أزمة المثقف العربي في الوصول للمُتَلَقِّي

تشكل المنطوقات المتعددة عناصر الحوار وما يتكون من علاقات فيما بينها وبين من ينطق بها ومَنْ يتلقاها. والمقصود بالمنطوقات هنا هو كل كلام حي، أي الخطاب الجاري حول مواضيع تخضع لمواضعات أسلوبية ولِبُنى تأليفية تستهدف متلقياً بعينه.

وبقدر ما تكون اللغة تفكيراً تكون كلاماً، إذ تفي كلمة واحدة بالكشف عما يجول في ذهن ناطقها (سواء بالحديث أو الكتابة). فالروائي تنبع كتاباته من موقفه الأيديولوجي، فيسوق صياغاته وِفق ما يعتقد من رؤى للمسألة التي يكتب بها، والمسرحي والشاعر وكاتب المقالة يشتركون في تلك الخاصية، وبالقدر الذي يُلم فيه الكاتب أو حتى (الخطيب) بمعلومات إخبارية ومواقف ذهنية ساقت صانعي الأخبار للوصول لموقفهم الذي يتلاءم أو يتضاد مع موقف الكاتب الأيديولوجي، بالقدر الذي يُفلح فيه بصياغة خطابه بأشكاله الأدبية المختلفة.

تصنيف المُتلقي لصانع الخطاب

إن أصحاب الأدوار المهيمنة في الصراع الدولي يتمتعون بمزيد من الفرص السانحة لتبليغ أصواتهم الأيديولوجية الى أسماع الناس، وهم قادرون أيضاً على كبح الأصوات المُستضعفة، وعلى تحويلها الى أصواتٍ غير مشروعة وعقيمة.

وبالنسبة لأصحاب الأدوار المهيمنة على صعيد الدولة الواحدة، يتناغم موقفهم في غالب الأحيان مع المواقف العالمية إتباعاً أو تضاداً بما يتلاءم مع موقف الدولة سياسياً، وهذا بدوره سيصبغ الخطاب السياسي والفكري بصبغة يسهل على المُتلقي تصنيفها سريعاً وتصنيف أصحابها، أفراداً، أو جماعات، فيصبح موقف المتلقي سريعاً بمجرد ما يتعرف على اسم الكاتب أو الرافعة التي تحمله أيديولوجياً، فأحياناً يتوقف عن الاستماع لحديث ذلك المفكر أو الكاتب إذا كان يتكلم عِبر أجهزة الإعلام المرئية أو المسموعة، أو يمتنع عن شراء كتابه إذا كان موقفه تم التعبير عنه في كتاب أو يقفز عن قراءة موضوعه في الجريدة أو المجلة، وإن أكمل الاستماع أو القراءة فإنه لن يغير موقفه من صاحبه!

الخطاب الشعبي

في المقاهي والبيوت والجلسات الحميمية للأصحاب والجماعات التي يعرف أفرادها بعضهم جيداً، تتصف أحاديث هؤلاء الناس بالصدق والأصالة والتعبير عن آمالهم وآلامهم وهو جانب إيجابي لحدٍ ما، ويتخلل تلك الأحاديث كلاماً حالماً أو غاضباً وغير معقول ولا يصب في تطوير الجانب الإيجابي، بل يتعادل معه ويضيع أثره.

عزلة المحترفين وضياع أثر جهودهم

يهتم المثقف المحترف، بلغته وحرفية نقل الخبر أو الموقف الأيديولوجي، ويضع نصب عينيه، ردود أفعال الناقدين له من المحترفين. فالمُتلقي عند المحترف، هو محترف أو محترفين آخرين، إن قرءوا أو اطلعوا على ما كتب أو قال، فإن جهدهم الثقافي القادم سينصب على نقد من قرءوا له.. وتكون نقاط انتقاداتهم منصبة على تصنيف العمل: هل هو خاطرة؟ أم قصة؟ أم رواية؟ ويتفحصون كل خطأ نحوي، أو زلة عقائدية أو غيره..

إن توجه المثقفين المحترفين من كتابٍ ومفكرين وفلاسفة وروائيين كبار وشعراء، نحو جمهور المثقفين المبتدئين أو عموم القراء، هو توجه ضعيف وغير ذو أثر. ونشاطهم فيما بينهم أشبه ما يكون بين محترفين للعبة لها قوانينها لكنها لا تحظى بجماهيرية شعبية. وهذا أثر على حجم مبيعات الكتب أو ظهور شعراء وروائيين يتناقل شعرهم وأعمالهم طلبة المدارس والجامعات في كل الأقطار العربية.

تجارب ناجحة سابقة وتجارب حاضرة قد تنجح

كان أجدادنا يصنفون بعض عمالقة الفكر أمثال الشافعي وابن الرشد والفارابي وابن خلدون وغيرهم، بأنهم كُتَّابٌ يكتبون لخاصة الخاصة، ولكنهم كانوا يتعايشون مع من يتتلمذ لديهم ويشرح ويكتب لخاصة العامة، وكان هناك من يخاطب عامة العامة، فيستفيد من أعمالهم كل أبناء الأمة، بواسطة غيرهم ممن يحرصون على تعميم تلك الأفكار ليستفيد منها كل أبناء المجتمع.

وفي الخمسينات والستينات وما تلاها من سنين قليلة من القرن الماضي، كان المدرسون في المدارس، يشرحون بحرية واعية أعمال عمالقة الفكر القدماء والمعاصرين للتلاميذ. كما كانت الحلقات الحزبية بمختلف مدارسها الإسلامية والقومية واليسارية، تمارس دور التثقيف والتحريض وصناعة المثقفين.

لقد اختفت تلك المظاهر في العقدين الأخيرين، فلم يعد المدرسون للقيام بصناعة المثقفين الوطنيين، ولم تعد الأحزاب تهتم بالتوعية الثقافية بين أنصارها ومؤيديها إلا فيما ندر، وأصبحت البلاد العربية كمدينة بها تمديدات للمياه ولكنها كلها من قطر ثخين (6 بوصة) ولكنها لا تصل للمواطن ليشرب من أنابيب (نصف أو ثلاثة أرباع البوصة).

أما التجارب التي قد تبشر بالخير، فهي تلك التي تشهدها الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، حيث يتجرأ البعض من كتابة أفكاره ومفاهيمه دون المرور على محرر لغوي أو غيره، فهي تنمي مهارات من يحاول تنمية مهاراته ككاتب، وتؤدي غرضها في كثير من الأحيان لمُتلقين عزفوا عن قراءة الكتب ومتابعة ما يكتبه الأدباء والمفكرون.