في آفات العلم وبيان علامات علماء الآخرة والعلماء السوء



قد ذكرنا ما ورد من فضائل العلم والعلماء وقد ورد في العلماء السوء تشديدات عظيمة دلت على أنهم أشد الخلق عذاباً يوم القيامة‏.‏

فمن المهمات العظيمة معرفة العلامات الفارقة بين علماء الدنيا وعلماء الآخرة ونعني بعلماء الدنيا علماء السوء الذين قصدهم من العلم التنعم بالدنيا والتوصل إلى الجاه والمنزلة عند أهلها

قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه ‏"‏ وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏"‏ لا يكون المرء عالماً حتى يكون بعلمه عاملاً ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ العلم علمان‏:‏ علم على اللسان فذلك حجة الله تعالى على خلقه وعلم في القلب فذلك العلم النافع ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يكون في آخر الزمان عباد جهال وعلماء فساق ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولتماروا به السفهاء ولتصرفوا به وجوه الناس إليكم فمن فعل ذلك فهو في النار ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لأنا من غير الدجال أخوف عليكم من الدجال‏.‏



قيل‏:‏ وما ذلك فقال‏:‏ من الأئمة المضلين ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من ازداد علماً ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعداً ‏"‏ وقال عيسى عليه السلام‏:‏ إلى متى تصفون الطريق للمدلجين وأنتم مقيمون مع المتحيرين فهذا وغيره من الأخبار يدل على عظيم خطر العلم فإن العالم إما متعرض لهلاك الأبد أو لسعادة الأبد وإنه بالخوض في العلم قد حرم السلامة وإن لم يدرك السعادة‏.‏

وأما الآثار فقد قال عمر رضي الله عنه‏:‏ إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة المنافق العليم‏.‏

قالوا‏:‏ وكيف يكون منافقاً عليماً قال‏:‏ عليم اللسان جاهل القلب والعمل‏.‏

وقال الحسن رحمه الله‏:‏ لا تكن ممن يجمع علم العلماء وطرائف الحكماء ويجري في العمل مجرى السفهاء‏.‏

وقال رجل لأبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ أريد أن أتعلم العلم وأخاف أن أضيعه فقال‏:‏ كفى بترك العلم إضاعة له‏.‏


وقيل لإبراهيم بن عيينة‏:‏ أي الناس أطول ندماً قال‏:‏ أما في عاجل الدنيا فصانع المعروف إلى من لا يشكره وأما عند الموت فعالم مفوط‏.‏

وقال الخليل بن أحمد‏:‏ الرجال أربعة رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك نائم فأيقظوه ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذلك مسترشد فأرشدوه ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فارفضوه‏.‏


وقال سفيان الثوري رحمه الله‏:‏ يهتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل‏.‏

وقال ابن المبارك‏:‏ لا يزال المرء عالماً ما طلب العلم فإذا ظن أنه قط علم فقد جهل‏.‏

وقال الفضيل ابن عياض رحمه الله‏:‏ إني لأرحم ثلاثة‏:‏ عزيز قوم ذل وغني قوم افتقر وعالماً تلعب به الدنيا‏.‏
وقال الحسن‏:‏ عقوبة العلماء موت القلب وموت القلب طلب الدنيا بعمل الآخرة وأنشدوا‏:‏ عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى ومن يشتري دنياه بالدين أعجب وأعجب من هذين من باع دينه بدنيا سواه فهو من ذين أعجب وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن العالم ليعذب عذاباً يطيف به أهل النار استعظاماً لشدة عذابه ‏"‏ أراد به العالم الفاجر‏.‏

