صدر مؤخرا لأسامة عكنان كتاب بعنوان
- تجديد فهم الإسلام - عن دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع في العاصمة الأردنية عمان.
والكتاب يقع في 448 صفحة من القطع الكبير - 17 ×24
مقدمة الكتاب:

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

إن أي حديث عن النهضة إنما يقوم في الأساس على الاعتراف غير القابل للجدل بحالة التَّخلف، باعتبارها حالة الواقع الذي نسعى للنهوض به. إن هذه الحالة التي نتحدث عن ضرورة التخلص منها بالنهضة، إنما حدثت في الأصل بسبب عدم قدرة أفكارنا على التجاوب مع متطلبات واقعنا في صيرورته التاريخية، كما فرضت نفسها علينا في خضم أشكال المواجهات والصراعات المختلفة التي نَسْبَحُ في أتونها. لا يمكن لأمة أن تنهض ما لم تنطلق في معركة نهضتها من معالجة النقطة التي سببت الانحدار والتخلف، ألا وهي البُنْيَة الفكرية والمعتقدية والثقافية التي حصل ذلك الطلاق المُرَوِّع بينها وبين حركة الواقع، مؤديا إلى ذلك الانحدار.
إن علينا إذن إعادة النظر في بنائنا الفكري والمعتقدي، أو بعبارة أخرى، علينا إعادة النظر في بنائنا التصوري التفسيري للعالم من حولنا، وهو البناء الذي تسبب عدم تجاوبه مع متطلبات الحركة والصيرورة، في التردي والتَّخلف اللَّذين نعاني منهما، فحالا بيننا وبين وضعِ أسسِ نهضةٍ حقيقية. هذه هي نقطة الانطلاق الصحيحة لصياغة مشروع نهضوي لأمة تسعى إلى النهضة عموما.

إن تصورا غير هذا، إنما هو في الواقع تغاضٍ سافر عن تجارب المغول، جبابرة الأرض الذين أبادوا كل الحضارات التي وقفت في طريق زحفهم الهمجي، ليختفوا هم أيضا من التاريخ وإلى غير رجعة، بعد ذلك بقليل، وليذوبوا في الأمم التي هزموها ذوبانا يكاد يكون كليا. كما أنه تغاضٍ أكثر سفورا أيضا عن حقبةٍ امتدت في تاريخ أمتنا أكثر من أربعة قرون، عثمانية المذاق، كانت خلالها كل معاني التخلف الحضاري وعناصر الانحطاط الثقافي وكل مقومات الجدب الفكري والإبداعي تتراكم، رغم امتلاك هؤلاء المنحدرين نحو التخلف والجدب لأقوى حشد عسكري على وجه الأرض، دفع بأعدائهم إلى استكشاف الأرض وهم يبحثون عن طرق لتجارتهم لا تجبرهم على مواجهتهم والاحتكاك بهم. وكانت النتيجة أن أوربا المهزومة عسكريا بعد أن دُكَّتْ دُرَّةِ تاجها "فِيِناَّ" مرتين، نهضت وهزمت مخترعي المدافع.
إن مفهوم النهضة يثير في الذهن الكثير من التساؤلات التي نحسبها على قدر كبير من الأهمية والدلالة. فسؤال: لماذا يتعين علينا أن ننهض؟! يظهر للوهلة الأولى كنقطة بداية تكشف عن ضرورة اعترافنا بأننا في حالة سقوط مروِّعَة، يفصلنا بسببها بَوْنٌ شاسع عن حالة النهوض المُسْتَهْدَفة!! ولكن أليس من الواضح أن حالة السقوط هذه لا يتم إدراكها إلا بإدراك نقيضتها، ألا وهي حالة "النهوض"؟! فمن لا يرى مفهوم "النهوض" ماثلا أمامه ومتمثلا في حالة، لا يستطيع أن يدرك أنه ساقط، عبر مقارنة حالته بالحالة الماثلة أمامه.
إن إدراك حالة النهضة المُسْتَهْدَفة ابتداء، هي التي ستلقي الضوء على حيثيات حالة السقوط التي نعاني منها. فلو لم ندرك "كيف يجب أن نكون"، أي "الحالة الصحية"، لما وعينا أننا على خلاف ما يجب أن نكونه، أي "الحالة المرضية"، فالمريض إنما هو مريض لأن حالته تختلف عن حالة السليم. وبالتالي فإننا أدركنا أن على المريض السعي إلى التعافي من مرضه، لأننا أدركنا قبل ذلك، الشكل الحقيقي لحالة التعافي والسلامة من المرض، فغدت هذه الحالة هدفا نسعى إليه من جهة أولى، ودليلا نسترشد به لتشخيص الواقع من جهة ثانية.
ثم وبعد أن نعرف الصيغة النهضوية المستهدفة التي عَرَّفَتْناَ بدورها على حيثيات حالة السقوط المرضية التي تعاني منها الأمة وتئن تحت وطأتها، يبقى علينا أن نتساءل عن الكيفية التي على الأمة أن تنتقل بواسطتها من حالة السقوط إلى حالة النهوض. وإذا كان الحديث والتساؤل عن صيغ النهضة المُسْتَهْدَفة في شتى المجالات، وعن رديفتها "السقوط"، هو تساؤل في صميم الفلسفة والدين وعلم الاجتماع بكل فروعها، فإن التساؤل عن الكيفية، إنما هو تساؤل في صميم العمل الحركي والسياسي.
استوقفتنا ظاهرة غريبة في تعاطي المسلمين مع قضاياهم المصيرية، أوضحتها لنا وجَلَّتْها، قضية احتلال العراق عام 2003، بل وقضية العراق عموما منذ زلزال الثاني من آب عام 1990. فمَعْقِلَ الوهابية التي نعتبرُها وكثيرون غيرُنا، الاجتهادَ الديني الأكثر جمودا ورفضا للتجاوب مع ما استجد وفُرِضَ على الأمة من قضايا ومسائل في هذه العصور، تتطلب أكثر بكثير من مجرد الاجتهاد الفقهي الضيق المعنى. هذا المعقل احتضن في الوقت ذاته "النقيضين" معا.



