الشاعر في عزلته..نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
“الله قريب من قلب الشعراء”
المصدر : أحمد تيناوي
"إلى نزيه أبو عفش في مرمريتا.. حيث اختار العزلة قصيدة لم يكتبها في دمشق قبلا"

ماذا يمكن لشاعر أن يفعل في عزلته.. ماذا عليه أن يفعل في عزلته.. كيف سيراها، كيف سيكتبها، كيف سيعيش معها.. وحيداً في قلب مكان كان مرة مكانه، ثم هرب منه فيما بعد إلى القصيدة؟
لا أستطيع الإجابة عن الشاعر ولا أريد.. ولا أقبل -أو فيما يتعلق بنزيه أبو عفش وحده- هكذا أشاء أن أبدّد العزلة، أكتمها في غيظ عني وعنه، خاضع لشرط أن.. لا كلمة تصلح لي كي أتهجى المكان- مكانه لغة تبصر النور على مضض.. وعلى مضض أراه مقبلا إلى قلبي، كأنه لم يبارحه.. منذ أن رقم التاريخ أول عزلة لشاعر في مكان كاد يوماً يشبه مسقط رأسه.. ذاك الذي نبتت على حوافه القاتمة أول قصيدة.. سميت من أول حرف لها: قصيدته البكر!!.
نزيه في عزلته يختارني دائماً أن أكون إلى جانبي، معي، في مدينتي التي لا تقبل عزلة شاعر.. هو من هناك، وأنا من هنا..هو بين مكانين، على ضفتيهما، وعند فضائهما.. أنا هنا في المكان ذاته.. لا حول لي ولا عزلة.. إلا في آخر الليل.. الليل الذي سرق السنوات، والحبيبات، والقصائد.. من قائمة التركات وحصصها الموزعة على قلبي.. نزيه كان طوال فترة الثمانينيات يدلني إلى قلبي، وفي التسعينيات كان وحده يعرف أين قلبي.. حين عدت مرة قلت له: سأرحل من جديد، ولكن أنت ستكون معي.. في قصيدة طالما خبأتها "كمن كان يلعب.. وقلت له: هو ذاته "الولد الذي كتب الوظيفة واختفى".. وقلت له: لا أعرف من سيبكي أولا..عزلة شاعر، أم منفاه.. فكان أن بكيت وحدي.. هناك، حيث لم يذهب الشاعر إلى عزلته بعد!!.
أن تكتب عن نزيه في عزلته، يعني أن تكتب عنه في حضوره.. وفي كليهما تكتشف أنك تقرأ.. دون شكوى، ودون جدوى .. شعراً تعمَّد بطهرانية الوجود.. لأنه، فقط، ظلَّ ينتهي، هنا، في المكان ذاته.. المكان الذي كان الله قريباً منه.. قلب الشاعر.. الذي لن يعرف لن يعرف عزلة أبداً.


بـاب الليلنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
المصدر : نزيه أبو عفش

أبداً، لا يغلقُ باباً في الليلْْ
ذاك لأنّ هواء الليلِ (يقول)
مليءٌ بالناس وأصواتِ الناسْ
ولأنَّ الناسْ
موجودون، هناك وهنالكَ، كي يُنتَظروا
يفتح بابَ الناس على مصراعيه
وينتظر أناساً لا يأتون..
“سيأتون” / يقولُ لكي يتعزَّى.
ويضيفُ لكي يتعزَّى أكثر:
ألبابْ / في عقلِ مؤلِّفهِ
يعني : لا تحزنْ !
لا تقنطْ من رحمةِ ما تحلمُهُ!
لا يغفلْ قلبُكَ عمَّن يتقدم تحت هواء الليلْ
من سكانِ الليل...
لأنَّ وراء الليلِ رسولاً
يتقدّم أشخاصاً لا تعرفهم
يلتمسون حناناً، ونبيذاً،
وعطايا موسيقى،
ويَدَينِ، تشدّان على الساعد ِ والقلبِْ.

(... وينتظرُ وحيداً).
.. .. .. ..
.. .. .. ..
يؤلمهُ أنْ لا أحد في الليلْ.
يؤلمهُ أنّ الليلَ وحيدٌ وحزينٌ.
يؤلمهُ أنّ الليلْ
يتألمُ في وحدتِهِ.
ينتظرُ ، ويكتبُ :
ألبابُ المغلقُ يعني
أنَّ حياةَ الإنسان انقَفَلتْ بالكاملِ.
ألبابُ المغلقُ بوّابة قبرْ .
ألبابُ المغلقُ يعني :
وحدكَ ، في مجلسِ وحدِكْ .
ألبابُ المغلقُ فكرة موتْ .
... ... ...
ولهذا
يفتحُ بابَ الليل على مصراعيهِ
وينتظرُ سُعاةَ بريدِ الليل .
ينتظرُ .. ويأملُ .
ينتظرُ .. ويحزنُ .
ينتظرُ ... وينعَسُ .
ينعسُ، فيعلِّقُ فوق الليلْ
قنديلاً لا يبصرهُ إلا حالمهُ.
لكن
(إذْ هو يخشى أنْ يأتي الناسْ
في غيبتِهِ ،
أو يخشى ألا يأتي الناسْ / أبداً)
يتركُ موسيقى “باخْ”
تتلألأ في الليلْ
فوقَ هواءِ الأبديّةِ
كيلا يبقى الليلُ وحيداً
.. .. .. ..
.. .. .. ..
تحزنهُ الموسيقى .
لكنْ
يُسعدُه ما يحلمُ ربُّ الموسيقى “باخْ”:
الليلُ، كما الأحلام،
مليءٌ بالناسِ وأصواتِ الناسْ.
الليلُ مليءٌ حُبّاً.

لفت نظر
المصدر : قيس مصطفى

لا مناسبة، ولا ذريعة أبداً. هنا نحتفي بالشاعر السوري نزيه أبو عفش. احتفاء لم نتوقع أن يزداد إلى درجة لم يبق لنا فيها مساحة لنكتب.
ثمة إذاً من يحتفي بالشعر حتى هذه اللحظة، وإذا كان نزيه أبو عفش هو الخيار فذلك لأن كثيرين أتقنوا ممارسة النكران...
وإذا كانت العزلة التي اختارها أبو عفش أغرت الكثيرين لتكون محور كتابتهم عنه فإنه ينبغي الالتفات إلى أن ذاك الإغراء ليس محصوراً في العزلة ذاتها، فالمغري هو ما يصنعه أبو عفش في عزلته، والمحرِّض، إن كان هناك ما يحرِّض أحداً ما على شيءٍ ما هو كل ذاك الجحيم الذي يدفع الشاعر ليعتزل الدنيا.
أشياء كثيرة ينبغي قولها في هذا الصدد، أشياء قاسية ومع ذلك فإنها لن تعلمنا إلا أن "اليأس أمل مقلوب".

نزيه: الشاعر الشاعر

المصدر : أحمدبرقاوي

أحبُّ نزيه أبو عفش. شاعراً و إنساناً أحبه. و إذا ما أردت مثالاً للنزاهة الشعرية فنزيه مثاله. وليس الوصول إلى النزاهة الشعرية بالأمر الهيِّن. لأنها وحدة الروح الشعرية فكرةً وزيّاً . فالشعر النزيه، الشعر المتحرر من المبتذل و الزائف و الرغبة في التصفيق، و كسب رضا الناس والخوف. و فوق هذا و ذاك، الشعر النزيه هو الشعر الجميل الذي يحدِثُ هزَّة في الوجدان تطول و تطول . و نزيه شاعر نزيه. يخرج الأعماق، أو قل الدّفين في الأعماق، والصراخ المكبوت. و يعلن: هاكم ما في الذات من آهات. و حين يصير الحزن كلاماً و حين يلبس الكلام أحلى أزياءه، و يخرج صادقاً يحملك على التسامي و الاتحاد في القول، و تقول في سرك ياليتني كنت القائل و المؤلف. و نزيه شاعر الحزن الإنساني . و ليس هناك أكثر نزاهة من شاعر الحزن . يعلن الشاعر تمرده الكلي، تمرده الميتافيزيقي، تمرده على الوجود الكائن . لا يلتفت إلى الجزئي و المبتذل من الوجود الخاص فيرتقي بوجوده الخاص إلى وجود عام ، فيعلن عن نفسه قصيدة مجنحة، يتاطير منها شرر الـ”لا”. ومن هنا تبرز قصائد نزيه تعبيراً عن الوجدان المتمرد تمرداً صادقاً عميقاً، تشعُّ منه قوة السلب. فإذا قصيدته المتمردة متشائمة من هذا العالم المعيش، ولأن العرب مولعة بالتفاؤل كيفما اتفق يأخذون عليه هذا الإغراق بالسلب والتشاؤم وبالحزن. ولكن أنّى للشاعر أن يعبر عن ألمه من تفاهة الموجود، والقرف من كل ما يحطم الروح الإنسانية، من كل ما يقهر الفرح، من كل من ينشر الموت والدمار في هذا العالم، دون لغة متشائمة، هي التعبير الأصدق عن الرفض. ولأنه هكذا، فإنه يفضح الموجود، يعرّيه دون وجل أو خوف، ولأنه مستقل بذاته تأتي قصيدته مستقلة، تأتي قصيدته لغةً رصينةً وقاسيةً وصورةً غير مالوفة، لغةً تنساب دون أي عائق لأنها منذ ولادتها في الحياة ولدت حرة متحررة من الرقيب الداخلي. لغة جديدة، ومن غير الشاعر بقادر على أن يمنح الكلمات معاني غير مألوفة، من غير الشاعر يجدّد القاموس، ويلبس الكلمات الراقدة بين ثنايا الصفحات الصفراء رداء جديدة. ونزيه إذ يجعل من الوجود الإنساني هاجساً أول لإبداعه الشعري يتوسل لغة الحوار الداخلي في أغلب قصائده. أجل قصائد نزيه قصائد حوار: حوار مع الذات , حيث ينشطر الأنا إلى اثنين. حوار مع الموت, حوار مع الأم, حوار القاتل والمقتول, حوار مع المكروه. في الحوار تعود اللغة إلى أصلها’ إلى حقيقتها بوصفها خطاباً. ولكنها ترتدي هذه المرّة زيّاً جميلاً بوصفها خطاباً شعرياً. واعلم أن الشاعر الشاعر هو الذي يتسامى بنا, الشاعر الشاعر هو الذي إذا قرأناه أو سمعناه تغتسل أرواحنا بكلماته كي تتحرر من أوساخها.
ونزيه شاعر شاعر.


