نُسَيْمَةُ !


في ضحى يوم ربيعيٍّ من أيام أيار (مايو) الجميلة، جلست وحدي في روضة من رياض الأنس في خبايا نفسي، روضة يعجز اللّسان عن وصفها و يكبو القلم في رسمها، و لولا سبق القول إن الجَنّة "فيها ما لا عين رأت، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر" لخلتُها جنّة فرّت من الجنان فتمثّلت هنا في هذا المكان، و كنت أنا فيها من الفائزين، أنا الفناّن الحيران الحزين !!!
و بينما أنا جالس هنا، أترون ؟ أمتِّع نفسي بأطاييب "الفردوس"، سمعتُ وقع قدمين على الممر المجاور، فالتفتُّ و رأيت، و يا لهول ما رأيت !!! رأيت مخلوقا غريبا، نصفه السّفلي كجسم عنزة مكسو بشعر طويل، و نصفه العلوي جسم إنسان بارز العضلات، و أما رأسه المخيف بقرنيه الصغيرتين و أذنيه الكبيرتين و عينيه الحمراوين فكان أغرب من النصفين معا !
تجمَّد الدّم في عروقي و تسمّرت في مكاني لا ألوي على شيء سوى التعوّذ بالله العظيم من الشّيطان الرّجيم !!!
و ما إن اقترب مني، و أنا في حالي تلك من الهلع و الفزع، حتى سمعته ينشِد بلسان عربي مبين، فعرفت أنه شيطان شاعر أو هو شيطان الشعر نفسه، فذهب عني بعض الفزع و اطمأننت قليلا، و أما هو فمرّ بقربي غير آبهٍ بي، يلوح بيديه و يجر ذيلا لو رأيته حسبته رُمحا من المطاط أصابته الشمس فلانَ و ارتخى ...؛ كان المسكين (؟!!) مبهوتا بجمال الجنان، مشدوها بالرَّوْح و الريحان، و راح يطلق لخياله العنان، فقال كلاما هو إلى النَّثر أقرب منه إلى الشِّعر، و كان يخلط السجع بالأوزان غير عابئ بالألحان، و أنى له أن يراعي القواعد و هو التائه الولهان بما رآه من سحر هذا المكان ؟ قال :


" يا نَسْمَة حارت في روحها النسمات
و يا بَسْمَة غارت من لطفها البسمات
نُسَيْمَة، يا آية ما حوتها الكلمـــــــات
و يا غِنْوة غرقت في بحرها النغمات !"


و بعد صمت، و قد التبست عليه بحورُ الشعر، و هو شيطان الشعر فيما أحسب، و اختلطت عليه القوافي، استأنف منشدا:


"نُسَيْمَة يا فتاة ليست كالفتيات،
و يا حبا وجدتُّ به طعم الحياة،
لست وحدي الميتم بذي الفتاة
فقد شاع هواها في الكائنات !"


و لما سمعته ينشد هكذا و قد أثار خيالي قلت:


"نُسَيْمَة يا أنشودة الرُّوحِ في القلب،
و يا غِنوة غنَّها الرَّوْحُ للــــــحب !"


