تعج المنطقة العربية في هذه الأيام بحراك غير مسبوق ساعدت وسائل الاتصال الحديثة في تأجيج نيرانه، وهذه الثورات التي يشهدها العالم العربي ليست لها قيادة واضحة بل تشمل شرائح واسعة لديها رغبة في التغيير و ليس لها رؤية مشتركة واضحة وهذا الأمر لا يجعل محددات المطالب الثورية مفتوحة فحسب بل يجعل التكهن بمآل الأمور صعباً في ظل تعدد مطالبهم و علو سقفها و هذا الأمر يجعل نجاح أي سلطة قادمة إلى تحقيق هذه المطالب في زمن محدود شبه مستحيل، و هذا يرجح امتداد حالة اللا استقرار في البلدان التي تشهد الثورة لفترة ليست بالبسيطة ، و هنا نستحضر ما حدث عام 1989 في الاتحاد السوفيتي حيث ما كان عنواناً للتغيير الديمقراطي في جوهره تحول إلى بوابة للتدخل الغربي، و تحولت مفاهيم الحرية والديمقراطية الى رمز للنفوذ الاجنبي فغدا الاتحاد السوفيتي مزقاً من الدول، و المأساة أننا اعتدنا على دور المفعول به لا الفاعل و بالتالي فإن قراءتنا للمتغيرات الحالية تستند إلى انتظار تأثيرها علينا و ليس الاستفادة من الفرص .
من ناحية أخرى يلاحظ المتتبع للسلوك الأميركي تجاه هذه الثورات تبايناً واضحاً يسفر عن محددات لهذا السلوك رغم محاولات الاستتار خلف دعم الديمقراطية، حيث كان الخطاب الأميركي في الحالة التونسية يدعم التغيير الديمقراطي السريع و الذي يحافظ على الاستقرار متخليا عن حليف أميركا مقابل تحسين صورة أميركا الديمقراطية، و في الحالة المصرية اقتضت مصلحة الكيان الصهيوني الحرص الشديد أن لا تنهار الدولة المصرية خاصة في شقها الأمني و العسكري فتم تبديل النظام المصري بأزلام جدد فالتأخر بهذا التحول ربما كان سيؤدي لدخول مصر في حالة فوضى سيكون لها تأثيرها السلبي على أمن الكيان الصهيوني و ربما تجلب هذه المرحلة أطراف غير محبذة أميركياً للحكم و هذا كان سيضع أميركا في مأزق كبير بين تأييد الخيار الديمقراطي للشعب المصري و الحفاظ على أمن الكيان الصهيوني فكان لا بد من مرحلة انتقالية مضمونة لتصعد بعدها قوى تكون ضامنة لاتفاقية السلام المصرية الصهيونية و تكون هذه الفترة كافية للقوى الغير إسلامية لتحضير نفسها لهذه المرحلة بينما يتم ترويض الرديكاليين لضمان اتفاقية (كامب ديفيد) على المدى البعيد , و ليس من قبيل الصدفة أن يتوجه وفد مصري إلى رام الله رغم المشاغل الداخلية الجمة للقيادة المصرية الانتقالية ليؤكد بقاء الورقة المصرية أساساً للمصالحة الفلسطينية و سواء كان هذا نتيجة لتكليف أميركي أو تقديماً لأوراق الاعتماد لدى الراعي الأميركي فإن ذلك يعد استمراراً للدور الذي كان يلعبه النظام المصري السابق، ما حدا بكاتب صهيوني أن يصف المرحلة الحالية في مصر بـ (المباركية من غير مبارك) .
في الحالة البحرينية بدا الأمر مختلفا فعلى الرغم من عموميات الخطاب الأميركي المنادي باحترام الديمقراطية إلا أن ثنايا الخطاب رحبت بمبادرة ولي العهد و بالتالي المطلوب من الخيارات الديمقراطية مراعاة بقاء النظام ولا بأس ببعض الانفتاح تجاه المعارضة دون السماح بقدوم نظام جديد قد يعمق المأزق الأميركي في هذه المنطقة الحساسة لأميركا على خاصرة إيران و لا سيما أن التركيبة الطائفية لهذا البلد تنذر باحتمالات لا تسر اللاعب الأميركي .
أما الحالة اليمنية فالمشكلة هنا أن الخيارات المتعددة الممكنة غير مريحة للأميركي فحالة الفوضى ستوفر بيئة مثالية للقاعدة لتوسع نشاطها و يتحول اليمن لأفغانستان جديدة كما أن دوراً أوسع للحوثيين سيسبب مشاكل حقيقية للحليف السعودي ناهيك عن تحوله لذراع متقدمة لإيران و بالتالي يكون بقاء النظام الحالي الخيار الأفضل و لا بأس بتحقيق بعض مطالب المعارضة و مشاركتهم بالحكم بما لا يضير بالمصالح الأميركية، كما أن التوازنات الداخلية في اليمن قد تكون ضامناً لبقاء النظام اليمني.
الحالة الأردنية تمثل واقعاً أشد حساسية فإذا كان الأميركي يتوجس خشية في أمر البحرين لموقعها الحساس وكذلك مصر فإن موقع الأردن و دورها يجعلاها في قلب الأمن الإقليمي الصهيوني و بالتالي تتناغم الجهود لتفريغ الاحتقان و تحقيق بعض التغيرات الصورية لإشراك المعارضة في الحكم و الحفاظ على النظام و عدم ترك الأمور تصل إلى ذروتها ولا بأس هنا من التلويح بورقة الانتماء الأردني و الفلسطيني لتأمين اصطفاف يضمن بقاء النظام كما حدث في البيان الذي تحدث عن فساد الملكة رانيا و عائلتها .
أما الحالة الليبية فتمثل واقعاً مختلفاً، النظام المدين بثأر للأميركيين و الصهاينة بسبب الدعم الليبي للمقاومة الفلسطينية في حقبة الثمانينات لم تشفع له السنوات التي قضاها تائباً في الحضن الأميركي كما أن النفط الذي يمثل النعمة النقمة قد يكون دافعا ً لتدخل أميركي للحسم السريع على الأقل خاصة في ظل قبول عالمي و عربي و شعبي ليبي خجول و تفهم شعبي أميركي فأيهما يحدث أولاً الحسم الداخلي أم الخارجي ؟؟، وهنا يجب الإشارة إلى عوامل أخرى تؤثر في الخيارات الأميركية فتجربة العراق و أفغانستان غير مشجعة و قد ينقلب السحر على الساحر و يستحضر الشعب الليبي عداءه للغازي الأميركي، كما أن الحصول على دعم رسمي من المجتمع الدولي نتيجة لتطورات دموية ربما يكون ضامناً لهذا التدخل الذي سيقدم خدمات جمة لأميركا و حلفائها .

ماهر أبو حسان
كاتب فلسطيني