قراءة واعية لعلاقة الغرب بالإسلام (2)
مصطفى إنشاصي
تنويه: سأوقف نشر حلقات المخططات الأمريكية ضد وطننا (للإقامة الشرق الأوسط الجديد) مكتفياً بما كان يجب على المتابعين معرفته في وقته لتثبيت الفكرة والمعلومة لديهم (حرب الإبادة على غزة)، عن ثبات الموقف الغربي ووحدته خلف العدو الصهيوني خاصة أمريكا ودعمها المطلق لـ(إسرائيل التوراة)، بدءً من هذه الحلقة الثانية سأستكمل حديثنا عن علاقة الغرب بالإسلام، لأنه مهم جداً أن نؤسس لفهم الواقع من خلال فهم التاريخ وقراءته قراءة واعية لاستشراف المستقبل، وسنكمل الكتابة عن المخططات الأمريكية في سياق قراءتنا هذه لتاريخ العلاقة بين الغرب والإسلام.

المسلمون أول من غزا أوروبا فكرياً وثقافياً وحضارياً
لم ينسَ الغرب أنه بعد ظهور الإسلام استطاعت جيوشه تحطيم جبروت الدولة البيزنطية وطغيانها في بلاد الشام وتهديد الإمبراطورية البيزنطية بالزوال. ولم ينسَ جيوش الإسلام وهي تفتح أسبانيا وتقيم فيها حضارة عريقة لمدة سبعة قرون، ولم ينسَ أن القوة البحرية الإسلامية سيطرت على البحر المتوسط وجعلته "بحيرة إسلامية" وحصرت أوروبا خلف شطآنها. ولم ينسَ أن المسلمين دخلوا جنوب فرنسا ومنطقة الريفيرا وجنوب إيطاليا وامتد نفوذهم إلى شمالها حتى جنيف عاصمة سويسرا وبقوا سادتها أربعين سنة، وأصبحت أوروبا كلها مهددة من الداخل والخارج. كما وأن المسلمون لو انتصروا في معركة "بلاط الشهداء" لكانت أوروبا اليوم تدين بالإسلام، وهذا اليوم اعتبره أحد شعراء البلاط الفرنسي (أسود يوم في تاريخ أوروبا، لأن العرب لم ينتصروا فيه)، كما ذكر أحد المستشرقين أن عبد الرحمن الخافقي لو انتصر في معركة "بلاط الشهداء" لما عاشت أوربا ظلمات القرون الوسطى!
ما أن أخذت خارطة الدولة الإسلامية شكلها شبه النهائي مع وصول الفتوحات الإسلامية إلى ذروتها في القرن الثاني الهجري، حتى تعددت ميادين الصراع مع أوروبا الصليبية وظهرت صبغته الدينية بوضوح، وكان أشهر تلك الميادين أسيا الصغرى والأناضول وجزر البحر المتوسط وشمال إفريقيا وأسبانيا. كما أن فتح الإسلام لأوروبا لم يكن فاتحاً عسكرياً فقط، بل وفكرياً، وليعلم الجميع أن الحضارة الإسلامية وثقافتها هي الوحيدة التي استطاعت أن تكسر الحاجز الذي فرضته أوروبا على نفسها أيام الكنيسة واستطاعت أن تنفذ إلى قلب أوروبا وتتحداها.
لم يكن خطر الإسلام على أوروبا وحدودها آنذاك متمثلاً فقط في جيوشه المحاصرة لها من كل الجهات، لكن كان الخطر يكمن في غزوه لها فكرياً وحضارياً أقوي منه عسكرياً، لأنه في الوقت الذي لم تدخل فيه جيوش المسلمين أراضٍ أوروبية فقد دخلتها الثقافة الإسلامية وبعض العادات والآداب الإسلامية. فقد كان المسلمون أول من غزا أوروبا فكرياً وثقافياً وحضارياً، وذلك عبر مراكزهم الحضارية المشعة في قبرص وأسبانيا وغيرها.
وكما اعترف كثير من مؤرخي الغرب ومستشرقيه برحمة وسماحة الإسلام فإنهم اعترفوا بعظمة الحضارة الإسلامية وفضلها على العالم أجمع:
يقول ابريفولت: "إن ما يدين به علمنا لعلم العرب ليس ما قدموه لنا من كشوف مدهشة النظريات المبتكرة فحسب، بل يدين هذا العلم إلى الثقافة العربية بأكثر من هذا أنه يدين لها بوجوده نفسه". كما يقول محمد أسد: "ولكن الذي وضعه العرب كان أكثر من بحث لعلوم اليونان القديمة، لقد خلقوا لأنفسهم علماً جديداً تام الجدة. لقد وجدوا طرائق جديدة للبحث، وعملوا على تحسينها، ثم هذا كله وصل بوسائط مختلفة إلى الغرب، ولسنا نبالغ إذا قلنا: إن العصر العلمي الحديث الذي نعيش فيه لم يدشن في مدن أوروبا النصرانية، ولكن في المراكز الإسلامية في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة".
