سلسلة قصصية مصوَّرة للفتيان


المَـيـــــــــــــــــــامــــــين
أبطال العرب والمسلمين




تأليف الشاعر:عبد القادر الأسود









اليوم هو الإثنين ، موعدُ حِصّةِ التربيةِ ، والجميعُ متلهِّفٌ لدخول الأستاذ أحمد فهو ذو شخصيّةٍ جذّابةٍ محبّبةٍ إلى الجميع . وضيءُ الوجه بلحيةٍ شقراءَ خفيفةٍ ، وقامةٌ فارعةٌ نحيفةٌ ، صوتُه هادئٌ رزينٌ ، يُمكِنُ للمَرْءُ أنْ يَعُدَّ كلماتِهِ ، إن أراد ذلك ، لحديثِه حلاوةٌ في القلب لأنّه صادرٌ عن ثقةٍ بالنفس لِتَمَكُّنِه من مادّتِه ، ولصوتِه في آذان تلامذتِه رََنّةٌ محبّبةٌ مستساغةٌ.
كلُّ ما يَطرحُ على تلامذتِه من موضوعاتٍ يلاقي الاستحسان لأنّه إنّما يحمِلُ همومَهم ويَعرُضُ مُشكِلاتِهم ، وبطريقتِه في النقاشِ يستحوذُ على ألبابِ مُستمعيه ومُحاوريه ، متواضعٌ أبداً مظهرٌ الرغبةَ في سَماعِ آراء تلامذتِه يحترم كلَّ وجهةِ نظرٍ مهما خالفتْ ما يطرحُه ، وهو مستمعٌ جيّدٌ يحسِنُ الإصغاءَ ، فلا يُقاطع أحداً حتى يُنهي حديثَه ، يُثني على ما يراه صائباً من أفكارٍ ، ويُبدي وِجهَةَ نظرِه فيما يخالفُه من أفكارٍ دون الانتقاصِ من وِجهاتِ نظرِ الآخرين .
صحيحٌ أنّه المدرّسُ ، لكنّك إذا حضرتَ درسَه ظننتَه واحداً منهم ، لشدّة قربِه منهم ولشدّةِ حبِّهم له ، فهو ابنُ حَيِّهم يُساعدُهم في نظافةِ الحي والتغلُّبِ على ما يحدُثُ من مُشكلاتٍ فيه . يعودون مرضاه معاً ، ويذلّلون الصِعابَ معاً ، وهو إلى ذلك إمامُهم في الصلاة وخطيبُهم الذي يُعلِّمُهم أحكامَ دينِهم .
ربّما كان لتقارُبِهم في السِنِّّ أثرٌ مهِمٌّ في التفافِهم حولَه وتلهُّفِهم الدائمِ إلى لقائه ولكنْ للهفَةِ التلاميذ اليومَ سببٌ آخرُ ، فقد أثار اهتمامَهم في الحِصَّةِ الأخيرةِ من الأسبوعِ المنصرمِ عندما ختمها قائلاً :
ليحاولْ كلٌّ منّا الإجابةَ عن سؤالِ أختِنا مَجْد . وكان موضوعُ الحِصَّةِ تلكَ هو ظاهرةُ التقليدِ الأعمى لكل ما هو أجنبي المتفشِّةُ بين الشباب ، وحينَها طرحتْ مَجْدُ السؤالَ الآتي :
ما هي أسبابُ هذا الداءِ الفَتّاكِ ، وكيف نتخلّصُ منها؟
كانت الحِصَّةُ الدَرْسيَّةُ قد شارفتْ على نهايتِها ، ولم يكتملْ النقاشُ حول موضوعِها ، لأنّه مُعَقَّدٌ والطريقُ إليه شائكةٌ ، وهو في غايةِ الخطورةِ ، وعلى قَدْرٍ كبيرٍ من الأهميّةِ ، فتقليدُ الأجنبيِّ في كل شيءٍ ، في مظهرِه الخارجيِّ وثيابِه ، حتى وإن كان الذوقُ العامُّ يأباها ويَنفُرُ منها ، وفي عاداتِه وتقاليدِه وأُسلوبِه في العيشِ والحياةِ ، وإنْ تَنافَتْ معَ عاداتِنا وتقاليدِنا ومَوْروثِنا الثقافيِّ والاجتماعيِّ ، الأمرُ الذي يَدُلُّ على إعجابٍ شديدٍ وتَبَعيّةٍ عمياءَ، كما يدُلُّ على ذَوَبانِ الشخصيَّةِ الوطنيَّةِ والقوميّةِ وانحلالِها وتلاشيها ، وهذه إحدى مظاهرِ الهزائمِ الماديَّةِ والمعنويَّةِ التي نُعاني منها ومن نتائجِها .
