بسم الله الرحمان الرحيم
عرجون الغواية
رآها تلقفتها أمواج البرد لدى خروجها من السيارة فاصطكت أسنانها وارتعشت أطرافها، أحس هو بأنه يكاد يتجمد وهي واقفة تنظر إليه على مشارف "مرقص النار".. وأرنبة أنفها احتقنت حتى صارت في لون الطماطم.. لاحظ أنها لم تحييه، بل لم تنتظره كالعادة ليدخل معها المرقص.. سأل مستغربا "ماتيلد" إحدى زميلتها الراقصات، والتي تهم هي الأخرى بالدخول عن سبب تنكرها له..؟
فأجابته ضاحكة بجنون: عملتها.. عملتها..وخلّيتها وحدها تعاني..
يزيد استغرابه ويلح عليها في السؤال: ماهو الشيء الذي عملته حتى لا تكلمني "تيريزا"؟
تجيبه: لقد حملت منك.. لقد مضى عليها أربعة أشهر. من يوم أن أدخلوك السجن وهي حامل..
يقهقه قهقة عالية ويرد عليها: وهل هذه المرة الأولى.. هي بارعة، تستطيع إجهاضه بسرعة..
فترد عليه صديقتها: لا.. ليس هذه المرة.. هي قررت أن تحتفظ بابنها..
يتفرس "بوعلام" في صديقة صديقته، بعينيه الذابلتين اللتين لم تعرفا شيئا إسمه النوم طيلة ليلة الأمس.. من شدة حبه مجالسة أخوات تيريزا وشرب معشوقته "البيرة".. لا عجب إذن، في تفرسه لماتيلد وهي تدخل "النار"، ما دام في سن الإكتشاف وزمن الإكتشاف..
المكان عامر بالكائنات الآدمية في هذا المساء الغائم والبارد.. غريب أمر تيريزا التي قبلت بأن تصبح أمّا.. وإن سألوك عن الكيف، فقل إنـما علمها عند ربي.. وهو يحدث نفسه ويرقب الماء المتجمد، والمتدلي كخيوط بلورية من سقف المرقص أمامه..
كان الناس يمشون من حوله وكأنهم أطياف أشباح أو أطلال أوهام تخلفت من حلم غامض.. مدخل مرقص النار يلفه ضباب سائل وكثيف.. كان يرى السيارات المتكدسة على الرصيف كتل من الحجر الأبيض، شبيهة بتلك الأحجار التي تركها مكدسة أمام بيتهم قبل مجيئه للغرب، أو أشجار الصنوبر والعرعار والصفصاف المتناثرة على الجبال وشاحا لا واقعيا من الخضار..
القرميد الأحمر ومصابيح الطرقات بدت له مخلوقات دهرية غريبة يثير منظرها الرهبة والخوف.. ورغم قساوة البرد أحس بغبطة عميقة لم يكدر صفوها سوى نقمته على حاله وأسفه الشديد على نفسه.. وبدأ يجتر نظريته القديمة: إنني من أولائك الذين لا يقيمون وزنا لإثنين: الزمن والإنسان. وأنا مثل كل العرب أعيش في الأزلية بدلا من الزمنية..
ذهب لأقرب حانة وعاد إلى مقارعة معشوقته القديمة الجديدة وحيدا هذه المرة.. مرت الساعة والساعتين.. ثم خرج، وترك قدميه تقودانه حيثما تعرجت الطرقات والسبل. لم تكن مسالك روما القيصرية معتدلة ولا ميادينها فسيحة.. كان بين الحين والآخر يصطدم بحافة الرصيف، أو حواجز حافة الطرقات.. لم يلتفت لشتائم سائقي السيارات، أو سباب أصحاب الدراجات النارية وهو يقطع عليهم الطريق، فيظطر بعضهم لكبح جماح دراجته، أو الإنحناء والتعرج يمنة ويسرة كي لا يعفسه أحد.. يشاغله طيف الجنين الذي هو في رحم تيريزا.. وأي مستقبل ينتظره..؟
أمـــــــــــــــــه راقصة وأبـــــــــــــــــــــــــاه عربيد..!!
