المأساة الجعيطية فى كتابة السيرة النبوية
د. إبراهيم عوض
Ibrahim_awad9@yahoo.com
http://awad.phpnet.us/
http://ibrahimawad.com/
http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9
منذ شهور كتبتُ دراسة طويلة أرد فيه على رأى سخيف للدكتور هشام جعيط ملخصه أن اسم النبى محمد لم يكن محمدا بل قُثَم. وكنت بحثت، قبل أن أكتب تلك الدراسة، عن كتاب جعيط فى السيرة النبوية، وهو الكتاب الذى ورد فيه هذا الرأى المتهافت، لكنى لم أوفَّق وقتذاك إلى العثور عليه. ومنذ أربع ليالٍ فقط وقع الكتاب فى يدى بالمصادفة المحضة، وهو مكون من جزأين، وصادر عن "دار الطليعة" ببيروت فى كانون الثانى (يناير) 2007م. وبدأت أقلب صفحات الجزء الثانى، وعنوانه: "فى السيرة النبوية-2 تاريخية الدعوة المحمدية فى مكة"، لأنه هو الجزء الذى تعرض فيه المؤلف لاسم النبى وزعم زعمه السمج بأن اسمه الحقيقى "قُثَم" لا محمد. وما إن مضيت بضع صفحات فى القراءة حتى وجدت أخطاءً بالكوم، وكلها من النوع المضحك المخزى فى آن. ورغم أنى قرأت بقية الكتاب على عجل فإن مقدار الأخطاء والثغرات التى قابلتنى أثناء ذلك شىء هائل: فهناك الركاكة والاستعجام وتفكك الفكر وتناقض الكلام وضعف المنهجية واللف والدوران والجهل بالمصادر اللازمة للموضوع والعجز عن القراءة السليمة... وهأنذا أضع بين يدى القارئ ما تنبهت له فى تلك القراءة العجلى، وهو فى الواقع أمر يبعث على الغثيان.
وأول ما يلاحظ على الدكتور جعيط أن أسلوبه ليس من الأساليب الجميلة بحال، فضلا عن أنه يعجّ بالأخطاء والركاكة والتواء العبارة، مما يقربه من العجمة فى غير قليل من الأحيان، رغم أن أباه، كما قرأت، كان عالما من علماء تونس. لكنْ من الواضح أن ذلك لم يكن له فيما يكتب التأثير المنتظر للأسف. ومن ذلك مثلا العبارة التالية التى توحى بأننا أمام طالب أجنبى حديث عهد بتعلم العربية، فهو لم يتقنها بعد: "وهنا على قبرِ وفى مسجدِ الرسول المؤسس للدين والهوية ولتاريخية كبيرة، فى مسجد المدينة وهو بصدد البناء، تم لقاء بين عبد الملك وبين سعيد بن المسيب..." (ص34). وهى عبارة لا تنفح شيئا من روائح العروبة بما فيها من عسر التركيب والتوائه، فكأن كاتبها غير عربى. ومثلها كذلك قوله فى الصفحة التالية: "وقد تأكدت فكرة التاريخ مع الرجلين معا (يقصد عروة بن الزبير وعبد الملك بن مروان): كيف بدأت الأمور، تلك التى أتت بكتاب مقدس، بالتحام الجماعة، بملك الدنيا؟".
وتقابلنا فى الصفحة التاسعة عشرة كلمة "أُثْرِيَتْ"، التى يستعملها كاتبنا اللوذعى فى الجملة التالية: "أُثْرِيَتِ المكتبة التاريخية واتسعت إمكانيات الباحث" على أنها فعل متعد بمعنى "أَغْنَى"، ولهذا بناه للمجهول، على حين أنه فى الحقيقة ليس فعلا متعديا كما توهَّم جعيط بثقافته اللغوية الفقيرة، بل فعلا لازما بمعنى "اغتنى". وعلى هذا يمكننا أن نقول إن فلانا "أثرى" من التجارة الفلانية، أى أصبح رجلا غنيا، لكن لا يصح أن نقول إن التجارة الفلانية قد "أَثْرَتْ" فلانا، أو إن المحاضرة الفلانية "أَثْرَتْ" فهمنا للموضوع الفلانى، أى جعلته غنيا. وقد تكرر هذا الاستعمال فى مواضع أخرى. وعلى العكس من تعدية الفعل: "أثرى" نراه يُلْزِم الفعل: "مَسَّ" ويُدْخِل على مفعوله الباء فيقول: "مَسَّ فلان بكذا" (ص264- 265، 269. وفى الجزء الثانى من الكتاب تكررت مرتين ص90، ومرة ص91 على سبيل المثال)، بدلا من "مَسَّه" كما ينبغى أن يكون الاستعمال. ومثل الفعل الأخير الفعل "عَمَّ"، فهو فعل متعد، إلا أن الكاتب يستخدمه لازما، مدخلا على المفعول به الحرف: "على": "والإسلام فى آخر المطاف لم يعمّ على الحجاز بما فى ذلك مكة إلا بتكوين أمة فدولة فقوة ضاربة سياسية" (ص316).
وفى الصفحة التاسعة عشرة أيضا وغيرها من الصفحات تقابلنا كلمة "تَوْرَخة"، التى لا أستطيع أن أمسك بزمام نفسى فلا أقول كما كان يونس شلبى رحمه الله يقول كلما سمع شيئا من زميله مرسى فى مسرحية "مدرسة المشاغبين"، إذ كان يتساءل فى حيرة بل فى بلاهة: "إنجليزى ده يا مرسى؟". فأنا بدورى أتساءل وكلى فزع: "عربى هذا يا دكتور؟". إن هناك ناسا لو أتيح للواحد منهم تسعة وتسعون طريقا كلها تؤدى بهم إلى النجاة، وطريق واحد ليس إلا يقودهم إلى الضلال والهلاك والضياع لتركوا التسعة والتسعين طريقا ولم يَحْلُ فى أعينهم إلا طريق الضلال والضياع. لماذا؟ هذا مما احتارت البرية فيه. وقد كان عند الدكتور جعيط كلمة "التأريخ"، لكنه تركها إلى "تَوْرخة" هذه التى لم أسمع بها قط، ولا أظن أحدا عاقلا سمع بها من قبل أو سيسمع بها من بعد. ولست أعرف أى شيطان سول له أن يستعمل هذه الكلمة الثقيلة على اللسان والأذن والذوق والقلب والعقل جميعا، وكذلك الأنف والجلد فوق البيعة. بالله عليك أيها القارئ الكريم، أوكنت تظن أن هناك من يقول: "تَوْرخة" قبل أن أسوق لك هذه الكلمة من كتاب الدكتور جعيط؟ الحق أنه لو عُرِضَ علىّ أن أدخلها فى كتاباتى لقاء ثروة من المال ما قبلتُ رغم حاجتى الماسة بل القاتلة إلى مثل تلك الثروة، إذ إن وجهها "يَقْطَع الخميرة من البيت" كما يقول الناس فى قريتنا. ولا أظنها إلا تقطع الخميرة أيضا من تونس، فهى مشؤومة تجلب النحس والفشل أينما حلت وكيفما توجهت مثلما يخيّم الشؤم أيضا على كلمات "مِيتانَصّ" و"إيثيقا" (ومنها "الأوامر الإيثيقية"/ ج1/ ص125) و"قَوْعَدَة" و"هاجيوغرافى" التى قابلتها فى أوائل الكتاب.
والأولى كلمةٌ هجينٌ نصفها الأول يونانى، ونصفها الأخير عربى، وهى فى الواقع مصطلح حديث (****-****, méta****e) من اختراع اللغوية البلغارية الأصل جوليا كريستيفا (Julia Kristéva)، ومعناه كما جاء فى "قاموس مريام وبستر الجديد:Webster's New Millennium™ Dictionary of English": "a **** describing or explaining another ****: النص الذى يصف أو يشرح نصا ؆22خر"، كالCتابات النقدية بالنسبة إلى نصوص الإبداع الأدبى مثلا، وفى "القاموس الدولى للمصطلحات الأدبية
ictionnaire International des Termes Littéraires" نقرأ ما يلى: "le méta****e est un ****e dont l'objet est un autre ****e (commentaire, critique, glose, etc)"، والثانية هى كلمة "Ethica" اللاتينية (وفى الفرنسية والإنجليزية: "L'éthique, Ethics")، وتعنى "فلسفة الأخلاق"، والثالثة هى وضع القواعد لشىء ما، والرابعة (hagiographical) صفة مشتقة من "hagiography-- hagiographie"، أى الكتابات التى تتناول حياة القديسين وما يتصل بها. ويقابل تلك الصفة فى سياقنا الحالى (الأشياء والأمور) الخاصة بالسيرة النبوية، ويمكن أن يقال: "(كتابات) تتصل بالسيرة"، أما إذا أردنا الترجمة المباشرة للكلمة فنقول: "(الكتابات) السِّيرِيّة" مثلا. هذا لو أردنا أن نكون طبيعيين يفهم الناس عنا، ولكن للحذلقة العاجزة سلطانا على بعض النفوس يبلغ حد المهزلة، والعياذ بالله! ومثل تلك الكلمة كلمة "ميتا خطاب" (ص204، وكذلك "ميتاجُنون"/ ج1/ ص98). أنعم وأكرم بالجنون ومِيتَاه!
وانظر أيضا قوله، عن بعض كتب السيرة النبوية التى تستقى هى وسيرة ابن إسحاق من ذات المصدر، إنها "تدلو من نفس الدلو" (ص27)، وهى عبارة تذكّرنى بأسلوب طلبة هذه الأيام النحسات فى أوراق الإجابة آخر العام، إذ أجدهم يحومون حول التعبير المراد دون أن يصيبوه بسبب عدم قراءتهم للكبار أصحاب الأساليب المونقة، بل ندرة قراءتهم أصلا وندرة مرانتهم على الكتابة الدقيقة، بَلْهَ الكتابةَ عموما، فتجىء تعابيرهم مهوَّشة لا تصيب المقصود عادةً إلا على سبيل المصادفة والشذوذ. وليس فى العربية التى نعرفها "دَلاَ فلان من نفس الدلو"، إذ الفعل: "دلا يدلو/ أَدْلَى يُدْلِى/ دَلَّى يُدَلِّى دلوه فى البئر" مثلا معناه: أنزله فى البئر للاستقاء. أما "دلا من نفس الدلو" فلا أدرى كيف تكون، إذ الدلو لا يُدْلَى من الدلو، بل يُدْلَى فى البئر.
ومن تلك الأخطاء المزعجة لديه أيضا قوله إن "الإنجيل ليس بالكتاب المنزل على شكيلة القرآن" (ص30. وقد تكررت مرة أخرى ص316، وكذلك عدة مرات فى الجزء الأول من الكتاب). ولا أدرى من أى وادٍ التقط "شَكِيلة" هذه، فالعرب إنما تقول: "شاكلة" كما فى القرآن مثلا: "قل: كلٌّ يعمل على شاكلته" لا "على شكيلته". أما إذا كان هناك كاتب أو شاعر عربى ممن تؤخَذ عنهم اللغة قد استعمل تلك الكلمة فلسوف أرجع عما قلته هنا، وأشكر من أرشدنى إلى ما كان غائبا عنى. وكان هشام جعيط، قبل ذلك فى الصفحة السادسة، قد ضبط الفعل الماضى: "بطل" بضم الطاء (هكذا: "بَطُلَ") غير دارٍ أن ضم الطاء يقلب معنى الفعل من البطلان إلى البطولة. وفى القرآن المجيد نقرأ قوله عز شأنه عن التقام عصا موسى لحبال سحرة فرعون: "فوقَع الحقُّ وبَطَلَ ما كانوا يعملون" (الأعراف/ 118). وكان يمكن أن يسكت صاحبنا "الهاجيوغرافيكالى" فلا يتعرض للفعل المذكور بضبط ولا ربط، لكن القدر أراد أن يكشف مقدار ما عنده من علم فوسوس إليه الشيطانُ أن يتحذلق فتحذلق، فكان ما كان.
والآن إذا كان هذا هو أسلوب هشام جعيط فى العربية فكيف يكون أسلوبه فى الفرنسية، التى ذكر فى مقدمة الجزء الأول من الكتاب، وعنوانه: "الوحى، القرآن، النبوة"، أنه فكر فى بداءة الأمر أن يؤلفه بها لكنه سرعان ما عدل عن تلك الفكرة؟ (ط2/ دار الطليعة/ بيروت/ مايو- أيار 2000م/ 7). الحمد لله أن دكتورنا "الهاجيوغرافيكالى" قد ثاب إلى رشده وصاغ كتابه بالعربية، فــ"نصف العَمَى ولا العَمَى كله" كما يقول المثل الشعبى!
وأطرف ما فى الموضوع أن السبب الذى حدا به إلى التفكير فى وضع الكتاب بالفرنسية هو أن "العربية فقيرة جدا فى كل ما هو مصطلحات فى الفلسفة والعلوم الإنسانية التى انتشرت فى الغرب لكثرة استعمالها وكثرة استيعابها" كما يقول! أرأيت كيف تتباهى القَرْعاء التى ليس لها شعر بجمال شعرها رغم ذلك بدلا من أن تكفأ على الخبر ماجورا ولا تفضح نفسها؟ اللغة العربية إذن فقيرة، وفقيرة جدا، ولا تستطيع استيعاب ما فى ذهن سعادته من أفكار ومصطلحات! واضح يا دكتور! واضح جدا! الحق أنك تذّكرنى برجل صرعه غريمه على الأرض وبرك فوق صدره وأشل حركته فلم يعد يستطيع أن يفلفص منه وضاعت كرامته تماما بعد أن حطه تحطيما، إلا أنه مع ذلك كله لا يكف عن الصياح طالبا من المشاهدين الذين انفضح أمامهم أن "يشيلوا من فوقه" ذلك الغريم حتى يتمكن من ضربه! ولكن الدكتور يعرف رغم هذا مستواه الحقيقى فى القدرة على التعبير بالعربية فنراه يلمح إلى أن كتابات أمثاله بالعربية فى هذه الحالة عرضة لأن تكون مبهمة وأن يسمها القراء بأنها أجنبية، إلا أنه يسارع مؤكدا أن ذلك ليس من العيب فى شىء (ج1/ ص8). طبعا، فأنت رجل لا تعرف العيب!
ومن تلك الأخطاء التى لا يقع فيها طالب مبتدئ، فضلا عن أستاذ جامعى لا يعجبه العجب ويدخل علينا وقد فتح صدره مثل "شجيع السِّيمَا، أبو شَنَب بَرِّيمة" وكأنه سيفتح عكا، قوله عن الرسول: "فكَوْنُ أبوه مات وأمه حامل به يصعب قبوله" (ص146)، جاهلا أنها "أبيه" لا"أبوه" لأنها مضاف إليه. ومن ذلك أيضا قوله: "بقدر ما كانت مكة ضيقة فضائيا بقدر ما اتسعت بكثرة وكثافة سكانها" (ص161، وانظرص213، وكذلك ص41 من الجزء الأول)، مكررا كلمة "بقدر ما" فى هذا التركيب غير دارٍ أنها لا تكرر، بل الصواب أن يقال مثلا: "بقدر ما كانت مكة ضيقة فضائيا فقد اتسعت بكثرة وكثافة سكانها". وأمثاله ممن لا يعرفون كيف يتعاملون مع اللغة يكررون أيضا كلمة "كلما" القريبة فى المعنى فيقولون مثلا: "كلما عملتَ ساعات أطول كلما كسبتَ مالا أكثر"، قياسا غبيا على التركيب الإنجليزى والفرنسى التالى: "The more one has, the more one wants\ Plus on a, plus on désir avoir"، وكأن العرب لم يكن عندهم هذا التركيب قبل الإنجليزية والفرنسية بأحقاب وأحقاب. بل لقد وجدتُ فعلا كلمة "كلما" مكررة عنده مع فعل الشرط وجوابه فى الصفحة 45 من الجزء الأول ، إذ قال: "كلما تقدم الزمن كلما تضخم دور الحديث فى التشريع".
