في بداية الانتفاضة الشعبية ضد معمر القذافي، سارع البعض الى قياس الحالة الليبية على ما سبقها في كل من تونس ومصر، وغاب عنهم خطأ القياس، خاصة وان التباين قائم في نقطة جوهرية ومركزية، تتمثل بالقول أن في مصر وتونس دولة ومؤسسات (وان كانت خاضعة لقرار الشخص او الحزب الواحد ولكنها موجودة) كما يوجد دستور وقوانين (ولو كان فيها جور في النص واكثر ظلما في التطبيق) لكن فيهما مؤسسات وقوانين تلزم، ولو شكليا بالعودة الى الشعب في انتخابات ولو مزورة اما في لبيبا فالامر مختلف حيث ان الشخص يدعي ملكية البلاد ملكية شخصية ابدية له ولابنائه، ملكية ليست بحاجة الى من يؤكدها او يؤيدها او يوافق عليها سواء كان الشعب كله ام اكثريته او نخبه. فليبيا على حد قوله «هو من صنعها» وهو يملكها بحجرها وبشرها بموجوداتها فوق الارض، او في باطنها يتصرف بها تصرفاً لا يرد ولا يعترض عليه، ومن يقل العكس يكن احمق لا يستحق الحياة. هذا هو معمر القذافي كما يتصور نفسه المالك المطلق لكل ليبيا وبهذا الشعور والتصور يتصرف بذهنية من له الحق بقتل كل من يقول له «لا» وله ان يقاتل دفاعا عن ملكه، وان يقتل من يريد ان يغتصب هذا الملك.. وفي المقابل نجد شعبا ناء بثقل عبوديته، واستغفاله، وقرر ان يثور ليكسر القيود، وحاول ان يمارس الرفض السلمي ظناً منه ان ما نجح في تونس يصلح في ليبيا، وهي جارتها وهنا كان الخطأ في فهم القذافي رغم انه حكم به لنيف واربعة عقود. لقد انطلقت كل جهة مما تصورت، الاولى اي الشعب من حقه بالسيادة، وانه مصدر السلطات وان له ان يستعيد السلطة بابداء رفضه الحاكم سلميا، والثاني اي الحاكم من تصور انه الملك الذي له الحق بان يحمي ملكيته بشتى الاساليب، بما في ذلك اللجوء الى القتل والنار مرورا بالتنكر لمبادئ واخلاق العروبة والاسلام والانسانية.
ومع الاسبوع الاول للمواجهة، رسم المشهد الحقيقي للموقف بصورة صراع الغاء بين فريقيين: متسلط يريد الاستمرار في استعباد شعبه وشعب يريد التحرر واستعادة ثروته. واذا كان رؤساء الانظمة السياسية المنهارة في كل من مصر وتونس قد ضمنوا لانفسهم خط النجاة والخروج الآمن من المشهد فان القذافي قيد نفسه منذ اللحظة الاولى بكم من المواقف اتخذها هو وعائلته خاصة ابنه سيف الاسلام، مواقف حالت دون البحث عن حل سلمي، ثم جاء قرار مجلس الامن ذو الرقم 1970 ليعقد الحل بدل ان يدفع اليه عبر منع القذافي من السفر الى الخارج، واحالته مع معاونيه الى المحكمة الجنائية الدولية وحظر السلاح على ليبيا، قرار فسر بانه عقوبات وملاحقة ضد القذافي – وهو في الظاهر كذلك – الا انه جاء بمفاعيل تسببت بامرين سلبيين اثنين الاول:
ـ حمل القذافي على التمسك بالسلطة والملك والقتال من اجل ذلك وحتى النفس الاخير لان البديل سيكون عقابا ومهانة يعقبهما القتل، ولهذا كان صريحا عندما قال «اقاتل حتى آخر رجل وامرأة وطفل» يقاتل ليحمي نفسه طبعا،
ـ اما الثاني وهوالمتعلق بحظر السلاح، فانه تسبب في منح الثقة الى القذافي بان معارضيه لن يمتلكوا سلاحا مؤثرا يواجهونه به وبالتالي يكون عليه ان يلجأ الى تدمير ما استطاعوا وضع اليد عليه من مخازن ومستودعات الجيش فيجعل حربهم ضده غير متكافئة ابدا. وهذا ما حصل بالفعل، حيث انتقل القذافي مباشرة بعد قرار مجلس الامن الى الهجوم تحت عنوان استعادة السيطرة على «المناطق المتمردة الخارجة عليه».