عن اللغة التي تضرب في الصميمنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
المصدر :سامر محمد اسماعيل


تهدينا لوحة الفنان التشكيلي "يوسف عبد لكي" المرسومة على غلاف مجموعته الشعرية "هكذا أتيت هكذا أمضي" إلى المسافة التي يتركها الشاعر بين تمرين الموت الأول، وبين رجلٍ يخرج إلى نهارات مرمريتا ببندقية صيد، شاعر لم نعد نراه في دمشق بكتلته البسيطة ووجهه النادم علينا، وأكثر ما أذكره هو الهواء الذي قصّف زجاج مسرح الحمراء بيننا، إذ إنني رأيته في دمشق بعد غياب، وقبلها في حمص، جالساً يستمع إلى صاحب السيدة البيضاء في شهوتها الكحلية "جوزيف حرب" بدعةٍ وسلامٍ غريبين، وخيِّل إلي أنه ليس هو، لكن عندما أمعنت النظر عرفته، إنه نزيه، الشاعر السوري القديم، الذي يكتب شعراً على هيئة قداديس كافرة..

لم أكن لأجرؤ على تحيَّته، فقد عرفت أنه لم يعد يستطيع أن يكلِّم أحداً، كان من الواضح أنه وصل إلى ما لم تطقه نفسٌ بشرية من الوجد والوحشة والحزن. وكان ذلك مرئياً على نحوٍ لا يسمح لأشباه بشرٍ تتراءى أمامه، بأن يخرج عليها قائلاً من جديد "أمي أوقفي هذا العواء فلا يدنسني نحيبكِ، أو يلوثني حليبكِ، واطردي أختي التي، وأخي الذي، وأبي، وأعمامي، وأبناء السبيل" ولأنني أحترم رغبة الشعراء كنت أعرف أكثر من أيِّ إنسانٍ آخر أنه ولزاماً عليَّ أن أقف قبالته صامتاً، وذات شتاء تحديداً في اليوم الذي رأيته يخرج وحيداً من قبو بناية في شارع 29 أيار، قلت في نفسي "يا الله ما أوحد هذا الرجل"، وما أصعب أن تقطع الطريق على شاعر، وحيث إنَّ الصحافة السورية لم تتطرَّق كثيراً إلى أسباب غيابه واختياره "مرمريتا" كمنفى اختياري لعزلته، ذهبت لرؤيته على مسرح الحمراء، وبالفعل غافل نزيه كل التوقعات، وحضر إلى جانب موسيقا البزق.. أثناءها أو لنقل على رؤوس أصابعها، لا أعرف على وجه التحديد ما الذي جعلني أتخيَّله ممثِّلاً مسرحياً جيداً يقف على الخشبة ويقوم بأداء جديد لشخصية "كاليغولا" التي كتبها الفرنسي ألبير كامو عن قيصرٍ طاغية حكم روما قبل الميلاد، وكتبها نزيه مرةً أخرى على هيئة سيرة ذاتية شعرية ، فمن الواضح أنَّ هذا التناص الشعري الذي قدَّمه "أبو عفش" في مجموعته الشعرية "أهل التابوت- دار المدى2001" من أهم التمثلات الفلسفية والفكرية التي قدَّمتها أشعار نزيه الموصومة بنزعة تطيُّرٍ غريب. أخيراً وجد هذا الشاعر ضالته "لست سوى كاليغولا الحزين، عابد الخمر والشعر والفلسفة، كاليغولا الذي مثلكم- كان يبكي إذا لسعت قلبه امرأة".
إنَّ تقديم القراءة في هذا النص، تجعلنا أمام مونودراما شعرية خالصة، تتداخل فيها النبرة الوسواسية المتصاعدة مع أسئلة وجودية يقدِّمها الشاعر كممثل وحيد على الخشبة، إعادة الصراع إلى أصوله الإنسانية التي تضع الطغاة وجهاً لوجه مع ضحاياهم، كمحاولة لمعرفة أكناه الشر، ماهيته الميتافيزيقية التي تصنِّف الشرير كغريب وخارج مملكة الأفكار... إنه أسير خيمة الظواهر "المايا"، لذلك سيقول كاليغولا- عفش "أنا الآن غيري، أدبُّ على أرضكم بيدين وساقين، لا قلب لي غير أسلحتي وجنوني، وما عاد يمكنني أن أحبَّ وأصفح، لا قلب لي فأنا الآن غيري".
هذا الجِرس الهائج والمتدفق عبر المسرحية الشعرية ذات الصوت الواحد، يمكن ملاحظته في كل أعمال "عفش" بيد أنها في الطاغية الطيب تبدو نصاً مكتملاً حتى في النقصان النفسي الذي يتوارثه الشاعر عن بطل كامو الحالم والمتغطرس، العاشق والقاتل، المرئي والمتواري في أنحاء شره المتفكر "ذهب الحب! يا أيها الناس، ماذا إذاً سوف يفعل من دونه كاليغولا؟! ينام ويأكل؟ أم يتسلَّى بمضغ غبار عناكبه بالظلام".
الأسئلة التي تستدعي المثال، وتتوِّجه ملكاً فاتناً ومتنوعَ الأمزجة، هي نفسها من تضطرُّ الشاعر مراراً لكتابة عالية يكوِّن الفقد أحد مساربها، فليس غريباًً أن تكون تواترات النص الشعري هي من تخلق كل هذا الهباء الغامض واللاجدوى المفرطة في إنقاذ العالم من غثيانه، ربما هو الإحساس المزمن بالذنب لدى الشخصية التي لا يأخذ عليها الشاعر إلا تلك الرغبة العميقة بالقتل المقترن بالحرية "حريتي سوف تقتلكم أيها الناس، حريتي قبركم فاذهبوا، اذهبوا إذاً سالمين"
وعلى ذلك يكمل "نزيه" ذلك التوصيف الهائل للكراهية الخلاقة التي تجعل من المفردة الشعرية أنموذجاً لمحاكاة الأبطال في أقصى أساطيرهم عن لا معنى الأشياء من غير ذلك الوعي الكوني بالعالم، وداعته المريبة أيضاً وانسجامه الممل مع أشكال الخير البليد.
لا يخبئ الشاعر رغبة جامحة في كتابة كاليغولا خارج صراعاته المسرحية التي تصبح في النص الشعري صراعات إضافية لا طائل منها، مبقياً على الصراع الذاتي الديناميكي، المونولوج الأطول للحلم القمري، لذلك يمعن "عفش" في هذا الخط الدرامي الفجائعي تاركاً للنص أن يتابع بناءاته المتعدِّدة عن طريق دمج صوت الراوي الشاعر بصوت "كاليغولا" المنقسم على نفسه "ذهب الحب، قلت فليذهب الحب، كاليغولا انتقم، انتقم من براءتهم ومن الله".
إنَّ اللغة الضارية التي تميِّز نصوص نزيه أبو عفش "تأتي هنا أكثر كثافةً ولا تقدِّم أيَّ استهلالات فائضة عن الحاجة، بل تتماهى مع الرغبات الشخصية التي انتزعها "عفش" من عرشها العالي ليقدِّمها كحياة مديدة في النص الشعري "اسمع إذاً كاليغولا إن من كان يخشاك، يمكن أن يقتلك"
إلا أنَّ الشاعر لا يقرُّ بوجود "كاليغولا" كهذا، بل يصنِّفه كحلم من أحلام العقل أو استعاره ليحاكي به الأبدية واصلاً عماءها اللانهائي، فرغم أنه أخ وأب وشبيه إلا أنَّ ذلك القرين محض تهويمات ولا أثر لوجوده فعلاً "كاليغولا إذاً لا أحد محض صوت، كان يحلم بالأبدية والله.. والقمر الصعب، لكن أبديته قتلت نفسها، محض صوت هبّ من أبدية موت".


