من مذكرات معوّق !!


بينما أنا جالس في حوش منزلي على كرسيّ المتحرّك ، أتأمّل بعض الأزهار المتفتّحة في هذا الجوّ الربيعي الجميل ، واذ بصديقي الرجل الكهل أبي فادي يستأذن عليّ محييا : ــ مرحبا ايهاب.. كيف حالك اليوم ؟ ــ أهلا أبا فادي تفضّل .. أرى معك ضيفة ؟ ــ آه نعم ، هذه الآنسة داليه صحفية من جريدة الجوردن تايمز . نظرت اليها ، فرأيت فتاة غاية في الرقة والجمال ، ترتدي قميصا وبنطالا ، وتضع على عينيها نظارة شمسية سوداء ، تقدّمت مني وصافحتني قائلة : ــ سمعت عنك الكثير من أبي فادي، وعرفت أنك انسان عصامي بنيت نفسك بنفسك ، رغم الإعاقة ، وتعلّمت القراءة والكتابة وحدك دون الذهاب الى المدارس ، وقد قرأتُ قصّتك الرائعة
( أطفال تحت التعذيب ) وتأثّرتُ بها كثيرا ..
فقلتُ لها بترحاب : هذا لطف منك تفضلي بالجلوس رجاءاً. جلست قبالتي على كرسيّ بلاستيكي أبيض ، وكذلك فعل أبا فادي ، قالت لي بإكبار ومودّة :
ــ لقد جئتُ اليوم لأُجري معك حديثاً صحفياً عنك وعن حياتك وما مرّ بك من مواقف تعرّضت لها ومسّتك في نفسك وإنسانيتك ؟ .. وكيف بعد ذلك استطعت أن تتعلّم القراءة والكتابة وحدك حتى أصبحت كاتباً وأديباً متميّزاً ؟!؟ .. أرجو أن توضّح لي ذلك ، وهذا الحديث أخ أيهاب سينشر مترجماً الى اللغة الانجليزية .
صمتُّ قليلا ، وعادت بي الذاكرة الى الوراااااء ... الى يوم مولدي ، حيث كان االشقاء ينتظر قدومي ، ليقبض عليّ ويأخذني أسيراً تحت نيره ، ويضمّني ربيباً في أحضانه الشوكيّة المؤلمة ، فقلتُ مُبيّناً : ــ بدأت مُعاناتي في اللحظة التي خرجتُ فيها باكياً من رحم أًُمّي ، وهبّت عليّ رياح الدنيا بغبار الحُزن والضنك الخانق ، فتنفّستُ عبق الحياة غُصصاً ، وسرى في عروقي ألماً .. حدث هذا الشيئ في أوّل هنيهات عمري ، حينما تمّت ولادتي في ذلك المستشفى الفخم ذي السمعة العالية ، حيث وضعتُ من فوري في حضّانة خداج أُكسُجينها ناقص ؟!... فكانت الطامّة الكبرى التي حوّلتني الى كائن بشريّ معوّق .. نصفُ إنسان في عُرف المجتمع ، له أن يأكل ويشرب الى أن يُوافيه الأجل ، وتأتيه المنيّة ، وليس له الحق في أي شيئ آخر !! .
انتفضت الفتاة الجالسة أمامي تأثّراً وقالت بذهول : ــ غريب ما أسمع .. عجيب ما تقول !! .. فكلُّ إنسان له الحق الكامل في أن يعيش بكرامة ، يأكل ويشرب ويسكن ويتعلّم ويتزوّج ويبني مستقبله ويحقق أحلامه وطموحاته ، ويعبّر عن رأيه بحرّية وهو آمن على نفسه وحياته .
فأجبتها : كلُّ ما ذكرتيه يا أُخت داليه لا يعدو أن يكون في دولنا ومجتمعاتنا العربية حبراً على ورق ، لاسيما لنا نحن معشر المعوّقين .. فالمعوّق مُحرّم عليه في عُرف مجتمعاتنا المُتخلّفة أن يعيش ويظهر في الحياة ، ويحصل على كافّة حقوقه المدنية كأي إنسان سويّ ، إن أوّل ما يُواجهه المعوّق في حياته هو مُحاولة قتله انسانيّاً واغتياله معنويّاً من أقرب الناس اليه ، عائلته وأهله ، عندما يقوموا جاهدين بإخفائه عن الأنظار والعيون ، وكأنه فضيحة يجب التستّر عليها أمام الناس ، وعار يجب التخلّص منه أو سُبّة يجب طمسها وإزالتها من بينهم .. لقد مررتُ بهذا الموقف مرور الكرام ، ومع ذلك فقد ترك في نفسي وبداخلي أثراً لا يُمحى ...
صمتُّ قليلا لأفكّر .. وأردفتُ قائلا :
ــ ثم إن لي إعتراضاً كبيراً على هذه التسمية التي تصموننا بها من دون الناس ، ألا وهي ( ذوي إحتياجات خاصة ) ، إنها لا تخصّنا وحدنا ، بل هي تشمل جميع الناس بلا استثناء !! ... داليه تبتسم وتسأل متعجّبة : وكيف ذلك ؟ .
