ناجح إبراهيم: مصر أعظم دولة مؤهلة لصد العدوان عن الأمة
حوار/ ليلى بيومي 18/2/1428
08/03/2007
كان أول من أسس الجماعة الإسلامية في مصر التي برز اسمها بقوة في 6 أكتوبر 1981 حين اغتالت الجماعة الرئيس المصري أنور السادات أثناء احتفالات انتصارات أكتوبر بمدينة نصر بالقاهرة، وقد نُسب للجماعة الإعداد لخطة تستهدف إثارة القلاقل والاضطرابات وللاستيلاء على مبنى الإذاعة والتليفزيون والمنشآت الحيوية بمحافظات مصر.
وفي 8 أكتوبر 1981م قام بعض أفراد الجناح العسكري للجماعة الإسلامية التي اختارت التغيير بالعنف منهجاً بمهاجمة مديرية أمن أسيوط ومراكز الشرطة واحتلال المدينة، ودارت بينهم وبين قوات الأمن المصرية معركة حامية قُتل فيها العديد من كبار رجال الشرطة والقوات الخاصة، وانتهت بالقبض عليهم وعلى رأسهم الدكتور ناجح إبراهيم وكرم زهدي وعصام دربالة، والحكم عليهم فيما عُرف في وقتها بقضية تنظيم الجهاد بالأشغال الشاقة المؤبدة لمدة (25) عاماً.
وفي عام 1997 أعلن قادة الجماعة من داخل محبسهم مبادرة لوقف العنف. و قد حظيت هذه المبادرة برفض كبير من جانب رموز الجماعة في الخارج، ومن أشهر من انتقد ذلك من القيادات محمد الحكايمة.
الدكتور ناجح إبراهيم عضو مجلس شورى الجماعة الإسلامية، وفيلسوفها ومنظرها، كان من القادة الأساسيين الذين قادوا فكر المراجعات، ومبادرة وقف العنف، يؤكد أن مصر هي أعظم دولة مؤهلة دائماً لصد العدوان على الأمة العربية والإسلامية، قائلاً بأن على الحركات الإسلامية "ألاّ تحاول هدم سلطة الدول التي تحيا بها".
"الإسلام اليوم" التقت الدكتور ناجح إبراهيم، وأعادت معه فتح ملفات قديمة وحديثة حول هموم وأفكار الجماعة الإسلامية في مصر.. فإلى تفاصيل الحوار.
كيف تنظرون إلى الحرب التي يشنها النظام المصري على الإخوان من محاكمات عسكرية والتحفظ على الأموال وغيرها من وسائل التضييق؟
الحضور السياسي والإعلامي الزائد عن اللزوم وغير المسوّغ أحياناً أضر بالإخوان، وجلب عليهم مفاسد هم في غنى عنها، وكانت مفاسده عليهم أكثر من مصالحه الشرعية.. والسياسة والإعلام سلاح ذو حدين.. والحركة الإسلامية قد تحتاج الآن إلى التربية العميقة وتهذيب الشخصية المصرية وتنميتها وتطويرها أكثر مما تحتاج إلى الحضور السياسي والإعلامي المبالغ فيه.. والذي يحشد عليها الخصوم جميعاً الذين يحرضون الحكومة نفسها على ضربهم... ولابد أن نعلم أن السياسة غادرة، غير نظيفة، نفعية انتهازية، وقد كانت هزيمة الإخوان للأحزاب الأخرى في الانتخابات دافعاً إلى حشد كل هذه الأحزاب لبعضها البعض لإزاحة الإخوان الذين أزاحوهم من الساحة السياسية، فعلى الإخوان أن يركزوا جهدهم على الدعوة الإسلامية والتربية وتعليم العلم.. والاكتفاء بما لا يضرهم من الحضور السياسي والإعلامي.
وأذكّر إخواني قادة الإخوان أن الشيخ حسن البنا عندما رشح نفسه للبرلمان في الإسماعيلية في الثلاثينيات استدعاه رئيس الوزراء مصطفى النحاس، وكان رجلاً حكيماً وعاقلاً وقال له: يا شيخ حسن، هل أنت رجل دعوة أم رجل سياسة؟ فقال الشيخ البنا -رحمه الله-: أنا رجل دعوة.. قال: إذاً سأعطيك فرصة عمرك في الدعوة، وسأذلل لك كل العقبات أمام دعوتك.. أما إذا صممت على الترشيح للبرلمان فسوف تضطرني إلى مالا أرضاه لنفسي، وسوف لا تنجح حتماً في البرلمان.. وقد اتخذ الشيخ البنا قراره الحكيم وقتها بسحب أوراق ترشيحه.. على الرغم من الغضب العارم لشباب الإخوان وقتها.. الذين عدوا ذلك هزيمة لهم.. ولكن الشيخ البنا ببعد نظره اعتبرها نصراً عظيماً.. وقد صدقت الأيام رؤيته الثاقبة؛ إذ كانت هذه السنوات أعظم السنوات في تاريخ الإخوان كله.. دعوة وتربية وانتشاراً.