" شهوة نوح" ومفردات التعب والجنون

المصدر : ناهدة عقل

هكذا هي الحال دوماً مع “نزيه أبو عفش” صاحب أغنى التجارب في الشعر العربي منذ السبعينيات، تُحاول التحرش بقصائده نقداً فيتجلى لك شخصه شعراً خالصاً تكتبه ويظلّ قاصراً على الدوام؛ فأما ما يثير الفضول النقدي إزاء تجربته الشعرية فهي ميزة تتعدى الخصوصية إلى فرادة في القول والصوت الشعري، تضطلع بالتركيز على خلق الأثر الشعري وفق اتجاهين قلّما تمكن شاعر من خلق علاقة توازن بينهما،الأول يمضي في إطار العلاقة بين النص وقارئه، والآخر يربط بين النص ومضمونه، موجِباً أن يدرك النص على أنه بنية محددة للمعنى من خلال ما يبثه من دلالات وإشارات لغوية لا عبر تأثيره الجمالي وحسب. فعلى الرغم من أن لغة “أبو عفش” الشعرية تطفح رمزية، إلا أنها تجهد في نقل معان محددة، ما يجعلها تحظى بجوهر الأثر الإيحائي للرمزية دون اتباعها، ونراها تنجح دوماً في نشر عدوى حالة نفسية من الكاتب للقارئ، بل أكثر من ذلك تنجح في نقل وقع الأشياء داخلية كانت أم خارجية بينهما.


في “شهوة نوح”، وهو العنوان الذي يجمع الشاعر تحته جملة مختارة من قصائد “ذاكرة العناصر” نراه كما هو دائماً، مشفقاً على موت الحياة المقنّع، وساخطاً على شتّى أنواع استنفاذها، يعرف أنه كسائر الشعراء من أبناء الأمل الذين يذرفون كلاماً يحيك حصيرها المهترئ، ويحلمون أن يتلاشى ما يرونه واقعاً، ككابوس عارض لا أكثر.
ففيما لو تتبعنا نصه الشعري المعنون بـ”براءة الحيوان” نرى أنها تكشف عن أزمة تصدع في النفس البشرية، كإحدى مظاهر حضارة صناعية يراها الشاعر مفرغة من روحها الإنسانية، ما أفرز خللاً في العلاقة مع الصورة الأبوية ضمن إطارها الأكبر(الإله)؛ ضمن هذه الرؤية الفكرية لا نجد غرابة في العثور على مفردات لصيقة بالنفس البشرية، كالتعب والمرض والجنون، تتراصف جنباً إلى جنب مع أخرى هي وليدة ثقافة صناعية وتكنولوجية حديثة (يورانيوم –أحماض ـ قنابل نووية ـ شلمون) تحت لواء النص الشعري الواحد.
وهنا يخاطب الشاعر إلهه الغائب معاتباً إياه حول نكوص حضاري يستشفه بوعي تاريخي يزاوج بين شكلين للحضارة، أحدهما مضى والآخر سيأتي، فيعثر على قواسم مشتركة بين ملامحها الآن وملامحها في حقبة زمنية هي الأظلم في تاريخ البشرية؛ ما يجعله يعلن نظرة هي الأكثر تشاؤمية حول مستقبل الجنس البشري.
يقول نزيه ص161:
الآنَ
قدّامكَ أيضاً وأيضاَ
تحت راية غيابكَ أيضاً وأيضاً...
سيأتي برابرة آخرون
يأكلون النساء كعرانيس الذّرة
ويشربون الدماء بالشلمون
ويطلقون القنابل النووية بالمقاليع وأقواس النشّاب.
سيأتي الماضي .
في هذا النص كما في العديد من القصائد التعبيرية الأخرى من المجموعة لا يصعب رصد البؤرة الموضوعية الشاملة أو الموضوع المحوري الذي يستقطب طاقاتها الدلالية وشحناتها العاطفية، لا سيما بتخيّر نزيه لعناوين مزودة بشيفرة موضوعية واضحة الغاية ضمن بيئته الرمزية الخاصة، لكن هذا كله ربما يأتي كمحصلة لهيمنة هذا الشاعر على النص أثناء سعيه المجدِّ وراء مركزية الدلالة كما مركزية الصوت بغية ضمان حضور للمعنى المطلق أو المحدد الذي يريده، مقاوماً بذلك قابلية الكتابة للتأويل ونزوعها للتملص من التحديد الدلالي، من جهة أخرى هذا ما يجعل قصيدته مزيجاً مركباً لا يقبل الخواطر النثرية المبعثرة، بل تتآلف وتتداخل عناصره بما فيها الفراغ – كمتمم أوبديل ذكي للعبارة وداعم لمركزية الصوت - بحيث يأخذ بعضها برقاب بعض أحياناً.
وبالعودة إلى ذاك النوع من الهيمنة الشعرية التي تمت الاشارة لها نجد تفسيراً لأن تتسم لغة “أبو عفش” بأنها ذاتية الغاية، ترفض أن تحيل إلى شيء خارجها،أو أن تكون محض قناة تعبر منها الدلالة ما يجعلها أشبه بحاجز يستوقف القارئ قبل أن يتمكن من عبوره واختراقه؛ وربما كانت قصيدة “مسألة” تلخص وجهة النظر هذه بصراحة،يقول نزيه:
من الطبيعيّ
حين ترونني أنحتُ الهواء بيديّ هكذا....
أن تفكّروا في المرأة
وحين أغمض عينيّ هكذا....
افتحوا أعينكم جيداً
لتبصروا، خلف أجفانيَ المطبقة
خيالَ المرأة.
حين أصرخُ: الماء..
حرّكوا شفاهكم وألسنتكم هكذا...
وقولوا:المرأة
وحين أقولُ: موجعٌ..
كونوا واثقين من أنني عنيتُ جمالَ المرأة.
حين تحاولون التكهّنَ
بما يجثم هنا،الآنَ، داخل أحلامي
ستجدون المرأة
وحين أُدلّي رأسي إلى تحت هكذا....
وأعصرُ جبيني بأصابعي هكذا.....
وأتنهّدُ، محرقاً الهواءَ بأنفاسي، هكذا....
ثم، فجأةً، أنتصبُ كمنْ لسعهُ ثعبان
وأركلُ الفراغَ بقدمي هكذا...
تخيّلوا:غياب المرأة.
...........
لكنْ، انتبهوا الآن جيداً:
حين أقولُ:”المرأة”
(وأكونُ قد عنيتُ المرأةَ حقاً)
حينئذٍ
حينئذٍ بالتأكيد
يغدو من الصواب أن تخمنِّوا: الهواء......

نزيه أبو عفش.. يقين السنابل نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

المصدر : لينا هويان الحسن

قصيدة تعطيك جواداً وظبية وهلينا الطروادية، وأخرى طعمها يشبه الشاي منكّها بقرنفل اللحظة، وأخرى تسمعك خرير الدم في قلب عتيق..
هناك حيث لمعانه الثلجي.. هناك في القمة، وفي البعد، نضج مرمره على ناصية الشعر العنيدة.
يسحب الكلمة مثل غصن مغلف بالشتاء، ينتزعها ويزرعها في الربيع، ويعلن عن شيء يشبه كلاماً أخيراً لمرمره.
الفواصل والنقاط بين كلماته تنمو مثل أعشاب سرخس: عملاقة المعنى.
نزيه أبو عفش: يغزل قصائده مثل خيوط رداء العروس.
النائي عن طاولات صفقات التصنيع (أمدحك تمدحني، أزكيك تزكيني، أحولك من لا شيء إلى شاعر وتحولني)
بنعل قصيدة واحدة لك تدوس وجوهاً “مجلغمة بمكياج ما بعد بعد بعد تلفيقات الحداثات” وتعرف أنَّ مثل هذه القصائد ستمضي مع قملها إلى التلاشي.
القفلة في قصائده مثل حجر المقلاع تصيبك في مقتل.. أو تذوب بحزن يشبه نهايات النيازك.. أو بكبرياء خيول تهد الأرض بخطوها.
عزمي موره لي، ميخائيل عيد، دعد حداد، كامل صالح، محمد عمران، فواز عيد، عدنان قرجولي، سكينة صالح، علي الجندي: اعتزلوا أو عزلناهم.
فلتكن آخر من يعتزلون لضيق المكان.


الاغتراب الإنساني والانتماء إلى الطبيعة في شعرية نزيه أبو عفش نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

