حوار الأربعاء ..
الأديبة ناديا خوست :
فصــــل الأخــــــلاق عن الفـــــــكر كارثــــــــــــة
لديناروائيــــات ســــــــوريات جدّيـــــــــــــــــات

الأدب ليــــــس بيانـــــــــــاً سياســـــــــياً
لا يهب الطول
أو الإيجاز قيمة لأي عمل


د.ناديا خوست :
> دكتوراه في الأدب المقارن من جامعة موسكو 1970.
> من إصداراتها : أحب الشام (قصص) 1967، مملكة الصمت (قصص) 1997، حب في بلاد الشام (رواية) 1995، أعاصير في بلاد الشام (رواية) 1997، شهداء وعشاق في بلاد الشام (رواية) 2000.


تعكف اليوم بهدوء وتروٍ على كتابة الجزء الأخير من مجموعة روايات "حب في بلاد الشام" والذي ستتناول فيه أحداثاً امتدت ما بين 1967 وحتى نهاية القرن العشرين، ولأنها فترة معاصرة لا تخفي صعوبتها في قراءة التغيرات السياسية العديدة وانعكاساتها على التغيرات الاجتماعية، وفيه تركيز كبير على الواقع السوري وانعكاساته على الشخصيات السورية وانعكاس الوضع العربي على روحها، كما أنها انتهت من كتابة دراسة بعنوان "ألف ليلة والرواية التاريخية" تثبت من خلالها أن "ألف ليلة وليلة" ليست خيالية بل هي ذات صلة وثيقة جداً بالواقع، وهي موصولة بالحياة العربية في الفترة التي كُتِبت فيها : القرن 10 حتى القرن 14 كما تستعد وبعد غياب طويل عن كتابة القصة لإصدار مجموعة قصصية جديدة إلى جانب كتاب آخر عن دمشق صاغت فيه تجربة ربع قرن من الدفاع عن العمارة العربية في دمشق.. إنها الأديبة ناديا خوست .

< تكتبين الروايات الطويلة، فأية قيمة لمثل هذا النوع من الروايات برأيك؟
<< لم أقصد أن أكتب رواية طويلة، بل قصدت أن أرسم شخصيات وزمناً وأحداثاً، لكن الموضوع الذي تناولته فرض رواية طويلة، وقد تساءل أحدهم في أمسية عن رواية "شهداء وعشاق بلاد الشام": "من يقرأ اليوم رواية طويلة؟" فناقشه الحاضرون الذين كانوا قد قرؤوها والتقطوا المقصود منها، وفاجأني أنهم خلال المناقشة طرحوا مسائل أدبية عميقة يتناولها النقد العالمي تبين أننا يجب أن ننتبه إلى ما يتغير في الواقع كيلا نبقى أسرى أوهامنا .
إذا زرتِ متاجر بيع الكتب وسألت عن حركة الكتاب لقدَّم لك أصحابها صورة عامة تضيفين إليها أننا عدنا إلى عادة استعارة الكتاب وتداوله من يد إلى أخرى، كما يشهد زمننا مجموعات تلتقي في البيوت مرة في الأسبوع لتناقش كتاباً قرأته .
أعتقد أن الرواية الطويلة تحتل مكانة هامة، ومع ذلك لا أعتقد أن الطول أو الإيجاز في أي عمل تهبه قيمته.. الكفاءة فقط هي التي تهبه هذه القيمة.. قد يضطر الحاضرون في قاعة إلى الاستماع إلى محاضرة، لكن لا أحد يستطيع أن يلزم شخصاً بأن يقرأ رواية طويلة، فالقارئ يملك حرية مطلقة في أن يرفض الكتاب من الصفحة الأولى، ومن يكمل قراءة مادة طويلة يعني أنها جذبته وأنه منحاز إليها .
لكن لنعترف بأن الزمن هو الكفيل بتحقيق العدالة في تقييم الأعمال الأدبية عندما يبتعد الكاتب عن علاقاته الاجتماعية وتنطفئ الجوقات التي تصفق له ويبهت بريق الجوائز التي تسوقها دور النشر ويبقى العمل الأدبي وحده -دون مَواكب المرافقين- تحت عيون النقد الهادئة، فينزوي كتّاب ملؤوا الدنيا صخباً بأوسمتهم، ويظهر كتاب لم ينالوا جائزة واحدة.