قلتُ مُجيباً وأنا أرنو اليها مُستأنسا :
ــ إن هذه التسمية وهذه الصفة بالفعل تشمل جميع الناس ، فكلّ الناس هم من ذوي الاحتياجات الخاصة ، من أعظمهم مقاماً الى أدناهم شأناً ، ولك يا آنستي بعض هذه الأمثلة ، كالملوك والرؤساء والأمراء ، فهؤلاء يتعذّر عليهم الخروج الى الشارع والظهور بين الناس دون ترتيبات أمنية مُسبقة ومُحيط واسع من الحرس الخاص مع الكثير من المُرافقين ، وهذه كلّها إحتياجات خاصة أنا وأنت لا نحتاجها ، كذلك المرأة فهي من ذوي الاحتياجات الخاصة ، سواء أكانت محجّبة أم مُتبرّجة .. فبداية هي تحتاج الى لباس طويل يغطّيها من قمّة رأسها الى أخمص قدميها ، ثم هي تحتاج الى أدوات التجميل والزينة والفوط الصحية ... كل ذلك إحتياجات خاصة نحن الرجال لا نحتاجها ! .. وبشكل عام الإنسان ذو إحتياجات خاصة لا تحتاجها باقي المخلوقات ، فمثلا الإنسان يحتاج الى النار لكي يتدفّأ بها ويطبخ عليها طعامه ، ويحتاج في بيته الى الأثاث والفراش والأواني والماء والكهرباء ، وفي مواصلاته الى السيّارات والحافلات والطائرات .. بينما الحيوانات وباقي المخلوقات لا تحتاج الى شيئاً من ذلكم .. وإذاً فالإنسان خلقه الله سبحانه مطبوعاً على أن يكون من ذوي الإحتياجات الخاصة .. أرأيت كيف أن هذه الصفة لا تخصّنا وحدنا من دون الناس نحن المُعوّقين ، وأنّكم تُشاطروننا إيّاها !! . قالت الصبيّة الصحفيّة وهي تضحك مسرورة :
ــ جميل ، حقاً جميل ..لم يخطر ببالي هذا قبل الآن ! ..ولكن قل لي أيها الكاتب المفكّر ما هي أصعب المواقف التي مرّت في حياتك بعد أن تعلّمت وأصبحت ذا موهبة أدبية واضحة خرجت بها الى الناس ؟ . أ
جبتُ بحزن وأسف فقلت :
ــ لقد طارت بي الأحلام الوردية وجعلتني أُحلّق عالياً في سماءالمجد والشهرة كأديب عربي مرموق ، بيد أنني عندما رحتُ أعرض قصصي على الموجّهة للأطفال والكبار معا والتي تُضاهي الأدب العالمي ، على المؤسسات الثقافية ودور النشر المختصّة ، قوبلت بالرفض والسلبية من قبل هؤلاء المسوؤلين في هذه المؤسسات رغم إعترافهم الصريح وإشادتهم العظيمة بأعمالي المقدّمة لهم ، وبأنها ذات سويّة عالية من حيث الموضوع والشكل الفني والمستوى الأدبي الرفيع ، ومع ذلك فهي لا تتماشى ولا تتوافق مع أهوائهم الفكرية والتجارية المطروحة في السوق ..
وذات مرّة ذهبتُ مع رفيق لي الى إحدى دور النشر لأعرض بعض أعمالي الأدبية .. فلما قابلني المسؤول نظر إليّ نظرة إشفاق وتحنّن ، ثم وضع في يدي خمسة دنانير وقال : ــ إستعن بها على قضاء حاجتك ، وادعُ لنا بالخير !! .
تصوّري كم ذُهلت وصُدمت لهذا الموقف الفظيع الذي لم يخطر لي ولا حتى في الخيال أن أتعرّض له !..
نظرت لي داليه بحيرة ، ولاح بخلدي سؤالها الصامت من خلال بريق عينيها الدعجاوين ، فاستطردتُ مُكملاً :
ــ خرجتُ من عنده وأنا ذاهل عن نفسي ، أُردّد بلا وعي : أنا لستُ شحّاذاً .. لستُ شحّاذاً ... ثم نظرتُ الى يدي وإذ بالخمسة دنانير لا تزال موجودة فيها ، فأعطيتها له الى مُرافقي الفتى الفقير ، وأنا أقول : هي لك تصرّف بها كما تشاء ، فطار المسكين فرحاً ! .
هتفت داليه : بعض الناس يتصرّفون بلا تفكير وهم يظنّون أنهم يحسنون صنعا ويفعلون خيراً .
قلتُ مُعلّقاً : ذلك مردّه الى الاعلام السلبي الذي يصرّ دائما بوسائله المختلفة وخصوصاً التلفزيون على إظهارنا بمظهر الدونية والانكسار والمهانة ، حيث يُطلّ علينا صوت المذيعة المُتباكي ليقول : ساعدونا وتبرّعوا لنا ، لنساعد هذه الفئة العزيزة والمحرومة من أبنائنا وفلذات أكبادنا ، الذين أصابنا القدر بهم .. إحم عفواً ، أقصد أصابهم القدر بدائه المرير المؤلم ! ..