المصدر : أديب حسن محمد

¶ الاغتراب الإنساني عند نزيه أبو عفش
لا يمكن لمن يحاول الإحاطة بنزعة الاغتراب الإنساني عند الشاعر نزيه أبو عفش، تناولَ وتحليل ودراسة حيثيات هذه النزعة بمعزل عن دراسة بيئة انبثاق الشاعر، ومعايشة طباعه الشخصية عن قرب... الأمر الذي يؤكّد على العلاقات الوشيجة بين تلك النزعة الاغترابية المتأصّلة في تجربة الشاعر، وبين أعماق تركيبته النفسية المترجمة إلى أحوال وطبائع يومية عفوية تنطق بغربة قسرية حيناً، وطوعية أحايين.
إنَّ مقولة الاغتراب- حسب الناقد يوسف سامي اليوسف- مشتقَّة من الغروب الذي يعقبه الظلام، حتى لكأن ثمّة صلة بين الغربة والظلمة؛ فالاغتراب إحدى أبرز المقولات الذاتية التي هي في جذور فقه النفس القادر على تأسيس المعرفة الأدبية، والاغتراب مقولة تراثية وردت كثيراً في نصوص عدد لا بأس به من الكتَّاب والشعراء القدماء، ولا سيما المتصوفة... ولعلّ أهم ما في الأمر، أنَّ جميع الأدباء الكبار يشرحون شعوراً بالاغتراب شديد المرارة، حتى وإن لم يذكروا كلمة (الاغتراب) في تراثهم قط.. هذا الصنف المغترب من البشر، هو التحقيق الأمثل للإنسان العالي، أو إنسان الأصالة الذي عملت الصوفية على تطويره... لأنه الإنسان الحساس الذي يباين إنسان المياومة، أو إنسان التشيّؤ الذي لا يهمُّه شيء سوى العمل والإنتاج... أي عبادة الأشياء).... الخيال والحرية ص 83 ـ 84
ينطبق كلام اليوسف كثيراً على تجربة الشاعر نزيه أبو عفش الذي أراه أكثر الشعراء السوريين اغتراباً في النصف الثاني من القرن العشرين بلا منازع، فقد عانى الشاعر في تجربته الطويلة من حالات شديدة من الافتراق عن المحيط، ومن التناقض الصارخ مع هذا المحيط، ويقترب الاغتراب من مفهوم الظلمة كثيراً.. ظلمة النفس التي يلتجئ إليها الشاعر كلما استبدَّ شعوره بالاغتراب، وإذا كان انفصال الروح وافتراقها عن ذاتها يجد بلسماً في الاطمئنان المستجلب من سطوة المطلق: الموت، والأبدية التالية، ذلك المطلق الذي يفتّت الضجر الآكل لعروق الوجود، والمفترس لشهوة البحث عن الجمال، ولهذا فإنَّ الحياة عند الشاعر المغترب أشبه ما تكون بكتاب فُتِحَ من منتصفه، ولم يعثر فيه سوى على كلمات جارحة تؤرّخ لوحدة الكائن الإنساني، وتصف الرعب الجاثم على الكون.. ذلك الرعب الذي يغذِّيه قلق الوجود الإنساني برمّته...!!
والاغتراب في جانب آخر يعدُّ إقراراً بحقيقة الوحدة، والعزلة، والإحساس المتنامي بمرجعيتهما في أيِّ فعالية إبداعية، حيث يشكِّلان الشرارات الأولى التي توقد أتون الاغتراب الإنساني الذي تعلو نبرته الحزينة في نصوص الشاعر نزيه أبو عفش.
الاغتراب ورفض الذات:
يمثّل الاغتراب في وجه من وجوهه، ردَّ فعل على النهب الذي تتعرّض له القيم الروحية الإنسانية السامية، ويصل الاغتراب إلى قمة الفداحة عندما يصل إلى سويداء فؤاد الإنسان، فيحدث انفصاماً حاداً تغدو معه علاقة الإنسان بنفسه علاقة رفض، ونبذ.
وفي محاولة الشاعر إيجاد الخلاص أو المخرج من هذه الدوامة المريعة، يصطدم بعالمين ملتفين.....
عالم خارجي... غير مقنع في صيرورته المادية الطاغية، وفي انحدار مثله.
عالم داخلي... تعذّبه أفكاره، ويضجر من وحدته، فلا يجد سبيلاً سوى الرجوع إلى إنسان الفطرة، ولكنّه يجده خرافة قد تلوّثتْ، ويجده وقد غدا حقيقة تتدنّس باستمرار، وهكذا ينتهي هذا الهروب المستمر من الواقع الأليم إلى الضياع من جديد حيث يقف الشاعر متألِّماً عند حافة هوّة الاغتراب السحيقة، حيث شمسه تنحدر صوب هاوية الأفول، وحيث طريقه مسدود داخل دوامة حتمية لا مفرَّ منها، وإذا تراءى للشاعر أن يواجه هذا المصير ليحوِّله عن مساره، كأن يشير إلى الخلل، وإلى انحضاض العالم، يرتدُّ مذعوراً، ويجد في كلّ الأشياء خواءً مروعاً، ويصبح الضجر والاغتراب، سيِّدي العالم بلا منازع، وفي الداخل يزداد خوف الشاعر من فقدان شيء في جوهره، ويتصاعد شعور مفاده، أنَّ الوجود كله مهزلة لا تؤدِّي إلا إلى الضياع، واليباب، والعبثية. يقول نزيه:
/أراني/ أرى غصّتي في الظلام، وكفّيَّ خارجتين من القبر/ تلتمسان حناناً وحبّاً/ أراني... تعبتُ كما يفعل الأنبياء إذا أمعنوا في الرحيل/ أرى شجري ينحني في الضبابْ/ وقلبي يئنُّ كفاصلة ذبلتْ في بياض الكتابْ/.... ص33 ما يشبه
وبالذهاب إلى حضرة المقطع السابق، واستنطاق بعض مكنوناته، وبعض الإشارات المنبعثة منه.... نلاحظ اغتراباً حاداً ترفعه سلسلة متصلة من المفردات الاغترابية بامتياز: "غصّة"، "ظلام"، "شجرٌ ينحني"، "كفين خارجتين من القبر"، "التعب"، "الرحيل"....
واللغة التي جمعتْ كل هذه المفردات، واستطاعت التوهج، والسموّ، هي لغة اغترابية عالية الحساسية، وشديدة الوقع على القارئ، إنها لغة تجمع العياني المرئي من خلال الفعل الابتدائي الانبعاثي: أرى، أراني، إضافة إلى المتخيّل المقابل لهذا العياني: "كفين خارجتين من القبر"، "فاصلة تئنّ في البياض"، "شجر ينحني". بهذا التناقض الصارخ بين الملموس والمائع الطيفيّ، يوطّد الشاعر أسس معتزله، بعيداً عن العالم الخارجي الصاخب بأنانيته، وجشعه، ورياحه المسمومة التي تهبُّ على روح الشاعر المتعبة التي تترك رحيقها البائد عميقاً في أغوارها، وفي الداخل... داخل المعتزل الروحي الذي ارتضاه الشاعر، ثمّة ارتحال آخر صوب جزر هلامية منعشة تتراقص في خيال الشاعر- تلك النافذة الوحيدة المفتوحة على الأمل- يستجديها الشاعر بسيل من البكائيات الذاتية العذبة، والشجيّة.
¶ الالتجاء إلى الطبيعة ورؤيا الاغتراب في أشيائها
بدافع من مواجهة الشاعر الجبرية للضغط المزدوج الممارس عليه من الداخل الساخط، ومن الخارج الإنساني المتشيّئ، ونتيجة للضغوط الذهنية التي تمارسها أسئلة الوجود والعدم... يلتجئ الشاعر إلى غرائز الطبيعة، تلك التي لم تمسسها أيادي العابثين، محاولاً عن طريق استنطاق هذه الموجودات الطبيعية خلق الألفة المفقودة التي تعيد التوازن إلى العلاقة ما بين الكائن الإنساني والكون الذي يحتضنه، ويعمل الشعر خلال هذه الرحلة جاهداً للحصول على القوة، أو الحبّ، أو حتى التدمير (في صورته الإيجابية التي تمثّل مرحلة قمّية من الاغتراب، يتلوها بناء جديد على أسس إنسانية سامية). ذلك التدمير الذي يحمل في داخله بذور الجمال، والخير التي ستنبت عاماً أكثر رهافة وعدالة وجمالاً، إنه الوصف الحقيقي لحالة مزرية من المظالم، ولحالات خجولة من المظاهر التي مازالت صامدة تؤشر بالتماعات الضياء المنبعث من قلبها إلى الجهة التي تخبّئ ما تبقَّى من بكارة الكون:
/إنّ هذا دم/ إنّ هذي التي يتناولها الموت ليست خرائب مطفأة/
إنها وطني: /الأصدقاء /السرير / الحقول البديعة والنهر المتضاحك/ مئذنة الجامع/ الأقحوان اللطيف/ والعربات البدائية المتجلجلة الخطو/ قبّة المنزل القرويّ التي أينعتْ في الماء/ وفاضتْ دماً وتوابيت.../ ليستْ خرائب مطفأة/ إنها وطني/ ولهذا أنا ساخط/
ولهذا..... سأبكي/ الله قريب من قلبي/ ص 12- دار الحقائق- بيروت 1990
ولعلَّ الاغتراب ورؤية آثاره منعكسة في ما يحيط بالشاعر من موجودات الطبيعة، يدلُّ على إحساس عميق بفقدان العدالة في العالم، وبانحراف في ناموس التوازن في الحياة برمتها، ومن هنا، فإنَّ الاغتراب عند أبو عفش غالباً ما يترافق بسلوكين بارزين هما: السخط، والحنين. وقد تبدو هاتان النزعتان على قدر من التناقض، ولكن القصيدة المتغربة غالباً ما تنهل من معينهما معاً، فالسخط كما أسلفنا هو الملمح الاغترابي الأبرز، بل لنقلْ هو شرارة الاغتراب الأولى، ودونه لا يعود هناك مبرِّرات قوية للإحساس باغتراب حقيقي، إذ لطالما كانت الحياة على مايرام لماذا لا يعيش الشاعر في كنفها متواصلاً مع حركيتها؟؟
هذا السخط الذي تنبثق منه شرارة الاغتراب، لا يلبث أن ينشأ عنه شعور عاصف بالحنين إلى عالم آخر، هو العالم الموازي الذي يبنيه الشاعر في مخيلته، كردِّ فعل على خراب العالم الملموس، هذا العالم الافتراضي، أو اليوتيبيا الشعرية، هي التي تنشغل قصيدة أبو عفش بمناداتها، والحنين إليها، وهي التي تصعّد مشاعر الاغتراب لدى الشاعر، وتؤجّجها:
/كنتِ، في صمتكِ وآلامكِ، تحلمين بسلام العالمْ
تهيئين الأغاني لأعراس البشر، وتربّين السنونوات الحزينةَ
تحت إبطيك، لتطلقيها- حين يتطلَّب الأمر- في السماواتِ
المحتلة بالطائرات وصراخ زعماء العقائد/.. ص17 أهل التابوت
/لاشيء سوى أنَّ الناس وحيدونَ
حزينونَ، ضعافٌ، ويتامى..
يسعون إلى قفص الظلمات كما يسعى الأموات إلى قفص النور!!/ ص21 أهل التابوت
إنَّ اغتراب الشاعر يتعزَّز بتغريب الطبيعة المحيطة به، بل بتغريب كلِّ ما في ذاكرته من مشاهد ومواقف، ففي المقطع الأول نجد الشاعر يخاطب أنثى ويسقطها على الدنيا في صمتها وآلامها ومعاناتها، والسنونوات حزينة، والسماء محتلة بالطائرات وصراخ الزعماء، إنه جوّ اغترابي جماعي بامتياز، ورغم ذلك يلوح خيط من الضوء يحنُّ الشاعر إليه.. إلى إعادة ترتيب العالم:
"الحلم بسلام العالم"، "تهيئة الأغاني لأعراس البشر".
إذاً.. اغتراب الشاعر أبو عفش ليس اغتراباً مجانياً مقصوداً في حدّ ذاته، وإنما هو صرخة في وجه من يحرف الحياة عن صفائها، ليزيحها نحو مستنقعات الظلم والاضطهاد، هذا الاغتراب هو الركن الذي يلوذ الشاعر به، ومنه يتأمَّل أوجاع العالم، ومجاعاته، وحروبه، ومن هذا الركن بالذات ينطلق صوت الشاعر عالياً، ومجلجلاً، ومعلناً أنه خارج السرب، ولن يتنازل عن حقه في الحلم بحياة نظيفة، يعلو فيها الإنساني، على الجشع المادي الذي ينخر الحياة، ويفرغها من جوهرها.
¶¶ فصل من مخطوط نقدي عن تجربة الشاعر نزيه أبو عفش عنوانه (قنصل الحزن)

