قال تعالى :

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا *
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا
نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى
مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا *
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا
آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا


سبحانك ربي

سبب النزول :

قال موسى بن عقبة: وكان كعب بن الأشرف أحد بني النضير أو فيهم، قد أذى رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالهجاء وركب إلى قريش فاستغواهم، وقال له أبو سفيان وهو بمكة:
أناشدك أديننا أحب إلى الله أم دين محمد وأصحابه؟ وأينا أهدى في رأيك وأقرب إلى الحق؟
إنا نطعم الجزور الكوماء، ونسقي اللبن على الماء، ونطعم ما هبت الشمال.

فقال له كعب بن الأشرف : أنتم أهدى منهم سبيلا.

قال: فأنزل الله على رسوله :

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ
وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا * أُولَئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرا


استنكاره ما فعله المسلمون بقريش في بدر

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وكان من حديث كعب بن الأشرف ‏‏:‏‏ أنه لما أصيب أصحاب بدر ،
وقدم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة ، وعبدالله بن رواحة إلى أهل العالية بشيرين ،
بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله عز وجل عليه ،
وقتل من قتل من المشركين ، كما حدثني عبدالله بن المغيث بن أبي بردة الظفري ،
وعبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وعاصم بن عمر بن قتادة ،
وصالح بن أبي أمامة بن سهل ، كل قد حدثني بعض حديثه ، قالوا ‏‏:‏‏
قال كعب بن الأشرف ، وكان رجلاً من طيىء ، ثم أحد بني نبهان ، وكانت أمه من بني النضير ،
هذان حين بلغه الخبر ‏‏:‏‏ أحق هذا ‏‏؟‏‏ أترون محمدا قتل هؤلاء الذين يسمي هذان الرجلان - يعني زيدا
وعبدالله بن رواحة - فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس ، والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم ،
لبطن الأرض خير من ظهرها ‏‏.‏‏‏

اليهودي كعب والتحريض على رسول الله صلى الله عليه وسلم

فلما تيقن عدو الله الخبر ، خرج حتى قدم مكة ، فنزل على المطلب بن أبي وداعة بن ضبيرة السهمي ،
وعنده عاتكة بنت أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، فأنزلته وأكرمته ، وجعل يحرض
على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وينشد الأشعار ، ويبكي أصحاب القليب من قريش ، الذين أصيبوا
ببدر ، فقال ‏‏:‏‏

طحنت رحى بدر لمهلك أهله=ولمثل بدر تستهل وتدمع
قتلت سراة الناس حول حياضهم=لا تبعدوا إن الملوك تصرع
كم قد أصيب به من أبيض ماجد=ذي بهجة يأوي إليه الضُيَّع
طلق اليدين إذا الكواكب أخلفت=حمال أثقال يسود ويربع
ويقول أقوام أُسرُّ بسخطهم=إن ابن الاشرف ظل كعبا يجزع
صدقوا فليت الأرض ساعة قتِّلوا=ظلت تسوخ بأهلها وتصدَّع
صار الذي أثر الحديث بطعنه=أو عاش أعمى مرعشا لا يسمع
نبئت أن بني المغيرة كلهم=خشعوا لقتل أبي الحكيم وجُدعوا
وابنا ربيعة عنده ومنبه=ما نال مثل المهلكين وتبع
نبئت أن الحارث بن هشامهم=في الناس يبني الصالحات ويجمع
ليزور يثرب بالجموع وإنما=يحمى على الحسب الكريم الأروع

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ قوله ‏‏"‏‏ تبع ‏‏"‏‏، ‏‏"‏‏وأسر بسخطهم ‏‏"‏‏‏‏.‏‏

عن غير ابن إسحاق ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فأجابه حسَّان بن ثابت الأنصاري ، فقال ‏‏:‏‏

أبكي لكعب ثم عل بعبرة=منه وعاش مجدعا لا يسمع
ولقد رأيت ببطن بدر منهم=قتلى تسح لها العيون وتدمع
فابكي فقد أبكيت عبدا راضعا=شبه الكليب إلى الكليبة يتبع
ولقد شفى الرحمن منا سيدا=وأهان قوما قاتلوه وصرعوا
ونجا وأفلت منهم من قبله=شغف يظل لخوفه يتصدع

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لحسَّان ‏‏.‏‏
وقوله ‏‏:‏‏ ‏‏"‏‏أبكى لكعب ‏‏"‏‏عن غير ابن إسحاق ‏‏.‏‏