ولِخطورةِ هذا الداءِ على بناء شخصيَّةِ الشبابِ (عُدَّةِ المستقبلِ وأملِ الأمَّةِ) بناءً متوازناً فقد أراد الأستاذ أحمد من تلاميذِه المشاركةَ في تشخيصِ الداءِ واكتشافِ الدواء .
لقد امتزج صوتُ الأستاذ أحمد ــ حينَها ــ بصوتِ الجرصِ الذي أعلن انتهاءَ الحصَّةِ ، وبانتهائها انتهى دوامُ ذلك اليوم .
لقد تلاشى صوتُ الجَرصِ وانتهى ، لكنّ صوتَ الأستاذ أحمد ما زال متردّدَ الصدى في نفوسِ تلامذتِه طيلةَ الأسبوعِ المنصرمِ ، ولقد طغى هذا الموضوعُ على غيرِه من الموضوعات في أحاديثِ التلاميذِ خلالَ السَهَراتِ العائليَّةِ ، أو اللِّقاءاتِ الثنائيَّةِ ، في الحيِّ أو في باحةِ المدرسةِ ، وها هو يومُ الإثنينِ موعدُ حصّةِ التربيةِ قد عاد من جديدٍ ، وهاهم التلاميذُ يجلسون بصمتٍ متشوِّقين إلى دخولِ الأستاذ أحمد وقد استعدَّ كلٌّ منهم لعرضِ مطالعتِه وما تَوَصَّلَ إليه من أفكارٍ متمنّياً أنْ تلاقي أفكارَ الآخرين .
وما كاد الأستاذ أحمد يقول ـ بعد التحيَّةِ ـ هل أنتم مستعدّون ؟ حتى ارتفعتْ الأَيدي مُعربةً عن استعدادِها للمشاركة في الحوار .
واستمعَ الأستاذُ إلى وجهاتِ نظرِ التلاميذِ ، فقد كانت متفقةً على أنّ هذا المرضَ خطيرٌ جدّاً وفتاكٌ جداً لأنّه من شأنِه أنْ يَسلبَ الإنسانَ شخصيَّتَه ويَطمسَ هُوِيَّتَه العربيّةَ الإسلاميّةَ ، ويُفقدَه اعتزازَه بنفسِه وانتمائه لأمَّةٍ عظيمةٍ ، أسهمتْ في رفعِ صرحِ الحضارةِ الإنسانيّةِ عالياً ، وعندَها سيكون أُمَّعةً معدومَ الإرادة ، سهلَ التوجيهِ والانقيادِ ، فتَفقُد الأمّةُ سلاحَها الأمْضى في الذَودِ عن حِياضِها والدِفاعِ عن وُجودِها ، ألا وهو جيلُ الشبابِ القادرِ على المقارعةِ المستعدِّ للعطاءِ والفِداءِ ، فترضخُ الأُمّةُ لما يُمليه عليها عدوُّها من شُروطِ الذُلِّ والهَوانِ ، وتتنازلُ عن مقدَّساتِها ، وتَستسلمُ لسَلْبِ خيراتِها فتعيشُ على ما يُلقيه إليها عدوُّها من فُتاتٍ .
