منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 5 من 5

العرض المتطور

  1. #1

    درّاجة هوائية .. ( قصة قصيرة )*

    دراجة هوائية..


    قصة قصيرة
    بقلم ( محمد فتحي المقداد)*

    دراجة هوائية..

    قصة قصيرة
    بقلم ( محمد فتحي المقداد)*

    دراجة هوائية قديمة مركونة في المستودع, وهي من بقايا مجدٍ وعِزٍّ كان لها, في مرحلة تطوّر أهل القرية من امتطاء الحمير, إلى الدراجات الهوائية التي كانت بمثابة "الرولز رويس" لمن يركبها في تلك المرحلة الغابرة, بعد أن تقمص شخصية كلاي التي لبست اسمه محمد علي, فإذا ناديته كلاي فإنه يجبك, وكذلك إذا ناديته محمد, ويفتخر باللقب المحبب إلى نفسه,
    حاول أولاده جاهدين بيعها لمصلحي الدراجات بثمن بَخْسٍ كَخُردَةٍ, للتخلص منها ولكن الوالد وضع عليها فيتو حفظه كل أفراد العائلة بعدم الإقتراب منها أو المساس بها, وأصبحت خطاً أحمر كمثل بعض العرب القابعين تحت مظلة الأميركان.
    لم يحاول أحد من العائلة استجلاء الأهمية لها من الوالد, إلاّ ما كان يخطر ببالهم أن والدهم يوماً سيعود لإصلاحها وإعادة تأهيلها من أجل ممارسة الرياضة, التي وضع برنامجاً لها, على ضوء نصائح الطبيب المتكررة والملحّة للتخفيف من الوزن الزائد, الذي فرض على الجسم زيادة الكولسترول, والضغط, والسكر الذي ظهرت بوادر ارتفاعه إثر صدمة نفسية برسوب أحد الأبناء في الثانوية العامة.
    الوالد كان ينوي دخول التاريخ من خلال تلك الكركوبة المتهالكة, ونواياه غير المعلنة بالتبرع بها للمتحف الوطني, وأن يُكتَب اسمه على لوحة صغيرة بجوارها , على اعتبار أنها أثرٌ نادرٌ لارتباطها في ذهنه بثلاثين سنة, منذ ذلك اليوم الذي كان سيؤدي به إلى السجن في العاصمة.
    اشتراها من سوق الحراميّة في شارع الثورة, بسعر مغرٍ بالنسبة لأسعار مثيلاتها في السوق, و بَدَتْ له كأنها جديدة من الوكالة, وبعد مفاوضات حصل على تنزيل السعر بما يتناسب مع ميزانيته, وطلب من البائع بكتابة ورقه يتعهد فيها البائع أنها غير مسروقة, ودوّن فيها المعلومات الضرورية المدوّنة في البطاقة الشخصية, وتوكل على الله, بعد أن جرّبها وتأكد من صلاحيتها وجودتها التي تستحق الثمن الذي دفعه بها, وهي أول ثمرة لعمله لمدة شهر كامل في سوق الهال.
    في ذات يوم. بعد أن أجمع رأيه واتخذ قراره, بعبور بوابة التاريخ, والتخلص من دراجته الأثيرة عليه, توجه لإدارة متحف المدينة, استقبله المدير أجمل استقبال, شرب فنجان قهوته, و ابتسامة مصطنعة لم تفارق وجه المدير الذي بدا كوجه تمثال روماني, أو مومياء فرعونية, كُلَّ قليلٍ يتطلع إلى ساعته, كأنه يطلب من الضيف أن يظهر حاجته وسبب زيارته, و أعرب عن انشغاله بمواعيد رسمية تتعلق باجتماعات مع الجهات العليا, بينما في الحقيقة كان ينتظر خلوّ المكتب ليجلس مع السكرتيرة, التي ارتبط مها بعلاقة حميمة منذ أن سعى بتعيينها بعقد عمل مؤقت, ونصب كمائنه وراء حاجتها و مساعدته لها, وهي بدورها بحاجة أن تساعد عائلتها الفقيرة.
    " كلاي" تنحنح وتوجّه بالكلام للسيد المدير: شاكراً له حُسن الاستقبال ثانية, وأخبره بأنه يملك تحفة أثرية يريد التبرع بها للمتحف, على اعتبار أنها تراث وطني وقومي يجب المحافظة عليه من الضياع والاندثار, والوقوع بيد لصوص الأنتيكا وتهريبها إلى خارج البلد, فتصبح كمعظم آثارنا وكنوزنا المنهوبة.
    يستفسر المدير: عن ماهية التحفة؟.
    بصراحة يا سيدي, هي بسكليت قديمة, لا زلتُ محافظاً عليها من عبث أولادي, ورميها مع النفايات أو التصرف بها.
    يَزُمّ المدير شفتيه, ويحدق بنظرة استغراب من حديث "كلاي", ويبدي فيما بينه وبين نفسه شكّاً بسلامة قوى الرجل العقلية, وقد اربدّ وجهه بغضب بدت ملامحه عليه, وهو يتمالك نفسه من الانفجار, عندما ظنّ أن الرجل يستهزئ به. وراح يفرك يديه بحركات عصبية, ويفرقع أصابعه, وقال: شكراً لك, ولكن ألا ترى أن هذا التبرع لا يليق بمتحفنا الوطني.
    دافع "كلاي" عن رأيه, بقوله: هذه الدراجة أثرية من الجيل الأول الذي ظهر في قريتنا, أيام كان يُشار لها بالبنان, وينالنا من الحسد ما يجعلنا نصاب بأعتى الأمراض, ويومها كانت بأعداد لا تتعدى حدود أصابع اليدين, أول مرة ركبتها في دمشق أيام الشباب و الولدنة, ورحت أجوب بها الشوارع المليئة بالسيارات, وبينما أنا في منحدر شديد وبعده بقليل منعطف يؤدي إلى طريق الربوة, فقدت السيطرة عليها بعدما راتخى شريط الفرامل, فأصيح بأعلى صوتي على المشاة أن ينتبهوا كي أتفادى الاصطدام بهم.