ثم رشح الشيخ حسن البنا نفسه سنة 1942 أيام رئاسة أحمد ماهر للوزراء.. وتم تزوير الانتخابات في دائرة الشيخ.. وكان سقوط الشيخ البنا في الانتخابات سببًا في قتل أحمد ماهر، وبداية دوامه العنف التي انتهت بقتل داعية عظيم خسرته الدعوة الإسلامية وهو الشيخ حسن البنا.. وكذلك حل جماعة الإخوان وجعلها جماعة غير قانونية حتى الآن.. وقد سمعت من أحد قادة الإخوان الكبار أن الفوز الكبير لهم في مجلس الشعب أضر بهم، ولم يفدهم.. وكذلك الفوز الكبير لحماس في الانتخابات وتفردها بالسلطة في فلسطين لم يكن في مصلحتها، ولكنه أضر بها عملياً وواقعياً.
ولو راجعنا تجربة الإخوان بعد قيام الثورة لوجدنا أن عبد الناصر تقرّب منهم، وحلّ جميع الأحزاب، وأعاد لهم الشرعية القانونية.. وأراد مساعدتهم، وطلب منهم ترشيح أربعة أسماء من الإخوان ليرشح منهم اثنين، ولكنهم رفضوا ذلك، وطلبوا تعيين الأربعة جميعاً؛ إذ إنهم رأوا أنهم أقوى منه وأكثر شعبية، وخاصة أنه شاب صغير، وكان هذا التوتر هو البداية الحقيقية لحادث المنشية الذي كان سبباً في أكبر محنة دينية وإنسانية مرت بالإسلام والإخوان والدعوة الإسلامية وقتها.. وآه من بطش الشاب الصغير حينما يحكم ويملك.. وكل ذلك يعود في الأصل إلى الرغبة في الحضور السياسي والإعلامي الكثيف دون أن يعود ذلك بالإيجاب على الإسلام نفسه.
نحن " الجماعة الإسلامية " ذقنا أهوال المحاكم العسكرية.. وما ذقناه منها لم يذقه أحد من قبل ولا من بعد .. وذقنا أهوال السجون سنوات طويلة.. ولا نحب أن يذوق هذه الأهوال أحد والله حتى لو لم يكن مسلماً.. والمحاكم العسكرية التي ذقناها لم تحكم بثلاث أو خمس سنوات، ولكنها كانت تحكم بالموت... وإذا كان من كلمة أقولها للشيخ مهدي عاكف وقادة الإخوان الكرام فهي أن يتأسّوا بالشيخ البنا، ويأخذوا تجربته السابقة مأخذ الجد.. وقد قال الشيخ البنا في أخريات حياته بعد محنة سنة 1948: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لركزت اهتمامي بالدعوة والتربية كما كنت من قبل في بداية حياتي". هذه الكلمات نقلها عنه الأستاذ خالد محمد خالد والشيخ محمد الغزالي في كتب موثقة لهم.
البعض استقبل المراجعات التي قامت بها الجماعة الإسلامية بترحيب وقبول حسن، والبعض الآخر استقبلها بفتور وشك، وطائفة ثالثة استقبلتها بالرفض، معتبرين أنها اعتراف من الجماعة بخطأ توجهاتها الأساسية التي قامت عليها. فما ردكم؟
أذّكر الذين يقولون ذلك بما فعله كثير من فقهاء الأمة وأئمتها الكبار أمثال الإمام الشافعي الذي غيّر فقهه من القديم إلى الحديث، بعد أن غادر البيئة العراقية بخصائصها وسماتها وطبيعتها إلى البيئة المصرية بما تحمله من سمات وخصائص وطبيعة جديدة ومختلفة. فهل كانت منطلقات الشافعي الأولى خاطئة؟ كلا، وكذلك منطلقات كل فقيه غيّر رأيه في مسائل معينة.