لقد كانت للتلاميذِ قناعةٌ واحدةٌ ، وإنْ اختلفتْ طُرُقُ التعبيرِ ، ألا وهي وُجوبُ التخلُّصِ من هذا الداءِ العُضالِ الفتّاكِ في جسمِ الأمَّةِ ، أمّا الدواءُ فهو التفاتُ الشبابِ إلى ثقافتِهم وحضارتِهم ، والعَبُّ من تُراثِ أجدادِهم ، وانجذابُهم إلى ماضيهم المشرقِ للنهوضِ بالأمّةِ من جديدٍ ، وإعادةِ بناءِ مجدِهم ، وإشادةِ حضارتِهم من جديدٍ ، وذلك بتعرُّفهم على تاريخِ أمَّتِهم وسِيَرِ أبطالِها الأماجِدِ ، وما في هذه السِيَرِ من إيجابيّاتٍ ونقاطٍ مُضيئةٍ، وعلى ذلك فقد قرّروا القيامَ بمشروعِ جمعِ ما يَقدِرون على جمعِه من سِيَرِ هؤلاء العظماءِ بُناةِ حضارةِ هذه الأمَّةِ الشامخةِ ، وتنقيتَها ممّا دَسَّهُ فيها أعداؤنا بُغيةَ التَشويهِ لصَرْفِ الأنظارِ عنهم وعن طريقِهم ، وسيكون هذا مشروعَ الطَلَبةِ خلالَ العطلةِ الصيفيَّةِ القادمةِ بإذنِ الله .
عندَها قال الأستاذ أحمد:لقد توصَّلتم إلى قراراتٍ هامّةٍ جدّاً أيّها الأعزاء، ووضَعتم أقدامَكم على بدايةِ الطريقِ القَويمِ والصِراطِ المستقيمِ الذي سيوصِلُكم إلى الهدفِ المنشودِ ، وحَذارِ حَذارِ من دسائسِ الحاقدين ومغالطاتِ المُغرضين ، فقال عاصم: كيف نُميِّزُ الحَقَّ من الباطلِ والصحيحَ من المدسوسِ والمُزوَّرِ ونحن لا نملكُ الثقافةَ الكافيةَ والخبرةَ اللازمةَ يا أستاذ؟.
ـ الأستاذ:إنّه سؤالٌ وجيهٌ يا عاصم ، وأنا أسألك : مَن الذي يقومُ بالأفعالِ العظيمةِ ويَبني المجدَ العظيمَ ؟
عاصم : لا يقوم بالأعمالِ العظيمةِ ويَبني المجدَ العظيمَ يا أستاذ إلاّ العظماءُ الأبطال .
الأستاذ : أحسنتَ يا عاصم ، فالفِعلُ يَدُلُّ على فاعلِه ويُعبِّرُ عن شخصيَّتِه ، فإذا كانت الشخصيَّةُ لاهيَةً متعلِّقةً بسفاسفِ الأمورِ مهتمّةً بالحصولِ على المُتَعِ الرخيصةِ فإنّها لن تقومَ بالأفعالِ العظيمةِ لأنّها ليست في دائرةٍ اهتماماتِها أساساً ، بينما إذا كانت هذه الشخصيّةُ عظيمةً متحلّيةً بمكارمِ الأخلاقِ مهتمَّةً بعظائمِ الأُمورِ فإنّها ستعملُ على بناءِ الأمجادِ الشامخةِ وستقومُ بالأعمالِ العظيمةِ لِعُلُوِّ هِمَّتِها .