< لنعترف إن رواياتك غير منتشرة جماهيرياً فهل تعتقدين أن طولها قد يقف عائقاً أمام القارئ؟
<< تستلزم قراءة الرواية الطويلة وقتاً، لكن السؤال هل تمسك بمن يقرؤها وتمتعه وتفيده أم لا؟ وهل ينصرف عنها أم ينصرف إليها؟.. يسعدني أن أستاذة جامعية ذواقة سهرت الليل كي تكمل قراءة روايتي سابقة الذكر، وأن كاتبة اتصلت بي من بلد آخر لتقول إنها قرأتها وأفادت منها وأن تصلني رسالة كاتب مصري يتحدث عنها وأن يصورها الكتاب العراقيون ليتداولوها، والقارئ العراقي مثقف وناقد يُعتز برأيه.. هذه هي المكافأة على السنوات التي نصرفها في الكتابة وعلى ضوء العيون الذي نسكبه عليها.. رواياتي تباع مع أن ثمنها ثقيل على القارئ، ومع أننا نعاني من مشكلة التوزيع، فقد باع اتحاد الكتاب من هذه الرواية في أمسية واحدة مقدار ما بيع في معرض في إحدى المدن السورية.
الكتاب ككل ليس جماهيرياً في أيامنا هذه لأسباب كثيرة، منها ثمنه، فهل يستطيع القارئ أن يدفع ألف ليرة شهرياً من راتبه ثمن كتب؟ ألا يستبعد ثمنُ الكتابِ الشبابَ وهم الشريحة القارئة عادة؟ قالت لي سيدة وهي تشتري روايتي: "رغم التخفيض في معرض الكتب يبقى ثمنها كبيراً علي، لكني أشترك مع مجموعة في قراءة الرواية ونتداولها من يد إلى يد".. هذا أسلوب جديد يحاول أن يتغلب على ثمن الكتاب ويسجل أن مجموعات من المتعلمين تجتمع لتقرأ كتاباً وتنقده.. هذا هو الأمر غير المرئي في التطور الفكري والروحي الذي لا يظهر على السطح .
كان الكتاب ذات يوم فسحة المعرفة الوحيدة، لكنه اليوم أحدها، فالمسلسلات التلفزيونية والكمبيوتر أخذا بعض القراء، ومع ذلك يجب ألا نقيس رواج الكتاب بزمن قصير، فالكتاب يخاطب زمناً أكثر سعة من السنة التي يطبع فيها إذا كان يحمل عناصر حياة واسعة، وقد يموت في السنة نفسها، أكان كثير الصفحات أم قليلها .
< قال ناقد سوداني عنك : "إنها بين الوحيدين والوحيدات الذين نجحوا في تسييس الأدب وتأديب السياسة" فكيف ترين العلاقة بين الأدب والسياسة في بلادنا؟
<< ربما قال الناقد السوداني ذلك لأني لم أر السياسة كبرنامج فئة صغيرة، بل رأيتها مشروعاً وطنياً، جوهره كشف الصهيونية ومقاومتها والدفاع عن الهوية الوطنية كعمارة وذاكرة تاريخية.. هذه العناصر في منظومة فكرية أخلاقية هي عيناي وليست نظارة أخلعها وأضعها.. أرى موضوعاتي من خلالها، منتبهة ككاتبة إلى علاقتها بالإنسان، فأنا لم أتناول البيئة والعمارة والصراع العربي الصهيوني والانتفاضة كمساحة بعيدة عن الروح، بل قصدت أن أبيّن ترابط المصير الفردي والمصير العام وعلاقة بنية الإنسان الروحية بالعمارة والأحداث السياسية .
