هاروت وماروت


لقد وردت قصة "هاروت وماروت" في القرآن الكريم؛ حيث تقول الآية الكريمة:
-{.. وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر...}، [البقرة، 102].
وجاءت التفاسير بأنهما ملكين! أي: أنهما من الملائكة.. وزعموا ما زعموا في حق الملائكة الخلق المعصوم من الأخطاء، وهم لا يفعلون إلا ما يُأمرون...
وجاء هذا المقال لينصف الملائكة من أساطير البشر، وليبين من هما "هاروت وماروت"..
لم يظهر لحد الساعة مفسرون جدد للقرآن الكريم! لهذا بقي الاعتماد فقط على التفاسير القديمة.. وحتى إن كانت بعض التفاسير لا تقبلها فطرة الإنسان وعقله.. فتراه يسلم أمره كرافع اليدين في ساحة الوغى.. وبسبب هذه التفاسير والروايات جاء هذا المقال الذي بين أيدينا ليلقي الضوء على قصة "هاروت وماروت".

لقد ذكر أحمد الشرباصي أنه قد أرسل الله ملكين إلى بلدة بابل لتعليم الناس السحر ابتلاء من الله.. ونجد محمد علي الصابوني يقول أنهما ملكان أنزلهما الله ابتلاء وامتحانا للناس.. أما الشيخ محمد متولي الشعراوي فقد روى تلك الأسطورة على أن الله، سبحانه وتعالى عما يصفون، أنه طلب من الملائكة أن يختاروا ملكين ليهبطا إلى الأرض لينظروا ماذا يفعلان؟ فاختاروا "هاروت وماروت"؛ وعندما نزلا إلا الأرض فتنتهما امرأة فارتكبا الكبائر... إلا أنه يقول أنها قصة رغم وجودها في بعض كتب التفسير فهي ليست صحيحة... لأن الملائكة بحكم خلقهم لا يعصون الله... وزعم ابن حزم أنهما قبيلان من الجن.. وذهب القرطبي إلى أنهما سيدنا داوود وسيدنا سليمان، عليهما السلام... كما قد أنكر البعض على أن يكونا من الملائكة واقتصروا فقط على أن الملائكة معصومين...
والروايات كثيرة بين القديم والحديث وجلها متشابهة؛ لذلك نكتفي بما ذكرت ونفتح باب الأسئلة:

* كيف جاءت تسمية "بابل"
كان العرب قديما يعشون رُحّلا بسبب الجفاف، أو تدهور المعيشة... من بين هؤلاء العرب قبائل "الأموريون" الذين قدموا من اليمن واستوطنوا سوريا.. وشيئا فشيئا حتى أسسوا مملكة "ماري".. ثم بدءوا ينتشرون في بلاد الرافدين إلى أن أسسوا مملكة "أيسن".. وجعلوا "بابل" عاصمة لهم؛ ومن تم تحول اسمهم من "الأموريين" إلى "البابليين".. وكلمة "بابل" هي اختصار لكلمتين: بوابة الله، أو باب الإله..
وازدهرت بابل حتى أصبحت أعظم عاصمة في ذاك التاريخ.. وقد توافد على حكمها ملوكا من نفس الأسرة زهاء ثلاثة عشر قرنا؛ من حوالي 1893 ق.م. إلى 1594 ق.م. وتميزوا ببناء الأسوار، والمعابد.. من أجل حماية الله والشعب حسب اعتقاداتهم...
أما اسم "الأموريون" فقد أطلقه عليهم "السومريون"، وبلغتهم "مارتوا"، أي: الغربيون؛ لأنهم كانوا يقطنون غرب بلاد الرافدين.. كما تعني: سكان المرتفعات...
ولبابل تاريخ عريق وأشهره غزو الآشوريون سنة 729 ق.م... وبعدهم الكلدانيون الذين
اشتهروا بالفلك والرياضيات... وفي هذا العهد بالذات ظهر السحر..
ومن مميزات بابل التي ربما لا ينتبه لها الناس هي عدد الملوك التي حكمت بابل! لعلها تعدّ بكثرة.. وقد قيل أن قبل "النمرود" أكثر من خمسين ملكا، وبعده كذلك؛ ومولوك "الأموريين" أكثر من ثلاثين...

* ما معنى هاروت، ماروت؟
جاء في لسان العرب أن:
أ- هرت: هرت الشيء: شقه..
ب- مرت: مرت الشيء: كسره..

