حول العالم على كرسي متحرك "11"
مرة أخرى تمت دعوة الأستاذ (القباني) ورفاقه ، من قبل السيد محمد الدوكالي،والذي دعاهم إلى مطعم في قصر.. ( قصر القباج من زنقة القناصل هذه فقد كان مقرا لحاكم الرباط الأسبق في ظل الاستعمار،وهو أحد أفراد العائلة التي ينتمي إليها السيد عبد الكريم القباج،وبعد وفاة الحاكم،رأى ورثته أنهم عاجزون عن إدارة القصر الكبير بما فيه من خدم وأتباع،فقرروا مسايرة العصر،وتحويل القصر إلى مطعم سياحي فاخر – يعمل فيه الأتباع والخدم – وليس من شك في أن القصر من المعالم السياحية الهامة في الرباط، وقد أحسن السيد الدوكالي بدعوتنا لتناول الطعام فيه،فهو أنموذج رائع للقصر المغربي المترف الفاخر .. فأنت حين تدخل من بابه الكبير تنحرف يمينا أو يسارا في دهليز طويل يؤدي إلى ساحة واسعة جدا مرصوفة بالمرمر الفاخر،وفي وسطها نافورة هي قطعة فنية من الهندسة المغرية،وحول الساحة الكبيرة،التي لا سقف لها،يدور دهليز مسقوف فوق أعمدة من الفسيفساء ذات النقوش العربية الرائعة الألوان،وهذا الدهليز الدائري مفتوح على الساحة من جانب .. والجانب الآخر به أبواب،أو فتحات واسعة تؤدي إلى قاعات مغربية فاخرة الأثاث والرياش،مزخرفة الجدران بالفسيفساء الملونة،تدور في جوانبها الثلاثة الأرائك الحريرية المحشوة بريش النعام،والمزودة بالوسائد اللينة،وعلى أرضية القاعة السجاجيد المغربية ذات الألوان الجميلة والزخارف المريحة للعين،وفي سوط كل قاعة منضدة منخفضة – على مستوى الأرائك المغربية الخفيضة – توضع عليها صينية فاخرة من النحاس المنقوش يتوقف اتساعها على عدد الطاعمين (..) ثم تحلقنا حول الصينية الكبيرة بعد أن غسلنا أيدينا بماء معطر وجيء بأرغفة الخبز الوطني والإفرنجي – في سلال مغربية ملونة،على كل سلة غطاء مخروطي الشكل،وبدأت أصناف الطعام تتوالى،نفس الأصناف التي تقدم في البيوت المغربية للضيوف (..) ومرة أخرى هززت رأسي أسفا حين رأيت تل الكسكسي يأتي في نهاية الأصناف،أي بعد أن تكون المعدة قد امتلأت أو كادت .. وكانت السيدة حرم القباج بارعة في تناول الكسكسي باليد،فهي تأخذ كمية صغيرة في كف يدها،ثم تحرك اليد حركات اهتزازية دائرية بطريقة معينة وإذا كمية الكسكسي تغدوا في هيئة كرة .. متماسكة .. تقذف في الفم،وعبثا حاولنا أن نجاريها في هذا الفن (..) كانت المدينتان{ سلا والرباط} تبدوان في رونق بديع وهما تربضان على جانبي نهر الرقراق،وقنطرة مولاي الحسن بما عليها من حركة المرور تبدو وكأنها قطعة من خيال أو حلم،وكانت مياه المحيط الممتدة إلى ما لا نهاية أو بحر الظلمات كما كان العرب الأندلسيون يسمونه تلوح في جانب .. والجبال العالية الممتدة إلى ما لا نهاية أيضا تبدو في جانب آخر .. ومياه النهر تتألق في بهاء وقد تراقص عليها عرائس المغيب من الشمس الغاربة ... وكان ثمة رجال ونساء وصبيان من المغاربة والأجانب قد سبقونا إلى ذلك المكان،ووقف الجميع مبهورين بما يطالعهم من ألوان الجمال،البيوت البيضاء الأنيقة،والمدنية القديمة وراء أسوارها،والشوارع الواسعة بما فيها من سيارات تجري ومارة يمشون،وقد لاحوا جميعا من بعيد كأنهم لعب أطفال تتحرك ببطء،ولا تكف عن التحرك أبدا ){ص 199 -211 }.