فمن عباءة الوهابية ذات الجذور السلفية، بالمعنى السائد لمصطلح "سلفية"، أي تلك الفئة من المسلمين التي تريد سحب الحاضر إلى الماضي بالتركيز على إعادة صورة المعتقدات الإسلامية وما يتعلق بها من عبادات وسلوكيات، إلى ما قرره السلف، استنادا إلى التركيز على ما تصفه بأنه أحاديث نبوية صحيحة، مقروءة ومشروحة في ضوء العقيدة التيمية (نسبة إلى ابن تيمية)، المرتكز ابتداء إلى ما يقال أنه تصورات فقهية ومعتقدية حنبلية (نسبة إلى الإمام أحمد ابن حنبل).
من هذه العباءة الدينية المضطربة مُعْتَقديا، لتأرجحها بين ماضٍ لا تريد التخلي عن أيٍّ من تفاصيله، وحاضر تعيشه مُكْرَهَة ورغما عنها، لكنها ترفض معايشته ولا توافق عليه، انبثق إلى حيز الوجود اجتهادان متعارضان أشد التعارض، إلى درجة استحالة تَقَبُّل العقل السَّوِي لواقعة أنهما يؤولان إلى المرجعية السلفية التيمية الوهابية العَصِيَّة على الازدواجية الاجتهادية نفسِها.
فالوهابية السلفية السياسية والمؤسسة الدينية المرتبطة بها، وجدت في مرجعيتها الدينية ما تبرر به استقدام القوات الأميركية والحليفة إلى أراضيها، وتقديم كل التسهيلات لها لضرب العراق وشعبه واحتلاله، بحجة إسقاط نظام حكم العراق بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي الذي تعاملت معه بوصفه حزبا متجبرا وطاغيا وكافرا، في تجاهلٍ غير مفهوم لكل أدبيات "السلفية" الداعية إلى التكاتف والتعاون بين المسلمين، وهو ما تمارسه تلك السلفية السياسية ببذخ عندما ترصد موازنات ضخمة من أموال البترودولار، لدعم طلاب العلم الديني وحفاظ القرآن ومروجي كتب التراث، في كل مكان على وجه الأرض.
الوهابية السلفية ذاتها، ولكن في جناحها غير السياسي هذه المرة، هي التي راحت تُكَفِّر بلا هوادة كلَّ من يقبل مجرد قبول فكرة التعامل مع القوات الأميركية في العراق، بل وكلَّ من لا يعتبر الأنظمة الخليجية أنظمة كافرة ومرتدة عن الإسلام، لقبولها ضرب المسلمين بقوات أسمتها صليبية حاقدة، وتصدت بنفسها لمقارعة الأميركان وحلفائهم، آخذة في طريقها الأخضر واليابس، دون تمييز بين بريء وغير بريء. إلاَّ أن ما نحب توضيحه في هذا السياق هو أننا لم نهدف من إيراد هذه الثنائية العجيبة التي قَسَّمَتْ جِسْماً مُعْتقديا أشد ما يكون انغلاقا وانطواء على نفسه واستعصاء على التعدد، إلى تصويب طرف وتخطيء آخر. فليست هذه مهمة هذا الكتاب. فنحن إنما أحببنا أن نشير إلى الأزمة غير العابرة التي تنخر على الصعيد المعتقدي والسلوكي، في أعماق أهم الأجسام الإسلامية التي تتصدي في الوقت الراهن للتعامل مع مصير الأمة ومع قضاياها التاريخية الأكثر خطورة والأشد حساسية.
فالاجتهادات الناجمة عن مرجعية مُعْتقدية، يُفْتَرَض أنها واحدة، عندما تصل إلى هذا المستوى من التعارض والتنافر والتناقض في مسائل على هذا القدر من الخطورة والحساسية، فإنها إنما تكشف عن هشاشةٍ في بُنْيَة تلك المرجعية من حيث المبدأ، وإلى عدم وضوح الارتباطات بين بُناها المعرفية المِفْصَلية، بالشكل الذي من شأنه أن يمنح معتنقيها ذلك القدر من التماسك والانسجام ووضوح الرؤية.
إن هذه المسافة الموقفية والسلوكية الشاسعة بين اجتهادات على هذا القدر من الاختلاف والتنافر، ضمن دوائر مرجعية معتقدية واحدة، لا يمكنها أن تكون مفهومة ومعقولة وطبيعية، وهي تدفع أنصار كل اجتهاد إلى تكفير أنصار الاجتهاد الآخر، وشحذ السيوف ضدهم. ولا يمكن لأمر كهذا أن يحدث، إلا إذا كانت المسألة كلها خارج نطاق التأطير المعرفي الناضج، الذي يقوم في العادة على أسسٍ معرفية مترابطة وذات دلالة.
ومع أن هذه الظاهرة أشد ما تكون بروزا ووضوحا في الجسم السلفي الوهابي، إلا أن من السهل تعميم هذه الظاهرة المتمثلة في الازدواجية الاجتهادية الخطيرة، وإن يكن بشيء من التحفظ، على معظم، إن لم يكن على كل فصائل الجسد الإسلامي المتصدي لقضايا الأمة. ما يدفعنا إلى التأكيد على القول بأن الأزمة التي تُوَلِّدُ هذا القدر من الارتباك والتنافر في الاجتهادات، والتضاد في المواقف، إنما هي أزمة كامنة في صميم المرجعية ذاتها، بحيث يجعلها عاجزة بما هي عليه من أطر وأصول وحدود، عن أن تُسْهِمَ بالسهولة المُتَصَوَّرَة، في إعطاء الحلول لكل من يطلبها من معتنقيها.
إن ما يحدث في حقيقة الأمر، مُنْتِجاً هذا القدر المُرَوِّع من التباين في المواقف والاجتهادات لدى أنصار مثل هذه الدوائر التصورية والمعتقدية المُصَنَّفة بوصفها الأضيق على الإطلاق، من بين كل دوائر التفكير الإسلامية، والتي لا تتيح في داخلها أي قدر من التعددية في العادة، ناهيك عن أن تتيحها بهذا القدر من الانفراج والتباعد المثيرين للاندهاش والتعجب، هو أن عجزَ المُعْتَنِق للمرجعية الوهابية السلفية، عن إيجاد مستنداتٍ مرجعيةٍ تُوَفِّقُ وإن يكن تلفيقيا وتبريريا بين متناقضاتٍ تحدث أمامه، وتكون في حاجة إلى استصدار فتاوَى بخصوصها من مرجعيته - كذلك التناقض الذي رآه ماثلا أمامه بين تصوره بأن الوهابية السياسية تمثل نموذج الإسلام الصحيح، ورؤيته لها تتسبب في الوقت ذاته في قتل المسلمين واحتلال أراضيهم - يدفعه إلى تحديد موقفه وفتواه على قاعدة ما تأنس له نفسه وروحه بإيحاء من لاوعيه، بسبب خطورة أن يقبل وعيه بِفِكْرَةِ جعلِ المرجعية تتجاوب مع ما يعتقد أنه هوىً منه. ثم نراه يبدأ بعد ذلك بالبحث عن آليةٍ تلفيقية أو تأويلية ممجوجة لشَرْعَنَة موقفه وإسناده بالتبرير المرجعي السلفي الذي يعتنقه.