وقال أسامة بن زيد‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ يؤتى بالعالم يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيطيف به أهل النار فيقولون مالك فيقول كنت آمر بالخير ولا آتيه وأنهى عن الشر وآتيه ‏"‏ وإنما يضاعف عذاب العالم في معصيته لأنه عصى عن علم ولذلك قال الله عز وجل ‏"‏ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ‏"‏ لأنهم جحدوا بعد العلم وجعل اليهود شراً من النصارى مع أنهم ما جعلوا لله سبحانه ولداً ولا قالوا‏:‏ إنه ثالث ثلاثة إلا أنهم أنكروا بعد المعرفة إذ قال الله ‏"‏ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ‏"‏ وقال تعالى - في قصة بلعام بن باعوراء - ‏"‏ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ‏"‏ حتى قال ‏"‏ فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ‏"‏ فكذلك العالم الفاجر فإن بلعام أوتي كتاب الله تعالى فأخلد إلى الشهوات فشبه بالكلب أي سواء أوتي الحكمة أو لم يؤت فهو يلهث إلى الشهوات‏.‏

وقال عيسى عليه السلام‏:‏ مثل علماء السوء كمثل صخرة وقعت على فم النهر لا هي تشرب الماء ولا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع ومثل علماء السوء مثل قناة الحش ظاهرها جص وباطنها نتن ومثل القبور ظاهرها عامر وباطنها عظام الموتى‏:‏ فهذه الأخبار والآثار تبين أن العالم الذي هو من أبناء الدنيا أخس حالاً وأشد عذاباً من الجاهل‏.‏

وأن الفائزين المقربين هم علماء الآخرة ولهم علامات‏:‏ فمنها أن لا يطلب الدنيا بعلمه فإن أقل درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا وخستها وكدورتها وانصرامها وعظم الآخرة ودوامها وصفاء نعيمها وجلالة ملكها ويعلم أنهما متضادتان وأنهما كالضرتين مهما أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى وأنهما ككفتي الميزان مهما رجحت إحداهما خفت الأخرى وأنهما كالمشرق والمغرب مهما قربت من أحدهما بعدت عن الآخر وأنهما كقدحين أحدهما مملوء والآخر فارغ فبقدر ما تصب منه في الآخر حتى يمتلىء يفرغ الآخر‏.‏

فإن من لا يعرف حقارة الدنيا وكدورتها وامتزاج لذاتها بألمها ثم انصرام ما يصفو منها فهو فاسد العقل‏.‏

فإن المشاهدة والتجربة ترشد إلى ذلك فكيف يكون من العلماء من لا عقل له ومن لا يعلم عظم أمر الآخرة ودوامها فهو كافر مسلوب الإيمان فكيف يكون من العلماء من لا إيمان له ومن لا يعلم مضادة الدنيا للآخرة وأن الجمع بينهما طمع في غيرم مطمع فهو جاهل بشرائع الأننبياء كلهم بل هو كافر بالقرآن كله من أوله إلى آخر فكيف يعد من زمرة العلماء ومن علم هذا كله ثم لم يؤثر الآخرة على الدنيا فهو أسير الشيطان قد أهلكته شهوته وغلبت عليه شقوته فكيف يعد من حزب العلماء من هذه درجته وفي أخبار داود عليه السلام حكاية عن الله تعالى ‏"‏ إن أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي يا داود لا تأسل عني عالماً قد أسكرته الدنيا فيصدك عن طريق محبتي أولئك قطاع الطريق على عبادي يا داود إذا رأيت لي طالباً فكن له خادماً يا داود من رد إلي هارباً كتبته جهبذاً ومن كتبته جهبذاً لم أعذبه أبداً ‏"‏ ولذلك قال الحسن رحمه الله‏:‏ عقوبة العلماء موت القلب وموت القلب طلب الدنيا بعمل الآخرة‏.‏

ولذلك قال يحيى بن معاذ‏:‏ إنما يذهب بهاء العلم والحكمة إذا طلب بهما الدنيا‏.‏

وقال سعيد بن المسيب رحمه الله‏:‏ إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء فهو لص

وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ إذا رأيتم العالم محباً للدنيا فاتهموه على دينكم فإن كل محب يخوض فيما أحب