الصداع ينغل في رأسه، والوجع يلاحق مفاصل عضامه.. الإرهاق والتعب ينتظر عند بوابات الصمامات في الأوعية الدموية.. يحتال على إرادة ضربات القلب المجهد مع تعاقب الشهيق والزفير، يخفظ من السرعة عند انقباض عضلة القلب, ويندفع عند انبساطها مع ذبول سريان الدم وهزيمة تدفقه.. أبلغه الطبيب بالأمس، أن صداع الرأس نتاج كثرة التدخين والإدمان على السكر، وقلة النوم.. حيث صرف له مسكنات الصداع, ومنظمات الضغط، وحذره من السيجارة، وفي إشارة واضحة وصريحة أرعبه من غوايات زجاجاته في الليل, فانتصبت أمامه تلك المكورة البطينة ذات العنق النحيل، المعصورة من عرجون الشعير.. تسيل بعض دمعاتها، تنساب على حواشي القارورة.. تلونها بحواف صفراء تجف كطمى الفيض.. وود لو يرشق بعضا من دمه على رداء الطبيب، وقد تيقن أنه يتآمر عليه..
وهذا ما كانت تعاتبه فيه، بل تتخاصم معه تيريزا..!
أدخل يده في جيبه فوجد ورقة الطبيب، كورها، وطرحها بعيدا بكل وصفاته ووصاياه.. واستسلم للشوارع.. لم يلتفت هذه المرة إلى وجوه الناس كعادته, ولم يحدق في عيونهم، ينـتزع حكاياتهم، ويردها إلى تجعدات الوجوه.. لم يتتبع النسوة والفتيات.. وأطاع قدميه إلى حيث لا يدري.. ومضى يتجاهل ضغط الدم المرتفع أو المنخفض, ولم يأبه بالصداع.. وما يرافقه من زفير..
قهقة ماجنة، وصوت حديث مارة تتآمر عليه وعلى ترنحه يمنة ويسرة.. ومحرك سيارة رياضية مارة وهي تقشر جلد الطريق وتمرق عنه..
بقايا سيجارة يربط أطرافها ملون أحمر الشفاه.. داسها وانحدر مع الطريق.. قادته المسارب إلى قاع المدينة العتيقة حيث تسكن تيريزا.. وقف في الساحة المطلة على شقتها.. وراح يدور حول نفسه دون أن يرفع رأسه المطأطأ.. حتى سقط على الأرض مغميا عليه..
تحمله تيريزا إلى شقتها مستعينة بمن تعرف.. نام كل الليلة وكامل اليوم التالي.. تفكر في أن توقظه، إلا أنـها تتراجع عن فعل ذلك.. تفضل ألا تزعجه حتى يرتاح من عناءه وهمه في ذلك اليوم، الذي لا يختلف في الحقيقة كثيرا عن سائر أيامه منذ أن عرفته، أو ربما من يوم أن انزلق سهوا من بطن أمه.. لكنها لا تتردد الآن في إيقاظه، وقد مرت عليه ثمانية عشر ساعة من وقت أن غطته فوق الفراش.. نادته باسمه مرة أولى فلم يجبها، عاودت ندائه ثانية فلم يجبها، حركته فقفز مذعورا.. رآها أمامه فبدأ في البكاء.. حاولت إسكاته دون فائدة.. فبدأت هي بدورها تبكي..
قال لها: أريد منك مساعدتي..!
ردّت: أأمر؟
ـ أريد منك أن تتركي هذا العمل!
ـ هل حقا تريد ذلك؟
ـ نعم!
ـ وماذا عنك؟
عاهدها على أن يقلع هو كذلك..
لم تتردد ولم ترفض كما كانت تفعل في المرات السابقة.. شرط أن يعودا إلى بلده الأصل، الذي كان يرفض رفضا باتا الرجوع إليه ومعه الراقصة..