والآن، وفي ظل هذا الموقف المتشكل بعد ثلاثة اسابيع من المواجهة بين القذافي والشعب الليبي، يطرح السؤال عن المخارج لحمام الدم، الذي دخلت فيه البلاد تلك على يد من كان رئيسها (يدعى بانه زعيم او ملك الملوك ذو سلطة اعتبارية لانه نقل السلطة الى الشعب منذ 1977) وانقلب اليوم الى رئيس كتائب وعصابات تدمير وقتل الشعب الذي لا يستطيع الان الا ان يدافع عن نفسه وان يستمر في طلب حريته بشتى السبل.
بداية نقول إن احتمال عودة القذافي الى احكام السيطرة على البلاد، واعادة الهدوء اليها مستقرة تحت حكمه امر بات مستحيلا (حتى لا نقول شبه مستحيل)، لان الامور تجاوزت خط العودة وبات على الملايين الخمسة من الشعب الليبي مواصلة القتال مهما كانت الخسائر حتى النصر والا يكون عليها ان تنتظر قتلا وتنكيلا لم يعرف في التاريح الا نادرا. بمعنى ان توقف القتال والمواجهة من جانب الشعب امر مستحيل وفقا لقواعد المنطق، وتقدير الموقف الصحيح، ومن جهة اخرى، فان القذافي الذي لا يستطيع ان ينتصر في الحرب، بات عاجزا في الواقع المتشكل عن القبول بوقفها وتسليم نفسه الى العدالة الدولية (التي لا نثق طبعا بعدالتها) والنتيجة هنا بان الحرب تستمر مع امل الشعب بالانتصار في يوم ما، ويأس القذافي من النجاة في اي يوم، والمسألة تكون منحصرة في الاجابة عن الاسئلة: كم ستستغرق الحرب، وكم سيقتل وكم سيدمر في ليبيا، حتى ينتصر الشعب.
اما الرد فيكون بطرح السؤال من زاوية اخرى للاجابة عنه: كيف تنقذ ليبيا من مذبحتها، والانقاذ الذي نعول عليه، لا يعدو كونه تعجيلا في انتصار الشعب والتخلص من قاتله في اقصر وقت وباخف الخسائر. وهنا نرى ان ترك الامر لليبيين فقط، ومع الواقع المتقدم، فانه يعني أن النصر سيكون باهظ الثمن والمهل ستكون واسعة، وهنا قد لا يكون ربط المسألة اوالنهاية بايام او اسابيع امرا واقعيا، وهذا ما يطرح مسألة التدخل الاجنبي (واعني به كل ما هو غير ليبي) وهو امر يثير الهاجس والريبة حول الهوية والكيفية والمدى المقبول به لهذا التدخل، واذا تعمقنا في الدرس نرى الاحتمالات التالية:
- الاول: القيام بعمل عربي مشترك تحت علم الجامعة العربية، اوعملا اسلاميا اوعملا افريقيا اوعملا مركبا من كل ما ذكر، وهنا لا نشك بان مثل هذا العمل، سيواجه صعوبات في اتخاذ القرار والتنفيذ، مع محدودية في الفعالية والحسم، ولكنه يبقى والى حد بعيد مضمونا من حيث الاهداف والمستقبل الذي يؤول اليه.
ـ الثاني: القيام بعمل دولي تحت علم الامم المتحدة وبادارتها الفعلية الحقيقية دون ان يكون تدخلا اميركيا أوروبيا تحت ستار الامم المتحدة، وهنا قد نواجه بعض الصعوبات في القرار، لكن فاعلية التدخل قد تكون مقبولة اذا رافق التنفيذ تعاون جدي ممن يتصلون بالشأن الليبي بمصلحة مادية او معنوية، عربا كانو ام مسلمين ام افارقة.
- الثالث وهو الاخطر، ويتمثل بالعمل الغربي الاطلسي، الذي باتت بوادره تلوح وتتشكل في الافق، ونحن لن نتوهم بان دول الحلف الاطلسي وخاصة اميركا ستتصرف حيال المسألة الليبية الراهنة باهمال، وعدم اكتراث، لان للامر انعاكاساته الخطيرة على شؤونها من اكثر من جانب ويجب ألا ننسى موقع ليبيا على الشاطئ المقابل لاوروبا وبترول ليبيا المتدفق اليها. ونقول بانه التدخل الاخطر، لانه سيذكرنا بحالات دولية اخرى ليس العراق اقلها شأنا واهمية حيث بدأ الامر بحظر جوي في الشمال والجنوب، وانتهى بعد عقد من الزمن الى احتلال شظى الدولة ودمرها ونهب خيراتها لهذا يجب ان يرفض مثل هذا الحل ويبقى مرفوضا، مهما تقلبت الاوضاع.

لهذا، ومع رفضنا المطلق للتدخل العسكري الغربي الاميركي، ومع حذرنا من التدخل الاممي، يبقى ان نتصور في المسألة الليبية حلا من اثنين اقل خطرا وكلفة واعلى ضمانة وطمأنينة:
- الاول الحل الليبي، الوطني الذي يقوم على تشكيل السلطة السياسية، التي تنظم قوى مسلحة على عجل، وتقبل المساعدات العسكرية من اسلحة وذخائر، بشكل غير مشروط، وتتحمل هي وحدها مسؤولية تخليص الوطن من رئيس عصابة يفتك به، سلطة يعترف بها الخارج، ويمدها بكل انواع الدعم العسكري.
- الحل العربي والاقليمي، عبر جامعة الدول العربية ويكون بتشكيل القوة العربية الضاربة، المعززة بالطيران ووسائل الدعم الناري، التي تحرم القذافي من وسائله التدميرية وتفوقه بها، فتفرض هي حظر الطيران، وتساند الجيش الليبي الثوري حتى ينتصر.

ويبقى ان يحاول احد ما في هذا العالم اقناع القذافي، بان فرص النصر لديه معدومة وان مهمته المتبقية لا تعدو كونها قتلا، وعليه ان يوقفها مع وعد بتخفيف ما للملاحقة التي تنتظره.
http://www.knspal.net/arabic/index.php?act=Show&id=18306