عندما تصير العزلة حكمة ضارية ونزاهة عالية!!نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

المصدر : علي جازو

من المحرج والمربك نقدياً وفنياً تناول شاعرٍ، و (صديق استثنائي)، كنزيه أبو عفش بقراءة وجيزة ومحددة . تجربته العنيدة والقاسية والجميلة والحميمية لا تتحمَّلُ ولا تُرازُ بحياد وبرودة الناقد الباحث عن الاسم والتصنيف فحسب . الشروط المدرسية للتصنيف والأسماء الأكاديمية للنقد لا تلبي ما كتبَهُ ويكتبه . شعرٌ كشعره يُقرَأ بمراحله وتحولاته السخية والمتعددة ؛ يُقرأ ويُقتنى بميزان دافئ وحميمي، بل بأكثر من ميزان واحد . ترهينُ الكتابة إلى (أزمنتها المتحولة) و(ظرفها ) الجديد يعينان التذكَّرَ والقراءة . تُقرأ دواوينه وتُفهَم وتُحازُ من خلال صوت الشاعر ( الفرد )،الذي أكسب وأغنى عمله المتواصل والمتنوع بتجديد حقيقي وتسامٍ واضح خلال العقد الأخير بشكل خاص، متجاوزاً ذاته، ومحققاً شأنَهُ هو فقط، كشاعرٍ محاصَرٍ بالشعر، قبل أي شأن آخر، وعلى أكثر من صعيد . بدأ نزيه أبو عفش – إضافة إلى كونه رساماً ذا طباع كتيمة ومنطوية - (كناظمٍ ) ماهر و(متأثر) حساس . رضخ عن حماسةٍ عذبة و حبٍّ شديد ومقدرةٍ إيمانية لصوتية الكلمة، وموسيقية الإنشاء، وانسجام العبارة، ونقاوة المزج، وبراءة الطموح . كان صوت الشاعر حينما يكون صوتُهُ الرصيدَ الروحيَّ والجماليَّ والأخلاقي من قوة القارئ النفسية الصامتة والمؤجلة. كان صوتُ الشاعر، ذاكَ، محلاً منفعلاً ومؤازِراً ومحفِّزاً لانتظار وشغف وإيمان القارئ الحالم، لكن قوةَ وبراءةَ القارئ المتوخاة، شغفَهُ المرتبك، وانتظارَه الطويل عجزتْ عن تلقي واكتساب ما تاقه وأراده الشاعر، الذي كان ولا يزال (دليلَ شعبه إلى الحزن)، الحزن الذي قال عنه محمد الماغوط إنه مثل الله موجود في كل مكان. وشاعرٌ كنزيه أبو عفش يدرك تماماً حاجة الكلمات إلى صمتها الخاص، ونطقها المتوحد، وإلى – أيضاً - رفضها أن تحبس وتؤطر من خارجها. غنائية القصيدة الغاضبة والشاكية ورومانسيتها الحزينة والمتشائمة دليلان كامنان وناقصان في جلِّ ما كتبه الشاعر من قصائد كانت صوتاً عاماً وحاجة عامة . كان الشاعرُ في داخل الشاعر – حينها - الجزءَ المتكلم والشاهدَ المسؤول والمراقب والحي والصارخ من – وعلى - روحٍ عامة كئيبة مقموعة وخائفة وحالمة بآن واحد . سيتقلص ما هو (عام) لصالح ما هو (خاص)، سيتألق الصمتُ أخيراً، كما هو دائماً، في أرجاء (بيت الموسيقى)، القصيدة التي نشرت منذ أيام قليلة في ملحق الثورة الثقافي . سيبدل الكلامُ – الحاجةُ إلى صوتٍ تعبيري في الكلام ذاته - بما كان وزناً وغضباً وأغنية وأملاً. سيتحول الحلمُ الحميم والمشاع إلى خوفٍ مؤلم ومزمن . ستعثرُ الرغبةُ على العزلة، والعزلةُ على الخيبة، والخيبة على حلمٍ نقيّ. سيُسوَّرُ علوُّ النبرة بحدّ ورهافة الهمس الخفيض، وسترتفعُ المحنةُ إلى جلاءٍ صامتٍ. سيعود مهاجرُ المدينة إلى ابن الريف ، بعدما غدا الريفُ حلمَ المدينة المعكوس في حين تخثرت المدينةُ المأمولة وسقطت في محض ضوضاء فقيرة، وتشتت جارح وخراب قبيح؛ سقطت في الزحمة والضوضاء التي يراها أبو عفش ضوضاء ـ موتاً. سيتنقل الإنشاد المبارك إلى ضرب آخر من نداء قاتم وعميق، ستتعثر الموسيقا بصوتها القديم، صوتها المكتشف من داخلها، مبتكرةً الموسيقا من محض صوت منفرد أعزل ومضيء. إذا كانت المدينة حلماً خطراً ومخيفاً فإن الريف حقيقة راسخة؛ حقيقة – مع ذلك - قد لاتكون موجودة . لن يكون الريف ، بالمعنى الشعري والحضاري هنا - تراجعاً عن حلم ، أو انتكاسة طموح، بل هو في العمق استكمالٌ مكثفٌ لنقاء سابق، ونحتٌ ساهٍ في غيابٍ متوهجٍ ،واحتضانٌ آمن وأخير لحلمٍ صار كلاً متشابكاً وعابراً من النطق والصمت في آن . لم يعد الأمر رهين خاصة أو عامة ، لأنه ليس عرضة لخسارة أو ربح ، فشل أو انتصار، وعد أو إرجاء : ستكون العزلةُ حكمةً ضارية، ونزاهةً عالية، وتخلياً شاملاً: ( لا يخسر شيئاً من لا يطمح إلى شيء) . ستبزغ العناصر مثل البراعم، تبزغ وتنمو وتتألم وتفكر، ستتكلم - عبر العناصر- ذاكرةٌ من تراب وأشجار وعشب وطيور وحيوانات يجمعها بالإنسان مصير واحد: الألم والخوف والحلم معاً، كما لو أن الحياة كلها عصرت نفسها – بعد كوابيس خانقة – وأعادتها إلى أصالة عناصر هي ملك الإنسانية ونسبها الأصفى ورجاؤها الدائم، وكمال رقتها المطعونة بالخوف والعزلة، بالفقر والخلود. قديماً قالها نيتشه: ( يختار الشاعر العزلة طلباً للمعرفة القاسية)، ولا شيء أكثر قسوة ومدعاة تأمل من الجمال والموسيقا؛ القيمتان الأبديتان اللتان ما زال نزيه أبو عفش، يعبدهما كواحد من أخلص الشعراء وأكثرهم ندرة ؛ يخدمهما وتخدمانه كما كتب هو نفسه: (الجمال خادمنا المعبود). ارتقى نزيه أبو عفش إلى كونٍ شعريٍّ هو من طبيعة و فطرة وذكاء ورحابة (الكلام العادي)، التعبير الساذج، عندما تكون القصيدة في حدها الأعلى سذاجة قصوى . مع ذلك فإنه لم يستقر على أسلوب معين . إنه بجدارة وصعوبة عملِ و (ديانة) الشاعر يتفتح ويحتضن ويبتكر ما يزيد الانفعالَ الجمالي عمقاً وبساطة، مذكراً بما كانه قلبُ شاعر روسيا الكبير (بوشكين) إزاءالجمال : (الانفعال الجمالي، إنه الخيال الذي يجعلنا نذرف الدموع) .