ويظهر على الشاشة معوّق أو أكثر وهم في حالة مزرية يًرثى لها .. وهكذا فهم يًكرّسون في الأذهان صورة المعوّق البائس الذي لا يصلح لشئ سوى للشحاذة ، وأن يتصدّق عليها الناس ، لكي يكسبوا الحسنات ، ومن ثم يدخلون الجنة بالخاوة ، على ظهره وحسابه !! . وصل صوت داليه الى مسمعي وهي تقول باندهاش وارتباك : ــ هل سبق وتقدّمت الى وظيفة ؟ . ضحكتً .. وما بي من سرور .. وليس كل الضحك سببه السرور ، وإنما هو الهمُّ يُضحك ويُبكي معا ، قلتُ بأسف :
ــ إعلمي يا آنستي بأنني لم أدع باباً يُطرق في هذا السبيل إلا وطرقته ، بل إقتحمته ، ولكن دون جدوى ، فمن قائل : أنت لا تملك شهادة تتوظّف بها ، الى قائل : أنت وأمثالك من المعوّقين لا تصلحون للعمل وتعجزون عنه ، الى قائل : إن منظرك أمام الناس وأنت جالس على الكرسي المتحرّك غير حسن ويُسبب لنا المشاكل ! . لم أعرف قبل التقدّم الى الوظيفة بأننا عاجزون في عُرفكم ، وبأن منظرنا يخدش الحياء العامّ ؟!! . ( وسلّم لي على الحياء العامّ )
طأطأت الفتاة رأسها بحزن وأسف ، وغمغت قائلة : ــ لم أكن أعلم قبل الآن بأن الصورة مُظلمة وقاتمة الى هذا الحدّ !؟ . قلتُ لها وأنا ألج عميييييقاً في الجرح :
ــ وحتى تكتمل الصورة لديك سأزيدك من الشعر بيتاً يكون فيه خاتمة لقاءنا الصحفيّ هذا .. حدث أن أحببتُ فتاة من فئتي ، معوّقة ، في ساقها جهاز يُساعدها على المشي ، هي كذلك أحبتني ، وقد اتّفقنا على الزواج ، وراودتنا الأحلام الوردية السعيدة ، وبنينا لنا بيتاً مثاليّاً رائعاً يكتنفه الدفئ والحب ، يُظلله التفاهم والتعاون ، وتكلؤه عنايةالله ورحمته .. تساءلت داليه بفضول صحفي مُتحفّز : ثم ماذا حدث ؟ . ما حدث كان إهانة لكلّ قيم التحضّر والتمدّن الإنساني .. لم أتصوّر للحظة بأن يصل الإنحطاط والسوقية بالناس في نظرتهم الوضيعة لنا الى هذا الدرك، فعندما ذهبتُ لأطلب يد فتاتي على شرع الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، استقبلني أهلها بفتوووور واضح ، مما جعلني أشعر بضياع الأمل ، وبأن هناك غصّة في سويداء قلبي وفؤادي ، أخذت تكبر وتمتدّ كالسرطان ، ولكني صممتُ على أن أحمل جرحي المنكوء وأمضي فيه حقباُ حتى النهاية ... وكانت النهاية عندما قال لي وليّ أمر الفتاة بصوت كأنه نباح كلب :
ــ أنتم المعوّقين > يعني أنا < لا أدري كيف تُفكّرون بالزواج ؟! .. ثم أنت ، أنت يا من أتيت لتخطب إبنتنا ، هل أنت قادر على الزواج ومُتطلّباته ؟ .. قلتُ بقوّة كمن يدفع عن نفسه نصلاً مسموماً : ــ لو لم أكن قادراً على الزواج وأعبائه لما جئتك اليوم خاطباً !! . فعاد بذات الصوت النابح يقول : ــ أنا لا أعني الجانب الماديّ ، أنا أعنيك أنت ، أنت نفسك ، إني لأظنك غير قادر على أن تكون رجلاً مع المرأة ، أقصد كيف " ستنام معها " وأنت بهذا الوضع؟!؟! .. ثم كيف ستساعدها وتُساعدك ؟ ... لا .. لا أنت غير صالح خصوصاً من هذه الناحية ، لذا ليس لك عندنا نصيب ، ربنا يحنّن عليك ويسهّل لك ! . خرجتُ من عنده وأنا مُتمالك لنفسي الجريحة المطعونة ... لم أبك ... لم أنهار ... ولم تدُر بي الأرض ... لكني ضحكتُ ... ضحكتُ ... وضحكتُ ... حتى غطّت دموع ضحكي الآفااااااق.

بقلم : (صاحب هذه المواقف والمذكّرات): إيهاب هديب
من مجموعتي القصصية ( إعدام معوّق )