ولأن باب هذا النوع من الحلول واسع جدا، ولا مجال لحصره، تظهر في سياقاته المختلفة هذه التباينات المرعبة بين فرقاءٍ كانوا قبل ذلك لا يَقْدِرون على الاختلاف في مسائل أصغر من ذلك بآلاف المرات، كجواز أو عدم جواز الصلاة بين السواري، أو كجواز أو عدم جواز تحريك الإصبع في التشهد خلال الصلاة، أو كجواز أو عدم جواز زيارة المرأة للمقابر، أو غير ذلك من الأمور، التي لا تحظى بأي اهتمام من الإنسان الذي تَعَوَّدَ على التعامل مع عظائم الأمور لا مع صغائرها.
ومن هذه النقطة تبدأ مسيرة التشدد الأكثر تطرفا، عندما يلجأ كل طرف إلى العمل الدءوب على تأصيل اجتهاداته وفتاواه كي يُشَرْعِن مواقفه وسلوكياته. فالإنسان "النَّقْلِي"، أو الذي يستند إلى النقل وليس إلى العقل، هو أكثر تطرفا – في العادة – في التعامل المعتقدي مع مخالفٍ من مرجعيته السابقة نفسها، منه مع خصومه من خارج المرجعية، عندما يكون محل الخلاف جذريا، كما هو حال الخلاف القائم بين الجناح المتمرد من السلفية الوهابية، ممثلا في التيارات الجهادية التي يقف على رأسها تنظيم القاعدة ومن دار في فلكه، والجناح المهادن، ممثلا في الوهابية السياسية وفي المؤسسة الدينية الرسمية التابعة لها وفي من دار في فلكهما من مثقفي المهادنة والتوافق. ولعله لهذا السبب حمل تنظيم القاعدة السلاح ضد حلفاء الأمس في السعودية، لتكون المواجهة في هذه المملكة الشاسعة مُعْلَنة وواضحة الأهداف وشرسة الوسائل، خلافا لما يحدث في غير السعودية من الدول العربية والإسلامية، حيث تتم ملاحقة المرافق الأميركية والحليفة تحديدا من جهة، وتعقُّب تلك التي يُعتقد أنها مرتبطة بها بشكل أو بآخر في الدول المُسْتَهْدَفة، من جهة أخرى.
تُرَى هل أخطأ الكثيرون من دارسي الحضارة الإسلامية عندما أرجعوا ركودها في القرون العشرة الأخيرة إلى هذا النوع الغريب وغير المفهوم من تَصَلُّب شرايين الفكر، الناتج في الأساس عن الحفظ الأعمى للنصوص، وعن الالتزام المتعصب بما قاله الأولون والسابقون، رغم أن القرآن الكريم الذي يمثل المرجعية الأم عند المسلمين، لا تضاهيه مرجعية في العالم في تمرده على السابقين وفي رفضه الإتِّباع الأعمى للآباء والأجداد؟
وهل كان "أبيلار" المتردد الخائف على حق عندما زعم أن العقل قادر دون معونة الوحي على حل التناقضات الموجودة بين نتاج الفكر الإنساني وبين معطيات الكتاب المقدس، ليعلن بعد ذلك وهو يلتفت مذعورا إلى سيف القديس بولس المسلط على عنقه، أنه لا يريد أن يكون فيلسوفا إذا عنى ذلك أن يصطدم بالقديس بولس، ولا أن يكون أرسطيا إذا عنى ذلك القطيعة مع المسيح؟
تُرَى متى يدرك الناس ما الذي عناه جاليلو في القرن السابع عشر عندما قال: "إن ما يقصده الروح القدس هو أن يعلمنا كيف نسير إلى السماء، لا كيف تسير السماء"؟ وهل بلغت الغشاوة على معظم القلوب مَبْلَغاً، حال دون إدراك أن النص لن يُعَلِّمَنا طبيعة الأشياء، لأن هذا من شأن الفلسفة وحدها؟ ألا يكفي أن ننتبه إلى أن تكفيرا مثل تكفير عام 1277 الكنسي في أوربا، كان ذا مردود عكسي عندما شجع الفلاسفة ومن ورائهم العلماء، على المثابرة لكسب المعركة ضد الجمود والتخلف والانكفاء؟
إن الإنسان العربي تحكمه مجموعة من الذهنيات التي تُسْهِم في تشكيل أدائه وفي تكوين طرائق تفكيره وأنماط ردات فعله على ما يواجهه من متغيرات وأحداث في واقعه. ولا تكمن المشكلة فقط في كون كل ذهنية من تلك الذهنيات هي في حد ذاتها ذات مردود سلبي في حياة الإنسان العربي، بل في كون هذه الذهنيات – ولعل هذا هو أهم ما في المشكلة – تُنْتِجُ بتفاعلها مع بعضها البعض مركبات ذهنية عالية المردود السلبي، مع أن بعض تلك الذهنيات قد تَتَّسِم ببعض الإيجابيات أحيانا. إن جوهر المشكلة إذن هو في التركيبة وليس في مكونات هذه التركيبة بالضرورة، وإن كانت معظم تلك المكونات هي في ذاتها سامة.
إن غاز الأوكسجين (o) هو بمفرده غاز إيجابي وصديق للإنسان، بل هو ضروري لحياته، وعليه تقوم هذه الحياة. كما أن عنصر الكربون (c) هو مكون أساسي من مكونات المادة العضوية التي لا يستغني عنها الإنسان في حياته. لكن التركيبة (co) أو التركيبة (co2) هما تركيبتان ضارتان، يتراوح ضررهما بين كون إحداهما سامة والأخرى خانقة. المشكلة إذن هي في نمط التركيب وليست في المكونات التي قد تكون مفيدة في ذاتها أحيانا قبل أن تتفاعل مع غيرها مكونة أداءً أو نتاجا جديدا ومختلفا عن مكوناته ذاتها.