وقال مالك بن دينار رحمه الله‏:‏ قرأت في بعض الكتب السالفة إن الله تعالى يقول إن أهون ما أصنع بالعالم إذا أحب الدنيا أن أخرج حلاوة مناجاتي من قلبه‏.‏



وكتب رجل إلى أخ له‏:‏ إنك قد أوتيت علماً فلا تطفئن نور علمك بظلمة الذنوب فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم في نور عملهم وكان يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله يقول لعلماء الدنيا‏:‏ يا أصحاب العلم قصوركم قيصرية وبيوتكم كسروية واثوابكم ظاهرية وأخفافكم جالوتية ومراكبكم قارونية وأوانيكم فرعونية ومآثمكم جاهلية ومذاهبكم شيطانية فأين الشريعة المحمدية قال الشاعر‏:‏ وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها ذئاب وقال الآخر‏:‏ يا معشر القراء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد وقيل لبعض العارفين‏:‏ أترى أن من تكون المعاصي قرة عينه لا يعرف الله قال لاشك أن من تكون الدنيا عنده آثر من الآخرة أنه لا يعرف الله تعالى‏.‏

وهذا دون ذلك بكثير ولا تظنن أن ترك المال يكفي في اللحوق بعلماء الآخرة فإن الجاه أضر من المال‏.‏

ولذلك قال بشر حدثنا باب من أبواب الدنيا فإذا سمعت الرجل يقول حدثنا فإنما يقول‏:‏ أوسعوا لي‏.‏

ودفن بشر بن الحرث بضعة عشر ما بين قمطرة وقوصرة من الكتب وكان يقول‏:‏ أنا أشتهي أن أحدث ولو ذهبت عني شهوة الحديث لحدثت وقال هو وغيره‏:‏ إذا اشتهيت أن تحدث فاسكت فإذا لم تشته فحدث‏.‏

وهذا لأن التلذذ بجاه الإفادة ومنصب الإرشادة أعظم لذة من كل تنعم في الدنيا فمن أجاب شهوته فيه فهو من أبناء الدنيا‏.‏


ولذلك قال الثوري‏:‏ فتنة الحديث أشد من فتنة الأهل والمال والولد وكيف لا تخاف فتنه وقد قيل لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً ‏"‏ وقال سهل رحمه الله‏:‏ العلم كله دنيا والآخرة منه العمل به والعمل طله هباء إلا الإخلاص‏.‏

وقال‏:‏ الناس كلهم موتى إلا العلماء والعلماء سكارى إلا العاملين والعاملون كلهم مغرورون إلا المخلصين والمخلص على وجل حتى يدري ماذا يختم له به‏.‏

وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله‏:‏ إذا طلب الرجل الحديث أو تزوج أو سافر في طلب المعاش فقد ركن إلى الدنيا وإنما أراد به طلب الأسانيد العالية أو طلب الحديث أو تزوج أو سافر في طلب الآخرة وقال عيسى عليه السلام‏:‏ كيف يكون من أهل العلم من مسيره إلى آخرته وهو مقبل على طريق دنياه وكيف يكون من أهل العلم من يطلب الكلام ليخبر به لا ليعمل به وقال صالح بن كيسان البصري‏:‏ أدركت الشيوخ وهم يتعوذون بالله من الفاجر العالم بالسنة‏.‏


وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من طلب علماً مما يبتغي به وجه الله تعالى ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة ‏"‏ وقد وصف الله علماء السوء بأكل الدنيا بالعلم ووصف علماء الآخرة بالخشوع والزهد‏.‏

فقال عز وجل في علماء الدنيا ‏"‏ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً ‏"‏ وقال تعالى في علماء الآخرة ‏"‏ وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً أولئك لهم أجرهم عند ربهم ‏"‏ وقال بعض السلف‏:‏ العلماء يحشرون في زمرة الأنبياء والقضاة يحشرون في زمرة السلاطين‏.‏


