ما لا تعرفه عن الهُكسـوس! (4-4)
وقد تمكن منافسي الهكسوس من سكان جنوب مصر من التغلب عليهم، وقد خرج بعض الهكسوس من مصر وعادوا إلى مواطنهم في بلاد الشام، وانحصر نفوذهم فيها، وبذلك انتهى أول اتحاد بين القطر المصري والسوري، وكانت (غزوة) الهُكسوس درساً قاسياً تلقاه المصريون، فصمموا على التوسع في الخارج حتى لا يفاجئوا في عقر دارهم فاحتلوا سوريا ولبنان حتى "كركميش" على الفرات، وانتصر فرعون (تحتمس الثالث) في معركة "مجدو" 1479ق.م على أمراء سوريا واحتل قادش فامتدت السلطة المصرية حتى الفرات[1]. وبذلك أصبحت فلسطين تحت الحكم المصري وكانت هذه المرة الأولى التي تدين فيها فلسطين لحكم مصر. لقد أدرك حكام مصر منذ ذلك الوقت أن سوريا هي بوابة الحماية الشرقية لمصر، وأن الخطر الذي يتهدد مصر سوف يقضي في طريقه على سوريا، وسوريا في ذلك الوقت لم يكن فيها كيان موحد "دولة" لذلك لابد من حماية سوريا من أطماع الآخرين. لأن في ذلك حماية لأمن مصر وحدودها "ولقد أدرك الحكام في مصر أنهم لا يستطيعون أن يعيشوا بمعزل عن العالم وأن الحد الشرقي الذي أقاموه ليحرسوا بوابات الشرق لم يعد صالحاً للدفاع عن مصر وأن البوابة الفعلية تقع عند جبال طوروس"[2]. لذلك كان على فراعنة الأسرة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة إقامة خط دفاعي جديد لحماية حدود مصر الشرقية. وقد ركزوا جهودهم الحربية والسياسية لتحقيق ذلك. وهذا ما سار عليه كل القادة العسكريين والسياسيين في المنطقة والعالم تجاه فلسطين. وإننا نرى البطالمة والصليبيين والجنود المحاربين من بعدهم أمثال بونابرت وإبراهيم وأللنبي يخضعون لنفس الالتزام الحربي حين يرون في الدفاع عن سورية وفلسطين وتركيز القوة الحربية فيها دفاعاً عن بوابة مصر الطبيعية[3]. لماذا شُوه تاريخ الهُكسوس[4]؟! لم يتعرض تاريخ أمة من الأمم لتي حكمت مصر للتشويه مثلما تعرض له تاريخ الهُكسوس، وإن كانت الآثار المكتشفة في جنوب مصر ذكرت الهُكسوس بالغرباء الهمج والبرابرة..الخ، فإن الآثار الشمالية ذكرت ما يفيد اهتمام بإعمار البلاد وتحسين مرافقها، وأنهم كانوا صالحي الإدارة وأنهم اقتبسوا عادات المصريين وتسامحوا في عبادتهم ومعابدهم. وأن كثيراً من المصريين اختلطوا بهم واقتبسوا منهم أشياء كثيرة، ولاسيما في البناء وأن شكل أبي الهول المجنح من ابتكاراتهم. كما أن بعض المصريين لمحبتهم لهم سموا أولادهم بأسمائهم وألقابهم. ومع أن الهُكسوس ليسوا الأرومة الوحيدة التي تسربت بعد قيام المملكة المتحدة إلى مصر وصارت صاحبة الحكم والسلطة، حيث تسربت قبلهم موجات عربية عن طريق النوبة، حتى مينا موحد مصر يرجع إلى أصل عربي، وملوك الأسرتان الحادية عشرة والثانية عشرة كذلك وغيرهم كثير. ونعتقد أن التصاول الذي جرى بين ملوك الهُكسوس وملوك الأسرتين السابعة عشرة والثامنة عشرة وانتصارهم عليهم أثر قوى في ذلك بالأحرى كان سبب ذلك. وهو الذي حدا بالأسرتين إلى نعت الهُكسوس بأقبح النعوت من غرباء وغزاة ومتعصبين وسفاحين ومخربين وبلاء...الخ، بالرغم مما عُرف عنهم من مدنية وثقافة وعمران وتنظيم، وذلك لتعبئة أفكار الناس ضدهم وإثارة حماسهم على قتالهم ثم تبرير سلطانهم الذي قام على أنقاضهم مما يقع في كل زمان ومكان. ومن العجيب أن يظل مؤرخو مصر المحدثين يرددون ما ردده (مانيتون)، وما دونه فراعنة الأسرتين السابعة عشرة والثامنة عشرة وما بثوا ضدهم من نعوت الهمجية والبربرية .. ويكررون القول أن ملوك الأسرة السابعة عشرة والثامنة عشرة ومن قبلهم ومن بعدهم مصريون صميمون .. مع أنهم يعرفون ويقررون أنهم ليسوا الطُراء الوحيدون