ما معنى ذلك؟
إن هناك العديد من الذهنيات التي تتحكم في سلوك وتفكير الإنسان العربي المعاصر، مثل ذهنية "الأُلْفَة" وذهنية "الخوف" وذهنية "التَّميُّز" وذهنية "القمع".. إلخ. وإن لكل ذهنية من هذه الذهنيات دلالاتها في الواقع الموضوعي، وهي عندما تتفاعل مع بعضها البعض فإنها تُنْتِج في هذا الواقع أداءاتٍ تظهر على شكل محاربة للتفكير وللتعقل، أو بكلمة أخرى، تظهر على شكل محاربة لاستخدام العقل عموما.
تنطبق ذهنية الألفة على من يألف الواقع ويتوحد معه إلى درجة التردد في تغييره أو حتى في قبول فكرة تغييره مهما كانت دواعي هذا التغيير عميقة وضرورية وملحة، لأنه يتوجس من الجديد ومن تَبِعَةِ البدء في بناء الألفة معه. إنها ذهنية ترتكز إلى الاستكانة والهدوء والدعة وخشية الصخب الناتج عن التغيير أو المُرَافق له عادة.
أما ذهنية الخوف فهي تنطبق على من كثرت ثوابته الأسطورية والخرافية البعيدة عن العلم. ولأن الثابت الأسطوري والخرافي محفوف بالمخاطر دوما، وعلى رأسها مخاطر التردي والانهيار أمام ما يشع به الواقع من إمكانات تُعَارِضُ تلك الثوابت، فإن مساحةً هائلة من خشية المساس بها – أي بتلك الثوابت – تبدأ بالهيمنة على ذهن المعني بالأمر. وتتفاقم مؤثرات هذه الذهنية في الغالب لدى من يتواجد في واقع متغير ومتقلب يؤمن بضرورة التعامل معه من جهة، في الوقت الذي تزخر معتقداته الموروثة بكَمٍّ هائل من الثوابت اللاعلمية التي تحول بينه وبين كفاءة هذا التعامل من جهة أخرى، كما هو حال المسلمين مع الأسف. ولما كان العقل هو محور المساس بتلك الثوابت وهي تتصارع مع الواقع الفارض لنفسه، فإن ذهنية الخوف تنصب أول ما تنصب باتجاه العقل وإشعاعاته، وتحاربه بلا هوادة، لأنه بمساسه بهذه الثوابت إنما يمس عنصر الاستكانة والدَّعَة المرتكز إلى ذهنية الألفة مع هكذا ثوابت.
فالمسلمين مثلا إذا كانوا قد أَلِفُوا التعايشَ مع صورة معينة من صور الإسلام (أي مع فهم معين للإسلام) – كثرت ثوابتها الموروثة – وتعودوا عليها وأَنِسُوا إليها وارتاحوا لذلك على مدى زمني طويل، بحيث انعكست في حياتهم على هيئة كمٍّ هائل من القضايا الراسخة. فإن ارتباط استخدام العقل بالمساس بهذه الثوابت والقضايا الراسخة، بما يعنيه ذلك من ثم من تهديد لعنصر الهدوء والألفة في حياتهم، بصورة قد تدفعهم إلى البحث عن ثوابت جديدة للتآلف معها..
.. نقول: إن ارتباط استخدام العقل بذلك، يخلق ذهنيةً مهزوزةً قائمةً على الخوف منه وعلى التوجس من كل ما له علاقة به. وبالتالي تُرَى هذه الذهنية التي هي في الأساس ذهنية مهزوزة قائمة على الرعب والخوف، وهي تمارس هجوما شرسا على كل من يَظْهَر مُستخدِما له، محاولا تكسير عناصر التماسك الزائفة في الألفة المقيتة مع ما لم يعد من شأنه الإسهام في أي دفع تقدمي للواقع النابض بمقومات التَّغَيُّر.
ثم تأتي بعد ذلك ذهنية التَّمَيَّز – الإيجابية في حد ذاتها إذا توفرت فيها بعض الشروط – لتستكمل رحلة التَّسَمُّم الذهني الذي يعاني منه الإنسان العربي. تقوم ذهنية التميز عند الإنسان العربي على قناعته بأنه متميز عن سائر البشر، ولكنه – للأسف – يُرْجِع أساسَ هذا التميز إلى ما ليس صحيحا ولا موضوعيا على الإطلاق. فهو يظن تميزه الذي يتوهمه، متحققا لسببين رئيسيين هما العراقة الحضارية باعتبار أرضه موطنا لأقدم الحضارات المعروفة على مستوى العالم، والعراقة الدينية باعتباره يملك الإسلام آخر الرسالات السماوية وأكملها، وباعتباره بامتلاكه له، جنديا في جيشٍ مُعْتقدي يحمل رسالة عالمية عليه أن ينشرها في كل مكان فوق هذا الكوكب.
فإذا كانت هذه الذهنية في حد ذاتها – أي ذهنية التَّمَيُّز – إذا تحررت من بُقَعِ العنصرية البغيضة – ونَحسبها عند الإنسان العربي متحررة من ذلك على الأغلب – وإذا استندت من ثم إلى مكونات موضوعية ذات دلالة بناءة – وهذا ما لا نحسبه متوفرا فيها – ذهنيةً إيجابيةً ودافعة، فإنها بهيأتها السلبية تلك، وعندما تتفاعل مع ذهنية الألفة وذهنية الخوف تصنع معهما مُرَكَّبا ذهنيا ساما جدا، كغاز أول أكسيد الكربون، وهذا المركب هو ذهنية "القمع".
إن إحساس الإنسان المسلم بأن تَمَيُّزَه قائم على الإسلام الذي يتبناه ويعتقد فيه، يَجعل أي مساس بهذا الإسلام – بهيأته تلك – مساسا بهذا التَّمَيُّز من حيث المبدأ. فإذا كان وعي الإنسان المسلم ينصب في الظاهر باتجاه محاربة ما يظن أنه مساس بالإسلام، فهو في لا وعيه إنما يدافع عن نفسه وعن تميزه في حقيقة الأمر. وإذا كانت الصورة السائدة للإسلام والفهم التقليدي المتفشي له ولمرجعيَّته النَّصِّيَّة هما مبرر التميز الذي يأنس له الإنسان المسلم بحكم ذهنية الألفة التي تتحكم فيه كما رأينا سابقا، فإن الدفاع عن هذه الصورة ومحاربة أي مساس بهذا الفهم لم يعودا قائمين فقط بسبب الخوف من زوال المألوف والاضطرار من ثم إلى بناء أُلْفَة جديدة مع صورة جديدة ومع فهم جديد للإسلام، بل بسبب خوف آخر قد يكون أشد من الأول، إنه الخوف من زوال هذا التميز الذي يعتز به ويعتبر أن أهميته في هذا العالم مرهونة به.