سألها: ولماذا العود بالتحديد إلى بلدي؟
قالت له: إن اتخاذك هذا القرار وأنت في الغربة, أعتبره قرار غير صائب, لأن نفسيتك, ووضعنا المادي والإجتماعي لن يساعدنا في المضي في هذين القرارين, ولأن اتخاذ مثل هذا القرار يحتاج إلى نفس مطمئنة مستقرة، غير مضطربة متزلزلة تعصف بها أي ريح بسيطة. حبيبي إن مثل هذا القرار يحتاج إلى بيئة مناسبة, ومناخ ملائم, ووقت للتطبيق موافق, وهنا لا البيئة والمناخ يعيننا على ذلك.. إن المرء عندما يتخذ قرار وهو في ظرف عصبي, أو تحت مؤثر عاطفي, أو انفعال معين, لن يكون هو القرار الموفق بالتأكيد.. وأي هزة سوف تجعلنا نعود مرة أخرى إلى ما كنا عليه.. بل سوف نقطع حبل الرجاء نهائيا بالإقلاع عن ما كنا نفعله.. في بلدك هناك أمك وأبوك سوف يساعدانني على التأقلم، ويخففا عني من البعد وقلة الحاجة..
أقلع بوعلام عن غواياته السابقة، لكنه مازال في قرارة نفسه مصرا بأن لا يرجع بتلك المرأة إلى أهله، وبدأ يماطلها: مرة لا بد أن يلد المولود في روما ثم بعد ذلك يسافرا به، ومرة يبقيا سنة أخرى يعمل فيها هو بجد ويجمعا أكبر قدر من المال ليحملانه معهما عند عودتهما..
لكن نية بوعلام كانت أخرى..!
وضعت تيريزا مولودا أسموه علي، وفرحا به.
بدأ علي يكبر، مرت السنة والنصف الأولى، وبدأ المولود يحاول المشي والتعبير عن رغباته.. وكان أبوه يخرجه للفسحة لبعض الوقت كل يوم تقريبا، وفي يوم من الأيام كانت تيريزا في العمل، أخذ بوعلام ابنهما وهرب به إلى بلده..
جنّت تيريزا حين عرفت الحقيقة وبدأت تتحرك عن طريق وزارة خارجية بلدها لإستعادة ابنها.. وكلما مر يوم يزداد يأسها وعذابها، لأن ولدها يكبر وهو ليس بحضنها، وكانت تردد دائما أنها هي السبب.. هي التي تركته يعيش بعيدا عنها..
بعد سنة من اختطاف زوجها ابنها، صدر قرار دولي في شأنهما، ألا وهو إرجاع الطفل إلى حضن أمه، بعد أن تبقى مع زوجها وابنها في بلده، وتحت سقف واحد ستة أشهر، ليتعود الصبي عليها من جديد..
جاءها والد بوعلام وأمه في اليوم الأول، وقال لها أبوه بعدما رأى منها تلك الدموع الغزيرة وذلك الإلتصاق والعناق لولدها، وعدم حقدها على زوجها رغم ما فعله بها: بنيتي ما هذه الدموع التي تنهمر من عينيك إلا دموع دهشة، لقد يئستي من رجوع ابنك إليك ولكن الله في الوجود، لقد كنت رافضا من يوم أن أتى بحفيدي دون أمه.. ويخطأ من يقول أن ‏هناك دموع فرح وأخرى دموع حزن، فليس هناك دموع إلا دموع الحزن، أما ما عرف بدموع ‏الفرح فما هي إلا دموع دهشة بعد يأس، واليأس سبب الحزن، وما دموعك هذه إلا دموع ‏الدهشة، وليست دموع الفرح، لأنها أتت مع دهشة ملاقات صغيرك بعد يأسك المطلق.
الناس فيهم من يحب الخير لنفسه ولغيره فيفعله، ومنهم من ‏لا يحب الشر لنفسه، ولكنه يحبه لغيره فيفعله، وهذا ما فعله ابني معك.. إن رضيتي بالبقاء معنا سوف أرعى حقّك وأعاملك كما أعامل إبنتي التي هي من صلبي..
استطاع بوعلام في تلك الفترة أن يقنع تيريزا بأن تتزوجه وتبقى تعيش معه، بعد أن اعتذر لها عمّا صدر منه، بما أنها هي طلبت ذلك سابقا.. ترددت في الأول لكن حبها لإبنها وزوجها، وكرها لوضعها الإجتماعي الذي كانت عليه، وكلام أبوه الذي أثر فيها، تركها تقبل الأمر والواقع..
رجع هو إلى الله، وأسلمت هي فحسن إسلامها.. وبديا في العمل في قطعة الأرض التي استصلحها من والده.. وعاشا حياة بسيطة لكنها هنية ودون كدر، لم تشعر فيها هي بالغربة التي كان يشعر بها زوجها في بلدها.