نزيه أبو عفش: التشكيلي الفذ نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

المصدر : دلدار فلمز

الكثير منا يعرفون الشاعر نزيه أبو عفش، ولكن الكثير كذلك لم يسمعوا بنزيه أبو عفش الفنان.
يقول أبو عفش في أحد لقاءاته، إنه كان راغباً بشدة في دراسة الهندسة المعمارية، وإنه كان شغوفاً بالفنِّ، لكن أهله وقفوا ضد رغبته هذه، لأنهم كانوا ينظرون إلى طالب الفن (الرسم) نظرتهم إلى فتاة تريد أن تتعلَّم الرقص كي تعمل بعد ذلك في أحد الملاهي الليلية.
وهكذا انتهى أبو عفش شاعراً، ولكن دون أن يتخلَّى نهائياً عن حلمه الطفولي الجميل.
أقام نزيه أبو عفش عدداً من المعارض الفنية، سكب فيها عصارة أحلامه وآماله وآلامه، وعبّر بالفرشاة عما يريده بعد أن عبَّر بالقلم (يقول في اللقاء نفسه، إنه ربما اتَّجه إلى الكتابة لأنَّ الأقلام كانت متوافرة، والورق كان رخيصاً مقارنة بمستلزمات الرسم).
لا شكَّ في أنَّ تجربة نزيه أبو عفش في الرسم تعكس وجهاً خفياً في تجربته الشعرية التي تبرز فيها صفة المسيح المتألم، فهو يعمل على صياغة تشكيلية للوجه الإنساني كوسائط للتعبير عما يريد البوح به، ومكاشفة الألم الذي يسكنه بطريقة تبدو في أحوالها العادية، كأيقونة مجلجلة داخل مساحات لونية، كحلم مقدس من خلال مجموعة من الوجوه تحمل ملامح كونية في طقوس جنائزية تارة واحتفالية تارة أخرى، ويجسِّدها ضمن مقامات لونية حالمة، وكأنها مأخوذة من منابع تاريخية لحياة الإنسان في حالات العبادة البدائية من حيث التواصل مع الآخرين أو مع خالق هذا الكون.
وهو يعطي أهمية قصوى للخطوط في توزيع عناصر لوحاته من حيث التآلف والانصهار فيما بينها وإظهارها بتكوينات حميمة ضمن أبعاد عاطفية مكلَّلة بالإنسانية والمحبة، وهي نزعة تبدو في فحواها أشبه بنزعات المبشرين والأنبياء بسحناتهم المكتظة بالحزن الأزلي.
يشتغل أبو عفش أعمالاً يمكن تصنيفها كأسلوب تعبيري من خلال مجموعة الوجوه المكرَّرة في معظم تجاربه التشكيلية. هذه الوجوه المتناسلة من ذواتها، عنصر بصري أساسي عند أبو عفش في التعبير عن مجمل الانفعالات والأحاسيس، لتظهر هذه الوجوه بشكل ثنائي أو على هيئة مجموعات داخل مساحات ضبابية يلفُّها الحزن والكآبة، مازجاً بحرفية وتقنية لونية بين لغتين، سمعية وبصرية. وتتوق، من جهة أخرى إلى عرض كتل وشلالات لونية تجمع بين التناسق وقوة التعبير من خلال الانسجام بين الوجوه في مقدمة اللوحات وخلفياتها المشغولة بعناية الفنان وآلام الشاعر والمنفذة بمخيلة الشاعر وحرفية الفنان.

... والصوفيُّ المتمرِّد

المصدر : إيلي عبدو

مسكون بهاجس الألم، يبحث عن قصيدة ذات قدرة على اختراق زمنها التاريخي وتحقيق مداها في زمن آخر، أقل موتاً.
نحات لغة، ينحت مفرداته من الأنين والوجع الإنسانيين، يحرِّر الكلمات من معجميتها، ويترك اليومي منها، والهامشي والعابر.. يحتجُّ مستنطقاً الألم الشخصي ومعاناة الجماعة.
على الأسئلة العصية، يفتح أناه الشعرية منطلقاً منها لجعل قلقه الدائم احتمالا لاكتمال القصيدة، والولوج إلى المخادع السرية للأفكار للتلصُّص على سؤال الموت وما بعده والحياة والحب والأمل واليأس. ليس في قصائده ما هو زائل، إنه في ارتحال دائم إلى الميتافيزيقيا وما بعد المادة.
ليس بصوفية ابن عربي والسهروردي، وإنما بصوفية حديثة وكأنها شكل من أشكال التمرد على طبيعة الحياة المعاصرة، وعلى تشيُّؤ الإنسان وإفراغه من معناه الروحي.
نصُّ نزيه أبو عفش، نصٌّ مزركش بأيقونات متناقضة في إيحاءاتها، ومعظمها يتقصَّى عن الهوية الإنسانية التي مزَّقتها ضراوة الواقع، نصٌّ متخم بالجماليات والمعاني والتقنيات والكثافات والصور والأنفاس، فيه إصغاء ورؤيا، غوص في الأسرار وإغراق في الخيال، تربطه ببعضه بنية تشكيلية رؤيوية، تطبع ملامحه وتفاصيله وتجعله منسوجاً بالدهشة وكسر النمط ونفض الساكن باستحضار دائم للمألوف وصدمه بغير المألوف بغموض شفيف يحرِّض المتلقي على التأمُّل واحتمالات التأويل.
نزيه أبو عفش، الذي فكَّر في الألم، وجعل للعناصر ذاكرة ولأمهات القتلى وشاحاً من عشب، انحفرت مفرداته وصوره ولقطاته في لا وعينا الشعري، ولابدَّ أنه سيظلُّ يتنفَّس في نصوصنا الآتية.

نزيه أبو عفش.. عصفور ومسيح.. وملاك موت

المصدر : منذر مصري

في السبعينات، وفي الثمانينات بعدها، كان لا بيت لديَّ في الشام سوى بيته، عنوانه: المزرعة، موقف الخطيب. وكان من السهل عليَّ، أنا الذي لا أعرف دمشق إلا معرفة العابر وصاحب الحاجة، أن أصل إلى ذلك الموقف، ثم آخذ دربي شمالاً، ثم أنعطف يميناً، إلى بناء ذي بوابة عريضة، أدخل منها، ثم أعبر الفسحة الأشبه بحديقة، لأصل إلى ما كنت أظنُّه مرآباً. إلاّ أنه، أفكِّر الآن، إن كان كذلك، ألا يجب أن يكون على الشارع!؟. كان بيتاً صغيراً مقسَّماً لا أذكر بما، ربما فقط اعتبارياً، إلى غرفتين صغيرتين ومطبخ، يحيا فيه أب وأم وطفلان. أما الديوان الذي كان يجلس عليه الأصدقاء ليتحدَّثوا، وليقرؤوا أشعارهم أحياناً، ويشربوا الشاي.. ويأكلوا، فقد كان المطرح المخصَّص لهم أيضاً للنوم. نمتُ لياليَ كثيرة على ذلك الديوان، بالقرب من العود وتحت الرسوم وأقفاص العصافير. كيف أنسى!؟.
¶ رُوحٌ دَسِمَة ( نزيه أبو عفش )
بِمِعدةٍ مُطبقةٍ قصدتُ إليكَ
وبِجوعٍ دخلتُ بيتَكَ .
/
وقد أولمتَ لي
على مائدةٍ عامرةٍ بأطباقِ الخواء
بدلَ الحَساءِ الباردِ واللُحومِ المُعلَّبة
وجبةً سَخِية
من رُوحِكَ الدَسِمة ..
ـ18/11/1981
بعدها انتقل نزيه وناديا وعمر وكنان، إلى بيت آخر، بيت جديد في حي بعيد، يحتلُّ طابقاً في عمارة حديثة، بيت بغرف واسعة تفصلها جدران، ونوافذ وشرفات عالية تطلُّ على بيوت وحدائق، وتطلُّ عليها شمس وقمر ونجوم. لن أقول بيتاً حقيقياً بالمقارنة مع ذلك المرآب، ولن أقول العكس، حنيناً لذلك البيت، فالبيوت، كما يقولون، بأهلها. زرتُ نزيه في بيته الجديد، خلال العقدين الأخيرين، مرتين أو ثلاث، ولكن لم أنم يوماً.
يوماً لم ألتق بنزيه، ولم يظهر لي مشاعر الودِّ والصداقة، ويوماً لم أسمعه يتطرَّق بالحديث عن شعري إلا بإعجاب، ولو متفاوت! مرة، خلال إحدى زياراته القليلة لي في اللاذقية، قال: (لو أنَّ الأمر بيدي لرشَّحتك لجائزة نوبل.. يا رجل أنت صاحب قصيدة بيروت جثة ترتدي ثوب السهرة!؟). وفي عام 1984، ما أن استلمت أول نسخة من (أنذرتك بحمامة بيضاء) حتى هرعت إلى بيته في الخطيب لأقدِّمها له، فلم يخيِّب أملي في سماع ما جئت لأسمعه منه، قال بعد أن أنهى قراءة المقدمة: (هكذا أريد أن أكتب)!. ومرة في أحد البرامج الإذاعية السورية، سمعته يقول مدافعاً عن شعري وشعر أختي وشعر دعد حداد، وعن كوننا نخطئ كثيراً في اللغة: (أن يخطئوا في اللغة أفضل من أن يخطئوا في الأحاسيس). أوردُ هذا الكلام الآن، وأنا أعلم مقدار الاندفاع العاطفي الذي يغلب عليه، الاندفاع العاطفي الذي يملي على نزيه كلَّ ما يقوله ويفعله. لكنني رغم هذا أصدِّقه، أصدِّقه في سياقه، في وقته، ليس "نزيه" من يستطيع أن يخفي مشاعره، مهما كانت وبأيِّ ظرف، فكيف له أن يدَّعي عكسها!؟ كما أحبَّ نزيه شعر أختي مرام، للحدِّ الذي كان يردِّد به بعض سطورها: (قرصت معطفك حتى تألَّم). واحتفى بالقسم الخاص بقصائدها في مجموعة: (أنذرتك بحمامة بيضاء)، بمقالة له في مجلة (أوراق) اللندنية، مبتكراً لأجلها مصطلحاً شعرياً جديداً هو قصيدة الشهقة. لا قصائدي، ولا قصائد محمد سيدة، ما استحقَّ عنده ولو جملة اعتراضية. لا حدَّ لحبِّ نزيه عندما يحبك، ولا حدَّ لجفائه عندما يجافيك. هو المعروف عنه إيمانه بالمطلقات، وانتهاجه أسلوب الحد الأقصى في كلِّ شيء. اتَّصل بي منذ سنتين، وقليلاً ما يفعل، وسألني عن مرام وطلب مني رقم هاتفها في فرنسا: (أريد أن أصالحها. لا أدري كيف جاءت اليوم على بالي، ولم أجد سبباً لاستمرار زعلي منها). ثم عندما اتَّصلت به مرام أثناء مشاركتها في مهرجان السنديان هذه السنة، معبِّرة له عن رغبتها في زيارته في مرمريتا، قال لها: (أنتِ أهلاً وسهلاً، أما منذر.. فأرجوكِ اعفيني من شعراء الحداثة).
بعد (روح دسمة)، حاولت أن أكتب عنه قصيدة أخرى، أطول نسبياً، وأكثر إحاطة به، لا عن واقعة أو حالة هو بطلها، بل عنه بالذات، فكتبت عدة مقاطع استعرضُ بها، ما كان يتهيَّأ لي أنه الحالات والأطوار التي يتبدَّى فيها: عصفور ومسيح وملاك موت.. وتركتها لسنين بين مسودات كثيرة، إلى أن أعددتُ للنشر مجموعتي الشعرية الرابعة: (دعوة خاصة للجميع)، فرجعت لها، وأنهيتها على عجل، لأضمَّها إلى قصائد القسم الثالث في المجموعة (مدائح ملفَّقة) بجانب قصائدي عن محمد سيدة وعادل محمود ومحمد خير ومهدي علي:
واحدٌ في ثلاثة أو رُبَّما أكثر
¶ ( نزيه أبو عفش )
عُصفور ... عُصفورٌ حقيقي
بِجَناحينِ ومِنقارٍ وذَيل
عارٍ منَ الريش.
/
مسيح ... مسيحٌ حقيقي
بلا وَصايا
ولا تلاميذَ
ولا وصليب
ولكن بلعنةٍ وقيامة
تزوَّجَ وأنجَبَ ولَدينِ
الأولُ أبو ضاربيِ الصُّنوج
والثاني أبو نافخيِ الأبواق
يسجُدُ أمامَ
شجرة
أو زهرةٍ
أو حَصاة
لأنَّ أحداً أمرَهُ
أن لا يفعل
وليُجرِّبَ الرَبَّ الَّذي قالَ لهُ:
(لا تُجرِّبني)
يُلقي بنفسِهِ في هاوية .
/
مَلاكُ موت ... مَلاكُ موتٍ حقيقي
بِمِنجَلٍ صدئٍ ذي ساعِدٍ طويل
ولأنَّه لا يَجِدُ شخصاً
يأتَمِنهُ عليهِ ولو لفِترة
يَحمِلهُ على كَتِفِهِ أينَما ذهبُ
تَراهُ يَحوِّمُ بلا هَوادة
فوقَ رُؤوسِ الأشجار
من حِرصِهِ أن لا يدوسَ
على العُشب .
/
هذا أنتَ
واحِدٌ في ثلاثة
عُصفورٌ
ومَسيحٌ
ومَلاكُ موت ..
8/5/1982