    بينما أنا على هذه الحال و الحيرة من أمري, فوجئت بذلك الرجل الذي يتكئ على عكازته, ويعتمر قبعة ( كسليت) غامقة على رأسه, ونظارته المتربعة على أنقه والذي بدا لي ساعتها كأنه جبل قاسيون, فاصطدمت به, ووقع أرضاً, ووقعت فوقه, ارتمت الدراجة إلى الطرف الآخر من الطريق, وحكمة الله أن السيّارات لم تتواجد في المكان, و كأنها حجبت عن الطريق في هذه اللحظة.
    المدير يتبرم بالحديث : نعم , وبعد ذلك, أرجوك أوجز..أوجز ..!!
    أشكرك, ولكن لابد أن تأخذني بحلمك وسعة صدرك, من أجل المصلحة العامة, بينما نحن على هذه الحال, نهضت بسرعة وأمسكت يد الرجل وأرجعت له نظارته وقبعته, وأمسكت بيده وأنهضته, تململ ببطء شديد بسبب حجمه الكبير, وكرشه المتدلي أمامه – الحمد لله على السلامة – يا سيدي, كرامة لله لا تؤاخذني, على شنيع فعلتي, هل أصابك مكروه؟.
    فأجاب العجوز: لا , الحمد لله جاءت سليمة, وكنت ظننتها نهايتي, ومن كان له عُمُرُ لا تقتله شَدّة.
    ما إن لملنا حالنا, إذا بدورية الشرطة تقف إلى جانبنا, نزل المساعد مع عنصرين واستفسر عما حدث, طلب بطاقاتنا الشخصية, هزّ برأسه, و همّ بإصدار أوامره بأن نصعد إلى السيارة, لولا أن العجوز أعرب له, بأنه لا يريد الإدعاء كونه سليماً ومعافى, رد المساعد: ولو, ولا بد لنا من كتابة الضبط هناك في قسم الشرطة وأخذ الأقوالوذلك من أجل الحق العام , ووضع بصماتنا بإقرارنا بصحة أقوالنا.
    نظر المساعد للعجوز وهو يلوّح بهويّته, وهو يهزّ برأسه, كمن يتوعد: إذن أنت؟ كم سمعت بك يا محمد الماغوط؟.
    -أصيب العجوز بحالة هستيرية من الخوف, وهو الشيء الذي يملكه من المحيط إلى الخليج, ولديه في أعماقه" احتياطياً" من الخوف أكثر من السعودية وفنزويلا من احتياطي النفط, ويقول لنفسه: في الزنزانة عرفت الخوف لأول مرة, وانطبعت روحي بوشم التوجس من العالم, وهرب مني الأمان ربما للأبد, كل شيء يخيفني, حتى لو كان فاتورة الكهرباء, لذلك تراني مسكوناً بالذعر-.
    -كرامة للوطن الذي أسقيته كأسك, وضيعة تشرين وغُرْبَة, فإنني سأترك سبيلك وهذا الحيوان من هنا لكي لا أزعجك شاعرنا, وأقبل عليه تقبيلاً, ومصافحة وتمنى له الصحة والعافية, وركب السيارة بعد أو ودعه.
    و الماغوط يكاد قلبه يخرج من بين أضلاعه, حتى أن دقات قلبه كادت تسمع من مترين, وهو يرتجف, ويتلعثم الكلام بفمه.
    تابع الماغوط طريقه إلى مقهي أبي شفيق, المكان الحميمي الأثير له على مدار ثلاثين عاماً, في الفترة الصباحية, وقد كتب فيه معظم أعماله وروائعه.
    تمتنت علاقتي بالشاعر وكنت كلما أذهب للعاصمة, أضع في برنامجي زيارة إلى ذلك المقهى المتربع على كتف الربوة, وهو يطل على بردى, يعانقه بحنان في الربيع وحتى أواخر الصيف, وأصبح مزاراً لي فقط من أجل المكان وإن لم أجد الماغوط في فترات غيابه لمرض أو سفر.
    كل هذا السرد, والمدير يتلظى ويتأفف: وما المثير في ذلك, الحوادث كثيرة, ففي كل ساعة يقع مائة حادث؟.
    نعم سيدي, ولكن ثروة قومية وأدبية بمثل قامة الشاعر يجب أن نحافظ على دقائق حياته وكل تراثه, كما فعل الألمان مع غوته, والفرنسيين مع فولتير, والذين كرمتهم أممهم بجعل بيوتهم متاحف ومزارات, و الماغوط لا يقل عن أي من هؤلاء وغيرهم, وخصوصاً أن نصون تراثه من الضياع.
    المدير:على كُلٍّ اكتُبْ لي طلباً حتى أوقِّعَه وأرفعه للوزارة, لاتخاذ القرار بذلك.
    ربّنا يطوّل بعمر ك يا سيدي, خرج من عنده, جاء بالطلب, وناوله للسكرتيرة التي دخلت بيدها الطلب, تناوَله من يدها ومزقه ورماه في سلة الزبالة, وأطلق العنان لضحكته التي دوّت في أرجاء المتحف, التي أجفلت التماثيل الكئيبة المدمنة الرتابة والهدوء جامدة كجمود القبور, إلا من ضحكات السكرتيرة وهي في تقضي معظم وقتها تحتسي العواطف على وقع ألحان جسدها الملتهب.
    طال .. وطال انتظار مجيء الموافقة, انقطعت آماله عندما ووري جثمانه هناك في المقبرة.. رحمه الله
    ----------------------