في موجة من موجات الموضة أنكر بعض المنظّرين علاقة السياسة بالأدب، وفي موجة أخرى بدا كأن الأدب مسخّر للسياسة، ولعل سبب الالتباس أن بعضنا قد يرى السياسة كبرنامج صغير ويتصور أن الأدب يستطيع أن يعبر عن علاقات إنسانية معلقة في فراغ، فينسى أن الأدب يلامس البنية الروحية التي ربتها علاقات اقتصادية وسياسية في زمان ومكان، وأنه يتجاوز برامج الأحزاب السياسية المرحلية لأنه يتناول الواقع ويستطيع من خلاله أن يكوّن شهادة عن مراحل تاريخية وأن يكون نداء يحمل مهمات كبرى تعبِّر عن حاجات وطن وزمن.. ألم تكن قصائد "يا ظلام السجن" و"بلاد العرب أوطاني" و"نحن الشباب" أناشيد زمن وراياته؟ لكن هذه الرؤية تحتاج أن يعيها الكاتب والسياسي ليدركا معاً أن الأدب ليس بياناً سياسياً وليس من الكماليات وليس زخرفة على هامش البرنامج الوطني كتطريز على منديل وليس مستقلاً عن المشروع التربوي والأخلاقي الوطني، بل هو من حجارة البناء نفسها.
< عُرفتِ ككاتبة في زمن صراع الأيديولوجيات، فماذا تقولين الآن بعد أن سقطت هذه الأيديولوجيات؟
<< صوّر الإعلام العالمي أن سقوط المعسكر الاشتراكي أنهى عصر الإيديولوجيات، وقبل ذلك تبحر بعض المثقفين وهواة التنظير في علاقة الأيديولوجيا بالكاتب، ونُشِرت كتب تهب كاتباً صفة الأيديولوجي وتبرئ كاتباً آخر منها، ويبدو لي أن الأزمنة كلها أزمنة أيديولوجيات، فالإنسان لم يعش ولن يعيش حياة متحضرة دون منظومات فكرية، فقد صاغت الطبقات والمجموعات والشرائح الاجتماعية مبررات لتدافع عن مشروعها ووجدت كتّاباً ومثقفين تبنوا رؤيتها وكانوا منشديها، وربما لم تكن تلك الصياغة واضحة بمعايير زمننا، لكن ألا تجسد لائحة حمورابي رؤية أيديولوجية؟ ألا تجسد أساطير ما بين النهرين رؤية؟ في زمن الطباعة والصناعة والكتب ارتقى مستوى التعبير عن المنظومات الفكرية، وفي زمن المعسكرين وصراع المالكين والمستخدمين ونهوض حركة التحرر في العالم تجسد ذلك بوضوح في الأدب والفنون، فهل تستطيع قوة أن تمنع الشرائح من صياغة رؤية إلى المجتمع والمستقبل والحياة تعبِّر عن طموحها وأحلامها؟ يستحيل منع البشر من الحلم، ولا بدّ لصياغة الأحلام من أيديولوجيا، وستبقى الأيديولوجيات ما بقي البشر على الأرض.
في الحياة اليومية تجدين كيفما تحركتِ القريب منك فكرياً والبعيد عنك روحياً، فنحن نؤسس حتى الصداقة والزواج على مواقف ورؤية، نتعايش مع من يختلف معنا فيها، ويجب أن نحترم ذلك طالما بقي التنوع في المستوى الوطني والأخلاقي، ويعبِّر هذا أيضاً عن أيديولوجيا.
لا بدّ من أن يتمتع الكاتب برؤية تتسع لأعماله بمقدار سعتها، فدون المنظومة الفكرية والأخلاقية والفنية لا يوجد أدب أو فن، ومن هذا الأساس تبدو الفنون والآداب مسددة باتجاه هدف، مهما ابتعدت عن التبشير بمشروع، إذ لا حياد أبداً بين الجمال والقبح، بين الخير والشر، بين الفقراء والأغنياء، بين الطغاة والضحايا، بين السوقي والمهذب .
لي مواقف واضحة من الصهيونية والبيئة والعمارة العربية والعمارة الحديثة والهوية الوطنية ومن المسافة بين الفكر والسلوك، ولا شك في أني كسبت أعداء وأصدقاء من هذه المواقف، ولا يؤرقني ذلك أبداً، فالسوقية والكذب والتبجح والتكبر والانتهازية وحب المكسب بعيدة عن روحي.
< ولكنك دفعت ثمن انحيازك إلى جهة دون أخرى، أليس كذلك؟.