* السحر
يقول ابن خلدون في مقدمته، في الفصل التاسع والعشرون –علوم السحر والطلسمات- أن السحر وُجد في أهل بابل، وهم الكلدانيون من النبط والسريانيين...
والفرق بين المعجزة والسحر هو أن المعجزة مبنية على التحدي والصدق، والسحر مبني على تأثيرات.. مع الكذب.. كما أن صاحب المعجزة لا يصدر منه إلا الخير، وصاحب السحر لا يصدر منه إلا الشر...
ونجد علوم السحر مهجورة عند الشرائع الدينية لما فيها من ضرر، ولما يُشترط فيها لغير الله من كواكب وغيرها...
وثب عن سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن أمر عماله بقتل السحرة، كما ثبت عن جندب بن عبد الله البجلي أنه قتل ساحرا عند الوليد...
وفي الشريعة الإسلامية كل من ادعى علم الغيب فهو كافر؛ وما ينفي علم الغيب عن الجن والإنس قوله، سبحانه وتعالى:
-{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ}،
- {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّه}،
والسحر كان يتم عن طريق سرقة السمع من طرف الجن، وينزلون ليخبرون أولياءهم من الإنس...

* الملائكة
لقد وصف الله الملائكة ، سبحانه وتعالى، الملائكة بأنهم "عباد مُكرمون"، وأنهم لا يعصونه ويفعلون ما يُؤمرون...
وجاء أن الملائكة أجسام نورانية تنقسم إلى أنواع مختلفة، وأنهم لا يوصفون لا بالذكورة ولا بالأنوثة...
وثبت في الأحاديث النبوية أن هناك ملائكة سياحون في الأرض.. وجاء في القرآن الكريم أن كل إنسان معه ملكان.. وأيضا لله جنود السموات والأرض...
من هذا الباب نستنتج وجود الملائكة في الأرض...
ونجد الله، سبحانه وتعالى، في القرآن الكريم قد وصف الملائكة بالمكرمين، وجعلهم رسلا، والرسل لا تبعث لتعليم الشر للناس...
كما نلاحظ بدقة أن أسماءهم وردت كما يلي: جبرائيل، إسرافيل، مكائيل، عزرائيل.. وقيل أن الاسم مركب من لفظتين: مثل: "جبرا" اسم، و "ئيل" اسم؛ وقيل أن معنى "ئيل": الله... أما هاروت وماروت فهي أسماء مثل أسماء البشر مثل جالوت وطالوت، وهما أيضا ملكين حكما بابل..
من هذه الزاوية تكون أسماء الملائكة على هذا الشكل منطقية وعقلانية...

فإذا اقتصرنا على هذا التوضيح الموجز فبابل حكمها ملوك كثيرون، مما يجعلنا نتأكد أن هاروت وماروت ملكين من هؤلاء الملوك، ولا علاقة لهما بالملائكة..
وجاءت الآية الكريمة: "وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه"، لقد جاءت هذه الآيات لتنفي وتكذب من زعموا الإفك، خاصة اليهود بزعمهم أنهما سيدنا جبريل، وسيدنا ميكائيل، عليهما السلام؛ وعلى من زعم أنهما سيدنا داوود وسيدنا سليمان، عليهما السلام؛ ومن زعم أنهما من الملائكة...
فالآية الأولى تنفي الكفر عن سيدنا سليمان، عليه السلام، [ ما كفر سليمان]، ثم تنفي أن السحر قد أنزل على الملكين، [وما أنزل على الملكين.. كما أن كلمة "الملكين" لغة: مثنى لملِك، أما مثنى ملاك فهو: ملائكين"، على قياس: جدار: جدارين، سوار: سوارين، كلام: كلامين... وكذلك الواو التي تربط بين "ما" النافية الأولى والثانية والثالثة فهي واو العطف، أي أن النفي الثاني معطوف على النفي الأول؛ فسليمان لم يكفر ولم ينزل السحر على الملكين، والثالثة تنفي أيضا أن يتم التعليم إلا بشرط.. وهذا النفي معطوفا على النفي الثاني والأول... كما يجوز قول: ملك، بفتح اللام، ومثناها: ملكين، بفتح الميم واللام والكاف...
وإذا تمعنا في هذه الآية: "وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه"؛ نلاحظ " وما يعلمان من أحد"، أي أن التعليم متاح لأي أحد، فكل من سولت له نفسه تعلم السحر يأتي إليهما.. فهل بلغ مستوى الملائكة إلى هذا الحد؟ ثم قول "إنما نحن فتنة"، متى كانت الملائكة تتنزل فتنة على الناس وهم عباد مُكرمُون؟