وإذن فسوف تزداد بطبيعة الحال حدة العداء والنبذ للأدوات التي يتبدى له – أي للإنسان المسلم – أنها تمس تلك الصورة، بسبب أنها أصبحت تهدد لديه عنصرين هامين يقوم عليهما وجوده في جانبيه الطَّبْعِي من جهة والكَيَانِي من جهة أخرى، وهما الألفة والتميز. ولما كان العقل هو دائما تلك الأداة التي تحاول أن تعيد بناء صورة الإسلام وطرائق فهمه، فقد كان من الطبيعي أن ينصب العداء باتجاهها بهذا الشكل الدموي، باعتبارها أداة تهدد في الحقيقة – كما هو عليه الأمر في لا وعيه – تَمَيُّزًهُ ومألوفاته، وبعد أن أصبحت أداةً تُشَكِّل خطرا عليه يثير رعبه ومخاوفه، وهكذا كان من اللازم أن يُقْمَعَ العقل قمعا بشعا بلا رحمة.
خلاصة القول أن الإنسان المسلم يشعر بألفة دائمة وحميمة مع ما هو سائد من فهم للإسلام، ويحس بأن تميزه في العالم قائم على بقاء هذا المألوف وعلى استمراره في حياته بصورته التي أَلِفَها تلك، فيخاف من أية محاولةٍ تَنْصَبُّ باتجاه المساس بالصورة المألوفة لإسلامه، لأنها محاولة لا تُقرأ في لا وعيه إلاَّ تحت عنوانِ هذا المساس بمألوفاته وبتميزه بالتالي. فَيُحاَرِبُ وعيه دفاعا مستميتا عمَّا هو كامن في لا وعيه، كلَّ من يتصدى لهذه المهمة – مهمة المساس – ويقمعه بكل ما أوتي من قوة. ولما كان العقل هو سيد المبادرة دائما، فقد وقع عليه عبء دفع الثمن. وذهنية الإنسان المسلم في صراعها مع العقل– عدو مألوفها وتميزها الزائفين – لا تجد نفسها معنية بغير الذود عن مألوفها وعن تميزها، بصرف النظر عن مدى حاجتها – بالاستناد إلى مقاييس موضوعية – إلى هذا المألوف، أو عن مدى صدق ادعائها – بالاستناد إلى تلك المقاييس نفسها – التميزَ بناءً على الصورة وعلى الفهم السائدين للإسلام.
من جهة أخرى يتجلى القمع الذي تمارسه ذهنية الإنسان المسلم ضد العقل بوصفه عدوا لمألوفها ولتميزها، لا بصورة مباشرة من خلال كل إنسان مسلم يعاني من وقع هذه الذهنية ومن تحكمها في فكره وفي سلوكه، بل من خلال المؤسسات والبُنىَ مختلفة الأشكال، والتي تُعْتَبَر تكثيفا لِلاَوَعْيِه، ونائبةً عنه في التعبير عن ذلك القمع. لهذا فقد يبدو الإنسان المسلم وكأنه غير مَعْنِيٌّ بالمعركة ضد العقل المتمرد على المألوف من خلال ما نشاهده لديه من سلبية ولا مبالاة ووقوف في موقع المتفرج المتعاطف مع القامع بصورة تلقائية. إن الشكل التراجيدي للقمع يُماَرَسُ من قبل تلك المؤسسات أو أولئك الأفراد الذين نَصَّبوا من أنفسهم مؤسسات أو أشباه مؤسسات تتولى قمع المتمردين والخارجين على المألوفات وعلى مُقَوِّمات التَّمَيُّز السائدة.
فهل من طريقة إذن لتخليص الإنسان العربي ومن ورائه المسلم غير العربي من عدائه المستحكم للعقل؟
في الواقع لا سبيل إلى ذلك إلاَّ بتخليصه من ذهنيتي الألفة والتميز، ومن ثم من نتائجهما. فمادام قمع العقل ناتجا في الأساس عن الخوف منه بسبب مساسه بالمألوف وبالتميز المرتكز إلى هذا المألوف والقائم عليه، فيجب أولا أن تتحطم في أغوار الذهن المتعايش مع الأُلْفَة، مرتكزات تلك الألفة، أي يجب أن يتحرر الإنسان المسلم من وطأة الألفة وثقلها على تفكيره ومردودها في حياته. يجب أن يتحرر من ألفة كل شيء تُعْتَبَرُ ألفته في الوقت الحاضر متعارضة مع التقدم والتطور والقفز إلى آفاق المستقبل.
من جهة أخرى يجب أن تتحطم في أغوار ذهن هذا الإنسان مرتكزات التميز الحالية لديه. أي إن عليه التحرر من وهم اعتبار تميزه قائما في عالم اليوم على مقولة حمله للإسلام بالصورة وبالفهم التقليديين السائدين له. إن هذه المرتكزات لم تعد تصلح لأن تكون أرضية لأي شكل من أشكال التميز في عالم تتفاضل فيه الشعوب والأمم بقدراتها العلمية وبمنجزاتها الثقافية والتقنية الراهنة، وليس الماضية والمنقوشة على الأحجار المُغْبَرَّة. فكم يبدو مُؤْسِفاً أن نعترف بأن أكثر الناس تميزا في زماننا هم أولئك الذين يأتون من بلدانهم لزيارة حجارتنا ومعالم ماضينا، مبدين كل إعجابهم وانبهارهم بها وسعادتهم برؤيتها، بينما نذهب عندما نذهب إليهم لرؤية معالم مدنيتهم وحضارتهم الحالية. إنهم يعرضون علينا حاضرهم في أكثر صوره إشراقا وانطلاقا، ونحن لا نملك سوى ماضينا نعرضه عليهم، محاولين كل ما في وسعنا تبييض السواد الذي فيه، بدل بذل هذا الجهد في محاكاة قيم انطلاقهم إلى فضاءات المستقبل المذهلة، فيما تعتبر محاكاته مطلبا ضروريا للتقدم والرفعة والنهضة.