لو ذهبنا نستعرض صنوف التكريم،والجولات،التي نعم بها الأستاذ (القباني) ورفاقه،لطالت بنا السياحة أكثر مما ينبغي،فقد طوفوا بهم في الغابات،والمصايف والمعالم السياحية،والمعارض الشعبية ... كما حضروا حفل زواج .. (كانت الساعة التاسعة مساء عندما حضر السيد عبد الكريم القباج والسيدة حرمه والصغيرة سلوى لاصطحابنا إلى حفلة الزفاف في بيت العريس وكنا والشهادة لله قد ارتدينا أجمل ما لدينا من ثياب لنبدو في أبهى رونق أمام إخواننا المغاربة في تلك الليلة،ولكن السيدة حرم القباج سامحها الله كسفت أضواءنا بما بدت عليه من رونق وبهاء،وكانت ترتدي ثوبا فضفاضا طويلا مشقوقا من الجانبين من الحرير الطبيعي السميك وكأنه طيلسان ملك،ومطرز بالخيوط الذهبية تطريزا يخلب اللب،وكان الحزام الذهبي العريض المزخرف الذي تعقد به الثوب من الوسط يساوي ثروة كاملة،هذا فضلا عن ثروة أخرى من الحلي الذهبية والماسية التي تزين العنق والمعصمين والأصابع،وقد علمنا بعد ذلك أن مكانة السيدة الاجتماعية،في مثل هذه المنسبات تحدد بما تتزين به من حلي وجواهر .. ومضت السيارة بنا داخل المدينة القديمة،واختلطت عليّ الشوارع والزنقات حتى وصلنا زنقة متفرعة من شارع السويقة المؤدي إلى بلاج الرباط،وسارت السيارة في الزنقة التي بدا في آخرها أقواس من الزينات المضيئة. وانسابت من جوانبها البعيدة زغاريد النساء (..) وكان الصحن يسبح في أضواء الزينات وقد تراصت المقاعد صفوفا بعد صفوف في ثلاثة جوانب،أما الجانب الرابع،أو الركن المواجه لباب الدخول،فقد خصص للفرقة الموسيقية الغنائية التي كانت عند دخولنا تغني موشحة أندلسية (..) وأحسست بالدماء في عروقي تتراقص نشوة وطربا وأنا أسبح بروحي مع النغم الموسيقي الرتيب والغناء الأندلسي الجماعي،حقا لم أستطع أن أفهم من كلمات الغناء إلا المقطع الأخير الذي كان يردد دائما بعد كل فقرة غنائية (الحبيب النبي .. محمد) (..) وقال لي شاب أنيق في ملابس عصرية أنيقة : - هل تعجبك هذه الموسيقى؟! - جدا .. جدا .. - ألا تشعر بالملل منها .. - أبدا ...فابتسم وقدم لي نفسه قائلا أنه أحد الدارسين في معهد الموسيقى الملكي بالرباط ثم قال في لهجة تنم عن"القرف التام" : - طالما نحن نطرب لهذه الموسيقى البدائية فلن نتقدم أبدا .. ولما نظرت إليه في دهشة ممزوجة بالاستنكار قال : - لن تتغير نغمة واحدة ولن تسمع غير هذه الجملة الوحيدة في اللحن مهما طال بك المقام هنا،وسوف تشعر بعد ساعة أو ساعتين بغثيان نفسي لا ينقذك منه إلا الهرب (..) ولاحظت بعد ساعة أو بعض ساعة من العزف والغناء المتصلين،فيما عدا لحظات قليلة من الاستراحة، أن المدعوين بدأوا يتبادلون الأحاديث همسا تخفيفا للملل الذي أخذ يشع في نفوسهم،ورأيت في مقصورة مواجهة بعض الفتيات الأجنبيات،وبعض شبان الهيبز عليهم اللعنة – وراءنا حتى في داخل البيوت المغربية .. وعلمت من السيد عبد الكريم القباج أن هؤلاء الأجانب شبانا وفتيات،يتناولون عشاء مكونا من الكسكسي المغربي"والشيش كباب" ولما عرض علينا أن نمضي إلى إحدى المقصورات للعشاء اعتذرنا له بأن ما تناولناه من حلوى كعب الغزال لم يترك في بطوننا مجالا للمزيد من كسكسي أو من كباب .. (..) وكان أعضاء الفرقة الموسيقية الغنائية منهمكين في الغناء والعزف يهزون رؤوسهم طربا ويختلسون النظرات الجانبية إلى المدعوين القريبين منهم ليروا أثر النغم والغناء عليهم،وقد لفت نظري،وربما نظر الكثيرين،واحد منهم .. أكثرهم حركة ونشاطا وحماسا وهزا للرأس،لعله كان أكبرهم سنا،إلا أن بياض وجهه المستدير المشرب بالحمرة،والنظارات ذات الإطار