    ----------------------
    انتهى
    بصرى الشام
    22 -9 – 2012م





  2. #2
    ناس تموت وناس تضحك ولذا لم نخرج من عنق الزجاجة..
    حزينة تلك القصة ولفت نظري تعبير جديد:
    " وانطبعت روحي بوشم التوجس"
    تحية وتقدير وتثبيت
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  3. #3
    أستاذة ريمة
    أسعدك الله
    تقديري لقراءتك الرائعة للنص
    وشكر كبير على التثبيت
    دمت بكل تقدير

  4. #4

  5. #5
    أستاذة ملدا شويكاني
    سلمت يداك على الربط ماين الافتراضي والواقعي
    دمت بخير

المواضيع المتشابهه

  1. قصص قصيرة جدا 11
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 08-14-2011, 10:43 AM
  2. قصص قصيرة جدا 10
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-12-2011, 11:31 PM
  3. وسادة هوائية للطائرات الهليكوبتر المروحية
    بواسطة عبدالله أبوسارة في المنتدى فرسان الفضاء.
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 12-15-2009, 07:44 PM
  4. قصص قصيرة 24
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 12-06-2009, 08:45 AM
  5. أول قصة قصيرة أقصوصة قصيرة
    بواسطة معاذ العُمري في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 06-27-2009, 05:36 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •