المؤتلَف والمختلف بين ثورة اليابان وثورات العرب

قد يدفع العنوان استثارة الاستغراب لدى القُرّاء، فتقفز في ذهن من يطالعه تساؤلات تحمل وجاهتها في جانب أو جوانب متعددة، يحتاج الجهد لإزالتها حتى تحدث المقاربة المنشودة من المقالة.

من الدوافع التي تعطي لتلك المقارنة أهميتها: هي أن الثورة اليابانية أو ما أُطلق عليها اسم (إعادة المايجي) والمايجي هو الجد الخامس لإمبراطور اليابان الحالي، لم تكن تشبه الثورات الكُبرى التي حدثت خلال القرون الثلاثة الماضية، حيث أن تلك الثورات قد قامت بحروبٍ قادها الثوَّار للإطاحة بالأنظمة التي قامت الثورات ضدها، فالثورة الأمريكية أو الفرنسية أو البلشفية أو الصينية، تم إزاحة الأنظمة بقوة السلاح غالباً، وتمسح كل آثار للنظام القديم.

في حين أن ثورة اليابان كانت مجموعة من الانتفاضات الشعبية استمرت حوالي ثلاثين سنة، وكان القائمون عليها من مناطق مختلفة ونوعيات مختلفة ودوافع مختلفة، ولم تبعد الإمبراطور بل أعادته طوعاً، ولكن بصلاحيات محدودة رسمها له الثوَّار واتفقوا على ضرورة وجوده كموّحدٍ رمزي لمختلف الفصائل. ولم يكن هناك حزبٌ يقود تلك الانتفاضات كما كانت الحالة عليه في الثورتين الروسية والصينية، ولم يكن هناك جيوش تفاهمت مع الثوّار للتخلص من المُحتّل كما في الحالة الأمريكية.

من جانب آخر، وبالرغم أن ثورة اليابان قد أُعلن عن انتهائها في عام 1868، إلا أن كتابات اليابانيين ولغاية الآن تصف تلك الثورة بأنها (ثورة غير مكتملة). في حين أن الثورات الأخرى والتي أُعلن عن انتهائها قد انتهت الى انحراف كبير عن أهدافها الأساسية مما استدعى تغييرات واسعة لم تمت لها بصلة (الثورة الفرنسية، والتي تم الارتداد عليها بعد نفي نابليون)، والثورة الأمريكية، التي أعلن عنها في 1776، وتبعها محاولات للانفصال وقيام الحرب الأهلية 1860 والتي قُتل في نهايتها (إبراهام لنكولن)، والثورة البلشفية وما آلت إليه في انهيار الاتحاد السوفييتي، وقد تكون الثورة الصينية استثناءاً غير واضحاً، حيث تغير شكل أداء الدولة مما كان عليه مع (ماو سي تونغ).

المُختلف بين الثورة اليابانية مع الثورات العربية

كان اليابانيون يفخرون قبل ثورتهم (1868) بأن بلادهم لم تطأ أرضها أقدام غزاة أو محتلين مُنذ نشوء الإمبراطورية اليابانية منذ القرن الخامس قبل الميلاد. في حين حفلت المنطقة العربية منذ تلك الفترة ولغاية الآن بأشكال كثيرة من المُحتلين، من روم وفرس وأحباش و تتار وصليبيين وغيرهم.

يبدو للمراقب البعيد أن العرق الياباني عرق صافٍ، ليس فيه من الإثنيات كما في الحالة العربية (أو المنطقة العربية)، وطبعاً هذا كلامٌ مبالغٌ فيه فالأعراق بالهند والصين واليابان أعراقٌ كثيرة تصل أعدادها الى المئات. وعلماء الأجناس البشرية يرجعون المجموعات التي سكنت في اليابان الى الصين وسيبيريا وكوريا، وأوروبا (عرق آينو: المحصور لغاية الآن في شمال اليابان. ولكن ظهورها في المنطقة العربية لم يختفِ من المشهد السياسي، عبر التاريخ.

وقد يكون للاختلاف الجغرافي بين اليابان والأقطار العربية (سواء مجتمعة أو منفصلة) دورٌ وشأن سيؤثر في السلوك. فمساحة اليابان (378 ألف كم2) تشكل الجبال فيها 73% من المساحة الكلية، وجزرها تزيد عن ثلاثة آلاف جزيرة. في حين تشكل الصحراء في الأقطار العربية (منفصلة أو مجتمعة) نسبة تزيد عن تلك التي للجبال في اليابان.

إن موقع اليابان عالمياً يبدو وكأنه خارج نطاق التداول القديم، وحتى اسم البلاد (اليابان) تعني المكان التي تشرق منه الشمس. في حين تتوسط المنطقة العربية العالم في حركاته العسكرية والسياسية والاقتصادية، فكان أي حلم عسكري أو اقتصادي قديم، لا يستطيع تجاهل المنطقة العربية. وتفصل اليابان عن العالم منطقة بحرية لم يستطع أي حالم قديم اختراقها، وعندما حاول هولاكو اجتيازها رُدَّ على أعقابه، ولم يعد جيش يفكر بذلك قبل اختراع تكنولوجيا الطائرات والغواصات.

كان التفكير بالثورة اليابانية مزيجاً بين الشعور بالأنفة والرفعة واللحاق بالعالم المتقدم، من دون التنازل عن شيء يُذكر، وكان الاستشعار بالخطر آتٍ بعد احتلال الهند والسواحل الصينية (وحرب الأفيون بالصين) الخ. في حين التفكير بالثورات العربية، جاء بعد انتزاع الحكم من العرب زهاء ألف سنة أو يزيد، والشعور بانعدام الوزن عالمياً.

هذه أهم نقاط الاختلاف بين حاضنتي الثورة في اليابان وحاضناتها في البلدان العربية.

المؤتلف بين الثورة اليابانية مع الثورات العربية

لو أردنا التأشير على ما هو مؤتلف بين الثورة اليابانية (إعادة المايجي) وبين الثورات أو الانتفاضات العربية، لبرز إلينا أهمها وهو مراودة إعادة المايجي العربي، أي انشغال قسم من العقول العربية النخبوية أو الشعبية، بإبقاء الحالة على ما هي عليها مع تحسينات أو إصلاحات هامة، ويستطيع من يريد أن يمتحن وجود تلك الظاهرة أن يتصفح مواقع الإنترنت أو يقلب قنوات التلفزيون، ليرى ما هو أشبه بالذُعر من الكثير من أبناء الدول العربية، من إمكانية التغيير الجذري، وتتجلى تلك المظاهر في منطقة الخليج العربي والأردن وسوريا وغيرها من المناطق العربية.

يتوزّع أصحاب تلك الآراء الى مجموعات أصول تختلف حسب قراءاتها لمصالحها:

مجموعة المصالح الاقتصادية والسياسية المرتبطة بالأنظمة القائمة:

لقد تكونت تلك المجموعة بمحاذاة تكون الأنظمة، واحتلت مواقعها ومراتبها الاقتصادية والسياسية بتفاهمٍ مكشوف أو مُبطن مع الأنظمة القائمة، وتدرك إدراكاً كاملاً أن أي تغيير بنيوي للأنظمة سيؤثر بشكل مباشر على مصالحها ومواقعها. لذلك فإنها تعارض التغيير الذي يطال مصالحها، وتسفه من فكرة المطالبة به في بلدانها أو حتى في بلدانٍ عربية أخرى، وكانت ترغب أن تفشل الثورة في تونس وفي مصر، ولا تزال ترغب في فشلها في ليبيا، رغم استهزائها العلني بالنظام الليبي. وتسوق تلك المجموعة حججها بارتباط تلك التغييرات بأجندة خارجية، وكأنها تتمتع بطهرية وطنية كاملة!

مجموعة المعارضة الكلاسيكية بمختلف مشاربها:

لقد تكونت تلك المجموعة تاريخياً، مع تكون الدولة العربية الحديثة، وتكيف أداؤها مع إجراءات الأنظمة القائمة، فمنها من ترك البلاد وهاجر، وأخذ يصوغ خطاباً لا يمكن تنفيذه عن بُعد إلا بمعجزات منها العدوان الخارجي، أو المراهنة على تبني من بقي في الداخل على تنفيذه. أما من بقي في الداخل منها، فقد أعاد صياغة خطابه بما تسمح به قوانين البلاد، ففقد الكثير من رونقه الجاذب، هذا إذا كان له رونق في الأصل.

ويُدرك هؤلاء الباقون في الداخل، أو حتى من هم في الخارج، أن مطالباتهم للنظام بالحوار والإصلاح قد باءت بالفشل. كما يدرك هؤلاء أن المعادلات الدولية والتي تغيرت بعد انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بإدارة العالم، تؤيد بقاء مثل تلك الأنظمة لضمان مصالحها. فكانت مغازلتهم للولايات المتحدة والدول الغربية واضحة، وهذا كان ظاهراً مع المعارضة العراقية قبل غزو العراق، والمعارضة السورية والليبية وغيرها.

كما يُدرك هؤلاء بأن إمكانياتهم في الجذب الجماهيري ضعيفة أو حتى معدومة، ورأينا في الحالتين التونسية والمصرية، كيفية ضرب (تحويلة) على تلك القوى.

المجموعة الثالثة وهي المجموعة البشرية الواسعة (الخط الثالث)

وهذه المجموعة والتي يتسم نشاطها بالعفوية وقلة التنظير، والتي قدحت الشرارة في تونس، ابتكر أصحابها طريقتهم في التعبير بعيداً عن مراقبة الأجهزة الأمنية وملاحقتها، وهي ترتقي بأدائها أولاً بأول، حسب تطور الأحداث، ولا تزعم تلك المجموعة أن لديها وصفة كاملة، لكنها تراهن بأن حركتها ستكسر طابع الصمت والخوف، وهو بحد ذاته يعتبر إنجازاً ليس بقليل.

وبالمقابل، فإن هناك قسما ليس بالقليل من هؤلاء الناس يخشون التغيير لأن فهمهم للتغيير هو أنه طريقٌ مجهول قد يحرمهم من حالة الاستقرار النسبي الذي رضوا به.

في (أغادير) بالمغرب، بعد أن أعلن الملك أن نظامه بصدد وضع دستورٍ جديدٍ للبلاد، ينقل طبيعة النظام الى نظام برلماني دستوري، سأل أحد المدراء هناك، عاملاً لديه: ما رأيك بما أعلنه الملك؟ فكانت الإجابة: وهل ستزيد رواتبنا؟ لم يكن هذا العامل منشغلاً في مسألة تناقل السلطة، بل كان منشغلاً بحياته اليومية ولقمته!

يتبع