إلتفت إلي دهشا و رجع بعض الخطوات و قال بصوت راعد : " تزاحمني في هواي يا إنسان ؟ أما تخاف بطش الجان ؟"
قلت بلا تردد غير أن فرائصي كانت ترتعد : "ألم تقل : لستُ وحدي المتيّم بذي الفتاة، فقد شاع هواها في الكائنات ؟"
قال: " أجل، قلتُ ذلك، لكن ألم تسمع {و الشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، و أنهم يقولون ما لا يفعلون } ؟"
قلت : " بلى، سمعت !"
قال: " إذن ما لك و الهوا (الهواء) ؟"
قلت و قد بدأت الطمأنينة تعود باستحياء إلى قلبي المفزوع: " كيف ما لي و الهوا، ألستُ من الكائنات، و لي حق التمتع به مثلك ؟ و هل الهوا هواك وحدك ؟"
قال: " نعم، لك حق، و لكن لا تزاحمني في شواعري فقد قطعت علي حبل خواطري !!!"
قلت : " لا تبالِ بما قلتُه، إنما قصدت مآنستَك فقط لما رأيتك تشكو مواجدتَك !"
قال : " تؤانسني يا مجنون ؟!!! "
قلت و قد ذهب عنيّ الرّوع أو يكاد: " نحن إذن سيّان، أنا مجنون، و أنت مأنوس !"
نظر إلي مستغربا من "جنوني" و قال: "أراك سريع الجواب حاضر البديهة، فأنت لا محالة قد عاشرت قوما ليسوا من جنسك !"
قلت :" لا ! إنما أنا إنسي يلتقي بجني لأول مرة فقط !
قال : " تقول "لأول مرة" ؟ عجباً لك يا إنسان، أما تدري أن لك قرينا منا نحن الجان ؟"
قلت: " أعلم هذا و لكنني لم أره و لم أتحدّث معه قطُّ !"
قال: " إن لم تره فهو يراك، و إن لم تحدّثه فهو يحدّثك، و ربما، بل أكيد، يعبث بك !"
قلت: " دعْنا من هذا الآن، و أخبرني لماذا اضطربت في شعرك ؟ أما تتقن العروض فأخللت بالأوزان ؟"
قلت له ذلك مخادعة كأنني أتقنها أو أعرفها على الأقل.
قال: "كيف تقول هذا و أنا من شعراء الجن ؟ أما سمعت قول الناس "شيطان الشعر" لمّا يتحدّثون عن نظمه و قرضه ؟"
قلت: " بَلـى سمعت و قرأت عنكم، و قد قلت أنا في نفسي منذ قليل " إنه شيطان شاعر أو هو شيطان الشعر نفسه"، و لست أدري لماذا خطر ذلك على بالي، يبدو أنني ما فعلت ذلك إلا تماشيا مع العادة فقط، غير أنني لا أؤمن بأن للشعر شياطين، و إنما هو خواطر تنتظم إذا ما وجدتْ الدواعي و الظروف المواتية و الاستعدادَ الفطري أو الكسبي !
قال: " صدقت، فاكتم عنا ذلك !"
قلت:" اطمئن، لكن هذا لا يمنعك من مراعاة قواعد العروض و التزام شروط الشعر و إلا ما كان كلامك شعرا و إنما هو نثر جميل فقط !"
قال: "هذا صحيح، يجب مراعاة ما تقول، غير أن تلك القواعد إنما هي قيود تحدُّ من شاعرية الشّاعر، فالشّعر ما عبّر عن خوالج النّفس بصدق و صُبَّ بإحكام في قوالب الألفاظ الملائمة، فإن عجزتَ فما تقوله من نثر جميل قد يفوق الشعر أحيانا !"
قلت: "قد يكون في قولك بعض الصدق، لكن، أخبرني عن هذا الذي كنت تقول، هل صحيح أنك بالنسيم مجنون ؟ أو إلى هذا الحد أنت به مفتون ؟"
قال: " آه لو تدري ما أعاني منه ؟! ثم ألم تسمع الناس يتعوّذون من النّفس و الهوى ؟ و ...
قلت مقاطعا: " و من الشّيطان أيضا ! "
نظر إلي بحدة جنونية و عيناه ترسلان الشّرّ، و كاد يبطش بي لو لم أتعوذ سريعا بالله العظيم من الشيطان الرجيم، فخنس و حبس بعدما تجهّم وجهُه و عبس، و لما لم يستطع فعل شيء معي بسبب الحصن الحصين الذي لذت به، أخذ يضطرب اضطراب "المجنون" أو قل المعتوه، و راح يحرك ذنبه، أو رمحه المطاطي، بشدة، و لما رآني أنظر إليه مبتسما و أمسك نفسي عن الضّحك، و حتى يُخْفي عنّي اضطرابَه، أمسك برمحه و التقم رأس ذيله، فبدا لي ساعتها كأنه نافخ مزود، و هو المزود في الوقت نفسه، فلم أستطع أن أحبس ضحكة فأطلقتها عالية : ها، ها، ها !
و لما هدأ و سكتُّ، قال : " لا فائدة من التّشاجر الآن و نحن في هذا المكان، بل في هذا الجنان، فهلاّ واصلت معي الوصف، و لنكمل وصف النسيم إذا أردت أوّلا !
قلت : "حسن، فاسمع !


"نُسَيْمَة يا فتاة غار منها الدلال،
فثار، من حسد، بها الجمال،
و حار من حسنها الخيال،
فتاهت في حبّها الرّجال !"