وهذا المستعجم لا يستطيع أن يقول مثلا إن للمسيحية ثقلها الكبير على بلاد العرب، بل كل ما يقدر عليه هو أن يقول إنها "تَزِن بوَزْنٍ كبير على المنطقة" (ص162. وقد ورد هذا التعبير أيضا فى الصفحة رقم 96 حيث يقول إن "أوربا، وهى طليعة الإنسانية، طردت كل القوى الخفية التى وزنت بوزن كبير على البشر من آلهة وشياطين وأرواح وملائكة"). ترى ما دور الأعاجم فى معاونة الرجل وتحبير صفحات كتبه؟ لقد رآها عندهم هكذا: "peser lourdement sur…\ to weigh heavily upon…"، فترجمها على معناها المادى الأصلى دون فهم للسياق، وهذا أقصى مداه، فكله عنده صابون. مسكين! وقد سبق أن استعملها فى رأس الصفحة السابعة والعشرين من الجزء الأول، إذ قال: "إن تاريخ الأديان كتاريخ لا يزن بوزن يُذْكَر أمام مجال المعتقد ذاته"، ثم أعادها على سبل التأكيد فى أسفل الصفحة ذاتها مع بعض التغيير: "هناك وَزْن تاريخٍ طويلٍ جدا... أتى من الغياهب". ومن تلك الأخطاء المستعجمة قوله عن مفهوم الفارقليط: "إن مفهوم الباراكلبتس كان لا بد من قبل منشغلا فى ذهن النبى... كما انشغل فى ذهن مانى قديما" (ص166). أرأيتم إلى هذه الدُّرَر؟ إنها المرة الأولى، ولسوف تكون الأخيرة، التى أسمع فيها بفكرة تنشغل فى ذهن صاحبها! إنجليزى ده يا مرسى؟
ومن عجمته أيضا تسميته الإسلام: "دين التوحيدية" (ص202)، وقوله تفسيرا لاعتراض المشركين على اختيار الله سبحانه للرسول بدلا من "رجل من القريتين عظيم" بأنه عليه الصلاة والسلام "لم يكن شيئا اجتماعيا" (ص208)، وكذلك جَمْعه كلمة "نواة" على "نواتات" (ص213)، ثم ذلك التركيب العجيب الذى لا أذكر أننى رأيته عند أحد سوى هشام جعيط: "وإنْ نحن نجدها فى "المزَّمِل" ففى الآية 20 الأخيرة" (225). ترى هل يصعب عليه إلى هذا الحد أن يقول: "وإنْ (نحن) وجدناها..."؟ وقد تكرر هذا التركيب الشاذ مرة أخرى على الأقل فى قوله: "وإن هى (أى آلهة القرشيين) لا تتماهى معها (أى مع الملائكة) فهم يعترفون بوجود الملائكة" (ص280). ومن الأعجميات عنده كذلك التركيب التالى الذى يستعمل فيه "إنما" فى جملة اسمية بدون اسم "إن"، وهو ما لم أسمع به من قبل فى الفصحى لا عند كاتب محترم أو غير محترم: "وإسلام أهل مكة المزعوم إنما مرتبط بالغرانيق" (ص227)، وقوله عن المطعم بن عدى إنه "لم يُذْكَر إلا بقلّة، والأقرب عن خطإ، فى قوائم أصحاب الجدل والمعاداة" (ص232)، وهو كلام أشبه برُقْيَة النملة. ومنها قوله عن قصة الغرانيق: "ومفادها بكلمة أن الشيطان حسب التقليد ألقى على لسان النبى آيتين فى مدح آلهة قريش..." (ص272)، والمقصود بــ"التقليد" روايات السيرة والحديث النبوى طبقا لرطانة ذيول الاستشراق، إذ هى ترجمة حرفية قميئة لمصطلح "Tradition"، الذى يستخدمه المستشرقون، بمعنى "السُّنّة" و"التراث" وما أشبه. وهناك كذلك قوله عن تأثر الأسرة، أىّ أسرة، بظهور الرجال العظام فيها أو عدمه: "هل يزن الوسط العائلى بوزنه فى انبثاق شخصية عظماء الرجال أم يزن نقضا؟" (ص254). وهو كلام ككلام شمهورش غير قابل للفهم. وأما قوله إن القرآن هو "من قلة المصادر الدينية الصحيحة التى صورت واقع النزاع القائم" (ص255) فهو كلام خواجات يُقْصَد به أن القرآن هو من تلك المصادر القليلة. ثم نجىء إلى قوله على طريقة العَوَامّ: "هم فى حالة عداء مستمر بين بعضهم" (ص300)، بدلا من "... بين بعضهم وبعض"... إلخ.
وبالنسبة للمنهج الذى يذكر جعيط أنه سيتبعه فى كتابه نراه يقول، فى مفتتح الفصل الأول من الجزء الثانى، عن الروايات المتعلقة بالسيرة النبوية فى كتب التراث إنه "لا بد للمؤرخ من نقدها وفحصها بكل دقة، فلا يمكن تغليب رواية على رواية أخرى حسب الأهواء أو لإثبات فكرة كما فعل كثير من المؤرخين المحدثين، بل يجب على المؤرخ أن يتجنب تصديق المصادر بدون رويّة بقدر ما يتجنب الإجحاف فى النقد والرفض بدون حجج. والمصادر خاضعة بالأساس للمنطق التاريخى".
لكن هل اتبع دكتورنا "الهاجيوغرافيكالى" الهمام النصيحة التى شنَّف آذاننا بها؟ لنأخذ مثلا تشكيكه السخيف فى قرآنية قوله تعالى: "وأَمْرُهم شُورَى بينهم" فى الآية 38 من سورة "الشورى" بشبهة أنه لا يناسب السياق الذى ورد فيه (ص22- 23)، ومن ثم يزعم أن تلك العبارة هى مما أُقْحِم على القرآن فيما بعد عند كتابته للمرة الرسمية الثالثة فى عصر عثمان، ولم "يَبُحْ" بها النبى، حسب رطانة الدكتور جعيط، الذى لو كان لديه شىء من الحس السليم لفهم أنه بهذه الإمكانات اللغوية المتواضعة بل الوضيعة ما كان ينبغى له أن يتغشمر فى كلامه عن كتاب الله على هذا النحو الجاهل. وأحب أن أقول للقارئ إن ريجى بلاشير، المستشرق الفرنسى الذى أعمى الله بصره فى أخريات حياته مثلما أعمى قبلا بصيرته، كان من شِنْشِنَته الزعم بأن هذه الكلمة أو تلك العبارة لم تكن فى النص القرآنى الأصلى، بل أُقْحِمت عليه فيما بعد. والمقصود من كلام جعيط عن آية الشورى، حسبما أشار هو نفسه عقيب ذلك، أن عثمان قد أضاف هذه العبارة من لدنه كى يضفى الشرعية على تبوُّئه الخلافة. وكأن الشورى تحتاج إلى تبرير، وهو ما يعنى أن الأصل فى أمور الحكم حسبما قرره القرآن وطبقه الرسول هو الاستبداد وقفز كل طامح مغامر على كرسىّ السلطة عَنْوَةً ودون اعتبار أو انتظار لرأى الناس الذين سيحكمهم، فكان لزاما على عثمان أن يضيف إلى القرآن جملة تقول إن الشورى يا مسلمون يا متخلفون هى أمر طيب، ومن ثم فلا وجه لاعتراضكم على الأسلوب الشُّورِىّ الذى وصلتُ به إلى الإمساك بمقاليد أموركم. أليس ذلك أمرا مضحكا؟ فهذا هو مستوى"هاجيوغرافيكاليّنا" اللوذعى فى الفهم والتبرير وقراءة النصوص.
طيب يا دكتور جعيط، سأحاول أن ألغى عقلى وأنزل إليك وأقول: فليكن أن عثمان قد فكر بهذه الطريقة. أليست هناك آية قرآنية صريحة فى وجوب الأخذ بالشورى، وصيغت على نحو أشد وأفعل فى النفوس، وهى الآية رقم 159 من سورة "آل عمران" الموجهة إلى النبى ذاته لا إلى المسلمين بوجه عام، وبصيغة الأمر لا بصيغة الخبر كما فى الآية التى نحن بصددها، وبعد هزيمة أحد التى تمت بعد مشاورة النبى لأصحابه ونزوله على مقتضيات الشورى وخروجه لملاقاة المشركين خارج المدينة حسب رأى الأغلبية فكان ما كان، ورغم هذا يوجب عليه ربه أن يلتزم بالشورى مع المسلمين فى كل الأمور؟ وهذه هى الآية: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ". فلماذا شعر عثمان يا ترى أنه لا بد اختراع آية للشورى، وعنده تلك الآية؟ وكيف سكت المسلمون على بكرة أبيهم فى كل بلاد العرب والمسلمين فلم ينكروا ذلك عليه رضى الله عنه؟ وأين كان علىّ كرم الله وجهه؟ بل أين الشيعة منذ ذلك اليوم حتى يومنا الأغبر هذا؟ لكن على من تُلْقِى مزاميرك يا أبا خليل؟
وبالمناسبة فالقرآن عند الدكتور جعيط "مطبوع بطابع عبقرية شخصية ملهمة فى الفكر والتعبير، فى المعانى الميتافيزيقية، فى قوة الإيحاء" (ص25). ولا أظن المعنى إلا واضحا لا يحتاج أى تدخل منى لشرح مقصد الكاتب. ويزداد الأمر عجبا وغرابة حين نرى كاتبنا "الهاجيوغرافيكالى"، رغم ذلك، يؤكد أنه من غير الممكن أن يكون القرآن قد تعرض لأى تغيير فى نصوصه لما له من قداسة شديدة فى نفوس المسلمين ولأنه كان محفوظا فى الصدور والطروس جميعا ويردده الناس فى كل صلاة ويرجعون إليه دائما فى تشريعاتهم بحيث لا يمكن أن يعتريه أى تغيير دون أن يثير ضجيجا وعجيجا يهتز له المسلمون فى كل مكان. عظيم (ص22- 23)، فما المشكلة إذن؟ وكيف يتسق هذا والقول بأن القرآن قد دخلته بعض الإضافات؟ حسبما هو مخطط فسوف يردّ بعض القراء قائلين إن هشام جعيط قد بذل جهدا عظيما ورائعا فى الدفاع عن صيانة القرآن من العبث والتحريف، فلا يعيبه أن يقال إنه قد أُقْحِمَتْ عليه جملة ليست منه لا تقدم ولا تؤخر، جملة صغيرة لا خطر من ورائها، وممن؟ من عثمان ختن النبى وأحد أقرب صحابته إلى قلبه وأحد العشرة المبشرين بالجنة، يا داهية دُقِّى! بالإضافة إلى بعض الحالات المحتملة الأخرى التى سقط من القرآن فيها بعض العبارات أو أضيفت إليه بعض العبارات الأخرى أو كُرِّرَتْ على سبيل الخطإ بعض الآيات أيضا كما ذكر هو نفسه (نفس الموضع السابق). وهنا الخطر كل الخطر، إذ يكفى أن نفتح الباب حتى لو كان مجرد مواربة، فالمهم أنه لم يعد محكم الإغلاق بحيث يكون من السهل بعد هذا دفعه دفعة بسيطة كى ينفتح على مصراعيه، بخلاف ما لو ظل مغلقا بالترابيس المحكمة التى لا تسمح لأحد أن يفتحه. نعم هذا هو المخطط! وأظن القارئ قد فهم عنى دون حاجة إلى أن أعاود الشرح!
وقد سبق إلى ذهنى، قبل أن أتنبه إلى أن من بين مراجع د. جعيط ترجمة بلاشير للقرآن، أن يكون قد أخذ كلامه عن الآية من ذلك المستشرق الذى خصصت لترجمته فصلا فى الباب الأول من كتابى: "المستشرقون والقرآن" ووقفت إزاء هذا الزعم الأحمق عنده مرات مبينا ما فيه من سخف وضلال وبعد عن العلمية والموضوعية التى يتشدق بها مولانا المستشرق وأمثاله. ولهذا قمت الآن فأحضرت ترجمة بلاشير من الصوان القريب منى حيث أكتب هذه الدراسة، وفتحتها على الآية المذكورة فألفيته يقول إن الطبرى يفسرها بأنها تتحدث عن مشاورات الأنصار بخصوص هجرة النبى عليه الصلاة السلام إليهم والعيش معهم فى يثرب، ثم يضيف أن مثل هذا التفسير لا يتمشى مع السياق (Blachère, Le Coran, Librairie Orientale et Américaine, Paris, 1957, P. 515, N. 36). وهذا ما قاله جعيطنا حَذْوَك النعل بالنعل، إلا أنه ككل تابع مخلص أمين فى تبعيته قد أضاف ما هو أشنع. ذلك أن بلاشير قد اكتفى بأن المراد فى الآية هو المشاورة اليومية فى كل مناحى الحياة لا فى أمر الهجرة فحسب، أما جعيطنا فأراد أن يكون كلامه من النوع الحراق المشطشط فأشار إلى عثمان ووصوله إلى الخلافة عن طريق الشورى. طبعا حتى يثبت لمتبوعيه أنه مخلص لهم وأمين وأنه يستحق الطنطنة التى يُحْدِثونها له يلفتون بها الأنظار إلى عبقريته التى لم تلدها ولادة؟
ولأنه عبقرى لم تنجب النساء مثله فهو ليس بحاجة إلى أن يقدم دليلا على ما يقول ولا أن يتجشم البحث عن حجة يسند بها هراءه هذا المتمخط، وإلا فلماذا لم يقل لنا كيف لا تتسق الجملة المذكورة مع السياق الذى وردت فيه؟ كنا نحب أن يكلف نفسه شيئا من التعب فيذكر لنا الحيثيات التى قال على أساسها ما قال. لكنه فى الواقع لا يعرف شيئا عما يهرف به. إنما هو كلام نقله من بلاشير، ثم أضاف إليه ما أضاف، وربما كان ما أضافه هو رأيا لمستشرق آخر لم يُكْتَب لنا أن نطلع عليه لأنه لم يسجله فى كتاب مثلا، بل اكتفى بأن ألقاه إلى صاحبنا وترك له مهمة نشره فى العالمين.
وحتى لا يظن أحد أننا نغالى بعض الشىء فى كلامنا عن هشام جعيط أرانى مضطرا إلى نقل عبارة له تكشف موقفه هنا بوضوح، إذ قال فى مقدمة الجزء الثانى من كتابه (ص8) إنه "لا معنى لانتقاد الاستشراق ما دام العرب والمسلمون لم يقوموا باستكشاف ماضيهم بأنفسهم باتخاذ المناهج المعترف بها عالميا"، وهو ما يعنى أنه لا بد أن نكون نسخة أخرى من المستشرقين، وإلا فليقل لى أحد كيف نصنع ما يطالبنا به جعيط، وبالشرط الذى اشترطه، إلا أن نكون نسخة أخرى منهم؟ أليسوا هم واضعى المناهج التى يصفها بــ"المناهج المعترف بها عالميا"؟ ويزيد الطينَ بلّةً قوله قبيل هذا عن العرب والمسلمين إنهم "أناس لهم عادةً رؤية مسبقة مستقاة من التربية الدينية ومن الجهاز الثقافى لكل فرد" (ص7)، بما يعنى أن هذه سمة من سماتنا نتميز بها عن غيرنا، وبالذات الأوربيون الموضوعيون المجردون من مثل تلك التأثيرات، مع أنه سرعان ما يقول عقب هذا إن الرأى العام الغربى، ومعه بعض المستشرقين، متأثر بتراث سلبى عن الرسول. إلا أنه يصف الغربيين رغم ذلك، وفى نفس الموضع، بأنهم هم الذين أسسوا العلم الحديث فى كل مكان وتقدم على أيديهم علم التاريخ تقدما بالغا. ثم تأخذه حالة الجلالة التى تعترى بعض الدراويش فيعلن بملء فيه، وبكل جسارة "هاجيوغرافيكالية" تليق به وبعبقريته الاستبصارية، أن أوربا فى العشرين سنة التى سبقت بداية القرن العشرين وتلك التى تلتها قد تم لها الانفتاح على كل شىء فى الحياة واستكشاف كل شىء تقريبا فى المعرفة والفن (ص10). ولم يفته، وهو يتطوح من الوجد "الهاجيوغرافيكالى" كأى درويش أصيل، أن يسمى تلك الفترة بــ"اللحظة المذهلة فى الحقيقة"! وهو كلامٌ جنونىٌّ بكل يقين، إذ معناه أن البشرية إنما تلعب الآن فى الوقت الضائع وأن حَكَم المباراة سيطلق صفارة النهاية بين لحظة وأخرى لينفض السامر ويذهب كل حى إلى حال سبيله. ترى أين ينبغى أن نضع هذا الكلام "الهاجيوغرافيكالى"؟ الحق أن مكانه هو أقرب مزبلة!
وبعد هذا كله نجده ينتقد كثيرا من كتابات المستشرقين فيرمى بعضها بأنه ليس من العلم فى شىء (ص11)، وينبز بعضها الآخر بالعدوانية (ص13)، ويحكم على بعض ثالث بأنه لا يمثل "سوى عدم الشعور بالمسؤولية العلمية" والانفلات من العقال والابتعاد عن الصرامة المنهجية التاريخية (ص14)، وهو ما يحير الباحث المسكين من أمثالنا غير "الهاجيوغرافيكاليين" فلا ندرى أنغلق الشباك الاستشراقى أم نفتحه. حيرك الله يا دكتور جعيط كما حيرتنا ودوختنا وراءك "السبع دوخات" دون أن تستقر بنا على حل!