إن منطلقاتنا كانت ولا تزال هي الكتاب والسنة، ولا يضر المجتهد أو العالم أن يرى الحق في غير رأيه، فيترك رأيه ويعود إلى الحق، ورحم الله عمر بن الخطاب حينما قال لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: "لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق فإن الحق قديم".
ولقد نظرنا فيما قدمناه للإسلام وعملناه طوال السنوات الماضية فوجدنا فيه خيراً كثيراً، وفي نفس الوقت وجدنا فيه بعض الأخطاء. وأهم خطأ هو استخدام العنف في مواجهة الدولة، وكذلك استخدام العنف أحياناً في تغيير المنكرات. ولكنْ للجماعة الإسلامية أعمال عظيمة يغفل عنها الكثيرون مثل الدعوة الإسلامية القوية والفعالة التي قامت بها، وحوّلت الصعيد كله من بؤر للفساد والعصبية الجاهلية إلى ولاء لله ورسوله، وهي كذلك التي حاربت التكفير والهجرة ومنعتهم من التغلغل في الصعيد في السبعينيات والتسعينيات وهزمته فكرياً وواقعياً، وهي التي علمت الناس الدين، في الصعيد خاصة، وفي مناطق أخرى، وأشياء أخرى كثيرة.
هل كانت هناك رؤية وطنية في مبادرتكم لوقف العنف؟
من الأسباب التي دفعتنا للمبادرة ووقف العنف والاحتراب الداخلي نهائياً هو رغبة إسرائيل في الهيمنة على المنطقة وإضعاف الدولة المصرية وتهميش دورها. ولما كان الاحتراب الداخلي يساعد على ضعف الفريقين، الحركة الإسلامية والدولة، معاً رأينا وقف العنف نهائياً.
ولقد انطلقنا من أن مصر هي أعظم دولة مؤهلة دائماً لصد العدوان على الأمة العربية والإسلامية، فمن هزم الصليبين سواها؟ ومن هزم التتار سواها؟ وذلك كله بعد توحدها مع الشام، الذي يمثل الخطوة الأولى في كل انتصاراتنا التاريخية.
وأول خطوة على الحركة الإسلامية أن تقوم بها، ألاّ تحاول هدم سلطة الدول التي تحيا بها، وعلى الحكومات ألاّ تحاول هدم الحركات الإسلامية ما دامت لا تحاربها ولا تقاتلها ولا تصارعها؛ فهدم الفريقين هو بداية الهزيمة، وقوة الفريقين معاً هو بداية النصر.
كما نظرنا أيضاً إلى الخطر الناشئ من محاولات بسط نفوذ الحضارة الغربية على حساب الهوية الإسلامية انطلاقاً من مقولات: نهاية التاريخ، وصدام الحضارات، وكانت العمليات القتالية بمصر تصب في خانة تقوية قيم الحضارة الغربية على حساب القيم الإسلامية.
كما نظرنا للخطر الناشئ من بروز سياسة حصار واستئصال الظاهرة الإسلامية، سواء كانت دولة أو حركة أو أقلية، وذلك على مستوى استراتيجيات القوى الدولية المناهضة للإسلام، وكان استمرار العمليات القتالية يجعل المناخ مهيأً لإتمام هذا الاستئصال أو إحكام الحصار بدعوى مواجهة الإرهاب و الحرب الوقائية ضده.
وقدرنا أيضا الخطر الناشئ من محاولات بعض دوائر أقباط المهجر لتوظيف الضغوط الدولية ضد مصر لتحقيق مكاسب غير مستحقة أو مشروعة بدعوى أن الأقباط يتعرضون لعمليات تستهدفهم من الجماعات الإسلامية والحكومة تتستر على ذلك، و كان استمرار العمليات التي يستهدف بعضها الأقباط يمثل ذريعة يتذرعون بها لاستمرار الضغط والابتزاز، خاصة مع إحساس هذا النفر من أقباط المهجر ببروز سياسة دولية لتحريض الأقليات ضد الحكومات التي تعيش في كنفها.
وقدرنا كذلك الخطر الناشئ من احتدام الصراع بين دعاة الفكرة الإسلامية ودعاة الفكرة العلمانية؛ إذ يظهر جلياً أن هناك بعض المعارضين للفكرة الإسلامية يوظف العمليات القتالية في مصر لتحريض السلطات على كل ما هو إسلامي لإحراز النصر الحاسم على دعاة الفكرة الإسلامية، وكان واجباً علينا أن نحرمهم من هذه الفرصة.