امرأة من المسلمين ترد على كعب
قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وقالت امرأة من المسلمن من بني مُريد ، بطن من بلى ،
كانوا حلفاء في بني أمية بن زيد ؛ يقال لهم الجعادرة ، تجيب كعبا - قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏
اسمها ميمونة بنت عبدالله ، وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذه الأبيات لها ، وينكر
نقيضتها لكعب
بن الأشرف ‏‏:‏‏

تحننَ هذا العبد كل تحنن=يبكى على قتلى وليس بناصب
بكت عين من يبكي لبدر وأهله=وعلَّت بمثليها لؤي بن غالب
فليت الذين ضُرِّجوا بدمائهم=يرى ما بهم من كان بين الأخاشب
فيعلم حقا عن يقين ويبصروا=مجرهم فوق اللحى والحواجب

فأجابها كعب بن الأشرف ، فقال ‏‏:‏‏ ‏

ألا فازجروا منكم سفيها لتسلموا=عن القول يأتي منه غير مقارب
أتشتمني أن كنت أبكي بعبرة=لقوم أتاني ودهم غير كاذب
فإني لباك ما بقيت وذاكر=مآثر قوم مجدهم بالجباجب
لعمري لقد كانت مريد بمعزل=عن الشر فاحتالت وجوه الثعالب
فحق مريد أن تجد أنوفهم=بشتمهم حيي لؤي بن غالب
وهبت نصيبي من مريد لجعدر=وفاء وبيت الله بين الخاشب

تشبيب كعب بنساء المسلمين والحيلة في قتله

ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة فشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم ‏‏.‏‏
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ كما حدثني عبدالله بن المغيث بن أبي بردة ،
من لي بابن الأشرف ‏‏؟‏‏ فقال له محمد بن مسلمة ، أخو بني عبدالأشهل ، أنا لك به
يا رسول الله ، أنا أقتله ؛ قال ‏‏:‏‏ فافعل إن قدرت على ذلك ‏‏.‏‏

فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق به نفسه ، فذكر
ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاه ، فقال له ‏‏:‏‏ لم تركت الطعام والشراب ‏‏؟‏‏
فقال ‏‏:‏‏ يا رسول الله قلت لك قولا لا أدري هل أفين لك به أم لا ‏‏؟‏‏
فقال ‏‏:‏‏ إنما عليك الجهد ، فقال ‏‏:‏‏ يا رسول الله إنه لا بد لنا من أن نقول ‏‏:‏‏
قال ‏‏:‏‏ قولوا ما بدا لكم ، فأنتم في حل من ذلك ‏‏.‏‏

فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة ، وسلكان ابن سلامة بن وقش ،
وهو أبو نائلة أحد بني عبدالأشهل ، وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة ، وعباد بن بشر بن وقش ،
أحد بني عبدالأشهل ، والحارث بن أوس بن معاذ ، أحد بني عبدالأشهل ، وأبو عبس بن جبر ، أحد بني حارثة ‏‏.‏‏

ثم قدموا إلى عدو الله كعب بن الأشرف ، قبل أن يأتوه ، سلكان ابن سلامة ، أبا نائلة ،
فجاءه ، فتحدث معه ساعة ، وتناشدوا شعرا ، وكان أبو نائلة يقول الشعر ،
ثم قال ‏‏:‏‏ ويحك يابن الأشرف ‏‏!‏‏ إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك ، فاكتم عني ؛
قال ‏‏:‏‏ افعل ، قال ‏‏:‏‏ كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء ، عادتنا به العرب ،
ورمتنا عن قوس واحدة ، وقلعت عنا السبل حتى ضاع العيال ، وجهدت الأنفس ،
وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا ؛
قال كعب ‏‏:‏‏ أنا ابن الأشرف ، أما والله لقد كنت أخبرك يابن سلامة ، إن الأمر سيصير إلى ما أقول ،
فقال له سلكان ‏‏:‏‏ إني قد أردت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك ، ونحسن في ذلك ؛ فقال ‏‏:‏‏ اترهنوني
أبناءكم‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ لقد أردت أن تفضحنا ، إن معي أصحابا لي على مثل رأي ، وقد أردت أن آتيك بهم ،
فتبيعهم وتحسن في ذلك ، ونرهنك في الحلقة ما فيه وفاء ، وأراد سلكان أن لا ينكر السلاح إذا جاءوا بها؛
قال ‏‏:‏‏ إن في الحلقة لوفاء ؛