<< ذلك طبيعي، ففي هذه المساحات نكسب أعداءنا وأصدقاءنا، ولكن احترمتُ الشريف الصادق النزيه والمتصوف لأني لم أقرأ أبداً الشعار المعلن فقط، بل السلوك، إذ يهمني انسجام السلوك مع الفكر وأرى أن فصل الأخلاق عن الفكر وعن السياسة مصيبة، بل كارثة.. لديّ مثلٌ عليا تحكم المساحات كلها، لذلك أحترم النزاهة وأحتقر السوقية ولو كانت انحيازاً ظاهره أبيض، ولذلك لا أزال أخلاقية إذا اختلفت مع آخرين لأنني أرى أن جوهر الإنسان يظهر في الغضب أكثر مما يظهر في الرضا، فتهذيب النفس والالتزام بالمثل العليا في السلوك ليس أمراً سهلاً، بل هو عمل طويل، ولعل ما يسند ذلك معرفتي أن الصغائر تفتت الفرد وتفكك المجتمعات، وهذه الحقيقة لا تجهلها الأيديولوجيات، لذلك يُغرِق الخصمُ خصمَه فيها، فعلى سبيل المثال توصي وثيقة صهيونية بأن يجعل الصهاينة حياة خصمهم كالجحيم، وهذا يؤكد أن زمن الأيديولوجيات لم ينته أبداً، فالصهيونية تجعل حياة العرب في الأرض المحتلة جحيماً، وتطارد المفكرين الذي يعادونها في كل أنحاء العالم .
< يقول هوغو: إن الروح الإنسانية تحتاج في الوقت الحاضر إلى المثل الأعلى أكثر من حاجتها إلى الواقعية، فما قولك بذلك؟ وكيف تتجلى واقعيتك؟.
<< يحتاج الإنسان في الأزمنة كلها إلى المثل العليا، ونحن نكسب هذه المثل منذ طفولتنا، ونتسع بها، وترتقي خلال حياتنا، ونتصل بها بالإرث الإنساني الحضاري.. من المثل العليا مثلاً الاستشهاد في سبيل الوطن وتقديم الابن للوطن لا للمكاسب.. تضع لنا أمهات الشهداء في الأرض المحتلة مثلاً عليا مبهرة، ويضع لنا الشباب الذين يرفعون علمهم على أنقاض بيوتهم المنسوفة مثلاً أعلى مؤثراً هو التمسك بالأرض الوطنية، فهل يعني هذا أن تلك النساء لا يتمنين أن يدرس أبناؤهن وأن يعيشوا ويعملوا ويكسبوا؟ وأن أولئك الشباب يحبون الأنقاض؟ إنه يعني أن المثل الأعلى الآن هو مقاومة الهمجية والوحشية العالمية والإسرائيلية .
نغني بهذه المثل بنيتنا الروحية والأخلاقية وسلوكنا، ويغتني بها التاريخ الوطني الذي سيحفظها وسيورثها، ونرد بها على مثل العدو الغيبية المتخلفة التي تربيه على قتل العربي ومنع إسعاف الجرحى وعلى البرنامج الصهيوني والاستعماري.
ما المقصود بالواقعية إذاً؟ هل المقصود بالواقعية المدرسة الأدبية؟ نقرأ الواقعية قراءات متصلة بزمننا وبثقافتنا وسعتنا، فهل المقصود الواقعية السياسية التي تبرر الاستسلام للدبابة والمدفع لأنهما قوة تفرض شروطها؟ أنتجاهل القوة الأخرى التي تملكها الشعوب بإرادتها؟ تتصل قراءة الواقع بثقافتنا ومشروعنا، فالواقع حياة وبلاد وأشخاص وعواطف وعلاقات إنسانية واجتماعية ومدن وعمارة.. إن المسألة هي ماذا نرى منه وكيف نؤدي رؤيتنا وبأية مهارات وعواطف وثقافة؟ لدينا مثل عليا أخلاقية وفنية وفكرية، مراصد نرى بها ومنها، ولا يوجد الواقع الذي نتناوله إلا من خلال مشروعنا ومثلنا.
< الكتابة الحقيقية هي فعالية نقدية وإبداعية، فكيف تمارسينها؟.