وفي معنى القضاة كل فقيه قصده طلب الدنيا بعلمه‏.‏

وروى أبو الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏"‏ أوحى الله عز وجل إلى بعض الأنبياء‏:‏ قل للذين يتفقهون لغير الدين ويتعلمون لغير العمل ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة يلبسون للناس مسوك الكباش وقلوبهم كقلوب الذئاب ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر إياي يخادعون وبي يستهزئون لأفتحن لهم فتنة تذر الحليم حيران ‏"‏

وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ علماء هذه الأمة رجلان‏:‏ رجل آتاه الله علماً فبذله للناس ولم يأخذ عليه طمعاً ولم يشتر به ثمناً فذلك يصلي عليه طير السماء وحيتان الماء ودواب الأرض والكرام الكاتبون يقدم على الله عز وجل يوم القيامة سيداً شريفاً حتى يوافق المرسلين ورجل آتاه الله علماً في الدنيا فضن به على عباد الله وأخذ عليه طمعاً واشترى به ثمناً فذلك يأتي يوم القيامة ملجماً بلجام من نار ينادي مناد على رءوس الخلائق هذا فلان بن فلان آتاه الله علماً في الدنيا فضن به على عباده وأخ به طمعاً واشترى به ثمناً فيعذب حتى يفرغ من حساب الناس ‏"‏

واشد من هذا ما روي ‏"‏ أن رجلاً كان يخدم موسى عليه السلام فجعل يقول حدثني موسى صفي الله حدثني موسى نجي الله حدثني موسى كليم الله حتى أثرى وكثر ماله ففقده موسى عليه السلام فجعل يسأل عنه ولا يحس له خبراً حتى جاءه رجل ذات يوم وفي يده خنزير وفي عنقه حبل أسود فقال له موسى عليه السلام‏:‏ أتعرف فلاناً قال‏:‏ نعم قال هو هذا الخنزير فقال موسى‏:‏ يا رب أسألك أن ترده إلى حاله حتى أسأله بم أصابه هذا فأوحى الله عز وجل إليه‏:‏ لو دعوتني بالذي دعاني به آدم فمن دونه ما أجبتك فيه ولكن أخبرك لم صنعت هذا به لأنه كان يطلب الدنيا بالدين ‏"‏ وأغلظ من هذا ما روى معاذ بن جبل رضي الله عنه موقوفاً ومرفوعاً في رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ من فتنة العالم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع ‏"‏ وفي الكلام تنميق وزيادة ولا يؤمن على صاحبه الخطأ وفي الصمت سلامة وعلم‏.‏