وعودةً إلى ما زعمه عن الآية المذكورة نقول إن المضحك فى الأمر هو ترديده لزعم عدم اتساق عبارة الشورى مع سياقها بثقة من يفقه العربية ويستطيع تذوق أساليبها فيعرف ما يتسق منها وما لا يتسق، على حين أنه فى الحقيقة أبعد ما يكون عن ذلك تمام البعد. عشنا وشفنا واحدا ركيك العبارة كهشام جعيط يفتى فى القرآن فينفى من نصوصه ويثبت، وعنده أم الكتاب. فسبحان أبى جهل! يا رجل، عيبٌ ما تفعل. اذهب أولا فتعلم لغة القرآن، ثم تعال بعد ذلك واجلس منه مجلس التلميذ "الذكى" الذى يريد أن يزداد من العلم لا أن يتمرد حتى يرضى عنه قوم آخرون لعنة الله عليهم وعلى من يصيخ السمع إليهم ويعمل على إرضائهم ويفرح بما يقولونه فيه رغم أن ما يقولونه ليس إلا الجهل والخبث بعينه يُثْنُون به على تابع لهم ينعق بما ينعقون به لا يخرج عنه، وإن كان ينعقه أحيانا بطريقة تبدو مختلفة، إذ يرسمون له خطوطها العامة ويتركون له التفاصيل. واضح، يا دكتور جعيط، أن كلامك فى أول الفصل عن وجوب وزن الروايات التاريخية جيدا والترجيح بينها فى تجردٍ من الهوى هو مجرد كلام لم تنتفع أنت به، بل كنت أول من أدار له ظهره من الناس ولم يمر على قولك إياه إلا ثوانٍ ليس إلا. ويزيد الأمر فداحة أنه ليس أمامنا فى الآية المذكورة إلا رواية واحدة، وهو ما يعنى أنك قد اختلقت المخالفة هنا اختلاقا، ولم يكن رأيك مبنيا على موازنتك بين روايتين أو أكثر والترجيح بينهما واختيار واحدة دون الأخرى بناء على ما أداك إليه عقلك وتفكيرك، بل هو مجرد نقل لما قاله بلاشير مع تتبيله بالشطة السودانية الحراقة.
وبالمثل فقوله إن من المحتمل أن تكون بعض الآيات القرآنية قد كُرِّرَت على سبيل الخطإ ليشبه ما قاله الشيخ أبو بكر حمزة، الجزائرى الذى كان شيخا للمعهد الإسلامى التابع لمسجد باريس والذى ترجم القرآن الكريم إلى لغة الفرنسيس، حين وقف إزاء الآية رقم 52 من سورة "الأنفال" وكأنها معضلة مؤرقة تطير النوم عن جفنيه مدعيا أنها ليست سوى تكرار للآية التى قبلها بآية، وأن جامعى القرآن على عهد عثمان رضى الله عنه قد وصلتهم روايتان مختلفتان لآية واحدة، فلما لم يستطيعوا أن يحددوا أيتهما هى الصحيحة، وأيتهما هى الخاطئة، اضطروا إلى إثباتهما معا فى المصحف وخرجوا بذلك عن العهدة (Le Cheikh Si Boubakrur Hamza, Le Coran- Traduction Nouvelle et Commentaires, Fayard-Denoel, Paris, 1972, T. 1, PP. 361- 362، بالهامش). وهو كلام كاذب لأنه ليس ثمة أحد قال بوجود روايتين مختلفتين هنا لآية واحدة، بل هو ادعاء ساقط من عنديات شيخنا الهمام كادعاءات جعيط، فضلا عن أن الآية الثانية ليست تكرارا للأولى بأى حال، وفضلا كذلك عن أن القرآن ملىء، ككثير جدا من النصوص العلمية والأدبية والمقدسة، بالجمل والعبارات المتكررة، فلماذا هذه من دون مثيلاتها جميعا هى التى أسهرت ليالى أبو بكر حمزة وجعلته يقضى عمره يتقلب على فراش الشوك لا يستطيع أن يهنأ بغمض جفنيه ولو لحظة؟ إنها ذات الخطة. نعم إنها ذات الخطة حتى يبتلع القارئ المسكين السم المدسوس فى العسل ويتوهم أن المترجم المخلص الأمين قد بذل كل جهده لحل المشكلة عبثا وأنه حين قال ما قال لم يكن أمامه إلا هذا. وإلا فلماذا لم يقل ذلك فى غيرها من الآيات المشابهة والمتطابقة؟ إنها طبعا الأمانة العلمية ولا شىء غير الأمانة العلمية. ويمكن القارئ أن يعود إلى ما كتبته تفصيلا فى هذه النقطة فى الفصل الرابع من الباب الأول من كتابى: "المستشرقون والقرآن- دراسة لترجمات نفر من المستشرقين الفرنسيين للقرآن وآرائهم فيه" (دار القاهرة/ القاهرة/ 1423هـ- 2003م/ 87- 89)
وهذا نص الآيتين فى سياقهما كاملا حتى يطمئن القارئ إلى ما نقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)".
ومثل ذلك فى السخف تشكيك جعيط فى العام الذى وُلِد فيه النبى دون أدنى حجة أو رواية يمكنه الاعتماد عليها فى وجه الروايات المتعددة التى تؤكد أنه صلى الله عليه وسلم ولد عام 570م. على أية حال تعالَوْا بنا نَرَ ماذا فى جعبة عالمنا "الهاجيوغرافيكالى". قال: "لم يولد محمد فى رأيى قبل سنة 580م أو حواليها أو بعدها، وكل ما ذُكِر عن سنة 570م لا يصمد أمام الفحص لسببين: هجمة أبرهة على العرب وقعت فى سنة 547م حسب النقوش، ولا يوجد أى سبب لكى يولد محمد على أية حال "عام الفيل". وهذا إنما هو علامة زمنية ليس أكثر. من وجهة أخرى إن صح أن البعثة حصلت حوالى 610م وأن الهجرة إلى المدينة وقعت قطعا فى سنة 622م حسب شهادة أوراق البردى التى لدينا، فلماذا تقرر المصادر أنه بُعِث فى الأربعين من عمره؟ إجماعها حول هذه النقطة لا قيمة له، فسِنُّ الأربعين فى ذلك الزمان سنُّ شيخوخةٍ، وليس بسن كهولة، وقد قضى النبى فيما بعد عشرين سنة أو أكثر وهو فى كامل نشاطه. ورقم الأربعين رقم سحرى لدى الساميين، وقد حللنا هذا فى الجزء الأول. ومن المستغرب أن يشير القرآن إلى هذه السن على أنها السن التى يبلغ فيها الإنسان أَشُدّه: "حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ" (الأحقاف/ 15). ما معنى هذه العبارة؟ وهل المقصود قراءة خاطئة أو شىء آخر؟ على كلٍّ رأيى أن كتب السِّيَر، زيادة على ما شُحِنَتْ به سن الأربعين من معنى دينى سحرى، اعتمدت أيضا على آية قرآنية تقول: "فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ" (يونس/ 16). ما المقصود بالعمر؟ حياة كاملة أو ما يشبه ذلك؟ فى الثقافات القديمة هى ما نسميه بالجيل، والجيل عدد السنين الكافية جسديا لكى ينجب الإنسان وتنجب بذرته، أى ابنه، إنسانا آخر. وهو يعنى سن الثلاثين أو ما يقارب ذلك. لكن هذه السن أيضا أخذت طابعا شبه سحرى: فالإسكندر غزا العالم فى سن ثلاثة وثلاثين، والمسيح بُعِث فى الثلاثين. على أنه لا شك فى أن "العمر" فى الفهم العربى يعنى ذلك لأن الناس يتزوجون عند البلوغ أو بعد ذلك بقليل. وهذه السن عالية نسبيا على أية حال، ويكتمل فيها نضح الإنسان. وبالتالى رأيى أن محمدا بُعِثَ فى الثلاثين أو حتى قبل ذلك، ولم يولد إلا حوالى 580م، ولم يعش إلا خمسين سنة ونيف" (143- 144. والموضع الذى أشار إليه فى الجزء الأول من الكتاب هو ص119).
وأولا أحب أن ألفت النظر إلى الخطإ فى قوله: "لم يعش إلا خمسين سنة ونَيِّف"، وصوابه: "ونَيِّفًا" لانعطافها على الظرف المنصوب، وهو كلمة "خمسين (سنة)"، وكذلك إلى الركاكة العامية فى قوله عن الإسكندر إنه قد غزا العالم "فى سن ثلاثة وثلاثين". إن هذا كلام سوقى لا يصلح أن يقوله كاتب محترم. وكل من له أدنى تذوق للعربية يقول: "فى سن الثالثة والثلاثين"، أما ما قاله هشام جعيط فهو من كلام الشوارع العامى!
وثانيا لا بد من التنبه إلى أنه لن يترتب شىء على الإطلاق على كون النبى وُلِد فى هذا العام أو ذاك، فلماذا يرهق هشام جعيط نفسه إذن ويرهقنا ويزعجنا معه فى مخالفة ما هو مُجْمَع أو شبه مجمع عليه؟ إنها الرغبة فى إفقاد القارئ العربى والمسلم الثقة فى تاريخه وسيرة نبيه وقرآنه وعلمائه وكل تراثه. إنها الشهوة الجامحة الجاهلة فى خلخلة ما هو صُلْبٌ مستقرّ ثابت لا لكى يحرك الأذهان الجامدة كما سوف ينعق بما لا يفهم، بل لكى يترك هذه الأذهان وقد شكَّتْ فى كل شىء ورأت الضياع مكشرا عن أنيابه فى وجهها يريد أن يفترسها. الروايات، كما يقول، تُجْمِع (خذ بالك: تُجْمِع!) على كذا وكذا من الأمور، لكن علامتنا الفهامة يقول: طظ فى هذا الإجماع. والسبب؟ السبب هو أن له رأيا آخر. وعلام يستند رأى "أبِى رأىٍ" هذا؟ لا يستند إلى شىء. إذن فماذا نقول فى القرآن، وهو يقرر أن سن الأربعين هى سن تمام القوة والنضج؟ بسيطة! وهل جئتَ فى جمل يا رجل؟ نقول إن قراءة الآية غير صحيحة. لكن كيف؟ يا أخى، هذا أمر من التفاهة بمكان بحيث لا ينبغى لجلالته أن يشغل نفسه بها. وهل يليق بمن فى مثل مكانته جل جلاله أن يتنزل إلى مثل تلك الأشياء التافهة؟ وماذا يضير أن تكون الآية صحيحة القراءة أو خاطئتها؟ أرجو أن يلاحظ القارئ الكريم أن هشام جعيط ينكر صحة الروايات التى أجمعت، كما يقول، على ولادة النبى فى التاريخ الذى نعرفه، وأنه لا يستند فى هذا الإنكار إلى أى شىء سوى أنه يرى ذلك، وكأن الأمر هنا هو مجرد وجهة نظر طَقَّتْ فى دماغه دون سبب، وأنه لما رأى آية قرآنية تعترض طريقه المتعسف لم يجد أمامه شيئا يرد به سوى أن الآية خاطئة القراءة أو أى شىء من هذا القبيل. وهذا هو العلم الذى بشرنا به فى المقدمة زاعما أنه سيأتى بما لم يأت به الأوائل ولا الأواخر ولا الأواسط. طبعا لا يمكن أن يأتى عاقل يحترم نفسه ويحترم المنهج العلمى بمثل ما أتى به هشام جعيط. ذلك أن ما أتى به هشام جعيط ليس علما ولا منهجية، بل تطاولا وغلظ وجه! فمثل هذا الشخص حين يقال له: ما الدليل على أن رقم الأربعين رقم سحرى؟ أو من قال لك إن العمر هو الجيل؟ أو على أى أساس قلت إن الجيل هو ثلاثون عاما أو أقل؟ أو ما وجه الخطإ فى قراءة الآية؟ فإنه لا يقدم دليلا على ما يزعم! إنما هو كلام، والسلام، وكأننا فى مغالبة ومغايظة. وما هكذا يكون العلم ولا المنهجية التى يفلقنا هو وأمثاله بالثرثرة الفارغة المتنطعة حولها. وعلى هذا النحو لا يمكنك أن تمسك بشىء مما يقوله هشام جعيط لأنك تتعامل مع زئبقٍ رجراجٍ لا يستقر على حال!
وقد رجعت إلى"لسان العرب"، الذى اعتدَّه هو نفسه أحد مراجع السيرة المعتمدة (ص15)، لعلى أجد أن كلمة "العمر" تعنى الجيل من الناس كما يزعم صاحبنا "الهاجيوغرافيكالى" ولو على سبيل المجاز فلم أجد شيئا من ذلك التنطع السمج. وأزيده من الشعر بيتا فأقول له إن كلمة "جيل" لا تدل فى لغة القدماء على ما يقول، بل "الجيل" عندهم هو الصنف من البشر: فالصينيون مثلا جيل، والعرب جيل، والروم جيل، والترك جيل، أو هو كل قوم لهم لغة خاصة بهم. وواضح أن "الجيل" إنما يعنى شيئا قريبا من الشعب أو الأمة كما نعرفهما اليوم. ومعنى هذا أن الله قد ضرب على الدكتور جعيط الأسداد من كل جانب. إلا أننى لا أنتظر منه أن يفىء إلى الحق، وإن لم يكن ذلك على الله ببعيد، والله المستعان على كل حال.
ترى ما مصلحة المسلمين فى أن يزعموا كلهم على بَكْرة أبيهم أن نبيهم إنما بُعِثَ فى الأربعين إذا كان قد بُعِث فى الثلاثين؟ أو ترى ما الخوف الذى دفعهم جميعا من هاشميين وأمويين ومنافقين ومرتدين، ومن مكيين ومدنيين وطائفيين ويمنيين ونجديين وبحرانيين وعمانيين، ومن عرب وغير عرب، على مر القرون إلى تغيير تاريخ البعث الحقيقى؟ ثم إن جعيط قال إن سن الثلاثين هى كذلك ذات طابع سحرى، ومع ذلك يقول إنه عليه السلام قد بُعِثَ فى سن الثلاثين. فلماذا كانت حلوةً منه، ومُرّةً من الأقدمين؟ العلة تكمن فيما قلته قبل قليل من أن مراده هو خلخلة الثقة ونسف الاطمئنان إلى أى شىء يتعلق بديننا ورسولنا وقرآننا وتراثنا، وكل شىء بعد ذلك يهون. ثم لماذا ينبغى ألا يولد النبى فى عام الفيل كما يقول؟ أهو ضد قوانين الكون؟ ألا يرى القارئ سخف منطق هذا الرجل؟ والمضحك العجيب أن ولادة النبى سنة 570م لا تجعل مجيئه إلى الدنيا متوافقا وعام الفيل حسب تحديده لتاريخ ذلك العام، الذى أكد أنه حل قبل ذلك بثلاثة وعشرين عاما، ومع هذا يصر على أنه صلى الله عليه وسلم لم يولد فى سنة 570م. أى أنه لن يرضى عن شىء ولن يسلّم بأى شىء مما أجمعت عليه الروايات حتى لو انطبقت السماء على الأرض! كذلك من أين له بأن سن الأربعين كانت فى ذلك الزمان سن شيخوخة؟ فليأتنا بأثارة من علم إن كان من الصادقين. ولا أظنه يريد أن يقنعنا بأن العرب فى ذلك الزمان كانوا إذا ما بلغ الواحد منهم الأربعين ينحنى ظهره ويشيب شعره ويهرم ويحال إلى الاستيداع، فينكفت فى كسر بيته قائلا: "هيه! يا للا حسن الختام!"، انتظارا لمجىء أحد العساكر ببندقيته ليطلق عليه رصاصة الرحمة كما يفعلون مع خيل الحكومة!
المعروف، بالعكس من ذلك، أن سكان البوادى كثيرا ما تطول أعمارهم أطول من سكان الحضر لهدوء حياتهم وبساطة أطعمتهم وابتعادهم عن الضغوط العصبية وعدم تعرضهم للملوثات الهوائية والمائية والطعامية والأمراض والأوجاع التى يصعب علينا الآن نحن أهل الحضر تجنبها تماما. وهو ذاته رغم كل الهلس والهجس الذى صدَّعنا به يقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم إنه عاش بعد المبعث عشرين عاما وهو فى كامل قوته ونشاطه. وهذا ينسف كل ما قاله، إذ ما دام الناس فى ذلك الزمان يشيخون بالسرعة التى ذكرها، وهى سن الأربعين، فكيف ظل شيخ كالنبى فى كامل قوته ونشاطه لمدة بضع عشرة سنة أخرى، أى منذ أن بلغ الأربعين بعد بعثته بعشر سنوات طبقا لحسابه الحلمنتيشى؟
ولأبى حاتم السجستانى كتاب مشهور عنوانه: "الوصايا والمعمَّرون" نقرأ فيه أن ثمة ناسا فى الجاهلية طالت أعمارها طولا شديدا حتى لقد تجاوز عمر البعض منهم ثلاثمائة سنة. ولست آخذ هذا على حرفيته، إلا أن تكرار الكلام فى هذا الموضوع يؤكد أن طول العمر فى تلك الأزمان كان أمرا صحيحا. وهناك من عاشوا فى زمن النبى أكثر من مائة عام، ولم يكونوا يثيرون استغراب من حولهم، ومنهم النابعة الجعدى، الذى أكتفى هنا بذكره لأن لى كتابا عنه وقفتُ فيه أمام مسألة السن هذه وناقشت بعض المستشرقين الذين أنكروا عليه طول العمر، وإن لم أذهب إلى المدى البعيد الذى ذهبت إليه بعض الروايات المغالية. بل إنّ تزوُّج الشيوخ وقتذاك بفتيات صغيرات كان أمرا مألوفا، ولو كانت الشيخوخة والعجز يبدآن فى الأربعين على ما يزعم الدكتور جعيط لما رأينا أولئك الشيوخ يجرؤون على الزواج فى تلك السن، فضلا عن أن تكون الزوجة فتاة شابة! بل لقد كان الشيوخ أقوى من كثير من شباب اليوم على تحمل ويلات الحياة ومشقاتها دون شكوى، وبخاصةٍ ويلات الحرب والجوع والعطش والسفر الطويل المرهق والعمل اليدوى المضنى. وما زلنا فى عصرنا هذا نسمع بناس قد تجاوزوا المائة، فما بالنا بتلك الأزمنة؟ وفى موسوعة جينيس العالمية للأرقام القياسية نقرأ أن فى العصر الحديث من عاش 122 سنة و146 يوما، وهى جين لويز كالمون (Jeanne Calment)، الفرنسية التى عاشت من 12 فبراير 1875م إلى 4 أغسطس 1997م.