عاصم : شكراً يا أستاذ ، الآن عَرَفْنا القاعدةَ ، وأصبحَ لدينا الميزانُ القِسْطُ الذي نَزِنُ بِهِ الأمورَ ونُغربِلُ على أساسِهِ المعلوماتِ والأخبارَ ونُنقِّحُ بوِساطَتِهِ التاريخَ ممّا عَلِقَ به من سُوءٍ ، ونمحِّصُ الحقيقيَّ من المُزوَّرِ ، الذي استطاعَ بِه العدوُّ تَشْويهَ شخصيَّةِ الكثيرِ من عظمائنا وقادتِنا التاريخيين ، فكل ما يتنافى مع صفات العظماءِ ويجرحُ في عدالتِهم مدسوسٌ مزوَّرٌ ، ويجب حذفُه من هذه السِيَرِ ، لأنّ السِيَرَ إنّما نَدرسُها لنَقتفيَ أَثَرَها ونَسيرَ على طريقها ، فكيف نَمشي على خُطا شخصيّةٍ مشوَّهَةٍ ، وكيف سنتأسّى بها ، حتّى لو كان بعضُ هذه الأخبارِ صحيحاً فإنّ حذفَه من المَصلحةِ العُلْيا بمكانٍ ، ونترُكُ أمرَه للهنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) سورة البقرة/ ص 134 .
الأستاذ: انظروا كيف حاولَ أعداءُ هذه الأمّةِ تشويهَ تاريخِنا بتشويهِ صورةِ واحدٍ من أعظم قادتِنا الأفذاذِ الذي خاطب الغيمةَ قائلاً:أَمْطِري حيثُ شئتِ فسيَأتيني خَراجُك ، والذي كان يحُجُّ إلى بيتِ اللهِ الحرامِ عاماً ويَغزو مجاهداً في سبيلِ الله عاماً ، والذي بلغتْ الحضارةُ العربيَّةُ الإسلاميَّةُ في عهدِه أَوْجَها فأرسلَ هديّةً إلى ملكِ فرنسا شارلمان رَدّاً على هداياه التي أرسلها إليه تقرُّباً منه وتَزَلُّفاً إليه ، وكانت هذه الهديّةُ ساعةً جِداريَّةً ، فاجْتمعَ حولَها شارلمان وحاشيَتُه وأعيانُ فرنسا يُحملِقون في هذه الأُعجوبَةِ وإذ بجرصِ مُنبِّهِها يَدُقُّ فهربوا جميعاً منها وتفرّقوا عنها ظنّاً منهم بأنَّ جِنِّياً في داخلها هو الذي قرعَ الجرص .
هارونُ الرشيدُ الذي بلغتْ الدولةُ العربيّةُ الإسلاميَّةُ في عهدِه أقصى اتّساعِ رقعتِها من أواسط الصين شرقاً إلى قلبِ أوربّةَ غرباً وخضعتْ له أفريقيا كلُّها ، ومع ذلك فقد كان ولداه الأمينُ والمأمونُ يتسابقان لحَملِ حِذاءِ معلِّمِهم إجلالاً له واحتراماً، ويسألُه أميرُ المؤمنين هارونُ الرشيدُ رحِمَه اللّهُ ، مَن هو أعَزُّ الناسِ؟فيُجيبُ المعلِّمُ ، أعزُّ الناسِ أميرُ المؤمنينَ أطالَ اللّهُ بقاءَه ، فيقولُ الرشيدُ : بلْ أعزُّ الناسِ مَن يتبارى ابْنا أميرِ المؤمنين في تقديم حِذائه .