إن هناك بمعنى آخر معايير جديدة للتميز تحكم مسار الحضارة الإنسانية في لحظتها الراهنة، يجب على الإنسان العربي خاصة والمسلم عامة، أن يُعيد بناء ذهنية التميز لديه وِفْقَهَا وفي ضوئها، متحررا من سطوة عقيدة أسطورية تهيمن على تفكيره المأزوم بلسع الماضي وبالعجز عن التعايش مع الحاضر وقراءة المستقبل، مُهَيِّئة له أن يوم فتح رومية (روما) أصبح قريبا، كما هيأت لصاحب كتاب "السرطان الأحمر" الذي كان يقاتل في أفغانستان، أن المسلمين سيفتحون واشنطون، بعد فتح موسكو، وذلك انطلاقا من دولة الخلافة المرتقبة "أفغانستان"، التي مزقتها أنياب القبائل الأُمِّيَّة بعد أن رفعت الولايات المتحدة يدها عنها، ليؤول بها مطاف التِّرْحال باتجاه الماضي إلى الإصابة بعمى ألوان من نوع غير مسبوق يَحْرِم صاحبه من القدرة على التفريق بين الصنم الذي يُعْبَد والأثر الذي يَروي الماضي ويحكي تفاصيل صيرورته.
إن هناك سلسلة ضخمة في واقعنا تقيد السماء والأرض معا. لكن قيدَ الأرض نتج عن قيد السماء، وبالتالي فإن تحرر الأرض من القيد الذي ترزح تحته، لن يتحقق إذا بقيت السماء مقيدة. وإذن فيجب أن نفك قيد السماء أولا، هذا القيد القاسي الذي قيدناها به، فأسقطته علينا قيدا أشد قسوة في انتقامٍ نعاني من وطأته معاناةً لم تعانها أمة من الأمم. نعم، هذه هي البداية، إنها تحرير السماء من ظلمة أفكارنا وتصوراتنا الهَشَّة عنها وعن علاقتها بالأرض، إنها في إعادة بناء منظومة تفسيرية قادرة على تفجير كافة التعارضات والتناقضات التي أقامها وشيدها في علاقة الأرض بالسماء هذا القيد السَّلفي التَّقليدي المُرْبِك بكل اتجاهاته وأجنحته القديمة سنية وشيعية، ومن بعده، هاتين السلسلتين الأشد إرباكا، والأكثر إمعانا في النكوص وفي التراجع، الوهابية بين السنة من جهة، والصفوية بين الشيعة من جهة أخرى.
يجب أن تتحطم إذن في الذهن المسلم لبناتُ الأُلفة والتَّميز – بالصورة التي وضحناها لهما فيما مضى – كي تُحَلَّ مشكلته المستحكمة والمتمثلة في موقفه العدائي من العقل. لأنه إذا تحرر من عقدة المألوف، فلن يعود هناك ما يخيفه من الجديد الذي سيمس هذا المألوفَ بالتأكيد. وإذا هو تحرر من عقدة التميز المرتكز إلى هذا المألوف، وأقام فلسفة تميزه على عناصر ومُكَوِّنات جديدة، فإنه لن يخشى على تميزه هذا إذا تم المساس بمرتكزه الحالي الموهوم، تعديلا وتطويرا وتغييرا. وبالتالي فإن عُقْدَة الخوف من أداة هذين المساسين ستتفكك لوحدها وسوف تختفي من ذهنه، ليجد نفسه وقد تخلص منها نهائيا، ولن يغدو مضطرا إلى معاداة العقل الذي كان يرعبه ويَقُضُّ مضجعَه فيما مضى، بل هو مضطر إلى مصادقته وإلى استحضاره دائما، كي يكون عونا له على تشكيل مرتكزات تميزه الجديدة وبناء مألوفاته الجديدة.
كتاب "تجديد فهم الإسلام"، ليس بحثا في كيفية تخليص الإنسان المسلم من أمراضه وعقده الذهنية، إنه لا يبحث في آلية مساعدته على تحطيم مرتكزات التميز التقليدية لديه، أو على تحطيم أركانِ ذهنية الألفة التي ورثها عبر مئات السنين، بل هو عرضٌ لمرتكزات تَمَيُّزٍ جديدة ولمألوفٍ جديد. إنه خطاب وليس قراءةً في خطابات. إننا في هذا الكتاب ننطلق من افتراض أننا نتوجه بكلامنا إلى إنسان مسلم يبحث عن مرتكز تميز جديد وعن مألوف جديد، بعد أن تحرر من عُقَدِهِ وأمراضه التي سممت ذهنه فجعلته يأنَسُ – في ظروف غير ملائمة – إلى الإسلام بصورته الحالية، ويأنس من ثم إلى وهمه القاضي بتميزه عن سائر البشر، بناء على امتلاكه الإسلام بصورته تلك.
أما مهمة تخليصه وإنقاذه وتحريره من تلك الأمراض والعقد، فهي مهمة تقع خارج نطاق ما يهدف إليه "تجديد فهم الإسلام". إنها مهمة نفسية تربوية اجتماعية تاريخية، أما مهمتنا هنا في هذا الكتاب، فهي مهمة فلسفية تقوم على تقديم عرض جديد لبعض جوانب الإسلام مختلفة عما هو سائد ومغاير له، وهو العرض الذي يرى المؤلف ضرورة إحلاله محل هذا السائد من تلك الأنساق التي تؤطر ذهنيات الألفة والتميز والخوف والقمع لدى الإنسان المسلم. إننا في "تجديد فهم الإسلام"، نطرح أمام هذا الإنسان – بكلمة أخرى – البديل لما هو مهيمن عليه من أنساق فكرية إذا هو قرر أن يغير مألوفاته ومرتكزات تميزه.
إن الخطاب الذي نحن بصدده في هذا الكتاب يقوم على خلق نموذج جديد في التأسيس للخطاب، وبالتالي فقد كان من الطبيعي أنَ لا يكون عملا سياسيا في جوهره، وألا أن يتحول إلى قراءة حفرية مُتَكَلَّفَة ومُصْطنعة في نصٍّ مقدس كان الحفاظ عليه بصورة من الصور هدفا ومنطلقا. كما أنه تجنب أن يكون قراءة نقدية تحليلية في خطابات، أو في محاولات فلسفية أدلت بدلوها في مجال نهضة الأمة، أو معالجات تهدف إلى وضع الأسس الكفيلة بالقفز بالعقل المسلم إلى مستويات من التمرد على مألوفاته ومرتكزات تميزه السائدة.
