حَبَنْظَلْ بَظاظا الفصلُ الرابع
مكتبٌ عصرِيٌّ فاخِر، أثاثُهُ يدلُّ على ترَفٍ وثراء.
خَلفَ الطاولةِ ثلاثةُ كراسي، جَلَسَ عليها خنزيرٌ وبَبَّغاءٌ وحِرباء.
الخنزير:
وراءَ كُلَّ امرأةٍ عظيمةٍ رجُلٌ ذكي.
أنا أوَّلُ من قالها...سرقوها منِّي ونسبوها لمحارِبٍ فرنسي.
لاَ يَهُم...فلْيسرِقوا ما يشاؤون، فأنا قائلُ ألافَ المواعظِ والحِكَم.
أنا مدرسةُ الحياة، ومُلْهِمُ الحضارات، ومنهاجُ الشعوبِ والأمم.
وإن دَلَّ فِعلُهم هذا على شيء، فإنَّهُ يدلُّ على أنَّهم أذكياء.
وأنا أحِبُّ الذكاء وأحِبُّ الأذكياء، الَّذين يَتَتَبَّعونَ خُطَى العُظماء.
الأذكياءُ الَّذين يَنسونَ بسرعةٍ كُلَّ ما فات، ويفكرونَ فقط بالحاضرِ والغدِ الآت.
الغدُ الصّاعد، الغدُ الواعد، هو ما يجبُ أن نفكرَ فيهِ في حاضرنا.
ونَصِلُ حِبَالَنْا بِحبالِ مَنْ يمكنُ أن ينفعَنا.
هذا مَنطِقُ الحياة، وهذا مَنطِقُ النَّجاح.
وأنا أحبُّ النَّجاح، خاصَّةً الَّذي لاَ يلزَمهُ كفاح.
أحبُ النَّجَاحَ لأنَّهُ حلو، وكُلُّ شيءٍ حلو تَهْواهُ نفوسنا النَّبيلة.
المنزِلُ الفاخِر...السَيّارةُ الفارهة...والمرأةُ الجميلة.
خاصةً المرأةُ الجميلة.
إنَّها سِلاحُ كُلَّ عصرٍ، سِلاحٌ فتّاكٌ لاَ يخطئُ ولا يُهزَمُ ولا يستكِين.
فكم مِنْ رجالٍ هَدُّوا جِبالاً، رَكَعوا أمامَها ليقَبِّلوا يديها النّاعمتين.
والجُيوشُ الجرّارةُ لاَ تقْدِر على فعلِ ما يَفعلَهُ سِحْرُ جارِيَتِي عسلُ الْتِين.
نعم أيُّها السّادَةُ، فمرَّةً فَتَنَ عليَّ أميرُ الدَّرَك، وشَكاني إلى السُّلْطانِ المعَظَّم.
بأنّي أُديرُ شبكةَ دَعارَةٍ وقِمار، وتِجارةَ الحشيشِ والإرهابَ المُنظَّم.
لكن عَسلُ الْتِين دافعت عني بشدةٍ أمامَ السُّلْطان، وبرأتني من كُلِّ التُّهَم.
وأُلقِيَ بأميرِ الدَّرَكِ في السِجن، لِمى أبْداهُ مِنْ غباءٍ وفَدَم.
وأخذْتُ مكانَهُ، لما أتمتعُ بهِ من فضائلِ الخِصالِ والشْيَّم.
صحيحٌ أنَّ النّاسَ لَقَّبوا أميرَ الدَّرَكِ بالبطلِ العظيم.
لَكنهُ الآنَ غارقٌ في ظَلامِ السِجن، وأنا غارقٌ في النعيم.
النّاسُ أيُّها السّاَدةُ ينسُونَ بسرعة، لأنَّ ذاكِرتَهُم ضعيفة.
وأنا أُعيْنُهُم على ذَلِكَ بنشرِ الإشاعاتِ والحقائقِ المُزيَّفة.
ولم أعدَم أحداً أجهدَ نفسَهُ وأعيَا قلْبَهُ وزَوَّرَ في كُتُبِ التّاريخِ السَّخيفة.
ليمُدَّ سِلسِلةَ نَسَبي ويصلُها بأحدِ الأنسابِ الشَّريفة.
وأصبحْتُ لاَ أميرَ الدَّرَكِ فحسب، بَل نبيلاً أيضاً صافيَ العِرْقِ والنَسب.
ورحِمَ اللَّهُ أُمّي دَليلة، سليلةُ الحَسَبِ والنَّسب.
الحِرباء:
لاَ تضحكوا أيُّها السّادَةُ، فالضحكُ مذْمومٌ مِنْ دونِ سبب.
فأُمّي لها الفضْلُ الكَبيرُ على الإنسانية.
لأنَّها قدَّمتني إليها بلا مُقابلٍ ولاَ أنانية.
النِسوةُ العظيماتُ أمثالَ أُمّي، هنَّ اللّاتي يغيِّرنَ وجهَ الحياة، ويَقُدْنَ البشرية.
والعالَمُ عَرَفَ أقدارَهنَّ، وأقامَ لهُنَّ التماثيلَ الذهبية.
وخلَّدَ جمالَهُنَّ بأوصافٍ أسطورية، وسمى مغامراتَهُنَّ بأسمائِها الحقيقية.
فهيَ كما تقولُ كُتُبُ التاريخ، طموحٌ عظيمٌ لِنساءٍ عظيمات.
وأنا مدينٌ لنجاحي لهَؤلاءِ النِسوةُ العظيمات.
