هذا الموضوع كتبه الاستاذ الشاعر عبدالرحيم محمود
للشعراء المبتدئين الذين يبذلون جهدا في تعلم العروض
ويغفلون مسألة الخيال الشعري ..وفيما يلي نبرز بعض المفاهيم بطريقة مبسطة
الفرق بين الكلام الشاعري والكلام العادي ؟؟؟
كلام العادي مباشر سطحي لا ينتظر منه الا توصيل ما بنفس المتكلم لكي يفهم السامع بمباشرية مقصودة أما الكلام الشعري فهو كلام يقصد به الدخول عن غير طريق الأذن فقط ويريدك صاحبه أن تسمعه بأذن قلبك ويهز مشاعرك بالتسلل لدقات قلبك ، ليصبح الشعور الذي أرسلته سفيرا لك داخل سامعك ، فليس المقصود بكلام الشعر أن يسمعك المخاطب بقدر ما يتعاطف معك بتوافق اهتزاز مشاعرك مع مشاعره ، ولذا يتعمد الشاعر أن يخاطب اهتزازات أوتار قلبك ، لا ثبات فكر عقلك
أهمية الخيال للنص الادبي ؟؟؟
والخيال هنا هو مصنع الصور وبقدر ما يكون الخيال متسعا بقدر ما تأتي الصورة رائعة قادرة على التغلغل لنفس المستمع والحصول على تماهيه مع قولك لأنك استطعت نقله من حالة الثبات لحالة الدهشة التي نقلته من حالة سكون لحالة اهتزاز داخلي وتواصل مع صاحب الصورة
الصورة الشعرية وما هيتها ؟؟
والصورة الشعرية عبارة تمازج بين اللون والحركة والتجسيد وبث الحياة والحركة في الصورة الجدية فهي تأتي بعناصر جامدة صامتة وتحولها يد الفنان لقطعة جميلة متكلمة ، والصورة عبارة عن تمثال يتكلم عن إبداعات ناحته بعد أن كان قطعة مهملة صامتة من الصخر المهمل بلا حياة ولا حركة ولا يلتفت إليه نظر ، والفرق بين الكلام العادي والتصوير هو كالفرق بين قطعة الحجر والتمثال أو اللوحة الفارغو والألوان ومن ثم اللوحة التي نثرت فوقها الألوان لتقول شيئا ما
علو قدر الشاعر حسب إتيانه بصور شعرية ؟
وعلى قدر ما يستطيع الشاعر من جمع الصور الناطقة في قصيدته أو نصه يستطيع أن يدهش القاريء أو السامع ويؤثر بدواخل نفسه ، ويجعل من نفسه ساكب السحر أمام أعين سامعيه أو قرائه ، فالصورة المبهرة تدل على عمق إحساس مبهر أيضا ، والعكس صحيح
هنا اترك لكم أمثلة على أبيات فيها صور شعرية نشرحها لكم ونتذوقها
ونحاول الاستفادة منها بإذن الله :
البيت الاول :
قال أحمد شوقي
(من البحر الوافر):
مدحت المالكين فزدت فخرا // وحين مدحتك اقتدت السحابا
فشوقي خلق صورة من سحاب جامد ، وراع له نفخت فيه الحياة عندما مدح الشاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبذلك نقل الدهشة من قلمه لنفس المرء وهو يتخيل السحاب يقوده الشاعر ويحوله لكائن حي بفضل مدح النبي صلى الله عليه وسلم وما نتج عنه من علو قدر الشاعر بتركيب تلك الصورة
البيت الثاني :
قال الشاعر عبدالرحيم محمود
(من مجزوء المديد)
أي رمل أنت سيدتي= كلما أمشي عليه مَحا
فالشاعر يتعجب ويرسم حالته مع حبيبته التي يبني معها حبا في كل مرة يكون قصرا من الرمل يندثر بعد مرور دقائق فراق ، ويتكرر البناء والهدم فهو يشبهها برمل الشاطيء الذي مهما سار عليه الماشون فإن آثار خطواتهم تمحى بمجرد أن تأتي للشط موجة ، والموج يتكرر فلا يبقى أثر للماشين على الشط ، صورة لليأس من نجاح الحب مع تلك الحبيبة صاحبة النفس التي تتلاعب بعواطف الناس ولا تتصف بصدق الشعور
البيت الثالث
وقول احدى الشعراء المولدين
(من مجزوء الرجز ) :
إنسانة فتانة =بدر الدجى منها خجل
فإذا زنت عيني بها=فالبدموع تغتسلْ
يقول الشاعر ان الحبيبة يخجل منها البدر
ولا شك في هكذا معنى نحسب ان الانسانة الفتانة ان نورها ساطع
ووجهها منير وإلا لما استحى منها البدر ..
