[center]


الشاعر الاستاذ عبدالرحم سكاب

يا مهرة طار على صهوتها فارسها الجسور



بقلم : ادريس عوض الكريم



رحل عن دنيانا الشهر الماضى الشاعر الفحل الاستاذ عبدالرحمن اسماعيل سكاب رحمه الله رحمة واسعة وطيب ثراه واسكنه فسيح جناته . لقد كان الشاعر المرحوم من نوابغ شعراء اريتريا باللغة العربية ، بز فى ذلك ابناء جيله المخضرم من الذين عاصروا وشاركوا فى الحركة الوطنية الاريترية المناهضة للهيمنة الاستعمارية الاثيوبية والذين قاوموا فى اطار تلك الحركة محاولات المستعمر المحتل تذويب الشخصية الاريترية واحتوائها فى حيز الثقافة الأمهرية بنزوعها الطائفى الضيق .

وقد كان شاعرنا الفذ سكاب من الذين انخرطوا فى كفاح الحركة الوطنية الاريترية فى كل مراحلها السلمية والمسلحة لتخليص اريتريا من الاحتلال الاثيوبى .. وهو من الرعيل الذين واكبوا الثورة المسلحة وعضدوها وأيدوها بالكلمة والجهد وهى تصارع المستعمر وتحصن الشعب ضد مشاريعه الاحتوائية . وحتى وفاته كان الاستاذ سكاب يعمل مدرسا ضليعا للغة العربية فى دولة اليمن التى مكث فيها ردحا من سنوات المنفى الطويلة .. وهو من هذه الناحية التربوية والتعليمية ترك ارثا ضخما يعد مفخرة بعدد من تلقوا على يده نحو وضرف وقواعد اللغة العربية وموروثها الشعرى من قامة . لها باعها الكبير فى فهم اشعار العرب وذواقه لهذا التراث الشعرى من اديب شاعر ضهم دواوين وقضائد الجاهليين الى عصور الأدب الزاهية الى عصرنا الحديث وحركة الشعر التجديدية التى انطلقت بدءا من مدرسة ابولو بزعامة احمد زكى ابو شادى وشعراء المهجر الى المدرسة الحديثة بزعامة بدر شاكر السياب .

وانك لتحس بنبض الأصالة الشعرية والتمكن من ناصية اللغة ومفرداتها وكذا روح الحولة والحداثة والمعاصرة فى أو قصيدة من قصائد سكاب ، كما تحس فى شعره التدفق والانسياب كغدير ونهر رقراق .

ونسبة لثقافة الشاعر اللغوية والأدبية الرفيعة تتخلل اشعاره احيانا كلمات عويصة وصعبة على غير الملمين بالقاموس الشعرى القديم وفى نفس الوقت تجد الشاعر يتحفنا بلغة سهلة سلسة مثل لغته على سبيل المثال فى قصيدة " حنين الى ذكاء " فهى كلها فى شفافية وانطلاق روح سكاب الشاعر من اولها الى آخرها ، وهذه القصيدة فى اعتقادى نموذج مثالى لقريحة المرحوم الشعرية المتفردة ولجزالته ومتانة ورصانة لغته المحلقة بجناح الشعر نحو الشموس المشرقة والتطلع الى الحرية الكاملة فى وطن حر ، وهو ما رمز اليه الشاعر فى تلك القصيدة الجميلة بـ" ذكاء " أى الوطن الشمس الضاحية ومواسم الفرح فى ظلعيش الكرامة الموشحة بوشاح البطولة ، والتضحيات لاجيال الاريتريين المتعاقبة

نلمح فى هذه القصيدة النموذج لسكاب روح الغنائية المنسابة عذوبة الشعر والنفس الشعرى الطويل الذى يدلل على ملكة فريدة فى فن الشعر فى مثل قوله من مقطع فى القصيدة :

ايتها العنقاء يا انشودة العشاق .. يقتفون خطوك الحبيب .. فى مسارب الدروب والافاق

يظل دوحة ينداح ... فوق لفحة السعير .. فتنطفى من حوله مواقد الهجير .. ويحتسى من نهره الطريد .. والغريب والعصفور .

