ثمن الكرامة

الشمس قرص أحمريحتضنه الأفق, وأشعتها المحتضرة تسربل خطا ك الوانية , وأنت تسير على الكورنيش، البحرثائر، أمواجه العاتية تزأر بوحشية , قدماك تنوءان بحملك تودان لو تخلتا عنك .
استند الى حا ئط الكورنيش , القصير بمرفقيه. ألقى ببصره جهة البحر، الخمول ينشر قلاعه ملء جسده الواهن ،الصبر ما الصبر ؟ انه لعنة تحل بالمرء تحطمه تقوده الى الهاوية.
تتحسس قسمات وجهك الشاحب بأنامل يدك النحيفة. الشعور بالهزيمة المرة يزحف في وجدانك, وقلبك المعذب يخفق باضطراب .
عاود المسير كانت تدور برأسه أفكار من نوع غريب, هلوسة وشبه هذيان ...أنت منبوذ وضعيف أمثالك من ذا الذي يحس بهم، من ذا الذي ينتبه إليهم ..
الطريق يمتد ويطول تحت قدميك..والعمارة التي تحتوي شقتك الصغيرة تلوح..السخام يلوث أعلاها ،والرطوبة تمد اخاديد متعددة على جدرانها .
صعد السلم في تخاذل فتح باب شقته , دلف داخلا، ضغط على زر الكهرباء فتبد د الظلام المدلهم الذي كان يملأ المكان, تعثر في خطاه قبل ان يرمي بجسده الواهن على الاريكة الجلدية الوحيدة الموجودة بشقته, مدد قدميه الى الامام واستند الى متكأي الاريكة .
كم يصعب التأقلم مع ظروف هذه الحياة التي تبدو عسيرة ومعقدة.
تشعل سيجارة تنفث مع دخانها كل كوابت كيانك الجريح، تكبر كآبتك, وتنداح في كل مكان حولك .يفلت من يدك عقالها لا تدري لماذا يحدث هذا ؟؟؟ المهم انه يحدث وكفى , أنت تتعذب والإنفصام اللعين يفرض نفسه ضيفا ثقيلا علي شخصيتك , فتصبح شخصين في شخص واحد , تتملق في النهار وتثور في الليل, تبش وتظهر الاحترام المتكلف لرؤسائك اثناء العمل , وتلعنهم عندما تعود الى شقتك , لك وجهان اذن ومن يدري قد يصبحان ثلاثة اوحتى اربعة حسب الظروف والاحوال.
طرقات خفيفة على الباب تهادت الى أسماعه، مرت هنيهة قبل أن ينهض ..فتح الباب..دوت ضحكة نسائية رخيمة , نظر إلى الواقفة أمامه..نعيمة بكل سحرها وشقاوتها.
شم رائحة الخمر في فمها عندما طبعت على خده قبلة..
-تفضلي ..ادخلي , عاش من شافك, أطلت الغيبة هذه المرة ..أنسيتِ أنك وعدتني بالزيارة عند مطلع كل شهر , وها أنت تغيبين ثلاثة شهور .
ابتسمت , رنت اليه بعينيها النجلاويين ’, ثم اندفعت داخلة , تبعها من الخلف بعد ان أغلق الباب, خلعت ثيابها دون ان تنبس بكلمة , ثم دخلت الفراش ونظرت نحوه تدعوه الى الاقتداء بها , فلم يتوان عن تلبية ندائها الصامت, وبعد حين أصبح بالقرب منها يسري في جسده دفء من الشهوة الحمراء , التحما لحظة , ثم تركا بعضهما بعد الوصال, استندت برأسها الى صدره الكثيف الشعر وغرزت اناملها الرقيقة بين خصلات شعره الطويل تداعبها بحنان تشعر بفرح طاغ يزخر به قلبك , الحياة تحولت فجأة الى ابتسامة على شفتي نعيمة , والوجود صار لمسة حنان توقعها أناملها الرقيقة على جسدك الواهن , وجهها الساجي حطم صخرة الروتين التي ظللت تنوء بها طيلة هذه الشهور التي باعدت خلالها الأيام بينكما, حقا هي مومس لكنها مثقفة ومتعلمة ’ ولعل هذا ما يجعلك تحترمها الى حد كبير.
سألها ضاحكا
- لم تقولي اين كنت خلال هذه المدة ؟؟؟
- هل تصر على معرفة الحقيقة ؟
- اذا كان ممكنا
- الحقيقة كنت خارج ارض الوطن
- خارج أرض الوطن..
- نعم ..فقبل شهور تعرفت على ثري خليجي بأحد الملاهي الليلية...دعاني للسفر الى إشبيلية , فوافقت وهناك عشت أياما باذخة ..تصور أن صاحبنا كان يشعل لي احيانا سجائري بورقة بنكية.
- شئ مثير حقا
- وعندما عدنا الى الوطن منذ اسبوعين, أصر على ان نعقد قراننا فوافقت تحت طائل إلحاحه.
- إذن أنت سيدة متزوجة الآن ..
ضحكت وقالت:
- تقريبا.
- ماذا تعنين بهذه التقريبا ؟؟؟
- الحقيقة أن زوجي إتفق معي على ان يأتي للمكوث معي شهرا واحدا كل سنة , وقد اشترى لي بيتا وفتح لي حسابا بنكيا جاريا , وابتاع لي سيارة فاخرة..
- اذن اصبحت غنية
- كل هذه الاموال لا تساوي شيئا امام ضمة واحدة منك
- حقا
- ألا تزال ترفض أن تصدق أنني أعبدك ...إنك قدري الذي لا أستطيع الفرار منه.
ران الصمت عليهما لحظة , لكنها سرعان ماكسرته وشفتاها تونقان بابتسامة عريضة ..
- يمكنك أن تختار شقة مناسبة لمقامك وسأدفع إيجارها ....ستكون عشنا الذي نأوي اليه..
حدجها بنظرة ثائرة وقال:
- لا أستطيع ان ألبي طلبك .
زوت ما بين حاجبيها وتمتمت بنبرة حزينة
- هكذا تكسر خاطري
- لم أقصد ولكن....
قاطعته مبتسمة
- لا تقل شيئا ..لقد أويتني من قبل وخيرك سابق..أريد أن تتمتع معي بأموال الخليجي ..
- لكنها متعة ثمنها كرامتنا معا..
- أرجوك لا تتحدث عن الكرامة وشطب عليها من قاموسك اللغوي ..فهي لم تعد الا لفظا أجوفا لا خير يُرتجى منه ..
لم يقل شيئا اكتفى بضمها الى صدره وطبع على شفتيها قبلة حارة....



محمد محضار 1986