هارونُ الرشيدُ هذا الذي خرج عليه يوماً مَلكُ الرومِ نقفورُ فألغى ما كان بينَهما من معاهدةٍ وامتَنَعَ عن دفعِ ما كان عليه من جِزْيَةٍ قائلاً في رسالته:مِن نقفور ملكِ الرومِ إلى هارون الرشيد ملكِ المسلمين ، أمّا بعد ، لقد كانت أُمّي تدفعُ إليكم ما أنتم أَحْرى بدفعِه لنا , فإذا وصلَكَ كتابي هذا فلْتَأْتِني بكلِّ ما قد دَفَعَتْهُ أُمّي لك . فأجابَه الرشيدُ : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبدِ اللّهِ هارون الرشيد أميرِ المؤمنين إلى نقفورَ كلبِ الرومِ ، أمّا بعد ، فإنّ الجوابَ ما سوف تَراه لا ما سوف تقرأ ، وزَحَفَ بجيشِه حتّى أتى بِه صاغراً وأعادَ الأمورَ إلى نِصابِها . فماذا ننتظرُ مِن أحفادِ نقفور أنْ يقولوا في حَقِّ هارونَ الرشيد؟
لقد كتب عنه بعضُ مؤرِّخينا ممّن نَهَلَ من مناهل الغرب ِ، أنّه بَلَغ بِه التَرَفُ والإسرافُ بأنَّ طَبَقاً واحداً مِن الطعامِ على مائدتِه كلَّفَ أكثر من مئتيْ دِرهَمٍ ، وهذه القِصَّةُ ــ إنْ ذُكِرتْ ــ فإنّما هي مَأْثَرِةٌ تُحسَبُ للرشيد ، حيثُ أنَّ ابنَ أخٍ له كان قد دعاه إلى طعامٍ في مصيفه بالرقة ، فلاحظ في أحدِ الأطباقِ قِطَعاً من اللحمِ رقيقةً جِدّاً ، فقال : لقد أتعبتَ طبّاخَكَ في تحضيرِ هذا الطبقِ يا بنَ أخي ، فقال ابنُ أخيه:هذه ألسنةُ سَمَكٍ يا عمّاهُ . فقال الرشيد:مئة من السمك لا تكفي لتحضيره . قال : بل مئتان . قال:إذن أنفقت فيه مئتا درهم قال : أجل . فقال الرشيد:يا غلام خذْ هذا الطبقَ وتصدّقْ به على الفقراء ، ثم راجع نفسَه فرأى أنّ مئتا درهمٍ أنفعُ للفقراءِ فأمرَ الخادمَ بإعادةِ الطبقِ إلى المائدةِ وأعطاه مئتا دِرهَمٍ وأمرَه أن يَتصدّقَ بها .
ولأنّ هارون الرشيد كان عظيماً فقد كثُر الدَسُّ عليه ، لأنّ التآمرَ إنّما يكون على قَدْرِ المتآمَرِ عليه ، لذلك فقد صوّرَه صاحبُ كتابِ الأغاني ــ المعروف بشُعوبيّتِه وشدّةِ تعصُّبِه لفارسيَّتِه، وعُمقِ حُزنِه على ذَهابِ ريحِها ــ صوَّرَه بأنّه سِكّيرٌ عِربيدٌ متهتِّكٌ ، ولَفّقَ قِصَصاً يخجلُ مِن مِثلِها سُفهاءُ الناسِ وسَفَلَتُهم ، ناهيك عن عظمائهم وساداتهم ، وألْصَقَ بالرشيدِ ما هو بعيدٌ عنه بُعْدَ المشرقِ من المغرب ، خاصّةً ما زَعَمَ مِن علاقةٍ وثيقةٍ بينَه وبين الشاعِرِ الماجِنِ أبو نُواس ، وأبو نُواسٍ لم يَرَ الرشيدَ إلا مَرّةً واحدةً يومَ دَخَلَ عليه مهنِّئاً بالخِلافةِ فامْتَدَحَهُ بمقطوعةٍ شعريّةٍ قصيرةٍ لم تَكَدْ تبلُغُ سمعَ الرشيدِ .
وإنّنا لَنَربأ بأنفسِنا عن ذِكرِ بعضِ هذه القصص المُلفَّقَةِ التي تُنافي الحِشْمَةَ والذوقَ العامَّ .
خديجة:لقد شاهدتُ على شاشةِ الرائي مُسلسلاً ــ خلالَ شهرِ رمضان عن هارون الرشيد ــ أساءَ إليه بما نُسِبَ إليه من أقوالٍ وأفعالٍ ، حتّى الرسولُ الأكرمُ ، صلى اللّهُ عليه وسلّمَ ، لم يَسلمْ منَ الإساءةِ إليه بتلفيقِ عددٍ من الأحاديثِ وإلصاقِها به .