اختم هذه العجالة بالقول أننى التقيت الشاعر سكاب لأول مرة فى اسمرا بعد التحرير التى قدم اليها من صنعاء فى عطلته السنوية وكنت فقط اعرفه على البعد عبر قصائده التى كان يبعث بها الى مجلة " الثورة الاريترية " وقد نشرتها فى وقتها محتفيا بها ايما احتفاء لفرادتها لغة وخيالا ومضامين ، وكنت معجبا بها غاية الاعجاب .. وقد كان لى شرف اختيارها ضمن مجموعة شعرية بادرت بنشرها " جمعية المعلمين الاريتريين " عام 1984 وقمت بالاشراف على طبعها وحتى فى اطار المختارات الواردة فى هذه المجموعة تحت اسم : " ترانيم ثورية من اريتريا " لقصائد سكاب نكهة خاصة وقوة عارضة بيانية نادرة مما جعلت هذه القصائد القليلة نفسها متفردا ومذاقا متميزا ..

فى ذكرى الاحتفاء به لابد لى أن اشير الى ضرورة نشر تراث الشاعر وقصائده حتى تحفظ من الضياع والاهمال للطالعين من ادباء وشعراء اريتريا .. هذا واجب أدبى يقع على كاهل اصدقاء الشاعر وأسرته ومحبى شعره .. وسيكون فى هذا امتاع لكل عشاق الشعر الجميل ونفحة وفاء لمن حلق خياله فى ابعاد سحيقة ومن امتطى مهرة الشعر الجموح وطوى بها " حواجز التخوم والابعاد والأثير "

عن ارتريا الحديثة




**********************


عبدالرحمن سكاب
عبدالرحمن إسماعيل عثمان (إريتريا).
ولد عام 1939 في كَرَنْ.
تلقى تعليمه الأولي في الكتاب, وحفظ بعضاً من القرآن, ثم تعلم على أيدي شيوخ العربية وعلومها, وثقف نفسه بنفسه, إلى أن سافر إلى مصر في أوائل الستينيات, والتحق بالأزهر الشريف, وأنهى مراحله الدراسية بحصوله على العالية من كلية اللغة العربية عام 1974.
يعمل معلماً في اليمن منذ 1975, وكان في سنوات عمله الأولى يتبع الهيئة العامة للجنوب والخليج العربي (الكويتية).
عنوانه: مركز الدراسات والبحوث اليمنية - شارع بغداد - صنعاء - الدائرة الأدبية واللغوية - اليمن.