الذهبي،والرأس اللامعة التي تعكس الأضواء بشدة،كان هذا كله يدل على أنه في شبابه كان على جانب كبير من الوسامة،و (؟؟) وفجأة تكهرب الجو : لقد خرجت من المقصورة المواجهة البنات الأجنبيات الثلاث والشبان الهيبز الملاعين،وكانت إحدى البنات شبه عارية ببلوزتها الحريرية المفتوحة من الوسط،والمعلقة بالحمالات فقط،ولم يكن تحت البلوزة شيء،يبدو أنها كانت فستان ميكرو جيب يكشف من الجسم (؟؟؟) أكثر مما يغطي. وكانت الثانية ترتدي بذلة بلا أكمام،مفتوحة الصدر أيضا،ولكنها تغطي الجزء الأسفل كله،والثالثة كانت تتيه بالجبة المغربية المطرزة التي تخفي كل شيء إلا الرقبة والرأس ذا الشعر الذهبي الغزير المنسدل على الكتفين ... جلست البنات الثلاث على بعد صفين من الفرقة الموسيقية وتركزت النظرات كلها على البنات الجميلات ولاسيما تلك العارية أو تكاد ورفت الابتسامة الحلوة على وجوه أعضاء الفرقة الموسيقية الغنائية المواجهين للبنات أما الأعضاء الآخرين وكان بينهما صاحبنا الروميو العجوز الوسيم،فكانت ظهورهم إليهن،ونسيت أن أذكر أن الروميو العجوز كان أحد العازفين على العود،وشاء حظه العاثر أن تجلس البنات وراء ظهره تماما،وكان قد أدرك من وجوه الجالسين أمامه أن في ألأمر أمرا،فاستدار بجسمه البدين و لوى عنقه السمين الأحمر ولمح البنات ... ومن هنا بدأت عملية التواثب والتظاهر بالاستغراق في الموسيقى والغناء،وبدأ العازفون بظهورهم إلينا – إلى البنات – يتمايلون ويدورون بأجسامهم يمينا وشمالا – ويحركون أعناقهم في كل مكان في حركة تشبه مع المبالغة حركات الذاكرين في حلقات الذكر،أو المتواثبات في حلقات الزار ..كل هذا لكي تتاح لهم نظرات مختلسة إلى البنت العارية بالكاد .. {مثل هذا الوصف،يشي بأن "الهوس" بالمرأة ليس ظاهرة "محلية"!! كما أنه يجعلنا نفهم !!! نفهم "الغيرة"التي تنتاب بعض "ربعنا"حين يرون في الخارج،لابسات "الميني جيب" و"الميكرو جيب" و"الميكرو ميكرو جيب" إضافة إلى "البكينيات"وليست النسبة للصين قطعا ... حين يرون ذلك .. ثم يعودون إلى الوطن،فلا يرون إلى عباءة سوداء ... عباءة سوداء ... عباءة سوداء .. فتثور"غيرتهم"ليروا هنا ما رأوه هناك!!! ويبدو أن الأمر لا يتعلق بالرجال فقط .. فحتى "الضفدع" له "نفس" كما يقولون!!! :اسد مجمع الحيوانات في الغابة
ويقول لهم نبي نغير شوي في الغابة ونطورها
قاله الضفدع : نجيب بنات
سكت الأسد و قال بنحط سور للغابة
قاله الضفدع زين وعقب السور بتجيب بناات...عصب الأسد وقال المهم بنحفر ابآر في الغابة
قال الضفدع :طيب, والبنآت؟
قال الأسد في واحد اخضر وعيونه كبار إذا ماسكت ب(نذبحه) اليـــوم
قال الضفدع: عقب ما نذبح التمساح بنجيب بنات ولا لا} أما الشاب عازف البيانو فقد ترك يديه تعزفان،واستدار بجذعه كاملا في مواجهة البنات وبين الحين والآخر كان يومئ برأسه يرد على تحية إعجاب منهن .. ونظرت بجواري فرأيت ولدنا إبراهيم يغالب النوم،ولم أجد أثرا لمحسن الفهلاو ولقد غافلنا الماكر وتسلل مع شابين عقد معهما صداقة سريعة،إلى البيت الآخر المواجه وكان البيتان يكونان نهاية الزنقة – حيث كانت النساء يحتفلن بالعروس وقد أخبرني محسن هو وحنان بعد ذلك أن الحالة عند النساء كانت تشبه تماما الحالة عند الرجال .. نفس الصفوف النسائية .. ونفس الفرقة العازفة المغنية من النساء السوداوات – ونفس النظرات المختلسة من السيدات ومن العازفات إلى الشبان