السلطة والمعرفة
إن الدولة قد أصبحت بدون شك هي المرادف الأكثر بداهة للقانون. وإذا كانت الدولة هي مصدر النصوص التشريعية، فالسؤال المطروح هنا هو: إلى أي مدى يمكن الحديث عن براءة هذه النصوص؟ وبالنظر إلى آثارها النهائية على مستوى القرارات، ألا يمكن اعتبارها مؤثرة على مستوى طبيعة العلاقات بين الفرد والسلطة؟
من الملاحظ أن التشريع على مستوى التقليد الشفوي، قد يتعرض للتحريف، على عكس المكتوب الذي يتضمن تحديدا دقيقا وجذريا لمن يمتلك السلطة، ويمارسها، ويعمل على تطبيقها. وعلى هذا الأساس يمكن القول أن أي دراسة للسلطة لا يستقيم معناها إلا عبر دراسة أشكال نشرها وشعاراتها، وإعلامها، وطريقة إذاعتها للخبر، والميكانيزمات البيروقراطية المميزة لها، ونظام العقوبات الذي تعتمده... ذلك أن السلطة تتسرب إلى كل شيء، وعبر قنوات عدة، وهو ما تعبر عنه المقولة الشائعة: "كل شيء له طابع سياسي" علما بأن السلطة لا تمارس دائما بين حاكم ومحكومين، بل أيضا بين الأفراد، بل حتى بين الفرد وذاته، إنها تتفرع في كل اتجاه وبقدر غير محدود. فما علاقة السلطة باللغة، والمعرفة؟
1. السلطة، اللغة والمعرفة:
تبقى السلطة عديمة الفعالية في غياب اعتراف وقبول المحكومين بها، من خلال إنتاج خطابات ورسائل من خلالها تظهر التزامات السلطة ورغباتها ورهاناتها، وبهذا المعنى لا يستقيم الحديث عن السلطة إلا عبر وساطة اللغة، إذ من خلالها تثبت السلطة وجودها داخل الخطاب.
فوجود السلطة مرتبط باللغة، وبعبارة أخرى فلا وجود لسلطة صامتة، لأن دوام صمتها يعني تفككها وزوالها، ويكشف البانوبتيك Le Panoptique وهو مؤلف للخبير القانوني الإنجليزي جريمي بنتام (1748 – 1832) عن طريقة لبناء مؤسسات التفتيش، بالقدر الذي يجعل السلطة تأخذ اتجاهين عمودي وأفقي ليصبح كل واحد مراقبا للآخر. وعلى هذا الأساس يرسم البانوبتيك صورة تقريبية لقنوات الاستخبار التي تسمح للسلطة بأن تكون مطلعة بشكل كبير على حياة الأفراد والناس.
يبدو إذن أن فضاء السلطة يبدو متفرعا بشكل كبير لدرجة تصبح معها السلطة كذات غفل، وهو ما نفهمه من خلال قول ميشيل فوكو إنها آلة تقبض الجميع سواء أولئك الذين يمارسون السلطة أو الذين تمارس عليهم ... إنها تركيبة آلية ليست ملكا لأحد.
2. المعرفة والسلطة:
يشير ميشيل سير إلى أن المعرفة تتواجد على الدوام وتتخذ موقعها بالقرب من السلطة.
فإذا كان أفلاطون قد وضع الحكم بيد من يعرفون، وهم الفلاسفة طبعا، وهم مطالبون بمعرفة الخير في ذاته. فإن المعرفة المعاصرة في شكلها العلمي تسعى إلى تحقيق أهداف أخرى، لتكون أكثر ارتباطا بالسلطة.
فقد أكدت الأبحاث الإبستمولوجية الارتباط القوي ما بين الدراسات والأبحاث العلمية وتطبيقاتها العسكرية، وهي علاقة لا مجال لإنكارها في عصرنا، خصوصا من طرف الذين يدعون الحياد والموضوعية في مجال العلم. ألا يعني ذلك غض الطرف عن مصادر تمويل هذه الأبحاث؟!
إن كل سلطة تخلق بالضرورة تهديدا دائما بقتل وتدمير الغير بشكل "شرعي"! وبعبارة أخرى فإن السلطة تتخذ منحى "ثناتوقراطيا" Thanatocratique بتعبير ميشيل فوكو. وحينما نجد السلطة تحاول إضفاء طابع العقلانية على نفسها، فالمحاولة تلك تنتهي بها بالضرورة إلى السقوط بين أحضان الإيديولوجيا التقنوقراطية، بمعنى أن اتخاذ القرار لن يكون إلا بأيدي من يمتلكون المعرفة، الشيء الذي يؤدي إلى خلق هوة عميقة بين ما يسمى بالنخبة وباقي أفراد المجتمع.
خلاصــة واستنتـاج:
لا يمكن إذن انطلاقا من الاعتبارات السابقة أن نحصر دور الفلسفة في ملاحظة ما بين المعرفة والسلطة من علاقات وارتباطات. إن دورها يجب أن يرقى إلى مستوى مساءلة المعرفة، ووضعها أمام مسؤوليتها النقدية، بالقدر الذي يجعل من الفلسفة تفكيرا له غايات سياسية وأخلاقية...
حسـن لشهـب