ومن العلماء من يخزن علمه فلا يحب أن يوجد عند غيره فذلك في الدرك الأول من النار‏.‏
ومن العلماء من يكون في علمه بمنزلة السلطان إن رد عليه شيء من علمه أو تهوون بشيء من حقه غضب فذلك في الدرك الثاني من النار‏.‏
ومن العلماء من يجعل علمه وغرائب حديثه لأهل الشرف واليسار ولا يرى أهل الحاجة له أهلاً فذلك في الدرك الثالث من النار‏.‏
ومن العلماء من ينصب نفسه للفتيا فيفتي بالخطأ والله تعالى يبغض المتكلفين بذلك في الدرك الرابع من النار‏.‏
ومن العلماء من يتكلم بكلام اليهود والنصارى ليغرز به علمه فذلك في الدرك الخامس من النار‏.‏
ومن العلماء من يتخذ علمه مروءة ونبلاً وذكراً في الناس فذلك في الدرك السادس من النار‏.‏
ومن العلماء من يستفزه الزهو والعجب فإن وعظ عنف وإن وعظ أنف فذلك في الدرك السابع من النار‏.‏
فعليك يا أخي بالصمت فبه تغلب الشيطان‏.‏
وإياك أن تضحك من غير عجب أو تمشي في غير أرب‏.‏
وفي خبر آخر ‏"‏ إن العبد لينشر له من الثناء ما يملأ ما بين المشرق والمغرب وما يزن عند الله جناح بعوضة ‏"‏ وروى أن الحسن حمل إليه رجل من خراسان كيساً بعد انصرافه من مجلسه فيه خمسة آلاف درهم وعشرة أثواب من رقيق البز وقال‏.‏
يا أبا سعيد هذه نفقة وهذه كسوة فقال الحسن‏.‏
عافاك الله تعالى ضم إليك نفقتك وكسوتك فلا حاجة لنا بذلك إنه من جلس مثل مجلسي هذا وقبل من الناس مثل هذا لقي الله تعالى يوم القيامة ولا خلاق له‏.‏
وعن جابر رضي الله عنه موقوفاً ومرفوعاً‏:‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا تجلسوا عند كل عالم إلا إلى عالم يدعوكم من خمس إلى خمس‏:‏ من الشك إلى اليقين ومن الرياء إلى الإخلاص ومن الرغبة إلى الزهد ومن الكبر إلى التواضع ومن العداوة إلى النصيحة ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن ‏"‏ الآية فعرف أهل العلم بإيثار الآخرة على الدنيا‏.‏
ومنها أن لا يخالف فعله قوله بل لا يأمر بالشيء ما لم يكن هو أول عامل به‏.‏
قال الله تعالى ‏"‏ أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ واتقوا الله واعلموا - واتقوا الله واسمعوا ‏"‏ وقال تعالى لعيسى عليه السلام ‏"‏ يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني ‏"‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت‏:‏ من أنتم فقالوا‏:‏ كنا نأمر بالخير ولا نأتيه وننهى عن الشر ونأتيه ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ هلاك أمتي
عالم فاجر وعابد جاهل وشر الشرار شرار العلماء وخير الخيار خيار العلماء ‏"‏ وقال الأوزاعي رحمه الله‏:‏ شكت النواويس ما تجد من نتن جيف الكفار فأوحى الله إليها‏:‏ بطون علماء السوء أنتن مما أنتم فيه‏.‏
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله‏:‏ بلغني أن الفسقة من العلماء يبدأ بهم يوم القيامة قبل عبدة الأوثان‏.‏
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه‏:‏ ويل لمن لا يعلم مرة وويل لمن يعلم ولا يعمل سبع مرات‏.‏
وقال الشعبي‏:‏ يطلع يوم القيامة قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون لهم‏:‏ ما أدخلكم النار وإنما أدخلنا الله الجنة بفضل تأديبكم وتعليمكم فيقولون إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله وننهى عن الشر ونفعله‏.‏
وقال حاتم الأصم رحمه الله ليس في القيامة أشد حسرة من رجل علم الناس علماً فعملوا به ولم يعمل هو به ففازوا بسبب وهلك هو‏.‏
وقال مالك ابن دينار‏:‏ إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا‏.‏
وأنشدوا‏:‏
يا واعظ الناس قد أصبحت متهماً ** إذ عبت منهم أموراً أنت تأتيها
أصبحت تنصحهم بالوعظ مجتهداً ** فالموبقات لعمري أنت جانيها