الأستاذ: بعضُ كتّابِ هذه المسلسلاتِ تَرَبّى في الغربِ ودَرَسَ هناك ، ومعظمُ ما عندَه من معلوماتٍ عن تاريخِنا وأبطالِنا مصدرُه تلك البلادُ التي تربّى على ثقافتِها ، فنقلَ هذه الأحداثَ كما قرأها هناك دون تثبُّتٍ مِن صحّةِ نِسبتِها ، بلْ ربّما يخترعُ بعضٌ آخر من هؤلاءِ الكتّابِ ويَنسجُ من خيالِه القصصَ المثيرةَ جَذْباً للجمهورِ وتَشْويقاً وتَحفيزاً على متابعةِ مسلسلِه .
ثم إنّه مِن شأنِ الضعفاءِ في كلِّ عصرٍ ومِصرٍ أيّها الأحبّةُ ، أنْ يتخذوا من المكرِ والدسائسِ والتشويهِ سلاحاً للتعويض عن خساراتهم وهزائمهم في ساحات المجد والكرامة ، ساحات الحرب . وأجدادُنا ــ يا خديجةُ ــ قد خاضوا غِمارَ الحروب وانتصروا في ساحات الوغى ، وبنوا مجداً عظيماً ، وكانوا روّاد نهضةٍ عظيمةٍ في مختلِفِ مجالاتِ العِلمِ والصِناعةِ والفُنونِ ، وتَرَكوا للبشريّةِ تُراثاً ضَخماً من المخترعات والبحوثِ والنظرياتِ في مختلِفِ مجالاتِ العلومِ والثقافةِ والفنونِ ، وما زالت آثارُهم خيرَ شاهدٍ على عظمتِهم ، يَشهدُ لهم بذلك القريبُ والغريب .
إذاً فقد كانوا عظماء حقّاً مُتّصفين بأنبلِ الصِفاتِ التي بَوّأتْهم منزلةً عظيمةً في التاريخ ، ويجب علينا أنْ نُخلِّصَ تاريخَنا من كلِّ ما دُسَّ فيه من كَذِبٍ وزورٍ وبُهتانٍ ، يَقلِبُ الحقائقَ ، ويُشوِّهُ الصُورةَ ، ويَزرعُ الشكوكَ وعدمَ الثقةِ في النفوس ليُوهِّنَ من عزيمتِها ويَفُتَّ في عَضُدِها حتّى تحصُدَ الفشلَ في مستقبلِها ، لأنَّ مَنْ لا ماضيَ مَجيداً له ليس له حاضرٌ مشرقٌ ، فهو كالشَجَرَةِ التي ليس لها جذورٌ تَضرِبُ عميقاً في الأرض ، فهي تَميلُ مع كلِّ هَبَّةِ ريحٍ ، وسُرعانَ ما تَهوي مع أوّلِ عاصفةٍ تَهُبُّ عليها .
عاتكة:جزاك اللّهُ عنّا كلَّ خيرٍ يا أستاذَنا المُبجّلَ . الآن أصبحنا قادرين على أنْ نَبْدأ عملَنا ونباشرَ مَهامََّنا بخُطاً ثابتةٍ ، فقد أنرتَ الطريقَ لنا فوَضَحَ الهدفُ ، وأظنُّنا بحاجةٍ للتنسيق فيما بيننا ، وأنْ نَكونَ على اتّصالٍ دائمٍ ، حتى لا تَنْصَبَّ الجهود على جانب معيّنٍ وتأخذَ مَنْحاً واحداً فتَتبدّدُ الجهودُ وتَتبعثَرُ ، ويُهْدَرُ الوقتُ .
أبدى الأستاذ أحمد إعجابَه بفِطنَةِ تلميذتِه وأثنى عليها ، والتمعتْ بالبِشْرِ عيناه وأساريرُه وهو يقول:
إذاً ستقومين أنتِ بمَهامِّ التنسيقِ والتنظيمِ لهذه الأعمال ، ما رأيُكِ يا عاتكة؟
أعرَبَتْ عاتكةُ عن سعادتِها بثقةِ أستاذِها وأكّدتْ استعدادَها للقيامِ بهذه المُهمّةِ على أكملِ وجهٍ ، وهَمَّ الأستاذُ بالانْصراف ، مرسلاً نظرَه في وجوهِ تلامذتِه ليُلقيَ تحيَّةَ الوَداع فوقعتْ عينُه على باسمٍ ، فلمَحَ في عينيْه كلاماً ما ، فقال : لم تُدْلِ بدَلوِكَ يا باسم ، ولم تُعْربْ عن رأيك ، هل عندك أيُّ اعتراض على مشروعِنا أو أيُّ رأي فيه ؟
باسم (بصوت مضطرب) : على بَرَكةِ اللّهِ يا أستاذ.