على مصر، وأن الأرومات الفرعونية القديمة لم تنبت من مصر نباتاً وإنما هي بدورها طُراء مثلهم، وأن معظمهم ينتسب إلى الجنس العربي والجزيرة العربية اللذين ينتسب إليهما الهُكسوس. ومن طريف ما ناقضوا أنفسهم فيه أنهم وصفوا الذين جاءوا من بلاد النوبة إلى الصعيد فاستولوا عليه، ونشأ منهم الأسر من الحادية عشرة إلى الثامنة عشرة غزاة أجانب حينما جاءوا إلى الصعيد على، ما نقلناه عن (سليم حسن) في سياق الحديث عن الأسرة العاشرة، ثم وصفهم في سياق موجة الهُكسوس بالمصريين الصميمين(*). ومما يذكره (سليم حسن) أن أُحمس الأول الذي اُعتبر مؤسس الأسرة الثامنة عشرة، والذي كان ملكه امتداد للأسرة السابعة عشرة طرد الهُكسوس من مصر حوالي 1580ق.م، غير أن نفوذهم السياسي فيها ظل قائماً وثقافتهم لم تمح، وأنهم لم يتقهقروا إلى أبعد من النقطة التي رجع عن مطاردتهم فيها أي مدينة "شاروحين" الحصينة ـ قرب بئر السبع في فلسطين ـ وأنه عندما عاد من إخماد ثورة الجنوب وجد الثورات اندلعت في الدلتا بقيادة زعيمين من زعماء الهُكسوس، وبعد أن أخمدها لم يقل أنه أجلى الباقين حيث يدل هذا على أن الجماعات الهُكسوسية ظلت مستوطنة في الدلتا. الفراعنة هل هم عرب من اليمن؟
صدر حديثاً كتاب بعنوان: "جغرافية التوراة في جزيرة الفراعنة" للباحث المصري (أحمد عيد)، الذي يقدم فكرة جديدة لأصل الفراعنة وهي نفس ما قدمه (محمد عزة دروزة) في كتابه "تاريخ الجنس العربي" الصادر عام 1959م. وقد عرضت جريدة "26 سبتمبر" اليمنية في عددها (79) الصادر بتاريخ 12/2/1998م ملخصاً لهذا الكتاب، الذي يقدم فكرة جديدة وبأدلة علمية وأثرية لا يرتقي إليها الشك، تقول: أن أصل الفراعنة عرب من اليمن، وأن كل الأحداث التي فسرها علماء المصريات أنها حدثت في مصر قد حدثت في اليمن، فهو يرى أن الحضارة الفرعونية هي حضارة عربية وأن أول من سكن مصر هم (العمالقة)، فقد كانت الأرض واحدة وبعد الانكسار العظيم فإن البحر الأحمر كان ولمدة طويلة مجرد مخاضة، ولم يمنع الاتصال بين قطريهما أي مصر "العليا" جزيرة العرب ومصر السفلى. ويرى أنه لم يكن هناك غزو لمصر وإنما انتقال في الأرض الواحدة وهجرة في الأرض الممتدة، وأن الإله "حور" هو إله عربي وأتباع حورهم العرب، ويكفي أن نستعرض الأعلام الجغرافية التي حملت اسم هذا الإله في جزيرة العرب وللآن للدلالة على مذهبنا "بنو حور" في مسور المنتاب باليمن وحور ماء بالبادية. ورداً على من يعتبرون الهُكسوس "غزاة" فهو يرى: أن البلاد ولم تتعرض لغزو أجنبي وأن انتقال السلطة من أسرة إلى أخرى داخل الوطن الواحد لا يعني إطلاقاً تعرض البلاد لهذا الغزو الأجنبي المزعوم. أما في موضوع (مينا) وتوحيد القطرين المصريين، فيقول: "إن الاعتقاد السائد لدى علماء المصريات أن (مينا) قد قام بتوحيد الوجهين القبلي والبحري أي الدلتا والصعيد وهي ما يسمى عندهم بمصر العليا والسفلى، والرأي عندي أن توحيد القطرين هو توحيد لمصر السفلى ومصر العليا أي جزيرة العرب". وهو يتناول كل الأحداث والوقائع والعبادات والآلهة المصرية القديمة ومواقع المدن وأسماء الأعلام التي وردت في الآثار المصرية ويقارنها ويقاربها مع أحداث ووقائع وآلهة اليمن وأسماء المدن والأعلام ...الخ.
[1] ول ديورانت، م1، ج2، مرجع سابق، ص9.
[2] نجيب ميخائيل إبراهيم، ج2، مرجع سابق، ص93.
[3] المرجع السابق، ص130.
[4] محمد عزة دروزة، ج2، مرجع سابق، يُراجع من ص126-130.
(*) ومن الطريف أن هذا تكرر في سياق تاريخ مصر الحديث أيضاً، حيث نعت الجبرتي مماليك الشركس والترك بالمصريين حينما كانوا يتصاولون مع الولاة العثمانيين.