هذه واحدة من سلسلة الطائف القرآنية , لها وقع متميّز عند أولئك الّذين منّ الله عليهم بصفاء القلب وسلامة الصّدر ونور الإيمان , حيث حشيت قلوبهم بالخشية من الله , ففاضت رهبة من هذا الموقف , الّذي نعيش معه لحظات تعمر أفئدتنا بحب الطاعات والاستزادة منها , والابتعاد عن المعاصي والنفور منها وجهاد النفس حتى لا تقرب حماها. وحتى لا يلاحقها ذلك الوصف ( المجرم ) مع الآية الثانية عشرة من سورة السّجدة نمضي في موكب النور القرآني لنقبس منه ما يضيء قلوبنا وصدورنا ويجلّي لنا سبل الخير في دنيانا . وينوّر لنا قبورنا ,عندما نصير إليها , ونغادر الزوجة والولد , والأصحاب والأحباب , ونترك وراءنا الدنيا بأسرها بكل ما فيها ومن فيها . يقول الحق تبارك وتعالى:(ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربّهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنّا موقنون) يخاطب الباري جلّ شأنه كل واحد من عباده بهذا الخطاب الّذي يفيض بالعناية والرعاية والحماية , الموقف حيّ شاخص كأنّك تراه رأي العين وأنت هنا في دنيا البشر, بل وأنت جالس في المسجد تتلو كاتب الله ووقفت عند هذه الآية تتأمّل ترحل بقلبك عن دنيا الناس وتتصور حال المجرمين وهم يقفون في أعتاب ربّهم مطرقي الرؤوس خزياً وندماً يعتري كل ذرّة من كيانهم.يا للخجل من الدّيّان سبحانه وتعالى , بل يا للهول من شدّة الموقف التي يعجز بني البشر عن تصوّره يقول أبو السعود في تفسيره عند هذه الآية : جواب لو محذوف , تقديره ولو ترى فظاعة وهول الموقف , وبينما هم على هذه الحال من الخزي والذّلّ والانكسار , يقولون: " ربنا آمنّا حقّاً أنك أنت الرّب الّذي لا يعبد سواه , وصدّقنا بما جاءت به الرسل عرفنا الحقيقة التي كنّا ننكر من قبل . لو ردتتنا إلى الدنيا من جديد , نؤمن بك ونعبدك وحدك , ونعمل عملاً صالحاً , فيأتيهم الرّد من الرحمن جلّ جلاله, ( ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حقّ القول مني لأملأنّ جنهم من الجنّة والناس أجمعين. فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنّا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون .) لو شئنا لهدينا الخلق أجمعين فيكونوا مؤمنين , ولكن حكمتنا تأبى ذلك وقد صدر قرارنا أن نملأ جهنم من الجنّ والإنس أولئك الّذين كفروا بالله وجحدوا ربوبيته وتنكّروا لنعمه. ثمّ يقال لهم تقريعاً وتأنيباً ذوقوا أشدّ العذاب جزاء نسيانكم بل إنكاركم , هذا اليوم الذي حذّركم منه الرسل صلوات الله عليهم أجمعين . وأنتم اليوم تنسون , هكذا نسيتم فنسيتم , فقاسوا من العذاب الدائم الّذي لا تتصوّر له نهاية جزاء على كفركم وجحودكم وأعمالكم القبيحة الّتي لم تجلب إلاّ الأذى والفساد والإفساد في الأرض.
أخي المؤمن : عندما تمضي بمشاعرك وأحاسيسك وأفكارك مع هذه التأمّلات, عليك أن تعلم أن فاطرك ومولاك يخاطبك بهذا ويشخّص لك الموقف , لأنّه يحبك فيأبى عليك أن تكون من أهله في ذلك اليوم الّذي لا يوم بعده .
وأخيراً : إتماماً للفائدة إليك ما يلي :
من هو المجرمالّذي عنته الآية الكريمة ؟ المجرم : مشتق من الجذر الثلاثي للكلمة( جرم)والجرم هو الفعل القبيح الّذي يصدر عن الإنسان فيترك آثاراً ضارّة على الناس والمجتمع وعلى المجرم نفسه. فأعظم جرم عرفته البشرية هو الكفر بالله, الشرك, والنفاق, والإلحاد , فهذا الجرم أبى الله أن يغفر لأهله,(إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالاً بعيداً.)
( إنً المنافقين في الدّرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً.) و( والّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون. ) ولا يخفى على العاقل اللبيب أن الملحد واحد من هؤلاء لأنه يستوي معهم في إنكار الذّات الإلهية بل ينكر وجود الآخرة الحساب الجنة والنار.
يقين جاء بعد فوات الأوان : المجرمون عندما يصيرون إلى هذا الموقف المخزي المشحون بالندم والخجل والذّل والصّغار , ويعرفون الحقيقة عن قرب يقولون: نعم إنّه اليقين القاطع , ولكن قرارهم هذا جاء في دار الجزاء وينبغي أن يكون في دار العمل.
امتدادات كلمة المجرم : هذه الكلمة لها امتدادات أخرى غير ما ذكر , منها إطلاقها على كل من اقترف فعلاً قبيحاً , فالزّاني مجرم ومثله القاذف , والسّارق والقاتل, ومغتصب حق الآخرين , وعاق أبويه , والمسيء لجاره , وآكل الرّبا والرشوة, والكذّاب والمغتاب والنمّام , لكن هنا الأمر يختلف عمّا سبق . ففي جرائم الحدود إذا أقيم الحد على الزّاني والسّارق والقاذف والقاتل عمداً المرجو أن يتوب الله عليهم لأنّ الحد يسقط المؤاخذة في الآخرة. ومن ثمّ فتح باب التوبة أمام المؤمن عون له على التخلّص من العقاب في الآخرة لكن عليه أن يصلح ما ترتّب على جريمته من آثار سلبية وردّ ما شغلت به ذمته جرّاء جريمته من حقوق الآخرين.