ومن المحتمل أن يكون ناس فى الأزمنة القديمة قد عاشوا أطول من 122 عاما، إلا أنه لم يسجَّل رسميا لأن القدماء لم يكونوا يعرفون مسألة الأرقام القياسية والإحصاءات العامة وما إلى ذلك، وإن لم يمنع هذا من تأليفهم كتبا ككتاب السجستانى: "المعمَّرون والوصايا"، الذى لا أظن أن كل ما فيه عبارة عن مبالغات وخرافات كما قد يتبادر إلى أذهان المغرمين بالتكذيب "لله فى لله"، وإلا فلنكذب القرآن أيضا، ففيه وفى العهد القديم معا أن نوحا عاش نحو ألف عام. ولكنْ على من يكذّب القرآن أن يقيم الدليل على أن ما يقوله كتاب الله فى هذا الموضوع كذب أو خرافة. ومَنْ يا ترى يستطيع ذلك فى أمرٍ مضى وانقضى ولم يعد ثم سبيل إلى إرجاعه أو إلى الطعن فيه؟ بالإضافة إلى أن قياس أمور القدامى على أمورنا فى كل تفاصيلها منهج خاطئ: فى بعض الحالات على الأقل. ومن هنا فلست أشاطر كاتب مادة "Life expectancy" فى موسوعة "Wikipedia" فى قوله: "Although there are several longevity myths mostly in different stories that were spread in some cultures, there is no scientific proof of a human living for hundreds of years at any point of time"، إذ كيف يمكنه التحقق من أن ما ينكره لم يحدث فى الماضى، وبخاصة أن هناك من أكدوا حدوثه، ومن الصعب الزعم بأنهم جميعا كاذبون أو خاضعون لتأثير الفكر الخرافى تماما؟ وفى أقل القليل إذا كان العلم لا يستطيع إثبات طول العمر قديما إلى مئات السنين فإنه بالمقابل لا يستطيع إثبات عدمه.
على أنه لا بد لى هنا من تسجيل شكرى لهشام جعيط رغم ذلك لأنه، والحمد لله، قد وافق كتاب السيرة القدماء على أن النبى هو فعلا من بنى هاشم وأنه مكى، وليس من وسط جزيرة العرب (ص144) كما تقول صاحبة كتاب الــ"Haggerism" المستشرقة باتريشيا كرونة أم سن ذهب (أو فضة، لا أدرى بالضبط، فقد كنت رأيتها مرتين أو نحو ذلك فى أوكسفورد فى أواخر سبعينات القرن الماضى، ولست متأكدا الآن أكانت سنها ذهبا أم فضة، وكانت حركات يديها وهى تشيح بهما أثناء المحاضرة تفتقر إلى رقة النساء وتوحى لك بأن المتحدث ذكر لا أنثى). ولك أن تتخيل مبلغ سعادتى وسر شعورى بأنه لا بد لى من شكر د. جعيط إذا عرفت أننى كنت واضعا يدى على قلبى خشية أن تعتريه واحدة من بدواته غير العلمية أو المنهجية أو المهلبية بالألماظية، وما أكثرها وأعصاها على الانضباط، فيُقِلّ عقله ويدخل فى منافسة حمقاء مع الست كرونة ويزعم أنه صلى الله عليه وسلم ليس من مكة ولا من بنى هاشم ولا من أواسط الجزيرة ولا هو عربى أصلا ولا فصلا، بل يابانى. نعم يابانى من بلاد الواق واق بعينين مشقوقتين بالموسَى كسائر أهل اليابان، ومنهم ابنا الأستاذ ميسرة عفيفى صديقنا المصرى المقيم هناك! وأرجو من القراء ألا يظنوا بى المبالغة حين أذكر اليابان، فهم لا يعرفون فجور كارهى الإسلام. ألم يقل طه حسين، عندما نفى مصر عن الشرق جملة وتفصيلا فى كتابه الآثم السخيف: "مستقبل الثقافة فى مصر" وألحقها بأوربا، إنه يقصد الشرق البعيد كالصين واليابان والهند؟ أرحت قلبى يا دكتور جعيط، أراح الله قلبك! وأنت لا تعرف سبب دعوتى هذه لك ولا تستطيع أن تقدرها حق قدرها لأنك لا تدرى ماذا حدث لى فى الفترة الأخيرة! أقولها وقلبى يعلو ويهبط من شدة الانبهار: الانبهار الجسدى والنفسى معا.
لكن الدكتور هشام سرعان ما ركبته الحالة التى ساعةً تَرُوح، وساعاتٍ تجىء، فأنكر أن يكون أبو النبى قد مات وهو فى بطن أمه. ومن بين ما تنطع به لإيهامنا بصحة هذا التخلف قوله إن كتاب السيرة إنما قالوا ذلك حتى لا يكون لأحد فضل عليه. ألم يقل الله له: "ألم يجدك يتيما فآوى"؟ (ص146- 147). طيب يا بطلنا الهمام، وهل إذا مات أبوه وهو فى بطن أمه، ألن يتولى تربيته بدلا من أبيه شخص آخر سوف يكون له فضل رعايته، وهو هنا جده عبد المطلب أولا ثم عمه أبو طالب ثانيا؟ أم تراهم قالوا إن الغزالة هى التى ربته كما هو الحال مع المأسوف على شبابه حَىّ بن يقظان بطل قصة ابن طُفَيْل؟ لكن هذه أضرط من الأخرى، فخَلِّنا فى الراعى البشرى، فهو أفضل من الغزلان.
لاحظ، يا قارئى العزيز، أن هذا كله لا قيمة له فى مجرى أحداث السيرة، وجعيط نطّاط الحيط يعرف ذلك كله وغير ذلك كله، إلا أن المراد هو إيقاع البلبلة فى نفوس العرب والمسلمين حتى لا يطمئنوا إلى شىء يتعلق بحضارتهم وتراثهم ودينهم ونبيهم. أفهمت الدور الذى يحاول المحفَّظ، اسم النبى حارسه وصائنه، أن يقوم به؟ وبالمناسبة فقد كانت الحالة التى اعترته هنا من النوع الثقيل الخطير، إذ شكك أيضا فى اسم والد الرسول، كما شكك فى اسم الرسول نفسه على ما قرأتَ لى فى بحث آخر مسحنا فيه بما كتبه المحفَّظ الأرض قبل مدة. ولهذا نضرب صفحا عن هذا القىء، وبخاصة أننا لا ننوى تناول كل ما قاله، وإلا ما فرغنا، إذ الساحة تفيض بأمثاله ممن لو تفرغ لهم الواحد ما وجد وقتا حتى لدخول الحمّام!
وهو يتكلم عن القرآن صراحة على أنه من عمل النبى عليه السلام، استقى ما فيه من أفكار وعقائد وقصص من أهل الكتاب حين كان يقيم بالشام ويتصل بهم هناك، ولكن بعد أن تعلم قبل ذلك فى بلاده على يد الحنفاء (ص151 وما بعدها. وهو، فى الصفحة السادسة والأربعين من الجزء الأول من الكتاب، يرى أن الرسول لو كان قد قال للناس إن القرآن نتاج تفكيره هو لفشلت الدعوة، وإن أضاف ما معناه أنه صلى الله عليه وسلم كان مقتنعا مع ذلك أن القرآن هو من عند الله. أى أنه كان واهما مخدوعا يتصور ما لا حقيقة له).
والطريف، وكل أمر الرجل طرائف، وإن كان بعضها كارثيا، أنه يعود بُعَيْد ذلك فى نفس الصفحة فيتظاهر بالهجوم على المستشرقين الذين يقولون بأن القرآن هو من صنع النبى. لكن لماذا؟ لأنهم ينظرون "إلى الإسلام والقرآن نظرة خارجية مجردة من كل إيمان" (حمِش والله!)، ومن ثَمَّ يَعْمَوْن عن "سعة علم النبى ومقدرته الفذة فى معرفة التراث الدينى واللغات السريانية والعبرية واليونانية التى نجد أثرها فى القرآن ومعرَّبا فى الشكل"، وكذلك عِلْمه "بالكتاب المقدس والأناجيل المزيفة والتلمود وآثار الربانيين"، فضلا عن "مقدرته الفائقة فى الإبداع الدينى والخَلْق التشريعى".
لكن هذه واسعة حبتين يا دكتور! ومع ذلك فإنى أشد على يديك وأشكرك على أنك، وإن نفيت أن يكون اسمه "محمدا"، قد سميته رغم ذلك اسما عربيا هو: "قُثَم"، ولم تقل إنه كان إجريجيا يدعى: "خريستو"! ربنا يشفى الكلاب ويضرّك يا شيخ! ولكن ما دامت المسألة بهذه السهولة فما الذى كان يضيرك لو قلت إنه كان يعرف السنسكريتية واللاتينية أيضا، وكله بثوابه؟ فهاتان اللغتان تضمان تراثا دينيا مهما لا يستغنى عنه واحد كمحمد يريد أن يكون نبيا. ولماذا لم تقل كذلك إنه كان يتردد على مكتبة المتحف البريطانى مثل الرجل الذى كان وجهه مملوءا بالدمامل: كارل ماركس وبائس الذكر الحقود المسمى: سلامة موسى، وإنه كان يقبع هناك طوال النهار والليل لا يفارق الكتب حتى حفظها كلها على بكرة أبيها وأمها كذلك، حتى لا نُتَّهَم بأننا أبناء ثقافة ذكورية قمعية حمصية سمسمية سودانية تفرّق بين الرجل والمرأة، وتنحاز للأول على حساب الثانية؟ وتقول إنك تدافع عن الرسول ضد المستشرقين؟ يا للبجاسة!
من هنا فإن القرآن، حسب مزاعم جعيط، يردد ما جاء فى كتب أهل الكتاب عن معجزات الأنبياء رغم أن هذه المعجزات لا حقيقة لها، بل مجرد خرافة لا صلة بينها وبين الواقع (ص255). وقد سبق أن قال ذلك بكل وضوح فى الجزء الأول من الكتاب/ 29 حيث يؤكد أن "معجزات الأنبياء من قبل لم توجد فعلا، وإنما رُوِىَ بعدهم أنها وُجِدت، وسرت القصة عبر التاريخ على أنها واقعةٌ جرت، وإِنِ المعجزة إلا حديث عن المعجزة"، وهو ما كرره ص79 من ذلك الجزء أيضا. كما أشار (ص53) إلى أنه لم يكن ثم كلام بين الله وموسى ولا جدال بينه وبين إبراهيم، بل كل ذلك من تأثير نزعة الأنسنة التى كانت عليها العقلية القديمة والتى لم يشأ محمد تخطئتها رغم معرفته أنها خرافة، بل سايرها انتظارا منه أن يأخذ التطور الذى أتى به مجراه ويفيق الناس من تصديق تلك الخرافات. وبالمثل فإن جبريل لم يتمثل لمريم عليها السلام فى شخص إنسان، وكل ما هنالك أن القرآن جارى اعتقاد المسيحيين وكلام الإنجيل ليس إلا/ 1/ 122. كذلك يؤكد فى الصفحة 75 من ذلك الجزء أنه لم يكن هناك نبى عربى قبل محمد، مكذبا بذلك ما ورد فى القرآن عن هود وثمود وشعيب، ليعود فى الصفحة 136 من نفس الجزء، فيتحدث عن أنبياء العرب الذين قص القرآن ما جرى لهم من تكذيب! وبالمناسبة فهو يقول فى نفس الصفحة إن عيسى قد قُتِل. وهذا، كما نعرف، مخالف لما جاء به القرآن. كما ذكر أن الرفض المتعنت الذى جابهت به قريش دعوة الإسلام قد "حدا بالنبى أن يعمّق فكره ويدخل فى ذاته ليستخرج أقوى صور الخيال الدينى عبر "الأعراف والرعد والأنعام ويوسف وإبراهيم"..." (ص298).
ولأنه قد سبق لى أن تناولت الدعوى الخاصة بتعلم الرسول على أيدى الحنفاء وأهل الكتاب بكثير من التفصيل والصراحة المطلقة وقلَّبت على كل الوجوه ما قاله المستشرقون فى اتهاماتهم للرسول عليه السلام فى كتابى: "مصدر القرآن"، وهو متاح على المشباك، فإنى أكتفى بإحالة القراء إليه ليعرفوا رأيى فى هذا الموضوع بالتمام والكمال، وإن كان من الممكن تدمير كل هذا التنطع بسؤال واحد بسيط: لماذا لم ينبر لمحمد أحد من الحنفاء أو من أهل الكتاب فيقول له: ألست أنت الرجل الذى تعلَّu0645 على أيدdAنا وأخذ ما كنا نقوله ونقرؤه أمامه، ثم أتى اليوم وادعى النبوة؟
وبالنسبة للحنفاء الذين اتُّهِم الرسول بأنه تعلم على أيديهم فهم إما أسلموا وتبعوه، أو إذا كانوا قد ماتوا قبل بعثته صلى الله عليه وسلم فقد دخل أبناؤهم فى دينه وأصبحوا من تلاميذه، ولم يحدث أن فتح أحد من هؤلاء أو أولئك فمه بالإشارة، مجرد الإشارة، إلى شىء من هذا، وهو ما يهدم كل ما يتنطع به المتنطعون فى ذلك المضمار. ونفس الشىء يصدق على أهل الكتاب، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن السر فى عدم حديث أى منهم فى ذلك الموضوع، وما كان أسهله وأصدقه لو كان الأمر على ما يتساخف به جعيط، كى يضع حدا لكل هذا الكذب المحمدى ويئد دعاواه وتدليساته فى مهدها ولا تخسر اليهوديةُ مكانتها التى كانت لها فى بلاد العرب، ولا النصرانيةُ الشامَ بتلك السهولة التى فقدته بها. وإذا كان المسلمون قد عتّموا، كما يقول جعيط، على مثل تلك النقاط الحساسة فى حياة سيد البشر، فلماذا لم يتكلم واحد من هؤلاء فيَفْتِشَ السر ويفضحَ محمدا فيُضْحِىَ بين غمضة عين وانتباهتها مضغة فى الأفواه وينتهى أمره وأمر رسالته فلا يعود ثمة داع للدور الذى يؤديه جعيط نطاط الحيط وأمثاله الآن، وتوفِّر الدوائر المعادية للإسلام فلوسها وتعبها وتنفقهما فى شىء آخر؟ صدق من قال: إذا لم تستح فاصنع ما شئت!
أما ما قاله عن ذكر القرآن المجيد لمعجزات الأنبياء السابقين مسايرة لأهل الكتاب بوصفها قد وقعت فعلا رغم خرافيتها فهو، والحق يقال، منطق سخيف. ذلك أن الموقف الوحيد الصحيح الذى كان ينبغى أن يتخذه النبى تجاه معجزات الأنبياء الماضين ما دام يرى أنها خرافة هو إنكار وقوعها من أساسها فيريح ويستريح بدلا من وجع الدماغ الذى ظل القرشيون فى مكة واليهود فى يثرب من بعدهم يزعجونه به لسنوات طوال استفزازا له أن يأتيهم هو أيضا كأولئك الأنبياء السابقين بمعجزة. وجعيط يؤمن بأن محمدا كان داهية، فكيف فات الرسولَ صلى الله عليه وسلم ذلك الحلُّ العبقرىُّ السعيدُ وهو فى قبضة يده، ولم يكن ليكلفه شيئا بالمرة؟
وجعيط يلح على التأثير النصرانى الهائل على محمد، ومن ثم على القرآن الذى ألفه. وهذا كله ترديد لما قاله المستشرقون، الذين يذكر جعيطنا أسماء مشاهيرهم فى سياق حديثه عن هذا الموضوع. ولأن الكذب والتدليس ليس لهما رجلان فإننى أقول له: إذا كان الأمر كذلك فكيف تفسر لنا بعبقريتك البائسة سر كل تلك الكراهية العنيفة المتلظية التى يكنها النصارى له صلى الله عليه وسلم؟ ولماذا كان الإسلام هدما شاملا ماحقا لكل أسس النصرانية واتهاما مطلقا لرجالها بأنهم حرفوها وخلقوا دينا غير الدين الذى أنزله الله على عبده ونبيه عيسى بن مريم عليه السلام؟ الواقع أن الرجل بسيط التفكير ساذجه، وهو لا يعرف إلا أن يردد ما يُلْقَى إليه بعد أن يضيف له ما يتفوق به على أساتذته، شأن كل تابع عريق فى التبعية.