نزيه أبو عفش.. مجرّد نحت في الماء

المصدر : جولان حاجي

قصائد نزيه أبو عفش تغمر القارئ بفيض انطباعاته وأحاسيسه ومخاوفه، قد يفسِّرُ هذا الإسهابَ نفورُه من الضيق والتداعيات المرتبطة به، فهو، الصانع الباهر، يضحي بالإيجاز، ويبتعد عن صرامة الحذف التي قد تدهش معظمنا أحياناً، لأنَّ هذا التكثيف قد أمسى بدوره تقليداً انكبَّ الكثيرون على مزاولته.. لكن،على هذا المنوال، ألم ينتهِ المطاف بالكثير من العواطف الطبيعية إلى الإهمال والنسيان؟ ماذا سيفعل الشاعر وقد جُرِّدَ الشعرُ من كل غاية؟ ما جدوى كل تلك البراعات والتفنّن والبحث الدائب عن التجديد؟ إلى أين أفضت وإلى أين ستفضي؟ إذا أجبنا قد نجد ما يفسِّر مرونة البناء وغنى المواضيع لدى نزيه، وكذلك متانة الآصرة التي تشدُّه إلى أسئلة وقضايا الحياة الملحة. لعل هذا الاسترسال رغبة في الارتواء والاكتفاء والرضى العابر الوجيز، وكأنه يريد للقصيدة أن تتسلَّل إلى القارئ دون أن يدرك ذلك، مراهناً على فطنته ورهافته، وأن يتقلَّص دور الوعي إلى حده الأدنى، ولهذا يجب أن يكون كل شيء مكشوفاً على السطح، لا شيء وراءه غير بياض الصفحة، مثلما عبَّر ماغريت ذات مرة: “ليس وراء لوحاتي غير الحائط”. هذا السطح الذي يبدو للوهلة الأولى خالياً من الزخرفات مثقلاً بالمعاني ووضوحها الخدّاع، يخفي ما يشقاه الشاعر الذي تحدوه الرغبة في إنقاذ ما يمكن إنقاذه والاختفاء وراء كلماته، وكأن القصيدة قد حدثت للتو أمام القارئ- الشاهد الذي يصبح مشاركاً حيوياً، واللغة، العادية ما أمكن، تمضي بنا أبعد فأبعد وعلى مهل، إلى أن نحيط أخيراً بالمشهد كله.