<< لبناء رواية أو قصة هناك عناصر ضرورية كالموهبة والرؤية والهوى والعمل والثقافة والأخلاق، كما تساعد دراسة الأعمال الأدبية الكبرى في فهم البناء الفني.. من الممتع أن يبحر المرء في أروقة الكاتب، وأن يتخيل المكان الذي وقف فيه، ذلك يشبه المشي في غابة وتسلق جبل والسفر في بحر، خلال دراستي قرأت أحد فصول رواية دستويفسكي ثماني عشرة مرة، وبقي الفصل متماسكاً وممتعاً، وتابعت عناية تشيخوف بلغته واختيار فواصله ونقاطه وسبك جملته، ولا شك في أن دراستي الأدب الروسي في جامعة موسكو عمّقت شعوري بضرورة العمل الفني، وأفادتني ككاتبة، لكن كان يجب أن يمر وقت طويل بعد ذلك وأصبح أماً وأجتاز عواطف براقة وقاتمة وأراقب مساحات من الحياة وأتجول في الغرب والشرق كي أفيد في عمل روائي أهّلتني له دراسة الأدب والنقد .
نستنتج من دراسة الأدب أن الكتّاب الكلاسيكيين الكبار كانوا أصحاب منظومات فكرية وفنية، أصحاب رؤية نقدية تجاه الحياة، ودون تلك المنظومة لا يبنى أدب كبير، لكن أولئك الكتّاب وضعوا بأعمالهم معايير للأدب كان على النقد أن يكتشفها، فهل يعني ذلك أن الرؤية والمعايير مجردة؟ النقد والأدب يجتمعان في صفة الإبداع والإمتاع، ومن يتابع النقاد المهتمين يتبين أنهم مبدعون، ذواقة، إنسانيون، مطلعون اطلاعاً واسعاً على الفنون، لكن انحطاط النقد جعل التعقيد يستهويه فيهوم في فراغ ممل.
لنقل إذاً إنه لا بد للكاتب من مفاهيم نقدية علمية، ومن منظومة فكرية فنية، ولا بد للناقد من اطلاع واسع على الأدب ومن ذوق أدبي ومن منظومة فكرية فنية، ولا بد قبل كل شيء من الأخلاق والنزاهة والقدرة على الحب والتواضع، فهي التي تضبط الفكر وتحمي الإنسانية فيه أكان تغييراً سياسياً أم أدبياً أم نقدياً.
< تقولين في أحد حواراتك : "في اللغة أحاول أن أقص الثوب الفضفاض الذي رمته علينا الخطابات السياسية والمقالات"، وفي الوقت نفسه تُتَّهم رواياتك بفقدانها اللغة الأدبية، فما قولك؟.
<< عندما كنت طالبة كنت أعتد بأني بيّضت إحدى القصص التي ألقيتها في الندوة الأدبية الجامعية ثماني مرات، ومنذ فتوتي لم أستسغ موضوعة الإلهام الذي يوحي بأن العمل الأدبي مقطوع عن العمل الروحي والفكري، وكانت رسالتي في جامعة دمشق عن العمل الفني.
أعمل كثيراً على الصياغة، فوراء المقالة الصغيرة عمل يقيس الكلمة والجملة ويزنها فكرياً وفنياً، ووراء الرواية ما يساوي ثلاثة أضعاف صفحاتها، لذلك يجب أن نخلع عنا اللغة المثقلة بصيغ متداولة، كما أني أهتم بإيقاع الجملة والمقطع وأنتبه إلى صياغة بداية الفصل ونهايته.
اللغة يجب أن تناسب المقام والمقطع الذي تؤديه الرواية، لأن الرواية لا تجري في مجرى ممهد بالاسمنت بل يجب أن تجري كنهر الجبال، منسابة أحياناً وهادرة أحياناً، يجب أن تناسب اللغة برهتها.
< وتلامين أحياناً على تثبيت الوثيقة الجافة في رواياتك؟.
<<أتعمد ذلك لأنه من حجارة مشروعي، فهي أرض الشخصيات ومستنبت عواطفها وسلوكها، ولديّ شخصيات ذات مواقف ويجب أن تكون عواطفها ولغتها في قامة مواقفها.
< يقول الناقد المعروف بيلنسكي : "في الأدب لا تكفي الموهبة" فما رأيك؟.