والرسالة المحمدية لدى جعيط هى رسالة محلية عربية لا شىء فيها من العالمية. طبعا، ومن الشواهد على صدق قوله عن ضيق أفق الدعوة الإسلامية أنها لاقت قبولا فى العالم أجمع ودخلها الناس من كل جنس ولون ودين ومذهب، بيضًا وحمرًا وصفرًا وسمرًا وسودًا، رجالا ونساء، أحرارا وعبيدا، من الشام ومصر وليبيا وتونس (بلد صاحبنا) والجزائر والمغرب وموريتانيا والسنغال وجامبيا، التى زرتها فى أواسط الثمانينات وكتبت عن رحلتى إليها كتابا لعل الله يهيئ الفرصة لنشره قريبا، وسائر أفريقيا، ومن السند وأفغانستان وبلاد تركب الأفيال وبلاد تركب الحمير من البشر ممن لا يفقهون ولا يتعظون ويظنون أنهم بتبعيتهم لأعداء أهليهم ودين أهليهم سوف ينالون احترامهم جاهلين أن التابع سيظل حقيرا منبوذا عند الأقدام مهما فعل وتقرب إلى متبوعيه، ومن بلاد الواق واق، التى ينتمى إليها صديقى وزميلى القديم محسن يوشيهارو أوجاساورا اليابانى المسلم الذى كنت أصدر أنا وهو فى الجامعة فى منتصف الستينات من القرن الماضى مجلة حائط كان يرسمها بريشته، وكتبت فيها مقالا ضاحكا عنه، والذى رأيته فى المنام الليلة رغم أنى لم أره منذ عقود، وكذلك من الصين وتايلاند والروسيا وبلاد المغول، ومن أستراليا وأوربا وأمريكا. لقد حصل للرجل لطف! وعلى رأى يحيى حقى: إنه مَرْيــُوح! على كل حال لقد صدقت مقولة نجيب محفوظ للمرة الثانية: الأولى عندما فاز بجائزة نوبل رغم أن المساحة التى تدور فيها أحداث جميع رواياته تقريبا لا تزيد عن كيلومتر فى كيلومتر فى الحسينية والجمالية والدرّاسة. والثانية حين انتشر دين محمد صلى الله عليه وسلم فى العالم أجمع رغم أنه لم يكن فى ذهنه وقتها سوى بيئته القرشية، وفى أبعد تقدير: بيئته العربية، فإذا به يكتسح الدنيا اكتساحا. ولولا أنه مات منذ أربعة عشر قرنا من الزمان لأعطَوْه مثل نجيب محفوظ جائزة نوبل. ألا خيبة الله على كل عصفور صغير العقل!
أذكر أننى، عندما كنت فى بانجول عاصمة جامبيا فى غرب أفريقيا صيف عام 1986م وذهبت أصلى المغرب لأول مرة فى الجامع الكبير القريب من الفندق، قد راعنى ما رأيته من اجتماع المصلين للابتهال والصلاة على النبى الكريم من بعد الفراغ من صلاة المغرب إلى أن أذن المؤذن للعشاء الآخرة، فجاشت منى المشاعر، وطفقت أفكر فى ذلك السلطان العظيم لمحمد ولدينه على أرواح هؤلاء الناس وعقولهم وقلوبهم رغم بعد ديارهم عن بلاد الرسول ورغم اختلاف الجنس والقارة واللغة. وسجلت هذا فيما كتبته حين رجعت إلى الفندق فى تلك الليلة. والغريب أن د. جعيط يعود فى موضع آخر من الكتاب فيقر، ولكن بعد اللف والدوران، بأن رسالة محمد عالمية وأن القرآن يهتم بالإنسانية جمعاء لا العرب وحدهم، إلا أنه لا يستمر على هذا الإقرار رغم هذا، إذ يقول إن ثمة فرقا بين النظر والواقع، وإنه إذا كان القرآن يتجه فى خطابه إلى الناس كافة، فإن محمدا لم يكن يدعو أحدا فى الواقع الفعلى إلا العرب. أى أن رسالته فى الحقيقة رسالة وطنية رغم كل شىء (ص287- 288). لكن المسلمين فيما بعد، حين رَأَوُا انتشار الإسلام فى البلاد المختلفة خارج الجزيرة، تبينوا أن النبى قد بُعِث للناس كافة كما أراد القرآن (ج1/ ص106). أى أن عالمية الإسلام هى من اختراع المسلمين.
وهنا أحب أن أناقش قضية أثارها الدكتور جعيط فى مقدمة الجزء الثانى من كتابه الذى نحن بصدده، وهى عقيدة المؤرخ الدينية، إذ ينصح المؤرخين المسلمين، متى بدأوا البحث فى أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أن يضعوا عقائدهم الدينية "بين قوسين" على حد تعبيره، بمعنى أن يَنْسَوْا إيمانهم بنبوته ويركزوا فقط على ما تقودهم إليه أبحاثهم. ذلك أن التاريخ "علم وضعى وأرضى يتناول فعاليات الأفراد والمجتمعات البشرية فى الماضى، ويخرج عن دائرة الإيمان والمعتقد"، و"العلم يحاول أن يفسر الأمور لا أن يحكم عليها"، وهو يتناول "الحقائق الدينية بالوصف والتحليل، بالبحث فى التأثرات والتطورات، ويضعها فى لحظتها التاريخية من دون الالتزام بالمعطَى الإيمانى" (ص5- 6). ويُفْهَم من هذا بكل وضوح أن المؤمن بنبوة محمد وأنه رسول من عند الله أنزل عليه القرآن وكلفه بتبليغه للناس كافة يمكن أن يقول فى محمد كلاما آخر مختلفا عن هذا تماما ويظل مع ذلك مسلما يؤمن بنبوته بالمعنى الذى شرحناه هنا.
ولا أظن أن ثمة عاقلا يفهم طبيعة الإسلام يمكن أن يقول بهذا، إذ الإيمان بالإسلام لا يكون إلا بالعقل، فمتى قام فى العقل رفض لنبوة محمد لم يعد ثم موضع للقول بأن صاحب هذا العقل لا يزال مسلما. قد يقول مثل هذا الشخص إنه يحترم محمدا وإنه يرى فيه مصلحا عظيما أو شيئا من هذا القبيل، وهذا كله على العين والرأس، ومن حق صاحبه أن يقوله ولا نُكْرِهه على خلاف ما يعتقد، وإن لم يمنعنا ذلك من مناقشته ومخالفته، بل وتسخيفه إن وجدنا ما يدعو إلى هذا، بالضبط مثلما أعطى هو لنفسه الحق فى أن يقول فى محمد ومهمته كلاما يخالف ما نؤمن نحن به. لكن هذا شىء، وزعمه أو زعم من يرافئونه على هذا الكلام أنه لا يزال مسلما شىء آخر. الواقع أن صاحب هذا الكلام إما أن يكون كذابا أو منافقا أو مصابا بانفصام فى الشخصية أو حائرا يمزقه الشك ولا يستطيع أن يرسو على بَرٍّ مريح.
لقد بحثت هذه القضية سنة 1986م فى كتابى عن "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين"، وكان طه حسين قد قال قولا كالذى قاله جعيط، إذ نادى بأن على من يريد دراسة الأدب العربى التجرد من دينه وكلام آخر يدور فى نفس المدار، فقلت إن هذا معناه شىء واحد هو أن الإسلام يناقض البحث العلمى، فكيف يجمع طه حسين بين الإيمان بالإسلام والإيمان بالمنهج العلمى، وهو يرى أنهما متناقضان؟ إن عليه أن يختار واحدا منهما ما دام الأمر كذلك، لأن من المستحيل، إلا على ذى عقل مضطرب أو مريض بانفصام فى شخصيته، أن يجمع بينهما. إن طه حسين يعلن أنه، فى شكه فى الشعر الجاهلى، إنما يجرى على منهج ديكارت، فكيف إذن تجاهل أحد القوانين الفطرية التى رأى ديكارت أنها تعلو فوق كل شك، ألا وهو "قانون عدم التناقض"، الذى بمقتضاه لا يمكن أن "يكون" الشىء و"لا يكون" فى نفس الوقت، بل إما أن "يكون" فقط أو "لا يكون"؟ إن تطبيق هذا القانون على النقطة التى نحن بصدها يستلزم أن يؤمن طه حسين إما بالدين أو بالمنهج العلمى ما داما فى رأيه متعارضين (انظر مادة "Descartes" من "A Dictionary of Philosophy, Pan Books, 1979" لمؤلفه Antony Flew).
أما قول طه حسين: "إن فى كل منا شخصيتين متمايزتين: إحداهما عاقلة تبحث وتنقد وتحلل وتغير اليوم ما ذهبت إليه أمس، والأخرى شاعرة تلذّ وتألم وتفرح وتحزن وترضى وتغضب فى غير نقد ولا بحث ولا تحليل، وتساؤله: ما الذى يمنع أن تكون الشخصية الأولى عالمة باحثة ناقدة، وأن تكون الثانية مؤمنة دَيِّنة مطمئنة طامحة إلى المثل الأعلى؟ ما لك لا تدع للعلم حركته وتغيره، وللدين ثباته واستقراره؟" (انظر "تحت راية القرآن"/ ط3/ مطبعة الاستقامة/ القاهرة/ 1953م/ 349- 350) فهو مغالطات بهلوانية: فأولا إذا كان يعتقد أن الدين يتميز بالثبات والاستقرار فكيف يطالب باطّراحه والتجرد منه أثناء البحث؟ لقد كان الأحرى به أن يعرف أن بحث الأدب العربى لا يدخل فى نطاق الدين، ومن ثم لم تكن به حاجة (لو كان فعلا يعنى كلامه هذا) إلى دعوته المريبة تلك. وثانيا أنا لا أفهم العلاقة بين الرضا والغضب واللذة والألم والفرح والحزن وبين الإيمان. إن الإيمان هو اقتناع بعقيدة وتشريع ما، والاقتناع من شأن العقل لا من شأن المشاعر، التى كما يصورها هو نفسه لا تستقر على حال، مع أنه قال إن الدين يتميز بالثبات والاستقرار. والإسلام هو دين العقل لا التسليم القلبى دونما فهم أو بحث أو اقتناع، على عكس الأديان الأخرى التى يقع المؤمن بها فريسة للصراع بين عقله وعلمه وبين إيمانه وتسليمه، هذا الصراع الذى يظل يؤرقه ولو فى أعماق نفسه إذا حاول أن يكبته هناك فى تلك الأعماق المظلمة بعيدا عن وعيه، أو يدفعه فى نهاية الأمر إلى الكفر.
من هنا يرى الرافعى أن مقال طه حسين الذى اقتطف هو منه ما سبق (وكان طه حسين قد نشره فى جريدة "السياسة" تسويغا لموقفه وآرائه التى بثها فى كتابه "فى الشعر الجاهلى") إنما هو تفسير وتعليل لكفره على أساس من العلم، إذ "يريد أن يثبت فيه أنه من الممكن أن يكون مِثْلُه كافرا أشد الكفر على اعتبار أنه عالم يبحث بعقله، ثم لا يمنع ذلك أن يكون مؤمنا أقوى الإيمان فى شعوره" (المرجع السابق/ 350- 351). كما يرى أن تسمية الشعور شخصية، والعقل شخصية أخرى، معناه أن النسيان هو أيضا شخصية، والذِّكْر شخصية، والإنسان عدة شخصيات، وأنه حين ينتقل من حالة إلى أخرى إنما ينتقل من شخصية إلى أخرى ويصبح رجلا غير الذى كان (السابق/ 351). وكذلك يرى أنه لا بد من التوفيق بين الدين والعلم فيما يختلفان عليه، وإلا كان أحدهما لغوا وعبثا (السابق/ 354)، وهو ما قلناه من قبل. لقد كان على طه حسين فى الحقيقة، بدلا من اللف والدوران، أن يحدد موقفه من الدين، وهو ما فعله فى نفس المقال الذى نحن بصدده، إذ قال: "إن العالِم ينظر إلى الدين كما ينظر إلى اللغة، وكما ينظر إلى الفقه، وكما ينظر إلى اللباس، من حيث إن هذه الأشياء كلها ظواهر اجتماعية يُحْدِثها وجود الجماعة وتتبع الجماعة فى تطورها. وإذن فالدين فى نظر العلم الحديث ظاهرة كغيره من الظواهر الاجتماعية، لم ينزل من السماء ولم يهبط به الوحى، وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها، وإنْ رأى دوركايم أن الجماعة تعبد نفسها، أو بعبارة أدق أنها تؤلِّه نفسها" (السابق/ 348- 349).
بهذا يكون موقف طه حسين آنذاك واضحا: فهو لا يؤمن بالإسلام، إن آمن به، على أنه دين سماوى أوحاه الله إلى نبيه محمد، بل على أنه اختراع بشرى. وإذن فالرافعى لم يكن متجنيا عليه قِيدَ شعرة حين رماه بالكفر والإلحاد. وأحب أن أبادر هنا إلى القول بأننى لا أريد بهذا أن أسىء إلى طه حسين، بل أبحث فقط الأمر بحثا علميا. وإذن أيضا فإن طه حسين حين أعلن، فى الخطاب الذى أرسله، على أثر الهجوم عليه بسبب كتابه، إلى مدير الجامعة أحمد لطفى السيد، أنه مسلم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لم يكن يعنى ما يقول (السابق/ 165)، إلا أن يكون الخطاب من تأليف لطفى السيد نفسه، وهو فى الواقع به أشبه. ذلك أن الإنسان لا يمكنه أبدا أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهو فى ذات الوقت لا يؤمن بوحى ولا بإله، ما دامت الجماعة إنما تؤله نفسها وتعبد فى الحقيقة ذاتها، وما دام الدين لم ينزل من السماء، وإنما نبع من الأرض اختراعا بشريا. أما زعمه أنه لم يتعمد فى كتابه الخروج على الدين فهو خداع لا يجوز فى العقول، لأنه إذا لم يكن وصْفه لبعض قصص القرآن (فى كتابه: "فى الشعر الجاهلى") بأنها أساطيرُ مخترَعةٌ لغايات سياسية، وقوله إن المسلمين هم الذين ردّوا الإسلام فى خلاصته إلى دين إبراهيم وغير ذلك، هو الخروج على الدين فإنه لا يوجد شىء إذن اسمه الخروج على الدين. وقد دعت هذه المخادعة الأستاذ الرافعى إلى تكذيبه ووصفه بعدم الحياء والعناد والمكابرة والكذب والسخرية بعقل الأمة (السابق/ 243).
والغريب أن الصحفى السورى سامى الكيالى، الذى رمى من اتهموا طه حسين فى دينه بالرجعية والجمود بسبب ما ورد فى كتابه "فى الشعر الجاهلى" هو نفسه الذى طبع ونشر لإسماعيل أدهم بحثا بعنوان "طه حسين- دراسة وتحليل" (مطبعة مجلة "الحديث"/ حلب/ 1938م). وفى هذا البحث يمدح أدهم الدكتور طه واصفا إياه بالإلحاد والثورة على الدين، كما يشير إلى رأيه الذى يَعُدّ فيه الدين نتاجا بشريا. والغريب كذلك أن هذا البحث قد أُعِيد نشره فى عدد من أعداد مجلة "الحديث" نفسها التى كان يصدرها الكيالى، وكان ذلك فى نفس العام (عدد نيسان/ إبريل)، ولكن بعد أن حُذِفت منه العبارات التى تتحدث عن إلحاد طه حسين وثورته على الدين ونظرته إليه على أنه نتاج بشرى، ووُضِع مكانها بعض النقط. إن هذا يبين حقيقة موقف ذلك الصحفى الذى لا ينبغى أن يخدعنا كلامه، وإلا فكيف يكون وصف طه حسين بالإلحاد من جانب إسماعيل أدهم جميلا، ووصفه بذلك من شيوخ الأزهر وعلماء مصر رجعية وتزمتا؟ (انظر كتابه "مع طه حسين"/ سلسلة "اقرأ"- عدد 112/ 1/ 56 وما بعدها).
