مصطفى إنشاصي
في الحلقة الماضية أوضحنا أن الذي حدث في الغرب هو فصل بين الدين والسياسة وليس بين الدين والقانون، لأن القانون طوال تاريخ الغرب الذي يضعه هم البشر. أما الدين الإسلامي فيشمل العقائد التي يؤمن بها المسلمون والأحكام الشرعية التي تنظم جميع جوانب حياتهم الشخصية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية …إلخ، التي أنزلها الله سبحانه ليحكم بها الناس فيما بينهم، إضافة إلى العبادات (أركان الإسلام). ذلك كله هو الدين الإسلامي، فالدين الإسلامي إذن عقيدة وسياسة وعبادات ومعاملات.


أضف إلى ذلك أن الإسلام لم يضع نصاً لكل صغيرة وكبيرة في حياتنا لكنه وضع أحكاماً عامة وحد حدوداً بعينها ووضع لها عقوبات وذلك من أجل الحفاظ على المجتمع من الجريمة والتفكك والانحلال وتقطيع علاقاته وروابطه الاجتماعية التي تضعفه وتجعله فريسة لأعدائه. كما أن السلطة في الإسلام مقيده بتلك الحدود (القواعد التشريعية) وهي القواعد الآمرة أو الناهية التي لا يباح مخالفتها ï´؟تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَï´¾ (البقرة:229)، ï´؟تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَاï´¾ (البقرة187)، والقواعد التشريعية (الحدود) تسمي في القانون الوضعي بالقواعد القانونية أو قواعد النظام العام.


كما أن الإسلام يميز بين نوعين من القواعد القانونية، الحدود والتشريعات الثابتة التي لا تتغير لا زماناً ولا مكاناً والتي وضعها حق لله تعالى وحده، التي جمع علماء الشريعة غاياتها في خمسة غايات سموها "مقاصد الشريعة"، وسماها علماء العقيدة بـ"الكليات الخمس"، وهي: حفظ الدين وحفظ العقل وحفظ النفس وحفظ المال وحفظ العرض.


والنوع الثاني هو: القواعد القانونية التي تخضع للتطور والتغير زماناً ومكاناً وجعل الدين الإسلامي سلطة وضعها للأمة وعلماءها وأهل الاختصاص فيها في كل زمان، والاجتهاد في ضوء المقاصد أو الكليات الخمس لاستنباط الأحكام التشريعية والقانونية التي يكون فيها مصلحة الفرد والجماعة والمجتمع وهذه محلها الفقه. وهي أيضاً نوعان:


ما كان فيه فتوى شرعية أو حكم ثابت مستنداً إلى نص شرعي، والآخر ما يتخذه الحاكم من إجراءات سياسية لمواجهة ما يستجد من أحداث ليس فيها حكماً شرعياً أو فتوى أو يخالف ما هو ثابت من شرع الله وهي (السياسة الشرعية) تحقيقاً لمبدأ (وأمرهم شورى بينهم). وذلك ما فعله السلف حيث اجتهدوا في وضع قواعد وأصول شرعية بحسب زمانهم ليس فيها نص قرآني ولا حديث نبوي، مثل الاجتهاد والقياس والتعزير والاستحسان والاستصحاب والحاجات المرسلة وغيرها من القواعد والأصول التي نظمت حياة المجتمع المسلم في جميع مجالات حياته وشؤونه اليومية.


وعليه فإن الإسلام يقول بدينيه التشريع وليس السلطة كما في النظم الثيوقراطية، وبمدنية السلطة وليس التشريع كما في النظم المدنية (العلمانية)، ولكن العلمانيين يحاولون حصر الدين في العقيدة والعبادات فقط لبرروا مطلبهم بفصل الدين عن السياسة، على اعتبار أن السياسة وأمور الحكم لا تدخل ضمن الدين ولكنها من اختصاص الشعب. فالخلط الذي وقع فيه العلمانيين ليس بين الدين والسياسة ولكن بين الشريعة والقانون. فهم لا يريدوننا أن نخلط دين الله بالقانون ليبقَ الحكم في الأرض للبشر!


لذلك وإن صحت مقولات مثل: لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، والدين لله والوطن للجميع، في الغرب ليس بالضرورة أن تصح عندنا بل هي سببت أزمات، لأن علماني وطننا لا يعلمون أن الله تعالى غني عن كل شيء وليس بحاجة لدين ولكن الناس هم الذين في حاجة للدين ليهديهم إلى صلاح حالهم وحسن إدارة شؤونهم، وأنه كما أن الدين لله تعالى بحكم أنه منزّل من لدنه سبحانه فإن الوطن أيضاً لله تعالى، فهو مالك الملك وكل الكون وما عليه ملك له سبحانه والإنسان مستخلف فيه وليس مالكاً له.


بمعنى آخر كما أن الوطن للجميع فإن الدين في الإسلام أيضاً للجميع وليس علاقة بين الإنسان وربه كالدين النصراني، لأن الدين في الإسلام ليس مجرد شعائر تعبدية لكنه أعم وأشمل ويعتبر أي عمل يقوم به المسلم ابتغاء رضا الله تعالى هو عبادة، بدء من أن تلقى أخاك بوجه طلق (مبتسم) إلى إتيان الزوجة الذي هو في مفهوم الغرب غريزة وشهوة وحاجة بيولوجية لكنه في الإسلام هو عبادة!


كما أن العبادات في الإسلام التي يرون فيها أنها علاقة بين الإنسان وربه على الطريقة الغربية يستحيل أن تكون كذلك، لأنها تتضمن أبعاد أخلاقية واجتماعية وإنسانية وما لم تُثمر أخلاقاً وسلوكاً وممارسة تعود على الآخرين في المجتمع بالنفع أو تكف أذاهم عنهم فلا فائدة منها وقد لا تُقبل عند الله تعالى:
فالصلاة مثلاً فُرضت لتنهَ المسلم عن الفحشاء والمنكر، ومَنْ لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له.
والزكاة هي حق للفقراء في أموال الأغنياء (حق معلوم للسائل والمحروم)، وهي تزكية وطهارة للأغنياء وفيها تكافل وتعاون بين أفراد المجتمع (خذ من أموالهم صدقة تزكيهم وتطهرهم).
والصوم إحساس بالآخرين وشعور بمعاناتهم وفقرهم وحاجتهم، والحج مؤتمر عام يلتقي فيه المسلمون يتشاورون في أمور دنياهم إلى جانب أنه عبادة لله، وفيه منافع دنيوية ومكاسب مادية …إلخ.
فإن كانت العبادات في الإسلام يستحيل أن تكون على الطريقة الغربية والمناهج الغربية علاقة بين الإنسان وربه فما بالنا بالمعاملات (التشريعات) التي على الأمة استنباط الأحكام التي تصلح لكل زمان ومكان منها إلى يوم الدين؟!