(أيّها القارئ النبيه: اكتم عني ما تراه من عيوب في هذا "الشعر" و لا تفضحني، أرجوك !).
قال: " لأنت أشد هُياما بالنّسيم منيّ !"
قلت: " كيف لا أكون كذلك و أنت لا تزال معي في مكانك ؟ إنّما الجليس بالجليس يقتدي !"
قال: " من قال هذا الكلام الحكيم ؟ "
قلت مزهوا بنفسي: " أنا، هل أعجبتك حكمتي ؟"
نظر إلي شزرا و هو يبتسم تبسم السّاخر، و لعله كان يقول في نفسه الشّيطانيّة " ما أشدّ غرورَ هذا الإنسان ؟ ! ماذا يظن نفسه ؟ هل هو أفصح بيانا مني و أنا من الجان ؟ ! " ثم قال بصوت عال يمتحنني: " أخبرني على أي بحر جاء شعرك الذي قلت الآن ؟"
قلت: "من البحر المتداخل يا جان، و هو على وزن "فعول مفاعلن مستفعلن فاعلان"
قال: "جيّد !"
قلت في أعماق نفسي حتى لا يسمعني : " لو قلتُ له إنه من البحر الأبيض المتوسط، لقال "جيّد" ما أغبى شيطان الشعر هذا، أو ما أغباني معه و به !"
ثم قال: "هل لك في هذا الموضوع ما تقوله نثرا ؟"
قلت: "نعم، اسمع ! نُسَيْمَة ! رأيتك فتاة رشيقة ترسل علي أنفاسها الرقيقة، فتسري الحياة في أعماقي سريان الرُّوح في أعراقي !"
قال: "الله، الله ! و ماذا أيضا ؟
قلت مغاضبا (ظاهرا) : "و هل انقلب الوضع فصرت أنا العاشق الولهان و أنت السّامع الكسلان ؟"
قال و هو يضحك وقد بدت لي أنيابه المخيفة أكثر: " لا، لا يا صديقي (صديقه ؟ عجيب !!!) لقد أعجبني كلامك فأحببت الاستزادة منه فقط !"
قلت: " لا زيادة عندي الآن، و هل عندك شيء تقوله أنت من هذا البيان ؟"
قال: "الحق و الحق أقول، (؟!!! هذه من عندي و لم أبدها له، أنتم تفهمونني طبعا !)، أنا لست في مستواك و لذا لا تضحك من بياني، أرجوك !"
قلت: "اطمئن، قل و لا تخف، (لقد انقلبت الأوضاع، فصرت أنا الذي يطمئنه الآن !) أعلم أننا معشر الإنس أوضح بيانا منكم، أما سمعت قول الله عزّ و جلّ {قل لو اجتمعت الإنس و الجن...}، الآية، فقد بدأ بنا نحن الإنس قبلكم لقدرتنا على البيان أكثر منكم ؟"
قال و هو متجهم الوجه:" أعلم هذا، فلا داعي لتكراره علي في كل مرة !"
قلت و أنا أحاول تهدئته بابتسامة بريئة (؟!!!): " لا علينا، قل ما عندك !"
قال بعد تردّد : " نُسَيْمَة، أما رأيت لما تقبلين مزهوة في زينتك، كيف تنحني الأزاهير إجلالا لك، و تضطرب الأوراق احتفاء بك، و تولول العصافير جذلانة منك، و ترقص الفراشات لقدومك، و تصير الطبيعة في عرس بك، و أنا الشاعر الولهان في تعس منك، و أغار أنا منها عليك ؟"
قلت بعد صمت مقصود، رحت أفكر فيه كيف أواجهه بالحقيقة المرة : "أحسنت، غير أنك أزعجت أُذُنَيَّ بـ "كاكاتك" (كافاتك) المتكررة، أما وجدتَّ غير هذا يا هذا ؟ لقد أتيْتَ من الرّكاكة بما يعجز عنه البلغاء، ها، ها، ها !"
قال و وجهه يتمعّر من الخجل: "لقد حذرّتك أنني لست في مستواك، فقل أنت !"
قلت: "حسن، سأستأنف من حيث توقفت أنت، فاسمع ! و أغار أنا منها عليك ؟ وا عجبا مني ! أغار عليك، يا فتاتي، من الفراش و العصافير، و الأوراق و الأزاهير ؟ كيف لا أغار و قد سكن حبك قلبا ما عرف الحب قبلا !؟"
نظر إليّ و علاماتُ التعجب تتطاير من رأسه تطاير الشّرر من التنور (الكانون) و كيف لا يتطاير الشرر منه و هو المخلوق من النّار ؟ ثم قال: " عجبا منك يا إنسان ما أروع هذا البيان !"
قلت: "كفى مدحا و إلا اضطررت لحثو التّراب على رأسك !"
قال:" تحثو التراب عليَّ ؟! لماذا ؟ لم أقل إلا ما أحسست به من إعجاب بحسن كلامك !"
قلت بعدما رأيته استطاب المقام و أراد أن يواصل الكلام، قرّرت إنهاء هذا التسلي خشية منه على عقلي: " أرى أنك فارغ الفؤاد من الشواغل غير هوى "نُسَيْمَة"، أما لك من شغل يـا شيـ..... جان ؟"
قال:" بلى، لي أشغال كثيرة أنت تعرفها، لكنّني لما وجدت كثيرا من البشر قد فاقونا في الشّيطنة جئت لأستريح هنا، فوجدتك فكان هذا الحوار اللطيف و الممتع معك، ثم لماذا هذا السؤال ؟ هل سئمت من حديثي و مجالستي ؟ (عجيب أمر هذا الشيطان، لعله شيطان أبله، قلت هذا في نفسي و لم أعلنه له حذرا من العواقب !) ثم قلت بصوت مسموع: "لا، لا ! لم أسأم من مجالستك، و هل يُسأم من مجالسة مخلوق لطيف و ظريف مثلك ؟!"
قال:" شكرا يا صديقي ! (صديقُه ؟!!! و يعيدها ثانية ؟ إنه لشيطان أبله حقا !).
قلت: "العفو! معذرة، لي أشغال كثيرة، أنا ذاهب لقضائها !"
و هممت بالنهوض غير أنني شعرت بدُوار أصابني فجأة، فجلست على الفور و أغمضت عَيْنَيَّ حتى أسترجع قواي، فأخذتني غفوة، لست أدري كم دامت، و لما فتحتهما وجدتني ممددا على فراشي و قد كنت استلقيت عليه منذ ساعة !




البُليدة في 23/07/1992 و روجعت بعدُ.