قد يطول هذا المسار أكثر مما يتوقَّع الشاعر أو يريد، إذ لا أحد بوسعه أن يتكَّهن متى أو أين سينتهي. يذكر ماتشادو أنه من أجل كتابة أية قصيدة يجب أن يُخترَعُ شاعرٌ كي يكتبها كل مرة. الشاعر يعثر على القصيدة لأنه يحتاج إليها؛ هذه الضرورة وسمَتْ كتابات نزيه، بالإضافة إلى وعي بالمأساة مليء بالتوقعات والمفارقات؛ المأساة تتجلَّى في هدوءٍ تهدّدُ فيه القسوةُ الطراوة، وتُسمَعُ فيه أحياناً استغاثات ضحية خرساء، غضبُ المهانين، إدانةُ الإنسان. يتلو الصوت أمام نفسه كيف توالت العصور وتعاقبت على نزع كل ما هو إنساني عن البشر، وكيف يحيا الشاعر في عالمٍ يعاديه أو يرفضه ويهمله، أعزل لا يحميه شيء ولا يمتلك شيئاً، يثرثر مع موته، والموت ليس لفظاً أدبياً وإنما حقيقة ملموسة في الجسد كل لحظة، رعبٌ دائم الحضور. الضمير المذعور، المحبُّ للعدالة والمخلوقات الصغيرة، مبتعداً عن غموض التوريات وجنوح المزاج وجنون البلاغة، يعلم أنَّ ثمة شيئاً أثيراً ونادراً يهدِّده الزوال وعليه أن يحميه: الجمال. إنه يلوذ بمكان مثالي لعواطفه العاصفة المضطربة أو الوديعة الفطنة، فينشد كالرومانسيين بقاعاً معزولة فسيحة ونائية أو مهجورة، حيث يستطيع أن يتآخى مع النباتات ويتخلَّى عن الأمل وهو يبتسم لنفسه، نقياً كملح دموعه التي لا يراها أحد.
لقد حاول نزيه في قصائده الطويلة ( كما في كتابيه “أهل التابوت”، “ما يشبه كلاماً أخيراً”) العثور على شكل يستوعب الفوضى المسماة بالحياة- شكل يحتفي بالتواضع، ويترادف فيه الحب والموت، وتعود فيه المحاكاة مدروسة كي تسترجع ما محته الفوضى. لدى نزيه في هذه القصائد (“سلالم نوتردام”، على سبيل المثال) طموح الروائي أو المسرحي، التطلع إلى فضاء تحتوي فيه القصيدة كلَّ شيء، التنفس في الرحابة والاتساع والتعدُّد حيث لا يتحصَّن في مكان ضيق ولا في لغة محدودة. ثمة سردٌ ينحو إلى النثر موسيقياً، وهو يسمع صخب الزمن ولا يستطيع أن يلملم ما يتناثر تحت عجلاته. في ثراء هذا السرد، الذي يحيل إلى الأحلام والذكريات، يمتزج الرسم بالعمارة والموسيقا، كأنها شهوة الروح إلى الواقع، بينما المخيلة تنتقي ما تشاء وترتِّبه وتتلذَّذ باكتشاف التماثلات بين أشياء كثيرة متناقضة أحياناً، هذه اللذة تخلق واقعاً آخر من خصوصيات شخصية (قلق شخصي وقنوط شخصي وملل شخصي..) نتقاسمها جميعاً، ونتأثَّر بها لأننا نكتشفها هنا من جديد، ولأنَّ المخيلة تفقد حياتها عندما تتوقَّف عن التصاقها بما هو واقعي. الولع بالمجازات يعود أحياناً، ولكنها عودة لا صخب فيها، إذ ما كان يهدِّدنا.. يحزننا الآن، ويقلقنا ما هدّأنا. هذه هي العودة المحزنة للانفعالات الخالدة المهجورة، إحياء النزوات التي لا شيء سواها حقيقي؛ وما يجعل قصائد نزيه نابضة وحيوية هو هذه الانفعالات التي تنفجر في قلب الرتابة وتحرق الكآبة التي قد تغلف أجواءها.
لدى نزيه قصائد لا تنسى ( القلعة، هي هيلين، ما قبل الأسبيرين، إله الباب، عندما قادتني جدتي كي نشهد هبوط الموتى،.....)، حسبُ أي شاعرٍ أن يكون قد كتب أياً منها كي يُحَبَّ مبجَّلاً على الدوام. تبهجنا نضارة تلك اللغة المفعمة باللطف، لغةٌ حرص نزيه دائماً على صفائها وسلاستها. إنها حقاً لغة نادرة السلاسة تشفُّ عن عواطف نسيناها، وكذلك عما نتجنَّب سماعه أو نهمله. السخاء الذي تهرق به الروح مدادها على أديم الورق الأبيض يصل إلى حدود الإسراف أحياناً لأنها لا تسأل أحداً شيئاً. في ضوضاء الارتجالات والفوضى والأسماء، ثمة شاعر يتخلَّى عن كلِّ هذا ليحيا في مكان آخر، متذوِّقاً عسل الكلمات ومرارتها. لا تغريه التعقيدات، تضجره الصعوبة ولا تستحوذه أو تخدعه. يعرف كلُّ شاعر أنه يشقُّ بالكتابة دربَ إخفاقه، إنها لعبة خاسرة لكنه يواصلها بالمزيد من الجهود المهدورة، داخل الخوف الذي يخلق الصور. إنها قد تواسي أحياناً التائهين التعساء، الغارقين في أوهامهم وغرابة استنتاجاتهم، أولئك الذين انشطرت صورتهم وأمسَتْ هويتَهم التي تضطهدهم بدورها كأشياء أخرى كثيرة، أولئك الذين يتلعثمون ولا يستطيعون أن يقولوا( هذا لي)، لأنَّ الآخرين احتكروا ياء الملكية.
كتب ستيفنز مرة يقول: “لقد كُتبت القصائد العظيمة للجنة والجحيم، لكن قصيدة الأرض العظيمة لم تُكتب بعد”. فما آمال القصيدة التي يكتبها نزيه؟ هذه القصيدة الوحيدة، متواضعة الروح، المكتوبة على لسان المتقشف المستمتع بالوجود، المنفرد الذي لا يفوته شيء ولا تتظاهر يقظته بأنه يفكِّر، المسترجعُ ما اضطرَّ لسماعه ورؤيته، لكنه مغتبطٌ بوحدته وناقمٌ عليها في آن.. حكيم ومغفل، رائق ومشوش في آن؛ منقب في الظلمات ذو غريزة إنصات مشحوذة؟ بمن ستلتقي؟ كيف ستسير، وفي أي اتجاه؟ هل تعود إلى مسقط رأسها الخيالي، على الرغم من استحالة وجود أي طريق- يبحث الشاعر ويكتشف في كل مرة أنه لم يكن دقيقاً بما فيه الكفاية؟ أم هي لقاء أرضيٌّ خسرت فيه الآلهة ألوهتها واختلطت بالبشر؟ ما عادت مستعدة كي ترجع إلى حيث كانت، إنها تبتعد وتوغل في أرضٍ أولى تضم وتختزل تواريخ بأكملها، بانتباهها المؤلم لما تصادفه داخلها وخارجها، و”الانتباه هو الصلاة الطبيعية للروح”، إنها تلاحظ المخلوقات والأشياء وقد اقتربت من اليوتوبيا ولكنها لم تصل إليها. إنها إدراكٌ داخلي متواصل يتنازل فيه العقل عن صرامته أمام جمال العبارات المتدفقة وهي تنساب وتقترب من الغناء، خفيفة ونقية. إنها تقصد آخر مجهولاً، صديقاً لم تعرفه بعد، شقيقاً لم يولد، في أي مكان من هذا العالم؛ تتَّجه إليه، تزوره، وتهديه الرفق والحنو والسخط أيضاً. ثمة حوارٌ دائم تقريباً في قصائد نزيه، يئس من نفسه وسواه، ولكنه لايزال مؤمناً بجدوى الكلمات على الرغم مما يعيقها، مدركاً في ألمٍ مقدرةَ الخطأ على تجديد نفسه باستمرار. القصيدة تعبرُ كلاماً ميتاً، صمتاً ودوداً أو مقلقاً، ولا تعثر على أي جواب، ولكنها تشرق أخيراً، تفورُ وتشعُّ. لم يبقَ للشاعر خيارٌ آخر إلا الإلحاح، والمواظبة، مهما علا اليأس وتعمَّقت جذوره. القصائد تنسجم مع نفسها، محمَّلةً بحيوات مديدة ومتنوعة، كلُّ لحظة فيها تجربةٌ وعتبة. إنَّ مجرد التصريح بالأمل هنا يقتله، الإشارةُ إليه تُفنيه. الكلمة هنا خطوة مضادة، تشكيكٌ بما ذهبت صوبه الكتابة وما آلت إليه: فظاعة اللامعقول الذي يستبدُّ بالحاضر دائماً، وبين يديه يتعذَّب المعقول ويشقى. يضع نزيه أحاسيسه أمام البديهيات، أمام كل ما هو طبيعي: إنها أشياء أقدم منا وأجدر بالاحتفاء والانتباه. ثمة طرق أقصر بالطبع، لكن الشاعر ينتهج الطريق الأشد التواء وخطراً.. الأنا تنسى نفسها خلال هذا التجوال، تتحوَّل أو تتبخّر، ومع ذلك لا تتحرَّر. الشاعر ينجح لأنه لا يصل إلى شيء، وما يميِّزه إنه لا يكفُّ عن وصف ما يختبره: أن نعي ما كنّاه، الشعور بأنك محبوب ومرفوض في الوقت نفسه، كراهية الأسرار، الندوب الطفيفة أو العميقة التي نغادرُ بها كلَّ تجربة، ما فقدناه ولانزال نفقده، تفاهاتنا وقصصنا التي تؤلف سدى حياتنا، التفاصيل التي تظلُّ محتفظة بسحرها الدائم إزاء التعميمات.
ألمُ الشاعر وتواضعه ونفاذ بصيرته تُرغِمُ وعينا على التمهل. لقد صاغ نزيه معنى لما يخجلنا الكشفُ عنه: العاطفية- الضعف والحزن. هذه العاطفية التي قد يجوز لنا تعريفها بإخفاق الأحاسيس في العثور على شكل واضح نهائي، أو رغبة العقل في الحفاظ على ذاك الضباب البعيد والجميل، وإبقائه بعيداً.
الحجاب ليس أمام العين، وإنما يقع وراءها بالضبط؛ إنه لا يغفر للمراثي حتميتها. كثيراً ما تطرَّق البعض إلى حضور المسيح في كتابات نزيه: بعيداً عن سوء الطوية وسوء الفهم، قد يجوز لنا القولُ، إنه رمزٌ لن يذوي جماله، متأرجح على تخوم عالم الأحياء وعالم الموتى، أو حكايةٌ لا تُستنفَدُ عادَ إليها الشعراء وسيعودون إليها، من جون دون إلى جبران وأنسي الحاج. لو كرّسَ الشعر مخيلته ليتناول ما تناوله الكتاب المقدس من مخاوف وآمال وكوابيس، ولو تكرَّرت بعض صوره قروناً، لأوجد بديلاً لا يضاهى، لكنه لا يصبو إلى أي إيمان بالمعنى التقليدي، ولا تلزمه أية معابد منفرة الروائح. كل ما تحتاجه ديانة الشاعر الوثنية كي نسبر الماضي والمستقبل هو ذاكرتنا وتوقعاتنا.
بالطبع كتابات نزيه محفوفة بظلال كثيرة، لأنها عافيةُ التأثر ما يقود الشاعر في ليله، جذوره في كل مكان ولا جذور له في أي مكان: المؤثرات لا تحصى بسهولة، ومثيرة للاضطراب أحياناً: كيف سيتأثر امرؤ باليسارية أو يعتنقها؟ لماذا سيرجع عن طريقٍ شقّهُ ومهّدَ له ديوانهُ اللافت (أيها الزمان الضيق، أيتها الأرض الواسعة) ثم يأتي اللاحقون من شعراء سورية ويجتاحونه؟ ليس كل من يتذكّرُ سفاحاً، لكن نزيه يعيد إلى مسامعنا أصداء أمومة لوركا، عذوبة محمود درويش وذكاءه، رحابة نيرودا، سخط الماغوط وأعصابه المستنفرة، هرطقات إلياس أبي شبكة، دقّّة موريس قبق، أناجيل إكزوبيري، تأملات ماترلينك الرقراقة..... ويبقى نسيج وحده الشاعرُ الذي أضاءَ حيرتنا ورقّقَ فظاظاتنا، وأفسح قلبهُ النبيل الطريقَ أمام كثيرين جاؤوا بعده