ونظرنا بعين الاعتبار أيضاً إلى الخطر الناشئ من الاضطراب المتزايد في المشهد الاجتماعي بمصر، وذلك من خلال بروز ظواهر مجتمعية سلبية كالبلطجة، ودعاوى الإباحية بشتى صورها، وبروز ظاهرة عبادة الشيطان، وانتشار المخدرات في شتى الأوساط، والزواج غير الشرعي، والتفاوت الهائل في الدخول والإنفاق الترفي المستفز .. إلى غير ذلك. و كان استمرار العمليات القتالية يمثل في نظرنا استمراراً لتفاقم هذه الظواهر لانشغال الجميع بذلك الصراع وغياب الدعاة الذين يمكن أن يمثلوا عامل توازن قيمي وأخلاقي في ضمير المجتمع.
البعض شكك في مبادرتكم لوقف العنف واعتبرها صفقة مع الحكومة. كيف تردون على ذلك؟
إن المبادرة ببساطة هي تغير فقهي مهم وتجديد فقهي عظيم قام به قادة الجماعة الإسلامية بشجاعة ورجولة منقطعة النظير.. وهذا ما كتبه العلامة الكبير د/ محمد سليم العوا مادحاً هذا التغيير الفقهي في الطبعة الجديدة لكتابه "تجديد الفقه الإسلامي"... وكذلك الدكتور يوسف القرضاوي الذي مدح شجاعة الذين قاموا بهذه المبادرة.. أما قصيرو النظر أو ذوو الأهواء و الأغراض الخاصة فلا يرون فيها إلا نوعاً من التغيّر أو التلوّن السياسي.. والذي يقرأ كتب المبادرة يعلم أنها بعيدة عن ذلك بُعد المشرقين. والذي يعرفنا عن قرب يعلم أننا لسنا تجار سياسة، ولكننا أهل دين ودعوة إلى الله، وهما أشرف شيء نعتز به في حياتنا.
ومنذ أن أعلنا البيان الأول لمبادرة وقف العنف في 5 يوليو 1997 في إحدى جلسات المحكمة العسكرية التي كانت تنظر إحدى قضايانا تساءل الكثيرون: ماذا تعني هذه المبادرة؟ ومنذ ذلك الحين تعددت الإجابات والتفسيرات والتحليلات،
فمن قائل يقول: إنها صفقة بين الدولة والجماعة، وآخر يرى أنها من قبيل التقية و الخدعة التكتيكية، وآخر يرى فيها إبطالاً للجهاد وخيانة للشهداء.
ولا شك في أن المبادرة لم تكن صفقة بمقتضاها تعطي الدولة للجماعة بعضاً من الدنيا في مقابل طمس بعض معالم الدين، فالدين وأحكامه لا يُشترى ولا يُباع في سوق الصفقات، و المبادرة عند صدورها لم تكن مخاطبة للدولة بقدر مخاطبة أعضاء الجماعة الإسلامية في الداخل و الخارج طالبة منهم إيقاف العمليات القتالية دون قيد أو شرط، فضلاً عن أن الدولة لم يكن من همها البحث عمن يطمس معالم الدين أو يسعى لذلك.
إنا أطلقنا المبادرة لوجه الله سبحانه وابتغاء مرضاته، ولأننا علمنا أنها توافق الدين وتسعى لصالح الإسلام وأوطانه.
إننا نعتبر المبادرة بمثابة الإصلاح الداخلي للجماعة الإسلامية.. فقد تغيرت الجماعة الإسلامية بعدها إلى الأحسن والأفضل والأكثر علماً والأوسع رحمة.. وعادت ترفع لواء الحب والولاء لجميع المسلمين.. تجمع ولا تفرق.. تبشر ولا تنفر.. عادت لتعالج باطن الإثم مع ظاهره.. عادت للاقتراب لا للاحتراب.. عادت لتهدي الخلق إلى الحق.. وتحبب الناس في رب الناس.. و على الرغم من ذلك كله فإن كل الناس لهم منابر ووسائل متعددة لتوصيل فكرهم مهما كان هذا الفكر.. وذلك بخلاف الجماعة الإسلامية التي لا تملك سوى هذا الموقع اليتيم، و على الرغم من ذلك يحسدنا الناس عليه، وكأنهم يتمنون رجوعنا إلى السجون مرة أخرى. والحمد لله على كل حال.