مشكاة


أنا للوجْد وبالوجد أنا _

ماله من سادنٍ إلا أنا _

أنا في الآفاق مسْكٌ جانح

تتحساه انعتاقات المُنى

أنا مفتون يناجي حدسه

عافياً كل انبهارات الدُّنا

تزدهيني في حميّا لحظتي

سبحات من معانيها السَّنا

ياله عطر رحيق علَّنا
من جناه ولقد أنهلنا _

أضرمتْ وجدي جَوارٍ أقلعتْ

عن مراسيها عويلاً مُثخنا

وانثيالات حنيني اشتعلتْ

أنجماً بالسهد تُقري الأعينا
أيها الماضي إلى سدرتنا

سائلاً عن منتهى سدرتنا

هذه الأطياب تسْري إنما

هي أطياب ربا جنَّتِنا
أنا مشكاة السرَى من كرمتي
عتقت هالاتُ مشكاتي أنا

رنَّحتْنا من ذرانا دوحةٌ

طيرها الصدَّاحُ, من ورقائنا

نمنمتْ أردانَها من غيثنا

وانتشت بالفرع من أفيائنا

أبصرتْ زرقاؤُنا ما لم تروا
وانحسرتم عن مدى زرقائنا

ومحت أنباؤُنا أخباركم
ونمير الصِّدق من أنبائنا

خيلنا الخيل إذا ما أسرجتْ

وتبارت في ثرى صحرائنا

غرَّد النقع صهيلاً وانبرت

بالأراجيز ذُرا أصدائنا

وارتشفنا الشهد حُرّاً كُحِّلت

مقلتاه من هُدى صهبائنا
قد علمنا أننا الرهطُ صفا

وردُنا ينساح من أندائنا _

كوننا المخضلُّ يحدو ركبنا _

وهو من فيض ندى وطْفائنا
نمتطي خطو سرانا وضحى الـ_

فجر نجم لاح من لألائنا

حمَلَتْنا عيسُنا الورْق إلى

هامة السدرة من عليائنا
تلك مشكاة سقاها زيتنا

وهي شيء الشَّيء من أشيائنا _

ودحونا الأفق ليلاً معتماً

يجتدي الجذوة من ليلائنا

وانجلتْ آفاقنا عن ساطع_

حدَّث الآفاقَ عن إسرائنا

نحن أسكَرْنا ضواري دائنا

فأتى ترياقُنا من دائنا


ناسك
آه للساهر الشجيِّ مضى الليل ومازال دمعه سحَّاحا

ساكباً من يراعه قهوة الوجد وقد ذاق مزجها والقراحا

داعبَتْه أنامل الليل قيثاراً خفياً يراوغ الأشباحا

قد تحسَّيت لحنك العاطر الإيقاع شوقاً مرنَّحاً فواحا

أنت في السرب طائر صافح الأفق وقد صاغ من دجاه الجناحا

وأراق الشجون في مسمع الليل سهاداً مضى يحثُّ الصباحا

وشع القفر بالأهازيج فاختال ربيعاً مفوّفاً منداحا

والليالي حواشد ملء جفنيه دموعاً وغصة وجراحا

أترعتْ كأسه سلافةُ أحداث الليالي وصرفهن فناحا

أثخَنَتْه النصال من جارحات الدهر حتى تخرَّمتْه اجتياحا

ولحاه السرى بكل ضرامٍ.. من حريق الجوى فذاب التياحا

وتعالت أناته فاعترى الأفق شحوبٌ أراقه أتراحا

ملء أحشائه التياعات سربٍ ودع الأهل غربةً وانتزاحا

وبعينيه دمع كل شجي رق للعهد من هواه فباحا

راعه قيد إلفه والروابي.. حوله أسهبٌ ترامت فِساحا

ياله ناسكاً تهجَّد في محراب بلواه شاكياً.. ملحاحا

دأبه يغزل المواجد راياتٍ على الأفق خافقاتٍ سِماحا

إذ يصوغ الدجى وداعة عشٍّ.. هدهد الجرح بلسماً وسَماحا

حسب آياته طيوباً تناثرت على دربه شذا.. نفَّاحا

إذ يجوب الخميل أنداء راح.. ريقها بات للعفاة متاحا

واعتلى من جناحه زورقاً جدف في الأفق غائصاً سبّاحا


من قصيدة: الوتر

مَنْ ذلك السَّبَّاح في أفلاكه
والشُّهب تلهث خلفه وتدوخُ

ربُّ القوافي النافرات تحثّها
منه الإشارة لمحة فتُصيخ

عرفَتْك صهْوات الحروف تجيلها
خيل الإباء وفي الإباء شموخ

أسرجْتَهنَّ من العقيق كتائباً
شقراء, ترقل في المدى وتُنيخ

اللهَ.. عند وجيفها أرجوحةً
سمحاء قرَّبها, ولاذ صريخ

هي سلوة المشتاق تسفوه النَّوى
وتسومُهُ عنت الزمانِ رضوخ[




/center]