أما نيكسون فيقول: (... أما المكتشفات اليوم فلا تحسب شيئاً مذكوراً إزاء ما نحن مدينون به للرواد العرب الذين كانوا مشعلاً وضّاءاً في القرون الوسطى المظلمة ولا سيما أوروبا ... ". ويقول سيديو: "كان المسلمون في القرون الوسطى منفردون في العلم والفلسفة والفنون وقد نشروهما أينما حلت أقدامهم، وتسربت منهم إلى أوروبا، فكانوا هم سبباً في نهضتها وارتقائها". ويذهب إلى أن المسلمين هم في واقع الأمر أساتذة أوروبا في جميع فروع المعرفة. ويقول الدكتور جوستاف لوبون: "إن العرب أنشأوا بسرعة حضارة جديدة كثيرة الاختلاف عن الحضارات التي ظهر سابقا".
وعن سيادة الإسلام وتزعمه للعالم يقول ول ديورانت: "لقد ظل الإسلام خمسة قرون من عام 700 إلى عام 1200 يتزعم العالم كله في القوة، والنظام، وبسطة الملك، وجميع الطباع والأخلاق، وفي ارتفاع مستوى الحياة، وفي التشريع الإنساني الرحيم، والتسامح الديني، والآداب، والبحث العلمي، والعلوم، والطب، والفلسفة".

هدف الحروب الصليبية القضاء على الإسلام
دون خوض في مناقشة بواعث الحروب الصليبية وتعريفاتها نؤكد أنها لم تكن من أجل إنقاذ بيت المقدس من أيدي المسلمين، لكن من أجل تدمير الإسلام الذي هدد وجود النصرانية في عقر دارها، فذلك الغزو الثقافي والفكري والحضاري الإسلامي للغرب يعتبر عند كثير من مؤرخي الحروب الصليبية من الغربيين، من أهم الأسباب التي دفعت البابا أوربان الثاني إلى إعلان الحرب على المسلمين.
حيث يذكر بعض المؤرخين: "أن الباباوات بعد أن وقفوا على شغف العالم الأوروبي بالثقافة العربية، سعوا إلى مقاومتها بشتى الطرق، لأنها تشكل خطرا على أوروبا ودينها .. فقد كان يترتب على الذين يريدون الوقوف على حضارة عصرهم أن يجيدوا اللغة العربية، وللعربية فلسفتها، وفلسفتها تناقض الإنجيل، وكان العرب قد سادوا العالم بالقرآن الكريم". ويصف غابريلي حال أوروبا النصرانية آنذاك، بقوله: "لقد استعربت (المسيحية) بسرعة لغويا وثقافيا".
ويقول المستشرق غاردنر: "لقد خاب الصليبيون في انتزاع القدس من أيدي المسلمين ليقيموا دولة مسيحية في قلب العالم الإسلامي ... والحروب الصليبية لم تكن لإنقاذ هذه المدينة بقدر ما كانت لتدمير الإسلام"! ويقول ليفونيان فيري، وهو على حق، أن الحروب الصليبية كانت أعظم مأساة نزلت بين المسلمين والنصارى في الشرق الأنى، لقد أحب المسيحيون أن ينتزعوا القدس من أيدي المسلمين بالسيف ليقيموا للمسيح مملكة في هذا العالم، على أنهم لم يستطيعوا أن يقيموا تلك المملكة، ولكنهم تركوا بعدهم العداوة والبغضاء".
ويرى الدكتور محمد مصطفى زيادة أن: "الحروب الصليبية حركة أوروبية اعتداءيه توسعية استمدت جذورها من قديم التنافس العميق بين الشرق والغرب. ومن توغل الفتوحات الإسلامية الأولى في أطراف الإمبراطورية البيزنطية. وفي أجواف الممالك المسيحية الغربية في أسبانيا وفرنسا وإيطاليا وجزر المتوسط، وتضاف إلى هذه العوامل العالمية الكبرى، عوامل أوروبية محلية، وهذه ترجع إلى القرن الحادي عشر الميلادي، وإلى صميم التاريخ الأوربي في ذلك القرن".