إذا ذكرت الشهور فرمضان سيدها , أكرم به من شهر تغلغل الخير في ثناياه , فما من يوم أو ساعة إلاّ وتلمح فيه أو فيها ومضة خير , وما عليك إلاّ أن تغتنمها , ولا تدعها تفتك , لأن فوتها خسارة لا يدرك بعدها إلاّ مؤمن أوتي حسّاً إيمانياً مرهفاً . ومن الخصائص الخفيّة لهذا الشهر الطيّب المبارك أنّه شهر التجرّد عن حظوظ النفس والسعي للتحرر من أسرها ومن أخطر حظوظ النفس التي يقع فيها الصائم الأمور التالية :
1- الضيق الذي يشعر به المسلم جرّاء أدائه فريضة الصوم وسرعان ما ينتظر انتهاء رمضان ويتطلع إليه ليعود إلى لهوه عبثه وطعامه وشرابه .
2- سعيه الدائب خلال نهاره لاختيار ألوان الطعام التي يعمر بها مائدة الإفطار .
3- التباهي بصومه أمام الآخرين والتعالي عليهم .
4- انصرافه عن صلاة التراويح متذرعاً بأعذار من التّعب في العمل أو دعوة إلى سهرة رمضانية في منزل صديق كلها لغو ومزاح وربما لعب ورق إلى السحر .
5- ارتكاب ما ينافي الصوم من كذب أو غيبة أو نميمة أو سب وشتم وربما شهد زوراً إرضاء لهذا أوذاك .
تلك أخطر آفات النفس التي تواجه الصائم والتي ما فرض الصوم إلاّ من أجل التخلص منها لترتقي النفس وتتهذب . فالصوم تربية للنفس وارتقاء بها لتستقيم على طاعة ربّها . وهيهات أن تتوجه نفس تعلّقت بأوضار الدنيا إلى فاطرها ومولاها , وإن توجهت جاء توجهها ناقصاً لا يغني صاحبه في شيء مما يبلغه أصحاب اللهم العالية والنفوس الراقية المهذبة .
من هنا ينبغي أن يدرك المسلم أنّ رمضان له خاصية بارزة , هي أنه شهر التوجه إلى الله عزّ وجلّ , فعندما يقطف الصائم ثمرة صيامه وهي صدق التوجه إلى المولى تبارك وتعالى , ويصبح ذلك له سجية وسلوكاً يمتد ذلك إلى ما بعد رمضان من الشهور والأيام ويكون بذلك قد حصل هدفاً راقياً من أهداف الصيام . ومع صدق التوجه يحصل الخير يلحظه المسلم في جوانب حياته , انشراحاً في الصدر واستنارة في القلب , دعوة مجابة , وسهولة في العمل وتيسير في الأمور الحياتية , وتوفيق للهداية للطاعات وانشغال بها وبعد وابتعاد عن المعاصي وهجر لها , فيعش المؤمن حياته لله وبالله وفي سبيل الله . وفريضة الصوم عزوف عن الدنيا وتخل عن متعها ولذائذها من الطعام والشراب حيث يلتزم الصائم هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيأكل ما على قدر حاجته دون شراهة بعد أن يفطر على تمرات أو ماء أو لبن ويعجل الفطر ويؤخر السحور , يمتنع عن المعاشرة الزوجية خلال نهار رمضان ليكبح جماح النفس لئلا يزيد تعلّقها بالشهوة والتي تعتبر المرأة مادتها الريئسية , ومن ثم حرص على طلب الحلال وبعد عن المال الحرام . وهذا المنهج له امتداده إلى ما بعد رمضان . من خلال ما سلف , يجد الصائم نفسه مشدوداً إلى الصيام بمعناه الأكمل , والقيام في أعتاب الله أداء لصلاة التراويح إعماراً للمساجد , فذلك طريقه لتحصيل الثمرات التي أشار إليها القرآن العظيم بقوله تعالى : ( يا أيّها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون . ) فالتقوى هي الهدف الأسمى والبعد الأقصى لفرضية الصوم و لا يرتقى مرتقاها إلاّ بصدق التوجه إلى الله وإشراق الروح وصفاء النفس جرّاء ذلك , وتوطيد الهمة للتجرّد عن حطام الدنيا وشهواتها . وما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المغفرة جزاء معلوماً على الصيام والقيام , فقال : ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه . ) . وقال : ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه . ) وواضح أن تلك الثمرة لا يحصلها الصائم إلاّ إذا كان لدى أدائه فريضة الصيام وسنّة القيام يفعل ذلك أيماناً بالله واحتساباً لما ادخره له من الجزاء . وللصوم ميزة تميزه عن كل الأعمال والقربات التي يقوم بها المؤمن وهي : أنّه لله , حيث يقول عزّ وجل ّ في الحديث القدسي الذي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم : ( كل عمل ابن آدم له إلاّ الصوم فإنّه لي وأنا الذي أجزي به . ) فما عليك أخي المؤمن حيث وافاك رمضان إلاّ أن تتوجه بقلب صادق ونية طيبة إلى فاطرك ومولاك وتتحرر من أسر الدنيا لتكون بين يديك وينحسر سلطانها عن قلبك لتحرز تلكم الخيرات الحسان قبل أن تمر أيام العمر, وما أسرعها ! فاحذر فالندم لا ينفع وقد فات الأوان .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