ولا شك أيضاً في أن المبادرة لم تكن إعمالاً لمبدأ التقية أو من قبيل الخدعة التكتيكيةِ؛ لأن الجماعة الإسلامية تنطلق من الفكر السني و هو فكر يخاصم فكرة التقية المعروفة في الفكر الشيعي، بالإضافة إلى الإعلان الدائم والمتكرر لأقطاب الجماعة بأن المبادرة تمثل رؤية إستراتيجية، ولا ترتبط بحالة افتقاد القدرة أو انحسار العمليات القتالية بمصر. ويكفي للتدليل على صحة ذلك المحاولات العديدة التي قامت بها القيادات التاريخية للجماعة الإسلامية لوضع حد لهذه المواجهات عندما كانت العمليات القتالية في قمتها، ولعل أشهر هذه العمليات ما عُرف في 1993 بلجنة الحكماء والوساطة التي كان على رأسها الشيخ محمد متولي الشعراوي، والشيخ محمد الغزالي -رحمهما الله- وكان يديرها الدكتور محمد سليم العوا مع كوكبة من العلماء والمفكرين والصحفيين والمحامين.
ولم يكن في المبادرة ما يُعدّ إبطالاً للجهاد أو خيانة للشهداء، فالمبادرة تقرر أن الجهاد فريضة ماضية إلى يوم القيامة، و لكنها فريضة لها ضوابط يجب توافرها كي يصح إنفاذها، فكيف يُقال بعد ذلك إنها تبطل الجهاد لمجرد أنها تقرر عدم توافر شروط الجهاد أو استمراره في مصر اليوم؟
ثم كيف يُقال: إنها خيانة للشهداء؟ والخيانة الحقيقية للشهداء هي عندما نخون الدين و نقول باستمرار قتال لم تتوفر شروطه الشرعية أو وجدت له موانع فقهية، وهل خان خالد بن الوليد سيف الله المسلول شهداء مؤتة عندما ترك قتال الروم، و عاد قافلاً إلى المدينة ليلقى مدح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حسن صنيعه؟ و هو قتال بين مؤمنين وكافرين، فما بالنا إذا كانت المبادرة جاءت لإيقاف قتال بين المسلمين. وبالمناسبة أكثر مَن تلقّى المبادرة قبولاً حسناً، وعرف قيمتها أشقاء الإخوة الذين قُتلوا في المواجهات.. وهؤلاء استشعروا بقلوبهم صدقنا وإخلاصنا في هذا الأمر.
لكن المبادرة كانت قناعة شرعية ورؤية واقعية اقتنعنا بها تماماً، ومثلت أساساً جديداً لمنهج جديد رسخناه من خلال ما أصدرناه من كتب تحمل الفكر الجديد.
بعض فصائل العمل الإسلامي اتهمت الجماعة الإسلامية بأنها استكانت وتخلّت عن الجهاد وتخاذلت. ما ردّكم؟
هذا غير صحيح تماماً، ففي المبادرة والكتب التي أصدرناها وتحمل فكرنا الجديد، أكدنا على الفهم الصحيح للجهاد كحكم شرعي يرتبط وجوداً وعدماً مع توافر الأسباب الموجبة له والشروط المتطلبة لإنفاذه، وانتقاء الموانع المانعة من إمضائه، والمصالح المقصودة به، في إطار التجديد الصحيح للأولويات على أساس من رؤية الواقع وتحدياته والاستجابة الصحيحة له.
وفي كل ذلك أكدت الجماعة الإسلامية على تنوّع الأدوات الإسلامية المشروعة للتعامل مع الواقع وأبنّا الخطأ الفادح في حصر هذه الأدوات في الجهاد فحسب؛ فقد أباحت الشريعة الصلح مع كل أحد لتحقيق ما يعظم حرمات الله، ويعلي من شعائره، ويدفع المفاسد، ويحقق المصالح، وأباحت التعاون أو التحالف على البر والتقوى ضد الإثم والظلم والعدوان.
وعلى هؤلاء بالذات ألاّ يزايدوا على الجماعة الإسلامية.. فالجماعة قدمت تضحيات لم تقدمها أي جماعة إسلامية أو وطنية في تاريخ مصر .. فقد أُعدم منها قرابة مائة أخ في عشر سنوات قابلوا ربهم في رضا وسكينة ورجولة منقطعة النظير.. وقُتل منها عشرات المئات خلال سنوات معدودة، واعتقل منها أكثر من عشرين ألفاً مكثوا أكثرهم في السجون أكثر من ستة عشر عاماً ولأول مرة في تاريخ مصر الحديث.. وكل هؤلاء جميعاً لم يذكرهم أحد وقتها.. ولم يتحدث عنهم أحد.