والآن فلنعد إلى هشام جعيط ومنهجه الذى يسير عليه فعلا لا كلاما، فالعبرة بالتطبيق الواقعى لا الكلام النظرى المجرد، فنقول إنه يرفض كثيرا جدا من الروايات التى تتحدث عن حياة الرسول وشخصه ويذهب فيتخيل سيرة جديدة زاعما أن هذه هى الصرامة العلمية. وهو، بصنيعه هذا، يذكّرنا بما صنعه من قَبْلُ أستاذٌ مصرىٌّ كان يعيش فى سويسرا، وحصل فى أخريات حياته على الدكتورية من فرنسا بأطروحة عن السيرة النبوية رفض فيها كل شىء كتبه المسلمون، واخترع سيرة أخرى من خياله مدعيا أنها هى السيرة الصحيحة. وقد رددت عليه يومها فى كتاب لى اسمه: "إبطال القنبلة النووية الملقاة على السيرة النبوية- خطاب مفتوح إلى د. محمود على مراد"، فثارت ثائرته وكتب فى مجلة "المصور" المصرية مقالا طويلا قال فيه إننى أكفّره وأستخدم معه أسلوب الإرهاب، فاضطررت أن أرد عليه مرة أخرى وتحديته أمام قراء "المصور" أن يأتينى بكلمة واحدة استخدمت فيها ألفاظا ترهيبية، فضلا عن أن أكون كفّرته فى كتابى الذى ناقشته فيه وأنا واضع فى يدى قفازا من حرير على رأى صديقنا المشترك الذى عرفنى به وحصلت بفضله على نسخة من الأطروحة المذكورة، المستشار رابح لطفى جمعه رحمه الله، وانتهت المسألة عند هذا الحد، ثم انتقل بعدها بقليل إلى جوار ربه.
وإضافة إلى ما سبق نقول إن كتابات د. جعيط تفتقر إلى الدقة والوضوح فى غير قليل من الأحيان. ومن ذلك قوله إن محمدا قد "نجح فى تكوين أمة وإدخال كل الحجاز فى دينه وضمن سلطته" (ص25)، تدليلا منه على الإنجاز السياسى الهائل الذى حققه الرسول الكريم، وهو ما يعنى أن أقصى ما بلغه الرسول فى نشاطاته السياسية هو إدخال الحجاز كله تحت سلطانه. أما باقى الجزيرة العربية فلم ينجح الرسول، بناء على هذا الكلام المهوَّش، فى إدخاله فى الدولة الجديدة التى أنشأها صلى الله عليه وسلم. أم لعل الدكتور جعيط يظن أن الحجاز هو كل بلاد العرب كما كان القرويون المصريين البسطاء فى طفولتى يظنون؟ إذ كانوا لا يعرفون من تلك البلاد إلا أنها "بلاد الحجاز"، على اعتبار أنه لم يكن يهمهم منها فى ذلك الزمن إلا الحج، والحجاج إنما يذهبون إلى الحجاز ولا يخرجون عنه إلى أن يعودوا من أداء الفريضة.
وبالمثل فإن معلوماته فى لُبّ تخصصه تبدو متخلفة كثيرا، فهو مثلا يؤكد أن كتاب ابن إسحاق هو أقدم كتاب وصلنا فى السيرة النبوية (ص40)، وذلك رغم وجود كتابين آخرين على الأقل يرجعان إلى مؤلفَيْن سابقَيْن عليه، وهما كتابا "مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم" لعروة بن الزبير (ت94هـ) بتحقيق د. محمد مصطفى الأعظمى ونَشْر مكتب التربية العربى لدول الخليج بالرياض عام 1401هـ- 1881م، و"المغازى النبوية" لابن شهاب الزهرى (ت124هـ)، الذى حققه وأخرجه د. سهيل زكار عن دار الفكر بدمشق عام 1401هـ- 1881م أيضا. كما أن كاتبنا التونسى، أثناء حديثه عن الأمم القديمة التى ورد ذكرها وذكر أنبيائها فى القرآن، يتحذلق فيقول إن "ثمود" يصف الأمم القديمة الكافرة بأنهم كانوا "فرهين"، أى فرحين بما أنجزوه (ص171- 172)، متصورا بعبقريته التى لم يؤتها الله أحدا آخر سواه أن ثمود نبى من أنبياء الله أُرْسِل للأمم القديمة جمعاء وكأنها "شروة طماطم" أخذها كلها كما هى بعُجَرها وبُجَرها.
ومن هذا الوادى تصوره أن القرآن عندما سمَّى عبد العُزَّى عمَّ الرسول فى سورة "المسد" باسم "أبى لهب" قد "منحه كنية رمزية تهديدية" (ص184)، وهذا نص كلامه حرفيا. والواقع أن عبد العزى كان يسمَّى هكذا منذ البداية لحمرة لونه وإشراق وجهه. صحيح أن القرآن قد أوعده بأنه سيَصْلَى نارا ذات لهب، لكن تهديد القرآن له شىء، وتكنيته بهذه الكنية شىء آخر، إذ كان يكنى بها، كما قلنا، منذ الجاهلية من قِبَل الناس جميعا لا من قِبَل أعدائه فحسب. وكان بإمكان د. جعيط، إذا أراد أن يخالف ما تقوله الروايات التى وردتنا بهذا الشأن عن علمائنا القدامى، أن ينص أولا على تلك الروايات ثم يتناولها بالبحث ويورد فى نهاية المطاف رأيه هو. وإذا كان الشىء بالشىء يُذْكَر فقد فسر د. محمود على مراد المارّ ذكره تكنية عم الرسول بــ"أبى لهب" بأنه هو الذى حفر الأخدود وملأه نارا وأحرق فيه المسلمين، فلهذا سماه القرآن: "أبا لهب". وهكذا تصاغ السيرة على أيدى علماء آخر زمن!
كذلك نجد هشام جعيط يزعم أن القرآن المكى يخلو من عداء أهل الكتاب (ص194). يقول ذلك عقب إيراده ترتيب السور القرآنية زمنيا عن نولدكه الألمانى وبلاشير الفرنسى وعقب طنطنته بعمل هذين المستشرقين وبما يقدمه لدارس القرآن من فهم أعمق لتاريخ الدعوة وسيرة الرسول. وهو يريد من وراء كلامه القول بأن القرآن إنما يعكس رأى الرسول فى الناس من حوله بناء على مواقفهم منه، وبما أن مكة لم يكن فيها نصارى أو يهود يعادونه فإن القرآن يخلو من الآيات التى تعيبهم وتعاديهم. والواقع أن هذا جهل مبين، إذ فى القرآن المكى حملة على تأليه النصارى للمسيح عليه السلام (مريم/ 34- 39، والزخرف/ 57- 66)، وحملة أعنف على اليهود لتكرر كفرهم بالله بعد أن جاءهم موسى بالبينات ولاتخاذهم العجل وغير ذلك (الأعراف/ 138- 171، وطه/ 83- 98). فما قول القارئ الكريم فى ذلك؟ ألا يرى أن طنطنة الرجل بما صنعه المستشرقان المذكوران هى طنطنة فارغة؟
ومن جهله كذلك ادعاؤه أن مشيئة الله فى القرآن هى مشيئة اعتباطية إلى حد كبير (ص203). لكنه لم يسق لنا أية آية تدل على هذا السخف الماسخ الذى يقوله. نعم إننا نقرأ فى القرآن المجيد قوله سبحانه وتعالى: "إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" (النحل/ 40)، "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" (يس/ 82)، لكن القرآن يلفت نظرنا إلى أن الكون قائم على الميزان وأن ثم سننا يسير عليها هذا الكون. أما الآيتان المذكورتان فمعناهما عند من يفقهون أنه سبحانه وتعالى لا تحكمه أية إرادة خارجية، بل إرادته وحدها هى الإرادة، لكنها إرادة قائمة على السنن، وإن لم يمنع هذا من خرق تلك السنن إذا ما أراد سبحانه ذلك ما دامت المشيئة هى مشيئته وحده، وهو ما وقع فى صورة معجزات لبعض الأنبياء والرسل عليهم السلام، ولا يمثل مع ذلك سوى حالات استثنائية قليلة! وهو نفسه يقول (ص79- 80 من الجزء الأول من كتابه هذا) إن من المستحيل "خرق القوانين الطبيعية بأية إرادة كانت. والقرآن واضح هنا: "ولن تجد لسنة الله تبديلا" (الأحزاب/ 62)". وكان قد قال شيئا قريبا من هذا قبلا (ص20 من نفس الجزء).
ومن الشواهد أيضا على عدم إحسانه القراءة زعمه أن البلاذرى قد أنكر سفارة عمرو بن العاص إلى نجاشى الحبشة بغية تأليبه على المسلمين الذين هاجروا إلى بلاده لِوَاذًا بعطفه وعدله، قائلا إن ذلك المؤرخ يحكم على تلك السفارة بأنها "وهم" (ص226). وها هو ذا "أنساب الأشراف" للبلاذرى بين يدىّ أنظر فيه ما كتبه مؤرخنا العظيم، فماذا قال؟ سأنقل لكم ما كتبه بالنص لتَرَوْا معى إلى مدى يمكن الثقة بفهم هشام جعيط لما يقرأ. قال البلاذرى: "وأما عمارة بن الوليد فيقال إنه وعَمْرو بن العاص توجها برسالة قريش إلى النجاشي في أمر من بالحبشة من المسلمين ليفسداه عليهم ويهجناهم عنده ويسألاه دفعهم إليهما. وحمّلوهما إليه وإلى بطارقته هدايا من أدم وغيره. وذلك وهم. وقيل: إنه كان مع عمرو بن العاص في هذه المرة عبد الله بن أبي ربيعة، ولم يكن معه عمارة. فردهما النجاشي مقبوحين خائبين، فاشتدت قريش عند ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الثبت.
ثم إن عمرا وعمارة خرجا بعد ذلك في تجارة إلى الحبشة، وكانا ظريفين فاتكين. وكانت مع عمرو امرأته، فقال لها عمارة، وهما يشربان في السفينة: قبِّليني. فقال لها عمرو: قبِّلي ابن عمك. ففعلت، وحَذِره عمرو. فأرادها عمارة على نفسها، فامتنعت، وفطن عمرو بذلك. ثم إن عمرا جلس على حرف السفينة ليبول، فدفعه عمارة في البحر، وكان يجيد السباحة، وأخذ بالقلس وتخلص، فاضطغنها عليه وكتب إلى أبيه العاص بن وائل أن اخلعني وتبرأ مني ومن جريرتي على بني المغيرة وبني مخزوم، فقد كان من عمارة كيت وذيت. وهو يرصد له بما يرصد به. ولم يلبث عمارة، حين دخل أرض النجاشي، أنْ دَبَّ لامرأة النجاشي فاختلف إليها. ويقال إنها رأته فعشقته، وكان جميلا فدَعَتْه. فجعل يختلف إليها، وكان يحدّث عمرا بما يجري بينهما، فكان عمرو يظهر تكذيبه ليمحكه بذلك. فقال له ذات ليلة: إن كنت صادقا فائتني بدهن من دهن النجاشي الذي لا يَدَّهِن به غيره، فإني أعرفه. وكان أصفر، فأعطته قارورة منه وثوبا أصفر من ثيابه. فجاء بذلك إلى عمرو، وكانا ينزلان في دار واحدة، فقال له عمرو: لقد نلتَ ما لم ينله قرشي قبلك. وأخذ الدهن والثوب إليه، فلما أصبح أتى النجاشي بذلك وحدثه الحديث. فيقال إن النجاشي أخذه فقطعه آرابا ثم أحرقه، وأخذ امرأته فدفنها وهي حية. ويزعمون أن النجاشي دعا بالسواحر، فسحرنه، فكان يهيم. ثم إنه مات على تلك الحال. ويقال إنه لما فعلن به ذلك هام فكان مع الوحش. وخرج عبد الله بن أبي ربيعة في طلبه، وكان اسمه بحيرا فسماه النبي صلى الله عليه وسلم: عبد الله، فدُلَّ على مواضعه ومظانّه، فالتزمه فجعل يقول له: تنحَّ عني يا بحير. ومات في يده".
والآن من الواضح الجلىّ أن هشام جعيط لم يفهم النص، فالبلاذرى لا ينكر السفارة كما توهم جعيط، بل ينكر فقط إحدى روايتيها، وهى الرواية الأولى التى تقول إنها كانت مكونة من عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد والتى عقب عليها بقوله: "وذلك وهم". أما الرواية الأخرى التى تتكون السفارة فيها من عمرو ومن عبد الله بن أبى ربيعة فيطمئن إليها قائلا: "وهذا الثبت". ومع هذا فإنه يعود فيذكر سفر عمرو وعمارة معا إلى الحبشة، لكن لا للسفارة بل للتجارة على ما هو بيّن لكل من يفهم.
وهذا مثال آخر، وما أكثر الأمثلة، على عدم فهم هشام جعيط لما يقرأ، وهو تشكّكُه فى الرواية المشهورة عن إسلام عمر بن الخطاب، تلك الرواية التى تعزو يقظة ضمير الفاروق وتبلور عزمه على دخول الإسلام إلى قراءته لبعض آيات القرآن، فهو يقول إن "روايات البلاذرى عن الواقدى عن معمر عن الزهرى أقرب إلى الصحة حيث يقول: "أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أربعين رجلاً وإحدى عشرة امرأة"، أى مبكرا من غير أن يذكر أى تَوْرَخَة (يقصد: من دون أن يذكر تاريخا للواقعة)، لكنه يقول إنه أتى النبى ليؤمن، وكان مجتمعا فى بيت فى الصفا (دار الأرقم؟)" (ص249). هذا ما كتبه هشام جعيط، أما الذى كتبه البلاذرى فهذا هو بنصه وفصه: "حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة: ثنا عبد الله بن إدريس الأودي: ثنا حصين بن هلال بن إساف، قال: أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أربعين رجلاً وإحدى عشرة امرأة. وحدثني محمد بن سعد والوليد بن صالح عن الواقدي عن معمر عن الزهري، قال الواقدي: وحدثني ابن أبي حبيبة عن داود بن الحصين وغيرهما، يزيد بعضهم على بعض، قالوا: أسلمت فاطمة بنت الخطاب أخت عمر وأسلم زوجها سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، فكانا يتكتمان بإسلامهما عن عمر، وكان عمر شديدا على من أسلم من قومه. وأسلم نعيم بن عبد النحّام، وإنما سمي النحّام لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دخلت الجنة فرأيت فيها أبا بكر وعمر، وسمعت نحمة من نعيم"، فسمي: النحّام. قالوا: وكان شريفا. وكان خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب فيقرئها القرآن، فخرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم متوشحا بالسيف يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطا من أصحابه ذُكِروا له وأُخْبِر أنهم مجتمعون في بيت عند الصفا، وهم أربعون أو نيف وأربعون بين رجال ونساء، وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ عمه حمزة وعلي وأبو بكر رضي الله عنهم. فلقيه نعيم بن عبد الله فقال: أين تريد؟ قال: أريد محمدا هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها وذم من مضى من آبائها، فأقتله فيرجع الأمر إلى ما كان عليه. أيظن محمد أن قريشا تنقاد له؟ كلا واللات والعزى. فقال له نعيم: قد والله غرتك نفسك يا عمر. أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض إذا قتلت محمدا؟ فقال: لا أعلم رجلاً جاء قومه بمثل ما جاء به، فلئن تركناه لهي السوءة. وأراك تتكلم عنه، وما أظنك إلا قد تبعته. فسكت نعيم وقال: ارجع إلى بيتك فأقم أمره. فقال: وأيُّ أهل بيتي اتَّبَع محمدا؟ قال: فاطمة أختك وختنك سعيد بن زيد. قد والله أسلما. فقال عمر: أراك والله صادقا. إن سعيدا قد نزع إلى ما كان أبوه يدين به من خلاف قومه وترْكِه أكل ذبائحهم وحضور أعيادهم. فمضى عمر يريدهما. قال نعيم: وندمت على إخباري إياه بما أخبرته به وأني لم أطو أمرهما عنه كما طويت أمر نفسي. وكان عمر قد رأى خَبّابًا يختلف إليهما. قال: فدخل عمر على أخته وزوجها، وعندهما خباب، ومعه صحيفة فيها سورة "طه"، وهو يقرئهما إياها. فلما سمعوا حسّه تغيب خباب رضي الله عنه في مخدع لهم في البيت، وأخذت فاطمة الصحيفة فجعلتها تحت فخذها. فلما دخل عمر قال: ما هذه الهينمة التي سمعتُ؟ قالا: ما سمعتَ شيئا. قال: بلى والله. لقد بلغني أنكما تابعتما محمدا على دينه. وبطش بختنه سعيد، فقامت فاطمة لتكفه عنه فضربها فشجها. فلما فعل ذلك قالت أخته وختنه: نعم والله لقد أسلمنا وآمنا بالله وبرسوله، فاصنع ما بدا لك. فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع ورقَّ وارعوى، وقال لأخته: هاتي الصحيفة لأنظر ما هذا الذي جاء به محمد. وكان عمر كاتبا. فقالت: لا أفعل حتى تغتسل، فإنه كتاب لا يمسه إلا طاهر. فاغتسل عمر، ثم أعطته الصحيفة وفيها "طه". فلما قرأ صدرا منها قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع خَبّاب قوله طمع فيه فخرج وقرأ عليه السورة، وقال: يا عمر، إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس يقول: "اللهم أيد الإسلام بأحب الرجلين إليك: بعُمَر أو عمرو بن هشام".