<< الموهبة شرط، بداية، أساس، مسؤولية فردية ووطنية، فالمؤسسات الاجتماعية مسؤولة عن الشروط التي تفتّح موهبة المواطن وتكشفها وتقدمها ثم ترعاها، والرعاية تتجاوز التشجيع على النشر والعرض، وتتجاوز المكافأة إلى الحنان والفهم والشعور بأن الموهبة ثروة وطنية، وأن الكاتب الجيد سند، من يتابع سيرة القادة السياسيين يتبين أنهم وعوا ذلك، فكانت علاقتهم بالفنانين والكتّاب والمثقفين تتميز حتى بالصبر على الأهواء والجموح والتفرد والمزاج الخاص وتحاول كسب الفنانين، لكن المتابع يتبين أيضاً أن الفنانين العمالقة رعوا موهبتهم بحب وصقلوها وضبطوها ولم يتجاوزوا المعايير إلا إلى أخرى أبدعوها، لذلك يجب أن نصحح الرؤية الساذجة التي تصور الكاتب بوهيمياً، يتناول وحيه من ربات الفن ويتلقى منهن ما يكتبه ولا يعترف بمعايير.
لقد ساهمت بعض كتب النقد في تأسيس هذه الرؤية، وتابع ذلك المبشرون باللاوعي، فمثلاً قال ناقد أوروبي معروف: إن نوبات الصرع هي التي وهبت دستويفسكي القدرة على التوغل في روح أبطاله، مع أن بناء شخصيات دستويفسكي مؤسس على فهم جوهر الحياة وسماع صوت الزمن ومعرفة البشر، وعلى وعي رفيع أحاط بمجتمعه.
عندما ندرس الكتّاب نلمس ما كسبوه من المعرفة الفنية والفكرية ومن العمل في موضوعاتهم، فلو كانت الموهبة كافية لما فحصنا مسودات الكتاب لنفهم الطرق التي سلكوها حتى اكتمل عملهم واستوت صيغتهم.. إننا نلمح في تاريخ الأدب أن الموهبة قصفت حيث لم يحترمها صاحبها حتى بتفاصيل سلوكه، وحيث رمى نفسه في مجاهل لم تحمه من الصغائر والسوقية، فقد يخطر لنا أن المعرفة تفترض الغوص في القاع الملوث، لكن النزاهة وأناقة العواطف معايير تضبط ذلك الغوص.. لماذا توجد في العالم قلة من العمالقة؟ لأن الموهبة تشترط عناصر كثيرة كي تصل إلى النضج، تحتاج إلى الثقافة والاختصاص وتأمّل الحياة والناس والقدرة على معرفة البشر وعلى البعد عنهم وعلى العمل، وإلى أن يهب الإنسان نفسه لموضوعه، فيشعر به في صحوه ونومه.. ألا تكتمل أحياناً بعض مشاهد الرواية أو القصيدة خلال النوم لأن صاحبها فكر فيها باستمرار وكانت هاجسه؟.
< يقول بعض النقاد: إن رائحة الطبخ وأدوات الماكياج تفوح من كتابات المرأة، فهل هذا صحيح؟.
<< هذا التعبير جارح وظالم رغم أن بعض الكاتبات طرّزن كتبهن بصورهن ووجّهن الانتباه لسلوكهن وإلى أنوثة الكاتبة قبل مهنتها وإنسانيتها، لكن ما أكثر ما أساءت المقالات النقدية السريعة إلى النقد نفسه، وإلى أعمال جدية كتبتها نساء.
على كل حال تبدو في الجملة التي نقلتها رؤية متخلفة تحتقر الطبخ والتجميل، وتوحي بأن صاحبها يعيش عالة على أخته أو زوجته أو أمه مع أنه يحتقرها، ويجهل أن الإنسان اليوم يتدبر طعامه وينظف مكانه ويرتب ملابسه، أكان امرأة أم رجلاً، وأن الزينة حق إنساني قد يتفاوت بين النظافة والترتيب وبين الماكياج، يحاول فيه الإنسان أن يرضى عن نفسه أولاً ويحترم أنه إنسان، ولنذكر أن تشيخوف قال: إن كل ما في الإنسان يجب أن يكون جميلاً، ملابسه، أخلاقه، صوته، وكلامه.
< ما أبرز عيوب الرواية التي تكتبها المرأة برأيك؟.
<< تكتب المرأة رواية رغم ما يثقلها من أعمال كتربية الأولاد والطبخ ونظافة البيت والقلق على الأسرة والقلق على الوطن، وتتناول بعض الكاتبات مسائل البيئة والمرأة والتقاليد، إذ لدينا روائيات سوريات جدّيات نتمنى لهن الصبر والمثابرة والنجاح.

حوار : أمينة عباس

http://www.albaath.news.sy/user/?id=700&a=64637