وقد ينسى الإنسان أنه عندما ينسب السحر إلى الملائكة، ويتهم الله، عز وجل، على أنه هو من أنزله على هاروت وماروت ليفتنهم فيه، أو ليفرق بين المعجزة والسحر.. فهذا إفك باطل يؤدي على الشرك الخفي...
فكيف تعلم إذا الإنسان السحر؟
لم تكن السماء في زمان بعيد مملوءة بالحرس، من شهب، وملائكة، ونجوم.. وكما تثبت علميا أن النجوم تتوالد... فكان الجن باستطاعته أن يصعد إلى السماء ويقعد مقاعد السمع فيسترق السمع وينزل عند أوليائه من الإنس ليخبرهم بما سمع ويشترط عليه شروطا مفادها الكفر والشرك... وذلك بدليل الآية الكريمة: كنا نقعد مقاعد السمع...
وكان الإنسان أكثر جدلا.. فلابد من معرفة كيف تتم سرقة السمع؟
نعود إلى حديث نبوي متفق عليه: إذا أحب الله عبدا يقول لجبريل إني أحببت فلان فينادي في السماء: إن الله يحب فلان... قياسا على هذا الحديث، والآية التي تقول: ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ جَاعِلِ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَـٰعَ يَزِيدُ فِى ٱلْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [فاطر:1].
أي أن الملائكة رسلا للناس ولبعضهم؛ والجن يقعد حتى يسمع إما النداء، إما الحوار بين الملائكة...
ولكن مع نزول القرآن الكريم ملأت السماء حرسا شديدا ومن يسترق السمع يتبعه شهاب ثاقب.. أي انتهى زمن السحر الذي كان يتم عن طريقة استراق السمع؛ وما بقي بعده سوى روحانيات وأكاذيب وتأثيرات.. كما جاء في قوله، جل وعلا: {وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا (9) وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا}، [سورة الجن/ 9- 10].


وفي الختام نقول أن هاروت وماروت كانا ملكين من ملوك البشر، وبما أن الملوك لا تحكم دولة مثنى أو جماعة؛ وبما أن هاروت تقدم ذكره فمن الأجدر أن يكون هو من حكم بابل قبل ماروت، ثم جاء بعده إما تعاقبا؛ أو كان ابنه، أو بينهما ملك أو أكثر؛ ولا أستبعد أن يكونا متعاقبين؛ كما لا أستبعد أن يكون ماروت ابن هاروت.. وهل يكونان في عهد الكلدانيين، أو المندائيين، أو قبل عهد سيدنا داوود، عليه السلام، بقليل؟ هذا ما لا أستطيع الحسم فيه! لأن إذا قلنا العهد الكلداني نقول أنه أول أين ظهر السحر.. وإذا قلنا المندائيين فهم من اعتمدوا على العلم الباطني... وإذا قلنا التخمين الثالث فلأن الروايات تروي على أن سيدنا سليمان، عليه السلام، من جمع كتب السحر التي كانت في حوزة الجن ودفنها تحت عرشه.. وعندما توفي أخبرت الشياطين أولياءها على أنه كان يحكمهم بالسحر، ودلتهم على مكان الكتب.. ومن تم اتهموه بالسحر وبرأه الله، عز وجل، بعدم الكفر، أي أن السحر يعادل الكفر... والأرجح بين التخمين الثاني والثالث لأن من المنطق الأشياء الضارة لا تنتشر بسرعة، خاصة أنها علاقة بين عالمين عالم الجن، وعالم الإنس.. والعلوم الباطنية تؤدي إلى السحر.. وإذا كانت الرواية الأخيرة صادقة فما جمع تلك الكتب ودفنها سيدنا سليمان، عليه السلام، إلا لكثرتها وتعامل الناس بها.. أما العهد الكلداني حتى ولو أنه كان المنبع الأول فلا أظن أن السحر كانت له قيمة.. لأن حسب الروايات أن سيدنا إبراهيم، عليه السلام، من سلالة الكلدانيين أبا وأما.. وما جاء في قصصه أنه واجه يوما من كان يتعاط السحر...
والقرآن الكريم يبين لنا أن السحر اشتهر في عهد سيدنا موسى، عليه السلام، مما جاء بمعجزة العصا ليعجز السحرة...
من هذا الباب أرجح حكم الملكين هاروت وماروت في زمن جاء بعدهما حكم جالوت وطالوت ثم سيدنا داوود عليه السلام...


بقلم: محمد معمري