قال عمر: فدُلَّني على محمد حتى آتيه فأُسْلِم. فدله عليه، فخرج حتى انتهى إلى دار الأرقم المخزومي فضرب عليهم الباب. فلما سمعوا صوته قال الأرقم: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحًا بسيفه. فقال حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه: إن كان يريد خيرا بذلناه له، وإن كان يريد سوى ذلك قتلناه بسيفه، فأْذَنْ له. فدخل ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه في الحجرة فأخذ بحُجُزته أو بمجمع ردائه ثم جبذه جبذةً شديدة، وقال: "والله ما أراك تنتهي أو يُنْزِل الله بك قارعة. فقال: جئتك لأومن بالله ورسوله وما جئتَ به من عند الله، فقد سمعتُ قولاً لم أسمع مثله قط. فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف أهل البيت بها أنه قد أسلم، وتفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكانهم ذلك، وعَزُّوا بإسلام حمزة وعمر، وعلموا أنهما سيمنعنان رسول الله صلى الله عليه وسلم وينتصفان له من عدوه. ولما أسلم عمر نزل جبريل فقال: قد استبشرنا بإسلام عمر.
قال الواقدي: فحدثني محمد بن عبد الله عن عمه ابن شهاب الزهري عن سعيد بن المسيب، قال: أسلم عمر بعد أربعين رجلاً وعشر نسوة، فما هو إلا أن أسلم حتى ظهر الإسلام بمكة. حدثني محمد بن سعد: ثنا إسحاق بن يوسف الأزرق: حدثنا القاسم بن عثمان عن أنس بن مالك، قال: خرج عمر متقلدا السيف، فل%uقيه رجل م0646 بني زهرة فقال: أين تعمد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمدا. قال: وكيف تأمن بني هاشم وبني زهرة إذا فعلت ذلك؟ فقال له عمر: ما أراك إلا قد صبوت. فقال له: أفلا أدلك على أختك وختنك؟ فقد صبآ وتركا دينك الذي أنت عليه. فمشى عمر متذمرا حتى أتاهما، وعندهما خباب بن الأرت رضي الله عنه. فلما سمع خباب حِسّ عمر توارى في البيت، فدخل عليهما فقال: ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم؟ قال: وكانوا يقرأون "طه". فقالا: حديث تحدثناه بيننا. فقال: لعلكما قد صبأتما؟ فقال ختنه: أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك؟ قال: فوثب عليه عمر فوطئه وطئا شديدا، فجاءت أخته فدفعته عن زوجها فنفحها نفحة بيده فدمَّى وجهها، فقالت وهي غضبى: يا عمر، إن الحق لفي غير دينك. اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فقال: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم أقرؤه. وكان عمر يقرأ الكتب، فقالت أخته: إنك نجس، وإنه "لا يمسه إلا المطهرون"، فقم فاغتسل أو توضأ. فقام فتوضأ ثم أخذ الكتاب فقرأ "طه" حتى انتهى إلى قوله: "إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري"، فقال: دلوني على محمد. فلما سمع خباب رضي الله عنه قول عمر خرج من البيت فقال: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الخميس لك، فإنه قال: "اللهم أَعِزَّ الدين بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام". قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار التي في أصل الصفا، فانطلق عمر حتى أتى الدار، وعلى بابها حمزة رضي الله عنه وطلحة وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فلما رَأَوْه وَجِلُوا منه، فقال حمزة رضي الله عنه: هذا عمر. فإن يرد الله به خيرا يسلم، وإن يكن غير ذلك يكن قتله علينا هينا. قال: والنبي صلى الله عليه وسلم حينئذ داخل يُوحَى إليه، فخرج حتى أتى عمر فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل سيفه وقال: ما أراك يا عمر منتهيا حتى ينزل بك من الخزي والنكال كما نزل بالوليد. اللهم هذا عمر بن الخطاب، فأَعِزَّ به الدين. فقال عمر: أشهد أنك رسول الله. وأسلم ثم قال: أخرج يا رسول الله"... قال الواقدي: هذا أثبت ما سمعنا في عمر...".
وأول ملاحظة نخرج بها من هذا النص أن تساؤل جعيط عن حقيقة الدار التى بالصفا لا موضع له لأن الرواية التالية قد ذكرت أنها هى فعلا دار الأرقم بن أبى الأرقم. والواقع أن لهذه الملاحظة دلالتها الخطيرة، إذ تكشف مرة أخرى أن جعيط لا يحسن القراءة أو أنه يتخطفها تخطفا كما لاحظتُ من قبل على د. محمد مندور فى الفصل الذى عقدته للشيخ حسين المرصفى من كتابى عن "مناهج النقد العربى الحديث". والثانية، وهى الأهم، أن البلاذرى لا يرفض الرواية التى تعزو إسلام عمر إلى قراءته آيات من القرآن الكريم، بل يؤمن بصحتها تمام الإيمان حسبما سنرى بعد قليل. وإنى لأتحدى جعيط وزعيط ومعيط ونطاط الحيط جميعا أن يدلونى على جملة أو كلمة أو همسة أو حتى نحمة من البلاذرى تومئ مجرد إيماء إلى أنه يرفض تلك الرواية. وكيف يرفضها، وقد أوردها بدل المرة مرتين، ثم عقب فى نهاية كلامه على كل ما قاله عن عمر بما فيه هاتان الروايتان بأنه أصحّ ما سمعه فى هذا الموضوع؟ على أن المسرحية لما تنته فصولا، فإن الإسناد الذى ساقه جعيط هو إسناد الرواية التى ينكرها جلالته ويومئ إلى أن الواقدى ينكرها هو أيضا. أما الخبر الذى أورده هو باعتباره الرواية التى يقبلها البلاذرى ويرفض ما عداها، وهو: "أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أربعين رجلاً وإحدى عشرة امرأة"، فهذا إسناده: "حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة: ثنا عبد الله بن إدريس الأودي: ثنا حصين بن هلال بن إساف". ثم إن هذا الخبر لا يتعارض بحال والروايتان الأخريان اللتان ساقهما البلاذرى، بل يتكاملان: الخبر بإيجازه، والروايتان التاليتان له بما فيهما من تفصيلات وتوضيحات. وهكذا نلمس مرة أخرى بأيدينا لمسا أن د. جعيط لا يحسن القراءة أو على الأقل: لا يحسن الفهم. وهذا إن لم يكن يتعمد التدليس تعمدا، وهو ما لا أستبعده أبدا.
والعجيب أن يتهم جعيط ابن إسحاق ويزعم أنه، لتشيعه وخضوعه لضغط العباسيين الذين كتب السيرة النبوية فى عهدهم، قد أسند لبنى هاشم، وخصوصا العباس، دورا فىحماية النبى أكبر كثيرا من الواقع تقربا إلى بنى العباس (ص252). وهذا الكلام قد سبق أن قاله د. محمد على مراد، الذى رددتُ عليه وفنّدتُ كل ما قاله همسة همسة، ونحمة نحمة، فكتب مقالا فى مجلة"المصور" القاهرية يتهم فيه العبد الفقير إلى ربه تعالى بأنه يرهبه ويكفره، إذ اتهم د. مراد ابن إسحاق نفس الاتهامات وأدار عليها رسالته من أولها إلى آخرها. ولست أدرى أكان ترديد جعيط لكلام مراد مجرد مصادفة أم اطلع على ما كتب الرجل فأخذه دون أن يشير إليه. ذلك أن تلك الأطروحة لا تظهر بين مراجع جعيط. ونترك هذه النقطة للباحثين يحققونها على مهل.
وسواء كان جعيط قد أخذ من مراد أو لم يأخذ فالكلام الذى قاله هو، فى الحق، تنطعٌ ماسخٌ. لماذا؟ لقد سبق أن أثبتُّ فى كتابى: "إبطال القنبلة النووية الملقة على السيرة النبوية"، الذى فندتُ فيه أطروحة الدكتور مراد تفنيدا لم يترك فيها موضعا لثَقْب إبرة دون أن ينسفه، أن ابن إسحاق عالم فاضل لا ينزل إلى هذا المستوى الواطى الذى يحاول جعيطنا أن ينزله إليه، متجاهلا أن هناك علماء كراما لا يبيعون ضمائرهم ولا يرضَوْن أن يعيشوا أذنابا لبعض الجهات كبعض الناس وينعقوا بما ينعق هؤلاء به. وبرهنت على ذلك بما قاله القدماء الأثبات فى ابن إسحاق وعلمه وفضله، وكذلك المستشرقون. كما لفتُّ الانتباه إلى أن العباسيين شىء، والشيعة شىء آخر، وأنه كان بين الفريقين عداوة ملتهبة طوال التاريخ، فلا معنى إذن للقول بأن تشيع ابن إسحاق المزعوم قد جعله يزيف التاريخ من أجل إرضاء العباسيين.
ثم لا ننس أن ابن إسحاق لم يسند حماية النبى إلى العباس بل إلى أبى طالب. كما لا ينبغى أن يفوتنا ما كتبه فى سيرته من أن أبا طالب قد مات على دين قومه. أفلو كان الرجل يكتب التاريخ كى يرضى بنى هاشم أكان يميت شيخهم فى عهد النبى كافرا بالدين الذى أتى به ابن أخيه؟ ومِثْلَ ذلك قٌلْ فيما كتبه عن أبى لهب، إذ كان يستطيع، ما دامت الأمور سائبة إلى هذا الحد وكان يمالئ الهاشميين كما يزعم جعيط، أن يُدْخِله الإسلام. وماذا فى ذلك؟ وما الذى كان سيتكلفه فى هذا أكثر من جرة قلم لا راحت ولا جاءت؟ ومن يا ترى يضرّه أن يقال إن أبا لهب قد أسلم وسوف يدخل الجنة؟ أما العباس الذى ينتمى إليه العباسيون فلم يُسْلِم فى سيرة ابن إسحاق إلا فى فتح مكة، مثله فى ذلك مثل أبى سفيان. فأى فضل له فى هذا بحيث يتخذه ابن إسحاق متقرَّبا إلى العباسيين؟ كذلك فما قاله ابن إسحاق فى هذا الموضوع قد قاله عروة والزهرى فى كتابيهما من قبل فى العصر الأموى، أى قبل العباسيين. أقول هذا حتى لا ينبرى أحد من سخفاء العقل التافهين فيزعم أنهما قد كتبا هذا إرضاء للعباسيين. كما أن ابن حزم وابن عبد البر فى كتابيهما عن السيرة النبوية قد قالا نفس الشىء، وكانا يعيشان فى الأندلس فى ظل حكم بنى أمية. أفترى جعيط يجرؤ على القول بأنهما كانا يتشيعان وكانا يريدان التقرب من بنى العباس؟ بل إنه هو نفسه قد شهد بأن السيرة رغم كتابتها فى عهد بنى العباس لا تنال كثيرا من أجداد الأمويين ولا تنالهم بسوء كبير (ص261). فماذا يريد أكثر من هذا كى يكف غَرْب لسانه عن ابن إسحاق ولا يفترى عليه الأكاذيب؟
أما بخصوص الفرية التى افتراها بعض شياطين أوربا فى الفترة الأخيرة زاعمين أن القرآن لم يكن له وجود إلا بعد نزوله الذى يزعمه المسلمون بنحو قرن ونصف، إذ اخترعه العرب اختراعا واخترعوا معه شخصية محمد وتاريخه وتاريخ الفتوح والخلفاء الأربعة وخلفاء بنى أمية أيضا، فلم يجد هشام جعيط ما يقوله فى الرد عليها إلا أن المسلمين كانوا يتلون القرآن فى الصلاة بدليل أنه كانت هناك مساجد فى الكوفة منذ عهد زياد، وأخرى فى المدينة منذ عهد عبد الملك (ص24). أرأيتم الكرم البالغ الذى يكرمناه الدكتور جعيط؟ إن معنى كلامه هذا هو أنه لم تكن هناك مساجد فى الكوفة قبل زياد، ولا فى المدينة قبل عبد الملك! ومعنى هذا مرة أخرى أن عليًّا لم يكن يصلى لا هو ولا رجاله فى عاصمة خلافته لأن المساجد لم يكن لها وجود فى الكوفة قبل زياد. كما أن النبى لم يكن يصلى لا هو ولا الصحابة لأن المساجد لم يكن لها وجود فى المدينة قبل عبد الملك بن مروان! وهكذا يكتب التاريخَ أستاذُ التاريخ ذو الاسم الطنان! فيا لضيعة التاريخ وأستاذ التاريخ معه!
وقد سبق أن تناولت هذه الفرية الشيطانية فى مقال لى ظهر فى عدد من المواقع المشباكية قبل عدة سنوات بعنوان "خذوه فغُلّوه ثم فى الخَنْكَة أَوْدِعوه". وفيما يلى بعض الفقرات التى تهمنا من هذا المقال، إذ أصدر طبيب فرنسى معتوه اسمه برنار راكان كتابا بعنوان"Un Juif nommé Mahomet : يهودىٌّ اسمه محمد" جاء فيه أن "L'islamologue Alfred-Louis de Prémare (Les fondations de l'islam, Editions du Seuil) établit qu'une bataille s'est déroulée en 683 en Syrie, et non à Médine, ville qui n'existait pas au septième siècle, soit cinquante ans après la mort officielle de "Mahomet". D'après les légendes islamiques, j'ai calculé que Médine aurait compté vingt mille habitants, soit autant que Paris à la même époque... en plein désert, sans eau et sans agriculture. Creuser un fossé autour relève de la fantaisie".
وهذا الطبيب المخبول يشك فى صحة وجود المدينة المنورة ومكة المشرفة والرسول والمعارك التى خاضتها القوات المسلمة فى ذلك العصر والمواقع التى دارت رحاها فيها أيضا. ولنستمع أولا إلى ما يقوله عن وفاة الرسول عليه السلام وتولى أبى بكر رضى الله عنه الخلافة من بعده: "Mahomet a été déclaré mort en 632 suite à une tractation entre Abou Bakr et le calife Omar, sans concertation avec Ali, floué alors qu'il dirigeait une armée de la région qui est aujourd'hui l'Irak. Pourtant "Mahomet" donne des ordres en 634, 640, 651, 660, 683, 688, 725, 785, 830, 855".
فحسب أوهام طبيبنا كان قد تمّ اتفاق بين أبى بكر وعمر، عند وفاة الرسول عليه السلام، على تولى الأول حكم المسلمين، على حين كان على بن أبى طالب، طبقا لعلم صاحبنا اللَّدُنّىّ، يقود الجيوش وقتها بعيدا فى العراق فلم يتم التنسيق معه بل تم خداعه. كما يسخر طبيبنا المتهوس من أن الرسول، رغم وفاته فى 632م، كان لا يزال يصدر الأوامر بعد ذلك لوقت طويل فى الأعوام 640،651، 660، 683، 688، 725، 785، 830، 855م! ترى من أين لكاتبنا كل هذه العبقرية التى لا مثيل لها؟ ما كنت أعرف أن ما يقوله بعض الناس من أن الفَرْق بين العبقرية والجنون شعرة هو رأى صحيح، حتى قرأتُ هذا الكلام فرأيتُ كيف أن عيار العبقرية قد يزيد حبتين فينقلب جنونا خالصا لا أمل فى الشفاء منه ولو أحضروا لصاحبه خيرة النطاسيين والمعالجين النفسانيين ومحضِّرى العفاريت وكاتبى الأحجبة والمعزِّمين! بالله متى كان علىٌّ يقود الجيوش فى العراق عند وفاة النبى؟ وبأية أمارة كان هذا يا ترى؟ لقد كان، رضى الله عنه وكرَّم وجهه، آنذاك فى المدينة مع غيره من أقارب النبى مشغولا بتغسيله وتكفينه ودفنه صلى الله عليه وسلم، ولم تكن هناك جيوش إسلامية فى أى مكان فى ذلك الحين، اللهم إلا جيش أسامة بن زيد، الذى كان قد تم تجهيزه للذهاب إلى حدود الشام، إلا أن موت النبى عليه الصلاة والسلام قد أوقفه إلى حين. وبالنسبة للعراق بالذات لم يحدث أن وطئه حتى ذلك الحين أى جيش مسلم، بل لم يحدث أى تفكير فى إرسال قوات إلى حدوده مع جزيرة العرب فى عهد النبى قط. أما أنه عليه السلام كان يصدر أوامره إلى المسلمين إلى ما بعد وفاته بعد عقود فليقل لى القراء الكرام: كيف كان هذا؟ ومن يا ترى قاله سوى هذا المخبول؟ يقينا أن قائل هذا الكلام ليس له مكان يصلح له إلا الخانكة أو العباسية خَبْطَ لَزْقَ دون إبطاء أو تأخير، لا للمسارعة بتدارك حالته، فهى كما قلنا حالة ميؤوس منها، بل لحماية الناس من خطره، فلربما أقدم على عمل متهور يعرِّض الأمن العامّ للخطر (أو بتعبير الخفراء عندنا فى القرية: "الإِمْن العامّ" بكسر الهمزة، كَسَّر الله ضلوعه كلها ضلعا ضلعا حتى يهمد ويريحنا من هذه الدوشة الكذابة التى يزعجنا بها مثلما تزعجنا دوشة نباح الكلاب بالليل حين تكون فَاضِيَةً لا عمل لها!) فيعضّ طفلا من رجله أو يهارش كلبا ويدميه فينشب فيه الكلب الآخر مخالبه وتصير معركة كلابية حامية وتصبح مشكلة ونقول ساعتها: يا ليت الذى جرى ما كان!
