قصة " الإنــــــتــــــحال"
المدينة غارقة في سبات عميق،والشوارع خالية من المارة،وكأنها بهذا الفراغ تحولت الى مقبرة خرساء أو صحراء جرداء،بدت عارية من كل شيء ،حتى قططها وكلابها الضالة اختفت بفعل هذا الصقيع الذي هجم عليها هذا العام مبكرا،فقد تعود الناس في شهر شتنبر أن يظل الطقس حارا ومتقلبا تارة أخرى، إلا من زخات مطرية عابرة أو زوابع رمالية قوية، لا يوقف من حدتها غير أشجار الليمون المنتشرة في كل ارجاء المدينة.
بدت المدينة معزولة أكثر من أي وقت مضى، لا أحد يؤنسها في وحدتها غير قهقهات بعض السكارى أو المتسولين القابعين في ركن من أركانها أو زاوية من زواياها،طامعين في إحسان الخارجين من الحانات والمطاعم والعلب الليلية المخصصة للرقص،هم يعلمون أن هذه الفصيلة البشرية هي وحدها التي تنفحهم ببعض الدريهمات أو ما تبقى في الجيوب من سهرة الأمس لذلك تراهم
لا يملون من الإنتظارالذين يعرفون أنهم لن يخرجوا منه خالي الوفاض،أو يعودوا بخفي حنين.
في نهاية الشارع الرئيسي بالمدينة،تسمر رجل فارع الطول، لون بشرته قمحي،شعره أسود فاحم تتخلله بعض الشعيرات البيضاء من الشيب،وفي عينيه تقرأ أشياء كثيرة،ونظراته تتخللها ملامح ذكاء لا يعرفها إلا من حدس الرؤى وفهم معاني النظرات الثاقبة.
كان يعتمر قبعة صوفية ومعطفا أسودا علاه الغبار،وحذاءا مرقعا تشققت جنباته بفعل الشمس والمطرأو لعله الحذاء الوحيد الذي يملك،وسحنته توحي أنه عارك الزمن لسنين طويلة،وعلى وجهه خطوط منعرجة،تجاعيد وندوب ناتجة عن معارك أيام الشيطنة والطفولة،وحول معصمه ساعة يدوية من الطراز القديم،وتحت المعطف قميص أزرق باهت اللون،اتسخ وتآكل من جهة الياقة،وسروال أصفر فاقع اللون،تدلت أطرافه حتى اسفل الحذاء،وبرزت خيوطه بفعل احتكاكه بالتراب والأحجار ذات النتوءات الحادة،وبالرغم من إحكام الطاقية حول رأسه،فقد برزت خصلات سوداء ممتزجة بالبياض كاشفة عن شعر كثيف تحدت صاحبها في وقاحة وجرأة،وتتخلل عيناه البنيتين وميض خاص يوحي بأن الرجل لم يحرم من نعمة الذكاء.
كانت شفتاه لا تفارق لفافة التبغ،يدخن الواحدة تلو الأخرى في عصبية ظاهرة،ويداه ترتعشان تعبا من الوقوف،بعدما أسند ظهره لمحل تجاري يقابل "سينما شنتكلير" وفضل أن يجلس القرفصاء،وهو يمسح باطن يده اليمنى باليسرى،لكي يستشعر الدفء،وكيف له ألا يفعل والدنيا برد وزمهرير والزمن زمن الشتاء ولياليه الباردة الطويلة التي ناءت بكلكلها على النفوس الضعيفة القيرة فتحول حياتها الى عذاب طويل ليست له نهاية.
مضى الهزيع الأول من الليل،وما زال الرجل الكهل متسمرا في مكانه،وكأن كل ما حواليه لا يعنيه،وبين الحين والآخر يلتفت لليمين واليسار،ويشرئب بعنقه ليتأكد من خلو المكان،فرابني أمره وازداد فضولي لمعرفة تواجده في هذا الوقت المتأخر من الليل.
كنت ساعتها قد خرجت توا من مبنى وزارة الإتصال حيث أشتغل،حين تلاقت نظراتي مع الشخص المريب.
ساعتها تذكرت تلك الرواية العلمية التي قرأتها تحن عنوان" الدكتور جيكل والمستر هايد" وعن التحولات الفيزيقية الفيزيائة للمستر جيكل الذي يتحول الى هايد،وتذكرت ايضا ان هذه التحولات لا تتم إلا بالليل.
بدأت حريصا على اكتشاف سره،وبقيت مختفيا من حيث لا يراني حتى لا أزعج راحته،وأضمن بقاءه.
ساعتان من الإنتظارالممل،كدت أفقد معها صبري وتساءلت قائلا:
" أي حمق أصابني؟وأي جنون حل بي لأظل أراقب رجلا تافها كهذا؟ وأي داء عصيب يصيبني لو بقيت الليل كله واقفة تحت رحمة المطر الوابل والبرد القارس؟ ولمت نفسي لأنني لم أكن في يوم من الأيام طفيليا أو "حشريا"بتعبير إخواننا المصريين.
وكدت أنصرف لولا أن اثار انتباهي وقوف سيارة فاخرة،وبسرعة خرج منها رجل أنيق الملبس بحذاء لا مع وربطة عنق حمراء،ويرتدي جاكتة جلدية من الطراز الغالي،واقترب من الرجل الكهل ،هذا الأخير الذي أخرج من تحت معطفه رزمة كبيرة من الأوراق الكثيرة،سلمها لصاحب السيارة الذي منحه بالمقابل مبلغا من المال،وقبل أن يرتد طرفي اختفى صاحب السيارة كأنما ابتلعته الارض وبقيت المدينة سابحة في أحلامها الوردية.
بقيت فاغرا فمي لهذه المقابلة العجيبة،والا تفاق الغريب بين الرجلين،وعجلت بخطواتي مقتفيا آثا الكهل حتى اهتديت لمنزله المتواضع.
وفي الغد وفي نفس المكان تمت الصفقة بين الرجلين،وكم كانت دهشتي عظيمة حين رأيت صاحب السيارة في قناة تلفزية ببذلة أنيقة وقد أجري معه حوار صحافي حول روايته الثالثة"البركان والمصيدة".
لفني الذهول وأحسست بدوار شديد،وازدادت رغبتي في معرفة هذا السر بحثت وتقصيت عن علاقة هذا الروائي بذلك الكهل،وأخبرني طال جامعي يسكن بالقرب من هذا الكهل أن هذا الأخير كاتب بارع وروائي محنك يبيع رواياته وقصصه ومسرحياته لمن يدفع أكثر وأنه لجأ لهذا العمل لأنه فقير لا يجد قوت يومه ولديه زوجة وأطفال.
ازدادت دقات قلبي لهذا النبإ الخطير،فالمسكين إذن يبيع ابداعاته وماجادت بها قريحته من روايات ممزوجة بشقاء دمه لينشرها صحافي لا يحمل من الشهرة إلا الإسم ولا من الثقافة إلا ذلك الوجه الأخطبوبي الذي تسلط عليه الكاميرا أضواءها لتبدأ الصحافة غدا عملها في الحديث عن آخرالإصدارات في عالم الرواية.
خا لد عبد اللطيف.