فكم من امرأةٍ قدَّمت لي في بَساطةٍ ويسرٍ وكرَمٍ طبيعي أجَلَّ الخَدَمات.
وكأنَّهُنَّ ينتظِرنَّ الفُرصةَ السّانحةَ ليكُنَّ عظيمات.
حتَّى بِتُّ أؤمنُ بأنَّ العظمةَ في المرأةِ هي غريزةٌ كامنة، تنتظرُ مَنْ يُفجرُها.
لتنطلقُ كالسَيلِ الهادرِ، مُفْصِحةٌ عن نفسها، مُعْرِبةٌ عن وجودِها.
وهنا أوَدُّ أن أُخبِركم بأنَّ ليسَ كُلَّ الرِّجالِ صالحينَ لمثلِ هَذهِ المُهمَّات.
بل هم قِلَّةٌ نادرةٌ لديها الاستعدادُ الفطريُ لِتَطفو فوقَ سطحِ الحياة.
دونَ أن يخدشَ وُجوهَها الزَبَدُ المتطايِرِ حولها.
ودونَ أن تلتفتَ إلى الموجِ المتكسِّرِ عندَ أقدمِها.
وهنا أسألُكُم أيُّها السّادَة...
هل فيكم مَن لهُ أُمّاً مثلَ أُمّي...همم.
هل فيكم مَن عِندَهُ جاريَةً مثْلَ جارِّيَتِي...همم.
بَل هل فيكم مَن عَرَفَ صداقةً كَصَداقتي؟.
صداقةٌ حقيقية، الصَّداقةُ الَّتي تكونُ بينَ الأصدقاء.
وأنتم جميعا تعرفونَ ما هي الصَّداقةُ الَّتي تكونُ بينَ الأصدقاء.
الودُّ الخالص، المنفعةُ المتبادلة، والهدفُ الواحد.
وكُلُّ ما عدا هذا...هُراء.
الصَّداقةُ مِن دونِ هَذهِ الأركانُ الثَّلاثة، لن يكونَ لها أيُّ محركٍ أو دافع.
فالودُّ الخالص لن يستمرَّ طويلاً، إذا تعدَّدت الأهدافَ وتضاربَت المَنافع.
الببغاء:
أليسَ هذا صحيح؟...أليسَ هذا صحيح؟.
لاَ تهُزُّوا رؤوسَكم كثيراً، فإنَّ هَزَّ الرؤوسِ يسببُ الدُوار.
وقد يسبِّبُ مرضاً خطيراً، يسمى الثُّغَاءُ والخِوار.
وهَذا يُفدني أنا، ما دمتم أنتم المصابون بهَذا المرض.
لَكنَّهُ لن يُفدكم أنتم ، طالما تهزُّونَ رؤوسَكم لهذا الغرض.
الخنزير:
آه، تذَكرْت... كنت أُحدِّثُكُم عَن جارِيَّتِي الجميلة.
إنَّكم تعرفونها بلا شك، هيَ عسلُ الْتِينِ العظيمة.
الَّتي كانت دائماً وراءَِ الأحداثِ في حياتي وحياةَ السلطان.
عسلُ الْتِينِ الَّتي يوقعُ اسمُها الرُّعبَ في قلوبِ أعدائها.
وأعدائي وأعداءَ السُّلْطان.
نعم أيُّها السّادَةُ، إنَّ أعدائي هم أعداءُ السُّلْطان.
ألَسْنا صديقَين، ألَسْنا مِنْ سلسلةِ نَسَبٍ واحدة؟.
ألستُ رَجُلَهُ المفضَّل، وبيْتي هو بيتُه؟.
وجاريَّتِي هيَ جاريَّتُه، وأُمّي كانت صديقتُه؟.
إذاً، فمن آذاني فقد آذى السُّلْطان، ومَن عاداني فقد عادَا السُّلْطان.
هذا أوَّلُ درْسٍ تعْلَّمْتُهُ مِنْ عسلِ الْتِين.
وكم من دروسٍ قَيِّمةٍ عَلَّمتْها لكُلِّ مَن أخلَصَ لها الوُد.
وأَسْلَسَ لها القِياد، وكانَ لها دَجين.
فهي وحدها صانعةُ المجدِ والشُهرة.
وهي وحدها صانعةُ النُفوذِ والقوة، وهيَ وحدها صاحبةُ القربى والحظوة.
عسلُ الْتِين الَّتي سمّاها المأفونون ومَن يُعجبهُم اندفاعُ الحمقَى.
أمثالَ أميرِ الدَّرَك، وعلْي الزئبق، وقائدِ الفُرسان.
الَّذين نَسَجَ النّاسُ حولَهم الخرافاتَ والأساطير.
وعلَّقُوا صُوَّرَهم القبيحةَ في كلِّ مكان.
سمّاها هؤلاء، بِعَسلِ الْتِين الأفعى تحتَ الْطِين.
وأنتم ترَون أيها السادة، كَم ظلَمها هَؤلاءِ المهزومين.
لَكنَّهُ الحِقدُ الأعمى الَّذي يغطي القُلوبَ، فَلا يجعَلها تُحِسُّ أو تَلين.
أيَّةُ أفعى!؟...وهيَ الَّتي ينحَني أمامَ يدها البضَّةِ كلَّ قائدٍ وفَذٍّ وعظيم.
ليقَبِّلُها في خشوعْ... عَسى أن تَرضى عنهُ...فتُفتحُ لهُ أبوابُ النَّعيم.
وللحديثِ تتمَّة.