وهذا الرجل يترك حقائق التاريخ ويذهب فيفترض أشياء لا يمكن أن تكون صحيحة أبدا ثم يبنى فوقها ما يريد الوصول إليه من نتائج يرى أن من شأنها التشكيك فى تلك الحقائق التاريخية. فعلى سبيل المثال فمكة عنده كانت، فيما يبدو ("فيما يبدو": لا حظ!)، حيًّا من أحياء دمشق، لكن لماذا؟ الجواب، حسبما يقول، هو أن كلمة "مكة" تعنى بالآرامية: "مدينة منخفضة". ثم يمضى مؤكدا "أننا الآن قد أصبحنا نعرف أن المسلمين الأوائل، شأنهم شأن القَرَائين الأوائل (جمع "قرآن")، تم اختراعهم فى الشام، وليس فى جزيرة العرب:"Le mot: la mecque est faraméen syrien, et signifie ville basse, désignant probablement un quartier de Damas. On sait maintenant que les premiers musulmans, comme les premiers corans, et la vie de Mahomet, furent inventés en Syrie, et non en Arabie...La Mecque n'existait pas, car on n'a jamais vu des milliers d'habitants s'installer dans un désert aride sans eau ni cultures".
خلاص: لقد أبرم سيادته التاريخ إبراما وأصدر فرماناته بأن مكة ليست من مدن جزيرة العرب بل من مدن الشام! ولا يستطيع المتضرر أن يلجأ إلى أى قضاء بعد هذا القضاء المبرم الذى قضاه صاحبنا! فانظر بالله عليك أيها القارئ كيف يُكْتَب التاريخ، وكيف يريد بعض الناس أن يحكّموا أهواءهم المجنونة فى تغيير حقائقه، وكيف يريدوننا أن نتابعهم على هذا التنطع، وإلا كنا متخلفين! ناشدتكم الله يا قرائى الكرام، لو كانت مكة حيًّا من أحياء دمشق، فأين ذهب ذلك الحى؟ ولماذا سكت الدمشقيون عن هذا التزييف الجلف الذى لم يحدث مثله فى التاريخ، وبخاصة أنه يسلبهم الشرف المتمثل فى أن بلادهم هى مركز الإسلام ومصدره؟ وكيف صمت أحفاد القرشيين، والأمويون منهم بالذات، على ما قالته أقلام المؤرخين وكتب السيرة المزيفة عن أجدادهم وعن معاداتهم للدعوة الجديدة مما يشهّر بهم ويفضحهم فى كل أرجاء العالم؟ وأين ذهب الرومان الذين كانوا يحتلون بلاد الشام فلم ينبّهوا العالم إلى هذا التزييف الوقح الذى مارسه العرب والمسلمون، على الأقل من باب الانتقام والحرب المعنوية والدعائية بعد أن خسروا الحرب العسكرية والسياسية؟ ومعروف أن الشوام لم يسلموا كلهم، بل بقى منهم حتى الآن كثير من النصارى واليهود، فكيف يسكتون على مثل تلك الفعلة العجيبة، وهى فرصة لفضح هؤلاء الذين فتحوا بلادهم وأَتَوْهم بدينٍ غير الدين الذى يعتنقونه، ولسان غير اللسان الذى كانوا يتكلمونه؟ ولماذا لم يتكلم ويصدع بالحقيقة واحد مثل ثيوفان الكاتب البيزنطى الذى أتى بعد عصر الرسول ببضعة عقود ليس إلا وأخذ على عاتقه محاربة الإسلام، بدلا من نسبة الأكاذيب إلى الرسول الكريم وأصحابه على عادة المبشرين؟ ترى هل من الممكن أن يتم تزييف شىء مثل هذا ثم تسكت الدنيا كلها عنه فلا تتكلم ولا تعترض أو لا تبدى على الأقل شكًّا، إلى أن هلّ علينا الطبيب الفرنسى المأفون بعد أربعة عشر قرنا من الزمان فعدل الوضع المائل؟ واعتمادا على ماذا؟ اعتمادا على أوهام ما أنزل الله بها من سلطان! ثم ما دخل المعنى الذى يدعيه، صوابًا أو خطأً، لكلمة "مكة" فى الآرامية فى أن تكون تلك المدينة حيًّا فى دمشق لا مدينةً فى جزيرة العرب؟ إن كلامه يوحى بأن كلمة "مكة" ليست عربية، وهو سخف آخر من سخافات الرجل الذى من الواضح أنه لا يفقه شيئا بالمرة فى موضوعنا، بل ينقل من كتب بعض المستشرقين ما يوافق هواه دون عقل أو فهم! فالآرامية والسريانية والكلدانية والأشورية والعبرية والحبشية...كل هذه اللغات، مَثَلها مَثَل العربية، لغاتٌ ساميّة، بالضبط مثلما نقول إن الفرنسية والطليانية والإسبانية والبرتغالية هى لغات لاتينية، ؆23ىْ لغات *فرعت من اللغة الأم واستقلت بنفسها. وعلى هذا فالقول بأن هذه الكلمة الموجودة فى لساننا العربى أو تلك ليست عربية بل سريانية مثلا أو آرامية هو فى الواقع كلام يُقْصَد به التلبيس على القارئ العادىّ الذى لا يعرف شيئا عن الموضوع، إذ ليس هناك أى دليل على أن ذلك صحيح، فضلاً عن أنْ ليس هناك من معنًى لأن تُخْتَصّ العربية دون أخواتها الساميات بالأخذ عنهن بدلا من القول المنطقى العاقل بأنها تشتمل على هذه الألفاظ كما تشتمل عليها أخواتها.
والعجيب أن الطبيب الفرنسى المخبول يرجع إنكاره وجود مكة إلى أنها تقع فى وادٍ جديب غير ذى ماء ولا زرع. أفنكذّب إذن أقاربنا ومعارفنا وكل المصريين والعرب والمسلمين وكل الكتّاب والرحالة من مسلمين وغير مسلمين ممن زاروا مكة قبل توظيف شطر من أموال النفط فى تحلية ماء البحر الأحمر لسكانها ولسائر أهل السعودية والخليج كله عموما، ونقول لهم: وإِنِنْ! مهما قلتم لنا عن مكة فليس لمكة وجود! لقد نسى المجنون أن زمزم كانت ولا تزال هناك طول الوقت يشرب الناس ويستمدون حاجاتهم الأخرى من مائها فتكفيهم هم وضيوف الرحمن بحمد الله. وهذا أمر قد شهد به المستشرقون الذين استطاعوا الاندساس بين الحجيج والتظاهر بأنهم مسلمون وكتبوا عن البلد الأمين. وحتى بعد أن توفر لها ماء البحر المحلَّى فلا تزال المنطقة المحيطة بها واديا غير ذى زرع. وما زال الناس كذلك يقطنونها ويحبون العيش فيها حتى الآن رغم شدة حرارتها، وسيظلون يفعلون ذلك إلى ما شاء الله. وعلى أى حال فليس العيش فيها بالصعوبة التى عليها الحياة فى مناطق الإسكيمو ولا بواحد على المليون منها، ومع ذلك فتلك المناطق تعجّ بالسكان ويحبها أهلها كما يحب أهل كل بلد بلدهم!
لقد فات ذلك المخبول أن الأصل فى الأخبار عموما أنها صادقة ما لم يقم دليل على عكس ذلك أو يَحُكْ فى النفس شىء مما سمعتْه، فعندئذ يشك الإنسان فيما بلغه، وحقّ له أن يشك. فما الذى فى الخندق أو فى وجود مكة أو المدينة مما يبعث على الريبة؟ لقد كان أحرى بهذا المجنون أن يذهب فيقرأ أولا قبل أن يتهور كل هذا التهور. هل يمكن أن يتصور عاقل أنه لم تكن هناك فى بلاد العرب قبل الإسلام مدينة اسمها مكة، ثم نبتت هكذا نبتا عفاريتيا بعده، ثم لم يبد أحد دهشته (وبخاصة من سكانها الجدد الذين لم يكن لهم قبل ذلك وجود) من هذا التراث الغزير الهائل الذى يدور حولها شعرًا ونثرًا وتاريخًا ودينًا وأنسابًا والقائل بأنها طول عمرها كانت موجودة فى جزيرة العرب؟ أترى الذين أنشأوا تلك المدينة وأَتَوْا بالناس ووضعوهم فيها كما توضع البلاليص فى أماكنها دون أن يؤخذ لهم رأى قد ألزقوا لاصقًا على أفواههم إلى أن انطمست ذاكرتهم ولم يعودوا يعرفون شيئا عن أصلهم أو فصلهم ولا عن أصل مدينتهم أو فصلها، فعند ذلك رفعوا اللاصق وسمحوا لهم بالكلام؟ وهل فعلوا مثل ذلك مع سكان الأرض جميعا بما فيهم النصارى واليهود الذين كانوا يعيشون فى جزيرة العرب قبل الإسلام ثم تم إجلاؤهم عنها بعده؟ ترى لماذا لم يفتح أحد من هؤلاء فمه فيفضح المستور ويكشف الزيف والتزييف؟ وماذا نقول فى بطليموس الجغرافى اليونانى القديم الذى تكلم عنها وسماها "مَكُرَبا: Macoraba" (كتاب وليم موير عن سيرة الرسول/ صxc، ومادة "Mecca" فى الطبعة الأولى من "The Encyclopaedia of Islam")؟ وماذا نصنع مع ما قاله هيرودوت عن اللات، إحدى الآلهة الوثنية التى كان لها صنم فى كعبة مكة قبل الإسلام (وليم موير/ صcii- ciii)؟ كذلك ما العمل إزاء ما ذكره الرحالة الأوربى بروس (Bruce)، الذى زار بلاد الحبشة فى القرن الثامن عشر الميلادى من أن الأحباش يروون فى تواريخهم أن أبرهة قصد مكة ثم ارتد عنها لما أصاب جيشه من المرض الذى يصفونه بالجدرى (عباس محمود العقاد/ مطلع النور/ كتاب الهلال ديسمبر 1968م/ العدد 213/ 75)؟ وفضلا عن ذلك فثمة بحث لكرزويل الآثارى المشهور يرد فيه على كايتانى المستشرق الإيطالى وما يذهب إليه من إنكار بناء قريش للكعبة، ويؤكد أن ما وصلنا فى كتب التاريخ عن هذا الأمر صحيح لا شك فيه (العقاد/ مطلع النور/ 76). وهناك أيضا كتاب للمستشرق الهولندى دوزى يحاول أن يثبت فيه وجود بنى إسرائيل فى مكة خلال عصورها الجاهلية عنوانه: "Die Israeliten zu Mekka"، كما كتب فى نفس الموضوع المستشرق البلجيكى لامنس كتابا عنوانه:"Les Juives à la Mecque". ولم نسمع بأحد سواهما من المستشرقين أو غير المستشرقين ممن يؤبه بكلامهم أو لا يؤبه يقول إن مكة لم يكن لها فى إقليم الحجاز أثناء الجاهلية وجود!
ثم لماذا يفعل العرب بعد الإسلام هذا كله؟ وهل يُتَصَوَّر أن يفكر الحكام العرب بعد الإسلام، وبعد أن أَضْحَوْا يسبحون فى بحور الغنى والترف، فى إنشاء مدينة مثل مكة فى قلب الجبال والصحراء حيث يشحّ الماء (على أساس أن زمزم غير موجودة بناء على فرضيتة الطبيب الفرنسى الرذيلة مثله) وحيث تنعدم الزراعة والصناعة؟ ثم كيف يَرْضَوْن بعد ذلك كله، وهم المسلمون، أن يُنْسَب لآبائهم زورا وبهتانا أنهم كانوا مشركين يعبدون الأصنام والأوثان وأنهم حاربوا القرآن والرسول الذى أتاهم به وحاولوا القضاء عليه وعلى دعوته، بل وصل الأمر بهم أن فكروا يوما فى قتله والتخلص منه غدرا وغيلة؟ ومن المجنون الذى سولت له نفسه بالانتقال إلى مثل تلك المدينة دون أن يكون هناك جاذب من أى نوع يَهْوِى بفؤاده إليها حتى ولا ذكريات الطفولة والصبا فيها وكونها موطن الأجداد؟ باختصار لا يوجد سبب واحد، كما رأينا، يجعلنا نصدق هذا الهراء الجنونى، فى الوقت الذى تتضافر كل الدواعى لرفضه والسخرية من عقل صاحبه.
ونفس الشىء الذى قاله مخبولنا عن مكة نجده فى كلامه التالى عن يثرب، إذ يقول:" Le mot medina (s'écrivant mdn) est un mot araméen syrien, et signifie district, dans la région de Madian (s'écrivant aussi mdn) en Syrie". وكما قضى قضاءه المبرم فى أمر مكة فحكم عليها أن تكون شامية لا عربية، ومُحْدَثة النشأة بعد الإسلام لا عريقة الجذور قبله، نراه هنا كذلك يصدر حكمه الذى لا يُصَدّ ولا يُرَدّ بأن المدينة هى أيضا ذات أصل شامى، وأن اسمها آرامى! ونفس الردود التى أوردناها عليه فى تخريفاته الرقيعة عن مكة تكفى فى الرد على تخريفاته هنا التى لا تقل عنها رقاعة! ونزيد على ذلك أن بطليموس وإسطفانوس البيزنطى قد كتبا عن المدينة وسمياها: "Yathrippa: يثربَا"، كما تشير إليها النقوش المعينية باسم "يثرب" (مادة"Al- Madina" فى "The Encyclopaedia of Islam").
وبالإضافة إلى هذا فإن ثمة كتابات يهودية شامية من القرن الثالث قبل الميلاد تتحدث عن وجود يهود فى منطقة خيبر وما حولها، وإن أنكرت عليهم طريقة ممارستهم لدينهم (إسرائيل ولفنسون/ تاريخ اليهود فى بلاد العرب فى الجاهلية وصدر الإسلام/ لجنة التأليف والترجمة والنشر/ 1927م/ 13)، وهو ما يتسق مع ما يقوله المسلمون عن وجود يهود قبل الإسلام فى تلك المناطق بما فيها يثرب، هؤلاء اليهود الذين لم يعد لهم أثر هناك بعد ذلك، فما الذى يدفع المسلمين يا ترى إلى القول بأنه كان هناك قبل الإسلام وجود لليهود فى يثرب إذا لم يكن لهذه المدينة وجود فعلى حسبما تزعم تخريفات الطبيب الفرنسى؟ وثمة كتاب للعالم الغربى لِسْزِينْسِكى يتناول وجود اليهود فى المدينة قبل الدعوة المحمدية اسمه:"Die Juden zu Medina". كما يتحدث إسرائيل ولفنسون الباحث اليهودى فى كتابه السالف الذكر عن وجود اليهود فى يثرب وما حولها حديث الموقن تمام الإيقان، مُورِدًا أقوال المستشرقين فى ذلك، ومستدلاًّ من بعض أسماء القبائل والشخصيات والأماكن والحصون والآبار اليهودية على سبيل المثال على أن ما يقوله العرب عن هذا الموضوع صحيح (16-17، 61- 62، 81...)، فضلا عن أنه لا ينكر شيئا البتة مما تقوله المصادر الإسلامية عن الحوادث التى جرت هناك بين النبى عليه الصلاة والسلام وبين بنى إسرائيل عليهم اللعنة. وما هذا، رغم ذلك كله، إلا غَيْضٌ من فَيْض!
وبعد، فإن هشام جعيط هو مثال صارخ من أمثلة كثيرة تحاصرنا من كل ناحية على البكش العلمى الذى تُقْرَع الطبول له وتُنْفَخ المزامير للفت الأنظار إليه وإلى صاحبه وإيهام الناس أنه عبقرى ليس كمثل عبقريته شىء، وما هو فى الواقع سوى كاتب متواضع القيمة، إلا أن آلة الإعلام الجهنمية تعمل بكل وسيلة على تضخيمه وتصويره للمشاهدين على أنه عملاق كى ينشر الهلس الذى ينشره فيظن القراء أنهم بإزاء كاتب نحرير ذى علم غزير ومنهج قدير، مع أنه فى واقع الأمر كائن مسكين طبقا لما رأيناه عليه فى أسلوبه وأفكاره ومنهجه ليس فى جَعْبته إلا كل رأىٍ فطير. والله المستعان!
Ibrahim_awad9@yahoo.com
http://awad.phpnet.us/
http://ibrahimawad.com/
http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9
،