوري الذي دشنه واستكمله بنو أمية.. وتم ظهور وتبلور مفهوم طاعة أولي الأمر في المنشط والمكره، وظهور مفهوم دار الحرب ودار السلام، ودار الإسلام ودار الكفر، وتبلور مفهوم الجزية وأهل الذمة والمعاهدين بما ينسجم مع النزعة الإمبراطورية.. كما تبلور مفهوم الدعوة، وتحددت معاني غير حقيقية لرسالية الأمة..
وتم تصوير "الفتنة" على غير حقيقتها.. فظهرت صراعا على السلطة، وخلافا على طريقة الحكم، بدل أن تظهر – كما هي في الواقع – صراعا بين مدرستين إسلاميتين، إحدهما تتبنى "النزعة الإمبراطورية التوسعية" بقيادة "معاوية بن أبي سفيان" وشيعته من بني أمية وأعراب العرب من ذوي الإسلام المتأخر أو من أصحاب الطموحات في الشام، والثانية تتبنى "النزعة الإسلامية التبشيرية" المؤمنة بالدولة العربية في حدود الأرض العربية التي حررتها معارك "اليرموك" و"أجنادين" و"ناهاوند" و"القادسية"، وغيرها، في كل من العراق والشام، والتوقف في الفتح والحرب عند هذا الحد، للانشغال ببناء الدولة الرسالية العربية القوية، القادرة على نشر الإسلام بالنمط الدعوي التبشيري، الذي يُعتبر هو جوهر الإسلام وجوهر العروبة في التعامل مع الآخر، وكانت هذه المدرسة بقيادة "علي بن أبي طالب" ونخبة الصحابة الذين لم يقف منهم أحد مع نهج معاوية، وكان معهم من آمن من العرب بخطهم الدعوي التبشيري.. وهي المدرسة التي هُزِمت أمام اندفاعة وقوة المدرسة الإمبراطورية المقابلة..
أما نحن فقد أصبحنا في وقتنا الحاضر نتاجا خالصا لكل تلك المؤامرات.. ليزداد الطين بِلَّة ونحن نحاول أن ننهض من خلال تهذيب تلك الأساطير، وليس من خلال الثورة والتمرد عليها ورفضها من جذورها وإعادة قراءة ديننا وتاريخنا قراءة تنطلق من هذا التزاوج الذي كرسه الله بين العروبة والرسالة على مدى آلاف السنين..
مع خالص شكري وتقديري
أسامة عكنان
سؤال الأستاذة ريمة الخاني
لدى لقائنا مع الدكتور بهجت القبيسي دار نقاش حول فكرة تمحور جل النماذج الإبداعية الأدبية والبحثية حول المختصين أكاديميا وعلميا خاصة.. وهناك نماذج من الواقع قديما وحديثا تدل على ذلك.. إلى أي مدى نجد هذه المقولة صحيحة؟
الإجابة
إذا فرقنا في النماذج التي تتحدثين عنها، بين "الكم" و"النوع" من جهة، وبين "الأعمال الإبداعية" و"الأعمال البحثية" من جهة أخرى، فإن التعميم ينتفي على ما أتصور.. فمن ناحية الفرق بين الكم والنوع، نجد أن الكم يرجِّح كفة الأكاديميين والمتخصصين عندما يتعاطون مع الأعمال الإبداعية، وكفة غير المتخصصين وغير الأكاديميين عندما يتعاطون مع قضايا البحث العلمي. لكن النوع في الغالب – إلا في حالات نادرة – يرجح كفة غير الأكاديميين المتخصصين، وخاصة في الأعمال الإبداعية، فيما يرجح كفة الأكاديميين عندما ينتجون أبحاثا في حقول تخصصاتهم.
فأهم الأعمال الإبداعية هي من إنتاج أشخاص غير أكاديميين، بل وغير متخصصين حتى في حقول الإبداع. وربما يكون الأمر مفهوما. فالإبداع لا علاقة له بالدراسة الأكاديمية لحقول الآداب والفنون، بينما الباحث كلما كان أكاديميا، كلما كان أكثر تحكما في أدوات البحث العلمي، لأنها أدوات يتأتى التحكم فيها وحسن استخدامها من خلال الدراسة الأكاديمية في الغالب. ومع ذلك فلابد من الاعتراف بوجود استثناءات في الحالتين. لكني لا أرى أن هذه الظاهرة تثير مشكلة، فليكن المبدع كائنا من يكون، المهم أن يبدع أعمالا ذات قيمة فنية عالية، وليكن الباحث العلمي كائنا من يكون، المهم أن يزودنا بأبحاث مفعمة بالفكر وبالتحليل وبالرؤى المفيدة والبناءة في مجال تخصصه.
أسامة عكنان