قال الرسول صلى الله عليه وسلم ( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ، والأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ) صحيح مسلم ج 16 ص 152




يبدو للمطلع على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أنه في كل أحاديثه يأخذ بالحسبان تسهيل حفظ الحديث وتثبيته في نفس المتلقي حفاظا عليه لعلمه أن تدوينه سيتأخر، وتناقله شفاها يتطلب سهولة في تركيبه .
وذلك كله نابع من تمكنه الرفيع في التصرف بالمفردات وتطويعها بفصاحة للغرض، أو القصد من الحديث .
ولو لم تكن بهذه المزية لاعتراها الزوال، والنسيان من ذلك ما نراه في بداية الجملة الاسمية ( الناس معادن ) فكان وصفا لعينتين من هذه المعادن بواسطة التصوير التشبيه ليبين تمايزها حسيا بواسطة اللون لون الذهب، ولون الفضة؛ ومن خلالهما تتضح ألوان المعادن الأخرى، وطبيعتها التي لم تذكر .
وهذه الحسية البصرية الماثلة المتقاطعة بين اللونين، والطبيعتين تدع المتلقي يقارن بينها،وبين المشبه أنواع الناس ؛وإذا كان الإنسان مادة، والمعدن مادة ؛فان الروح السامية تتخلل جسد الإنسان ليكون متسام وخالص كالذهب، وإذا كان كمعدن النحاس مثلا تارة فان ذلك يعني أن الروح التي تملكت ذلك الجسد قد هبطت به حتى علاها الصدأ، والدال في الذهب ،والفضة يتضح من المدلول في الجملة الاسمية القائمة على الثبات فيبين المفاضلة لأن خيارهم مبتدأ وخبر هما اسما تفضيل موصوفان في زمنين متقاطعين .
وإن التكرار(6 ) الحاصل في معدن مرتين منكرا، ومعرفا ،وخيارهم مرتين ،وجنود مجندة ؛إنما هي في سياق تثبيت النص في نفس المتلقي فضلا عما يحدثه من موسيقى، وتناغم في التوازي، الذي يعلق في الذاكرة من خلال البناءات الصرفية المتتابعة (خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام ) (تعارف) (تناكر) فعلي الشرط الدالين على المشاركة (ائتلف ) (اختلف) جوابي الشرط ، ولكن التوالي في التوازي لا يقتصر ذلك في وقعه من حيث الجرس ،والتنغيم على المستوى الصوتي الخارجي فقد ساهم التنافر في الأضداد(7) في ثنايا المضمون إلى إضاءة البنية التركيبية للجمل في مثل المقابلة(8) ( ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف )
وفي كل ذلك حين يكون المراد من المضمون أن الأرواح أول ما خلقت ..... خلقت على قسمين متقابلين فإذا تلاقت الأجساد في الدنيا ائتلفت، واختلفت بحسب ما خلقت فالبناء التركيبي في الدلالة من خلال تقابلها
تعارف ائتلف
تناكر اختلف
إذ إن تفاعل وافتعل في توازيهما يشير إلى ذلك الانقسام الذي هو بمثابة اكر مقسومة(9) متقابلة كالتقابل الحاصل في الجملة ، ثم إن الفعلين تعارف، وتناكر فيهما ما يوحي إلى المعنى، ومدلوله فتعارف في حرف العين الذي يليه ألف المد المترامية في الالتقاء مخرجه العميق يشير إلى الائتلاف البعيد الغور الذي تتوق له النفس، ويرف له القلب ليكون هذا الاندماج في همزتي الائتلاف العميقتين، واللتين من خلالهما تماهيا في عناق لفهما إلى الأبد .
والعين في ( تعارف ) هي عين العطف بمعرفة معقولة معلومة تنتهي إلى تجاذب قسمي الروح مع بعضهما البعض ، وأما تناكر في دلالة النون في هيأتها تفضي إلى مدلول النفرة، والنزاع الممتد بألف المد المترامية في الاختلاف .
ولابد من ملاحظة اجتماع الهمزتين في( ائتلف) حين كان مخرجهما واحدا يدلل على التقاء متشابهين في كل شيء مضمونا، وصوتا ، وكيف عبرت( اختلف ) عن معنى التناكر حيث التقت الهمزة مع الخاء، واجتماعهما غير مستساغ يتناسب مع مدلول التناكر .
(6)



6 ينظر جرس الألفاظ ودلالتها د. ماهر مهدي هلال ص239
(7) التنافر في الأضداد: هو أن يؤتى بوصفين متضادين، ويجمع بين متناقضين / ينظر الفن ومذهبه في الشعر العربي الدكتور شوقي ضيف دار المعارف مصر 1965م ص 250
(8) المقابلة : وهو أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو معان متوافقة ، ثم بما يقابلهما أو يقابلها على الترتيب والمراد بالتوافق خلاف التقابل / الإيضاح في علوم البلاغة للخطيب القزويني مطبعة السنة المحمدية / القاهرة ج2 ص341
(9) ينظر النصف الأول من كتاب الزهرة / تأليف محمد بن أبي سليمان الأصفهاني اعتنى بنشره الدكتور لويس نيكل /طبع في مطبعة الآباء اليسوعيين في بيروت 1932م ص15




من كتابي ملامح الصورة الفنية في الاحاديث النبوية محفوظ فرج ابراهيم الجزء الثاني دار الارقم بغداد 2010م