قال فرجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم خبره ، وأمرهم أن يأخذوا السلاح ، ثم ينطلقوا
فيجتمعوا إليه ، فاجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏.‏‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏
ويقال ‏‏:‏‏ أترهنوني نساءكم ‏‏؟‏‏
قال ‏‏:‏‏ كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟
وأعطرهم ، قال ‏‏:‏‏ أترهنوني أبناءكم ‏‏؟‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فحدثني ثور بن يزيد ، عن عكرمة عن ابن عباس قال ‏‏:‏‏

مشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد ، ثم وجههم ، فقال ‏‏:‏‏
انطلقوا على اسم الله ؛ اللهم أعنهم ، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته ،
وهو في ليلة مقمرة ، وأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه ، فهتف به أبو نائلة ، وكان حديث
عهد بعرس ، فوثب في ملحفته ، فأخذته امراته بناحيتها ، وقالت ‏‏:‏‏ إنك امرؤ محارَب ،
وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة ، قال ‏‏:‏‏ إنه أبو نائلة ، لو وجدني نائما
لما أيقظني ، فقالت ‏‏:‏‏ والله إني لأعرف في صوته الشر ،
وقال غير عمرو: قالت: أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم.
قال لها كعب ‏‏:‏‏ لو يدعى الفتى لطعنة لأجاب .
او (إن الكريم لو دُعي إلى طعنة لأجاب) .
‏‏‏‏


فنزل فتحدث معهم ساعة ، وتحدثوا معه ، ثم قال ‏‏:‏‏ هل لك يا بن الأشرف أن تتماشى
إلى الشعب العجور، فنتحدث به بقية ليلتنا هذه ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ إن شئتم ‏‏.‏‏ فخرجوا يتماشون ،
فمشوا ساعة ، ثم إن أبا نائلة شام يده في فود رأسه ، ثم شم يده فقال ‏‏:‏‏ ما رأيت كالليلة
طيبا أعطر قط ، ثم مشى ساعة ، ثم عاد لمثلها حتى اطمأن ، ثم مشى ساعة ، ثم عاد
لمثلها ، فأخذ بفود رأسه ، ثم قال ‏‏:‏‏ اضربوا عدو الله ، فضربوه فاختلف عليه أسيافهم ،
فلم تغن شيئا ‏‏.‏‏

قال محمد بن مسلمة ‏‏:‏‏ فذكرت مغولا في سيفي ، حين رأيت أسيافنا لا تغني شيئا ، فأخذته ،
وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا وقد أوقدت عليه نار ، قال ‏‏:‏‏ فوضعته في
ثنته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته ، فوقع عدو الله وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ ،
فجرح في رأسه أو في رجله ، أصابه بعض أسيافنا ‏‏.‏‏
قال ‏‏:‏‏ فخرجنا حتى سلكنا على بني أمية بن زيد ، ثم على بني قريظة ، ثم على بعاث ،
حتى أسندنا في حرة العريض ، وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس ، ونزَّفه الدم ،
فوقفنا له ساعة ، ثم أتانا يتبع آثارنا ‏‏.‏‏

قال ‏‏:‏‏ فاحتملناه فجئنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل ، وهو قائم يصلي ،
فسلمنا عليه ، فخرج إلينا ، فأخبرناه بقتل عدو الله ، وتفل على جرح صاحبنا ، فرجع
ورجعنا إلى أهلنا ، فأصبحنا وقد خافت يهود لوقعتنا بعدو الله ، فليس بها يهدوي
إلا وهو يخاف على نفسه ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فقال كعب بن مالك :‏‏ ‏

فغودر منهم كعب صريعا=فذلت بعد مصرعه النضير
على الكفين ثم وقد علته=بأيدينا مشهرة ذكور
بأمر محمد إذ دس ليلا=إلى كعب أخا كعب يسير
فما كره فأنزله بمكر=ومحمود أخو ثقة جسور

قال ابن إسحاق ‏‏وقال حسَّان بن ثابت يذكر قتل

كعب بن الأشرف وقتل سلام بن أبي الحقيق ‏‏:‏‏

لله در عصابة لاقيتهم يابن ال=حقيق وأنت يابن الأشرف
يسرون بالبيض الخفاف إليكم=مرحا كأسد في عين مغرف
حتى أتوكم في محل بلادكم=فسقوكم حتفا ببيض ذفَّف
مستنصرين لنصر دين نبيهم=مستصغرين لكل أمر مجحف

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ وسأذكر قتل سلاَّم بن أبي الحقيق

في موضعه إن شاء الله ‏‏.‏‏

وقوله ‏‏:‏‏ ‏‏"‏‏ذفَّف ‏‏"‏‏، عن غير ابن إسحاق

_ * _ * _ * _ * _

المصدر :

البداية والنهاية

الجزء الرابع