الثلاثة .. محسن وصاحبيه .. وزال الطرب بعد زوال النشوة الأولى،وتمنيت لو يكف هؤلاء العازفون فترة طويلة حتى يمكن أن تتهيأ نفوسنا مرة أخرى للإنصات في نشوة وطرب (..) وأفاق إبراهيم واندفع مع المندفعين ليرى العروس وهي تهبط من السيارة لتدخل بيت العريس،وقد قالت حنان التي صحبت أهل العريس في ذهابهم لإحضار العروس – أن موكب الذاهبين كان يتكون من تسع سيارات خاصة حملت أكثر من أربعين سيدة وفتاة من أهل العريس وأحبابهن .. وكان العريس في السيارة الأولى بين والدته وأخواته،ولما وصل الجميع إلى بيت العروس،أهدى هؤلاء للعريس جلبابا ولثاما وحذاء من الطراز والصناعة المغربية،وحمل أهل العروس وبعض أهلها وأحبابها وطاف الموكب الطويل في أنحاء المدينة الهاجعة حتى وصل الجميع إلى بيت العريس .. وعاد ولدنا إبراهيم يقول : - يعني - يعني ماذا؟ - العريس أجملأنت بطبيعتك عدو النساء (..) وأعربت للسيد عبد الكريم عن رغبتي في الانصراف،فاستدعى السيدة حرمه وابنته وحنان ومحسن ومضى بي إبراهيم إلى السيارة .. وقالت السيدة حرم القباج ونحن في طريق العودة إلى الفندق : - إن والدة العروس سوف تحمل إليها،في بيت الزوجية،هدية من الفطائر والحلوى واللبن في الصباح - مثل الصباحية عندنا في مصر! - وفي الساعة الواحدة بعد ظهر الغد أيضا تذهب صديقات العروس وقريباتها للغداء معها،ما رأيك يا حنان؟ هل تتناولين الغداء مع العروس غدا ؟! ولكن حنان اعتذرت عن قبول الدعوة .. وهبطنا أمام الفندق نكرر الشكر للزوجين الكريمين اللذين أتاحا لنا ليلة أندلسية ما كنا لنعيش مثلها في الأحلام. (..) وأمضينا صباح الجمعة في الاستعداد للسفر (..) وقبل أن أفرغ من الكلمة التي أمليتها على مندوب وكالة الأنباء،أقول أني ما كنت لأصدق أنها نشرت أو أذيعت إلا بعد أن أرسل إليّ صديق مغربي بقصاصات من بعض الصحف العربية والأجنبية التي نشرتها (..) وتم كل شيء في الصباح بسلام،في لحظات كنا نودع موظفي الفندق وعمال المطعم ومضيفيه،وعمال الكافتريا،ولم يكن أحد من النزلاء قد هبط في تلك الساعة المبكرة – السابعة والنصف – وفي لحظات كنا مع السيد عبد الكريم القباج،هذا الأخ المغربي الودود والسيدة حرمه،في بهو المحطة،وفي لحظات كانت عملية شحن الحقائب الثلاث قد تمت،وكنت أنا خلال هذه العملية جالسا على مقعدي المتحرك بجوار الباب العام،أنظر إلى المدينة الجميلة التي كانت تستيقظ في تلك الساعة كالعروس المترفة،كنت أنظر إليها وقلبي ينبض بعرفان الجميل،وبالحب،وبالشوق الذي جعلني أتمنى أن أعود إليها يوما لو طال بي الأجل .. لا .. لابد أن أعود إليك يوما يا مدينتي الجميلة .. يا مدينتي النظيفة البيضاء .. يا مدينة الكرم والجود والحب .. يا من جمعت بين أحضانك أعظم أمجاد التاريخ وأعظم ما يبشر به المستقبل القريب .. سأعود إليك يوما يا رباط الفتح إذا مد الله لي في العمر .. سأعود ولو دافعا بيدي مقعدي المتحرك .. فقد جئت إليك وقلبي يخفق فزعا من المجهول الذي ينتظرني فإذا أنت تفتحين ذراعيك لأعيش أياما كالحلم الجميل .. لأعيش أياما في جنة من الأرض .. وبين إخوة ضربوا المثل الأعلى في الكرم والمودة والإخاء .. وجاء إبراهيم ليمضي بي إلى المصعد،بعد أن هبط الجميع إلى رصيف المحطة وألقيت نظرة أخيرة على المدينة وقد طفرت الدموع من عيني .. ){ص 222 - 276}. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي -المدينة المنورة