كان الأستاذ أحمد يعرِفُ في باسم وَلَعَه الشديدَ بالرياضةِ والرَحَلاتِ ، وفَطِنَ إلى أمرٍ نَسيَه أثناءَ الحِوارِ في غَمْرةِ الحَماسِ للمشروعِ . ونَظَرَ في ساعةِ يدِه فوجدَ مُتَّسَعاً من الوقتِ لكلمةٍ قصيرةٍ كان لا بُدَّ منها ، فقال:
أيُّها الأبناءُ الأعزّاء ، إنّ الإنسانَ جسمٌ وروحٌ ، بقدْرِ ما هو عقلٌ وإدراكٌ . وإنّ الإنسانَ الناجحَ في الحياةِ لا بُدَّ مِنْ أنْ يَعملَ على تغذيةِ هذه الجوانبِ وتنميتِها جميعاً بحيثُ لا يَطغى جانبٌ على جانبٍ آخر , فلا يُهملُ شيئاً من واجباتِه ولا يُقصّرُ في ناحيةٍ من النواحي ، وتذكّروا الحديثَ الشريفَ الذي سمعتموه في خطبةِ الجمعةِ الفائتةِ ومنه : (.. وإنّ لنفسِك عليك حقّاً).
ولذلك يجب أن نوزّعَ الوقتَ على الواجباتِ بشكلٍ متوازنٍ ، فالعقلُ غذاؤه ورياضتُه العلمُ والمعرفةُ ، والجِسمُ معروفٌ غذاؤه ورياضتُه ، وللروح غذاؤها ورياضتُها كذلك ، ألا وهي المرَحُ والنُزهةُ والفنونُ الجميلةُ والموسيقا ، فإذا أهملَ المرءُ غذاءَ جسمِهِ ورياضتَه أصابَه المرضُ ، وإذا أهملَ غذاءَ عقلِه ورياضتَه تَبَلَّدَ حِسُّهُ وقَسا طبعُه ، والعاقلُ الناجحُ في حياتِه هو الذي يَعي ذلك كلَّه ويُقَدِّرُ للأمورِ أقدارَها ويَزِنُ عواقبَها ، فيوزِّعُ وقتَه بين واجباتِه تجاهَ جِسمِه وعقلِهِ وروحِهِ بشكلٍ متوازنٍ لتكون شخصيَّتُه أقربَ إلى الكمال ، أَرضيتَ الآن يا باسم ؟
باسم : شكراً يا أستاذ كعهدِنا بك دائماً تُنصفُ الجميعَ ولا تترُك خللاً ولا ثُغرةً .
أعلن الجرصُ نهايةَ الحِصَّةِ وقد أمسَكَ الأُستاذُ بمِقبضِ البابِ الذي صار خلفَ ظَهره تماماً ، وقبل أن يَفتحَ البابَ قال:
أَدَعُكم الآن في رعايةِ اللّهِ وحِفظِهِ ، وأَلتمِسُ منكم السَماحَ والدعاءَ بِظَهْرِ الغيبِ فربّما كان هذا لقاءنا الأخيرَ .
كانت الفرحةُ طاغيةً فلم يَتَنَبَّه التلاميذُ إلى ما انطوتْ عليه كلماتُ الأستاذِ أحمد من إشارات ولم يَزيدوا على أنْ قالوا :
إلى اللقاءِ في العامِ القابِلِ إنْ شاءَ اللّهُ ، جزاك اللّهُ عنّا خيرَ الجزاءِ ، وعليكَ سلامُ اللّهِ ورحمتُه وبركاتُه .