تعيب ديناً وناساً راغبين لها ** وأنت أكثر منهم رغبة فيها
وقال آخر‏:‏
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ** عار عليك إذا فعلت عظيم
وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله‏:‏ مررت بحجر بمكة مكتوب عليه اقلبني تعتبر فقلبته فإذا عليه مكتوب أنت بما تعلم لا تعمل فكيف تطلب علم ما لم تعلم وقال ابن السماك رحمه الله‏:‏ كم من مذكر بالله ناس لله‏!‏ وكم من مخوف بالله جريء على الله‏:‏ وكم من مقرب إلى الله بعيد من الله‏!‏ وكم من داع إلى الله فار من الله‏!‏ وكم من تال كتاب كتاب الله منسلخ عن آيات الله‏!‏ وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله‏:‏ لقد أعربنا في كلامنا فلم نلحن ولحنا في أعمالنا فلم نعرب‏.‏
وقال الأوزاعي‏:‏ إذا جاء الإعراب ذهب الخشوع‏.‏
وروى مكحول عن عبد الرحمن بن غنم أنه قال‏:‏ حدثني عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا كنا ندرس العلم في مسجد قباء إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ‏"‏ تعلموا ما شئتم أن تعلموا فلن يأجركم الله حتى تعملوا ‏"‏ وقال عيسى عليه السلام‏:‏ مثل الذي يتعلم العلم ولا يعمل به كمثل امرأة زنت في السر فحملتفظهر حملها فافتضحت فكذلك من لا يعمل بعلمه يفضحه الله تعالى يوم القيامة على رءوس الأشهاد‏.‏
وقال معاذ رحمه الله‏:‏ احذروا زلة العالم لأن قدره عند الخلق عظيم
فيتبعونه على زلته‏.‏
وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ إذا زل العالم زل بزلته عالم من الخلق وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ ثلاث بهن ينهدم الزمان إحداهن زلة العالم‏.‏
وقال ابن مسعود‏:‏ سيأتي على الناس زمان تملح فيه عذوبة القلوب فلا ينتفع بالعلم يومئذ عالمه ولا متعلمه فتكون قلوب علمائهم مثل السباخ من ذوات الملح ينزل عليها قطر السماء فلا يوجد لها عذوبة وذلك إذا مالت قلوب العلماء إلى حب الدنيا وإيثارها على الآخرة فعند ذلك يسلبها الله تعالى ينابيع الحكمة ويطفىء مصابيح الهدى من قلوبهم فيخبرك عالمهم حين تلقاه أنه يخشى الله بلسانه والفجور ظاهر في عمله فما أخصب الألسن يومئذ وما أجدب القلوب‏!‏ فوا الله الذي لا إله إلا هو ما ذلك إلا لأن المعلمين علموا لغير الله تعالى والمتعلمين تعلموا لغير الله تعالى‏.‏
وفي التوراة والإنجيل مكتوب‏:‏ لا تطلبوا علم ما لم تعلموا حتى تعملوا بما علمتم‏.‏
وقال حذيفة رضي الله عنه‏:‏ إنكم في زمان من ترك فيه عشر ما يعلم هلك وسيأتي زمان من عمل فيه بعشر ما يعلم نجا وذلك لكثرة البطالين‏.‏
واعلم أن مثل العالم مثل القاضي وقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ القضاة ثلاثة‏:‏ قاض قضى بالحق وهو يعلم فذلك في الجنة وقاض قضى بالجور وهو يعلم أو لا يعلم فهو في النار وقاض قضى بغير ما أمر الله به فهو في النار ‏"‏ وقال كعب رحمه الله‏:‏ يكون في آخر الزمان علماء يزهدون الناس في الدنيا ولا يزهدون ويخوفون الناس ولا يخافون وينهون عن غشيان الولاة ويأتونهم ويؤثرون الدنيا على الآخرة يأكلون بألسنتهم يقربون الأغنياء دون الفقراء يتغايرون على العلم كما تتغاير النساء على الرجال يغضب أحدهم على جليسه إذا جالس غيره أولئك الجبارون أعداء الرحمن‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الشيطان ربما يسوفكم بالعلم فقيل‏:‏ يا رسول الله وكيف ذلك قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يقول اطلب العلم ولا تعمل حتى تعلم فلا يزال للعلم قائلاً وللعمل مسوفاً حتى يموت وما عمل ‏"‏ وقال سرى السقطي اعتزل رجل للتعبد كان حريصاً على طلب علم الظاهر فسألته فقال‏:‏ رأيت في النوم قائلاً يقول لي ‏"‏ إلى كم تضيع