ثم في البيت الثاني ..يقول الشاعرانه ينظر إليه
ويعتبر ذلك زنا العين !! ..ولوجوب الغسل بعد الجماع
فإنه يقول ان عينه تغتسل بالدمع ..وهكذا يكون المعنى والتشبيه بارعا
البيت الرابع :
بيت جميل بثينة
(من البحر الطويل )
خليلي فيما عشتما هل رأيتما=قتيلا بكى من حب قاتله قبلي؟
وهذا البيت الجميل هو الصورة المتضادة الصادمة ، فهو يصور حبيبا قتل حبيبه عشقا فهو رغم قتله عشقا يستمر في حبه والصورة الصادمة في حب من اعتاد الناس كراهيته ، ومثل تلك الصور موجودة في كتاب الله تعالى كما في قوله : ففروا إلى الله . وهذا المعنىيجعل له قدرة على الوصول لمكان أعمق داخل نفس المخاطب
البيت الخامس :
بيت للمتنبي ( من البحر الخفيف )
أتراها لكثرة العشاق =تحسب الدمع خلقة في المآقي ؟
المأقي هي العيون..
تصوير لنفس امرأة جذابة جميلة نرجسية تحب أن تبكي عيون محبيها وتجمع في ألبوم صورها صورهم الباكية ، فهي تعتقد أن جمالها له هدف وحيد هو زرع الحزن في القلوب وجعل الأعين تذرف دموع احتراق تلك القلوب
البيت السادس :
بيت لأبي نواس
من البحر الكامل
وأخفت أهل الشرك حتى أنه =لتخافك النطف التي لم تخلقِ
نلاحظ مبالغة ابو نواس حيث يريد ان يقول
انه حتى نطف المشركين وابنائهم الذين لم يخلقوا يخافون من هارون الرشيد لشدة فتكه بهم.
والمبالغة هنا هي نسبة شيء إلى مالا ينسب له وهي صورة صادمة لذهن السامع أو القاريء ولذلك هي تتعمق بداخله وتؤتي أكلها عند الممدوح وتجعله يجزل العطاء بسبب دهشة المخاطب
البيت السابع:
من شعر ظميان غدير
البحر الكامل :
بحديثها انسى وأذكر شقوتي=قل كيف ذكرني الذي أنساني ؟؟
يندرج هذا ضمن الصورة الصادمة التي تنسب الشيء لما لا يجوز نسبته له وهي صورة بليغة تجعل الدائرة مقفلة مما ينتج عنها صورة ضوئية بذهن المخاطب تجعله يتوقف كثيرا ليتساءل أي رسام أو نحات هذا ؟
البيت الثامن:
البيت لأبي تمام
والبيت من البحر الكامل
فيه فائدة بلاغية وقصة مشهورة:
إقدام عمرو في سماحة حاتم = في حلم أحنف في ذكاء إياس ِ
وقصته أن أبا تمام دخل على الخليفة المعتصم وأنشده قصيدته التي مطلعها :
ما في وقوفك ساعة من باس= نقضي ذمام الاربع الأدراس
حتى بلغ قوله :
إقدام عمرو في سماحة حاتم= في حلم أحنف في ذكاء أياس
فقال له الوزير : أتشبه أمير المؤمنين بأجلاف العرب ؟
فأطرق ساعة ثم قال :
لا تنكروا ضربي له من دونه= مثلا شرودا من الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره= مثلا من المشكاة والنبراس
وهذا دليل على ان العظيم قد يشبه بشيء اقل منه
فالله سبحانه وتعالى يشبه ُ نوره بنور المشكاة
البيت التاسع
قول الشاعر
من البحر الخفيف:
ظبية أسكرت نبيذ كؤوسي=وتجلت إذ أشرقت في شعاع
صورة معكوسة او ما يسمى بتشبيه مقلوب
فبدلا من أن تسكر بالكؤوس سكرت الكؤوس بها ،
وبدلا أن تستضيء بالشمس استضاءت بها الشمس
وتلك من أبدع صور الخيال الذي يعمق تأثير الكتابة فيمن يخاطب بها
نقل : ظميان غدير