ولم تواجهنا في هذا الكتاب مشكلة نابعة من السؤال التقليدي الذي اعتادت عليه معظم محاولات التجديد أو التفكير الحفري أو التأويلي في النص القرآني، وهو السؤال الذي يثير مقولة التوفيق بين فكرةٍ ماَّ وبين مُعْطَى ذلك النص، إذا تبين – في حال تكامل تلك الفكرة والتأكد التام من صحتها – أن هناك تعارضا خطيرا بينها وبينه. لم تكن هناك مشكلة من هذا القبيل من حيث أن "تجديد فهم الإسلام"، لم يكن يبالي بهذا التعارض إذا كان نتاجا حتميا لمنهج الحياد والتجرد الذي انتهجه بكل موضوعية. وهو لم يكن معنيا من ثم بالبحث عن التوفيق بالحفر أو بالتأويل في النص.
بكلمة أخرى فإن "تجديد فهم الإسلام"، خطاب لم ينطلق من ثابت نصِّي مقدس، ولا اعتبر نفسه معنيا بأن يعير أهمية معرفية لما يشاع في أوساط مُعَيَّنة، أنه ضرورة عدم المساس بهذا النص المقدس. فهو قد أعطى لنفسه الحق الكامل في ألاَّ يصغي للأصوات المرجعية أو التراثية أو لرأي العامة حول الأمور المتعلقة بعرضه التجديدي للإسلام، إلاَّ في حدود كون المعلومات المستقاة من تلك الأصوات، قابلة للتَّثَبُّت منها والتحقق من موضوعيتها في ضوء نقاط الارتكاز العقلية التي انطلق منها واعتمد عليها، أو في ضوء ما انبنى على تلك النقاط بصورة قطعية وضرورية ومنطقية من حقائق ومن بُنَى معرفية فوقية.
إن دائرة الباحثين عن مرتكزات تَمَيُّزٍ جديدة في واقعنا العربي والإسلامي تتسع، وإن كان ذلك ببطء شديد، يُفسر لنا بوضوح كيف أن الحملات المعادية للفكر وللعقل تبدو أكثر تغلغلا في الذهن العربي والإسلامي القلق والخائف، إلى درجة لا تكاد تظهر معها أية أصوات لأية حملة مدافعة عن أي تفكير ارتكازي جديد أو مساندة له. ومع ذلك فالتفاؤل يبقى قائما لأن الحاجة الملحة لتحطيم المرتكزات التَّمَيُّزِيَّة القائمة والموروثة تتفاقم، بحكم طبيعة الأمور وبحكم طبيعة التنامي في مسار الحراك الاجتماعي الذي يتطلب حتما، تناميا رديفا في مسار الحراك الفكري والفلسفي كي يتمكن - أي الحراك الاجتماعي - من الاستمرار في التواجد والتواصل والنماء.
كما أن ضيق الدائرة الحالي لأولئك المتطلعين إلى مرتكزات التميز الجديدة، لا ينفي الجدوى من طرح وعرض نماذج مقترحة ومتصورة لتلك المرتكزات من قِبَلِ من يمتلكون تلك النماذج. إن الجدوى قائمة، لأن عرض الفلسفة الجديدة بالصورة اللائقة والمتكاملة يسهم في توسيع الدائرة الضيقة لأولئك المتطلعين. إنه من ثم ذو تأثير فعال في إحداث التغيير المطلوب في الذهن باتجاه تخليصه من سمومه ومن معوقات تحرره من عبء الألفة والتميز بصورتيهما الحاليتين.

الفـــهرس

مقدمة الكتاب.
تمهيد حول تحليل السؤال الفلسفي.
الفصل الأول.. العقل.
أولا.. البدايات الأولى.
ثانيا.. الدوائر المعرفية الثلاث.
ثالثا.. المعارف بين مقولتي التسلسل والقيام بالذات.
رابعا.. العقل، التجربة، الوحي، هي مصادر المعرفة.
خامسا.. التحسين والتقبيح العقليان.
سادسا.. مكانة التجربة في المعرفة..
أ – تحليل واقع التجربة.
ب – التناقض الذاتي في مقولة أسبقية التجربة معرفيا.
ج – المذهب التجريبي ومفهوم الاستحالة.
د – المذهب التجريبي ومبدأ العِلِّيَّة.
هـ - تفنيد تجريبية القواعد الرياضية.
سابعا.. الخلل في تصور العقل الذي تتم معارضته.
ثامنا.. مفهوم الاستدلال الإسلامي.
أ – حالات الاستدلال الوحيوي الصرف.
ب – حالات الاستدلال التجريبي الصرف.
ج – حالات الاستدلال العقلي الصرف.
د – حالات الاستدلال العقلي التجريبي الوحيوي.
تاسعا.. الخريطة المعرفية.
أ – الحكم بالضرورة.
ب – الحكم بالإمكان.
الفصل الثاني.. اللــه.
أولا.. الزمان والمكان.. المادة.. الله.
أ – الزمان النسبي والزمان المطلق.
ب – المكان النسبي والمكان المطلق.
ج – العلاقة بين الزمان والمكان.
د – التفسير العلمي والتفسير الفلسفي للمادة.
هـ - العلاقة بين المطلق (الله) والمادة (الخلق).
* تشخيص معضلة الصراع اللاهوتي المادي.
* المادية الدياليكتيكية وقانون وحدة الأضداد.
* الله والفلسفة ضحايا الصراع بين اللاهوتيين والماديين.
و – المطلق وحقائق الرياضيات.
ثانيا.. صفة الله الوحيدة.. الألوهية.
أ – علاقة الصفات بالموصوفات.
ب – الإرادة الإلهية كمقتضى لصفة الله (المطلق).
ج – طبائع الإرادة الإلهية.. القدرة والعلم والتفكير.
د – معضلة قِدَم التفكير وحداثة خلق العالم.
هـ - مطلق العلم ومحدودية الخلق.
و – الغاية الإلهية من خلق العالم.
ثالثا.. تحليل تفصيلي لمفهوم علم الله.
أ – شرح أبعاد المفهوم ودلالاته.
ب – الأجل والرزق في المفهوم الحقيقي لعلم الله.