العلم ضيعك الله ‏"‏ فقلت‏:‏ إني لأحفظه فقال ‏"‏ حفظ العلم العمل به ‏"‏ فتركت الطلب وأقبلت على العمل‏.‏
وقال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ ليس العلم بكثرة الرواية إنما العلم الخشية ‏"‏ وقال الحسن‏:‏ تعلموا ما شئتم أن تعلموا فوالله لا يأجركم الله حتى تعملوا فإن السفهاء همتهم الرواية والعلماء همتهم الرعاية‏:‏ وقال مالك رحمه الله‏:‏ إن طلب العلم لحسن وإن نشره لحسن إذا صحت فيه النية ولكن انظر ما يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي فلا تؤثرون عليه شيئاً‏.‏
وقال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ أنزل القرآن ليعمل به فاتخذتم دراسته عملاً وسيأتي قوم يثقفونه مثل القناة ليسوا بخياركم والعالم الذي لا يعمل كالمريض الذي يصف الدواء وكالجائع الذي يصف لذائذ الأطعمة ولا يجدها‏.‏
وفي مثله قوله تعالى ‏"‏ ولكم الويل مما تصفون ‏"‏ وفي الخبر ‏"‏ إنما أخاف على أمتي زلة عالم وجدال منافق في القرآن ‏"‏ ومنها أن تكون عنايته بتحصيل العلم النافع في الآخرة المرغب في الطاعات مجتنباً للعلوم التي يقل نفعها ويكثر في الجدال والقيل والقال‏.‏
فمثال من يعرض عن علم الأعمال ويشتغل بالجدال مثل رجل مريض به علل كثيرة وقد صادف طبيباً حاذقاً في وقت ضيق يخشى فواته فاشتغل بالسؤال عن خاصية العقاقير والأدوية وغرائب الطب وترك مهمه الذي هو مؤاخذ به وذلك محض السفه‏.‏
وقد روي ‏"‏ أن رجلاً جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ علمني من غرائب العلم فقال له‏:‏ ما صنعت في رأس العلم فقال‏:‏ وما رأس العلم فقال صلى الله عليه وسلم هل عرفت الرب تعالى قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فما صنعت في حقه قال‏:‏ ما شاء الله فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل عرفت الموت قال نعم قال‏:‏ فما أعددت له قال‏:‏ ما شاء الله قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذهب فأحكم ما هناك ثم تعال نعلمك من غرائب العلم ‏"‏ بل ينبغي أن يكون المتعلم من جنس ما روي عن حاتم الأصم - تلميذ شقيق البلخي رضي الله عنهما - أنه قال له‏:‏ شقيق منذ كم صحبتني قال حاتم‏:‏ منذ ثلاث وثلاثين سنة قال‏:‏ فما تعلمت مني في هذه المدة قال‏:‏ ثمان مسائل قال شقيق له‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون ذهب عمري معك ولم تتعلم إلا ثماني مسائل قال‏:‏ يا أستاذ لم أتعلم غيرها وإني لا أحب أن أكذب فقال هات هذه الثماني مسائل حتى أسمعها قال حاتم‏:‏ نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد يحب محبوباً فهو مع محبوبه إلى القبر فإذا وصل إلى القبر فارقه فجعلت الحسنات محبوبي فإذا دخلت القبر دخل محبوبي معي‏.‏
فقال‏:‏ أحسنت يا حاتم فما الثانية فقال‏:‏ نظرت في قول الله عز وجل ‏"‏ وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ‏"‏ فعلمت أن قوله سبحانه وتعالى هو الحق فأجهدت نفسي في دفع الهوى حتى استقرت على طاعة الله تعالى‏.‏
الثالثة أني نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل من معه شيء له قيمة ومقدار رفعه وحفظه ثم نظرت إلى قول الله عز وجل ‏"‏ ما عندكم ينفذ وما عند الله باق ‏"‏ فكلما وقع معي شيء له قيمة ومقدار وجهته إلى الله ليبقى عنده محفوظاً‏.‏
الرابعة‏:‏ أني نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد منهم يرجع إلى المال وإلى الحسب والشرف والنسب فنظرت فيها فإذا هي لا شيء ثم نظرت إلى قول الله تعالى ‏"‏ إن أكرمكم عند الله أتقاكم ‏"‏ فعملت في التقوى حتى أكون عند الله كريماً‏.‏