ج – الإرادة والاختيار الإنسانيين في فكر النخب الأولى من الصحابة والتابعين والعلماء.
* قول عمر بن الخطاب في القدر.
* قول عثمان بن عفان في القدر.
* قول علي بن أبي طالب في القدر.
* مخاطبة ابن عباس لجبرية أهل الشام.
* رسالة الحسن البصري في مسألة الجبر.
* مناظرة بين جبري وسني، ثم بين قدري وسني كما تصورها ابن القيم.
- المناظرة بين الجبري والسني.
- المناظرة بين القدري والسني.
د – النص القرآني وعلم الله.
* النصوص الوصفية.
- الفئة الأولى.. الآيات التي تصف الله بصفة العلم مرفقة بصفة أخرى.
- الفئة الثانية.. الآيات التي تصف الله بعلمه بكل شيء.
- الفئة الثالثة.. الآيات التي تنص على علم الله بالغيب والشهادة.
- الفئة الرابعة.. الآيات التي تنص على علم الله بأسرار الناس وبما في صدورهم من نوايا.
- الفئة الخامسة.. الآيات التي تنص على إحاطة الله بعمل الناس.
- الفئة السادسة.. الآيات التي تنص على اعتبار أن إرادة الله في أن يعلم أمرا ما كانت وراء أمره بأمرٍ ما أو إحداثه له.
- الفئة السابعة.. الآيات التي تفاضل بين علم الله وعلم الناس.
- الفئة الثامنة.. الآيات التي تنص على علم الله بأحوال الناس وأخبارهم وأعمالهم.
- الفئة التاسعة.. الآيات ذات العلاقة في سورتي فاطر ولقمان.
* النصوص القصصية وشبه القصصية.
- سورة الإسراء وإفسادا بني إسرائيل.
- سورة الكهف وقصة الغلام مع الخضر عليه السلام.
- بشارة المسيح بنبوة أحمد.
- سورة الروم والتنبؤ بانتصارهم في معركة قادمة.
- سورة المسد.
رابعا.. فعل الله الوحيد.. الخلق.
أ – جوهر العلاقة بين الفعل والخلق.
ب – ماهية العدل (مقتضى الفعل الإلهي).
ج – طبائع مقتضى الفعل الإلهي، أي طبائع العدل.
* المسؤولية.
* التكافؤ.
* التخيير.
د – خلاصة.
الفصل الثالث.. الروح.
أولا.. مدخل إلى موضوع الروح.
ثانيا.. الروح شكل من أشكال تطور المادة.
ثالثا.. مكانة الوعي في تطور المادة.
الفصل الرابع.. البعث والحياة الآخرة.
أولا.. هل هناك حياة قادمة بعد الموت؟
ثانيا.. الفرق بين الإحساس باللذة والوعي بها، هو مربط الفرس في حتمية البعث.
ثالثا.. فكرة تخليد الحياة ودور الإنسان فيها.
الفصل الخامس.. النبوة.
أولا.. المعضلة المعرفية في ظاهرة "الدين".
ثانيا.. النبوة كظاهرة.
ثالثا.. النبوة من الأسطورة إلى الدين.
رابعا.. الدور الوظيفي للنبوة.
الفصل السادس.. قراءة جديدة في مصادر التشريع الإسلامي.
أولا.. شخصية محمد عليه الصلاة والسلام بين البشرية والرسالية.
ثانيا.. العلاقة التكاملية بين القرآن والسنة.
ثالثا.. مقاييس التَّثَبُّت الجديدة من صحة المأثورات.
الفصل السابع..المنهج القرآني في إقرار تطور الأحكام الاجتماعية.
الفصل الثامن.. من أين ينطلق التشريع الإسلامي، من العقل أم من النقل؟.
الفصل التاسع.. النظام الاقتصادي القرآني في ضوء الثابت والمتطور في النظم الاجتماعية.
أولا.. مفهوم المشكلة الاقتصادية.
ثانيا.. مفهوم الاقتصاد الإسلامي بين المذهب والعلم والقانون.
ثالثا.. مدخل إلى نظرية الملكية في المذهب الاقتصادي الإسلامي.
1- ملكية الأشياء وملكية حق الانتفاع بالأشياء.
2 - ملكية حق الانتفاع بين الفطرة والاكتساب.
3 - ملكية حق الانتفاع بين الفردية والجماعية.
رابعا.. مدخل إلى نظرية توزيع الإنتاج في المذهب الاقتصاد الإسلامي.
خامسا.. خلاصة الإستراتيجية الإسلامية في تحقيق العدل الاقتصادي.
الفصل العاشر.. نظام الحكم والحريات العامة من المنظور المذهبي الإسلامي.
أولا.. الحريات المعطاة للإنسان في الإسلام.
ثانيا.. فكرة الوطن واختلافها عن الدولة والنظام.
ثالثا.. الانتماء القومي والانتماء الإسلامي.
رابعا.. القومية والأقليات والمواطنة.
خامسا.. العلمانية والمذهب الإسلامي في الحرية المعتقدية.
سادسا.. الحرية والتعددية السياسية.
سابعا.. خلاصة التصور المذهبي الإسلامي للحرية السياسية.
الفصل الحادي عشر.. نظام العقوبات القرآني بين الثابت والمتغير.
أولا.. قاعدة حَدِّيَّة القرآن
ثانيا.. قاعدة الحد الأقصى
ثالثا.. قاعدة شخصانية الأذى المترتب على العقوبة
رابعا.. قاعدة تجنب الإعدام قدر المستطاع
خامسا.. قاعدة شدة العقوبة من شدة الجرم
سادسا.. لا عقوبات تترتب على التصورات والمعتقدات
سابعا.. قاعدة ردع المجرم عند تطبيق العقوبة
ثامنا.. قاعدة عدم تضمن العقوبة ردعا للأبرياء
تاسعا.. قاعدة ترميم الخلل الاجتماعي الحاصل بسبب الجرم
عاشرا.. قاعدة عدم جواز كون العقوبة من جنس الفعل المُجَرَّم
الفصل الثاني عشر.. العقاب والنعيم بعد الموت.
أولا.. التواصل بين الحياتين الدنيا والأخرى
ثانيا.. حِسِّيَّة العقاب ولا جسديته في الوقت ذاته
ثالثا.. محدودية العقاب في الآخرة
* مداخلة في نقد مقولة "الكفر العملي والكفر الاعتقادي"
* فلنشخص هذه المعضلة