إننا لا نريد أن نتحدث عن الماضي؛ لأننا لا نحب نكء الجراح أو المتاجرة بالتضحيات والآلام.. فالجماعة الإسلامية تتميز بالصدق مع ربها ومع نفسها ومع الناس.. وقد كنا قبل ذلك نرى صحة الصدام مع الحكومة.. ولكننا الآن ومنذ المبادرة نراها خطأ شرعياً وواقعياً فادحاً.. فلا نستحي أن نعلن للناس عامة وللمسلمين خاصة ما نراه من صواب وحق.. وأكثر من ذلك الذين يقولون إننا تخلينا عن الجهاد، ولم يحملوا البندقية يوماً، ولم يعرفوا الجهاد إلاّ عبر وسائل الإعلام وخلف الكيبورد.
هؤلاء لم يكلفوا أنفسهم قراءة كتبنا التي تتحدث عن الجهاد كفريضة عظيمة من فرائض الإسلام.. ولكن هذه الفريضة لها ضوابطها وحدودها وموانعها. متى تجوز؟ ومتى تجب؟ ومتى تحرم؟ وقد أوضحنا ذلك في عدة كتب لنا.
والجهاد ميدانه الحقيقي قتال المحتلين والغاصبين والأعداء الحقيقيين.. وليس ميدانه الاحتراب الداخلي بين أبناء الوطن الواحد والدين الواحد والقبلة الواحدة..
على المستوى القومي، كيف تنظر إلى أهم الأمور التي تنقص الأمة وهي في حاجة شديدة إليها؟
أمتنا الإسلامية تحتاج لمشاريع سياسية قومية عديدة لإيقاف مسلسل العنف الذي لا يزال يجتاج أكثر من قطر من أقطارها، وتحتاج أيضاً مشروعاً لمواجهة الاستعمار الجديد الذي بات قابعاً في بعض أقطارها مهدداً للبعض الآخر، وأمتنا في حاجة لمشروع يأخذ بيدها لتحقيق التنمية الشاملة، وهي في حاجة للدخول في سباق التقدم العلمي والتكنولوجي، وأمتنا في حاجة لمشروع تُطرح عبره التصورات الإسلامية العصرية لمواجهة مشكلات البشرية.
كما أن أمتنا في حاجة لمشروع لدعم الفضيلة والحرية والحفاظ على الهوية ومواجهة الفقر والظلم والاستبداد، وأمتنا أخيراً وليس آخراً تحتاج لمشروع يطرح النموذج السياسي الفعّال الذي يقود حركة مجتمعاتها نحو هذه الآفاق الرحبة في إطار يحافظ على هويتها، ويطرح الإسلام بصورة عصرية تكشف عن عظمته وسماحته.
كيف تنظرون إلى الأحداث المشتعلة في فلسطين المحتلة، وإلى الصراع المشتعل بين "فتح" و "حماس"؟، وما هو الذي يمكن لـ "حماس" فعله في ظل هذه الظروف؟
لقد أدركنا منذ أن فازت حماس في الانتخابات البرلمانية وشكلت الحكومة أنها ستواجه الكثير من العقبات والمؤامرات، والسبب الرئيس لما حدث من توتر هو أن الأمريكان واليهود أحكموا الحصار على الشعب الفلسطيني وفق مخطط يقود إلى إحداث قلاقل ضد حماس ورفضها شعبياً، وساعد على نجاح هذا المخطط أن الدول العربية تقبلت تعليمات محاصرة حماس بلا نقاش، كما أن بعض قادة "فتح" لم يكن على مستوى النضال الذي عودونا عليه.
وقد كان الأخ إسماعيل هنية حكيماً حينما ناشد حماس وطلب من جنده ورجاله وأتباعه ثلاثة أمور هامة هي: وقف كل أشكال الصدام ين حماس وفتح،.. ووقف كل أشكال الحرب الإعلامية بينهما.. والموافقة على تكوين حكومة وحدة وطنية من كل الأطياف الفلسطينية تكون قادرة على تحقيق آمال وطموحات الشعب الفلسطيني المشروعة.
فهذه الأمور الثلاثة هي الأساس حقاً لرأب الصدع ورتق الفتق ولم الشمل الفلسطيني، وهذا ما نادينا به دائماً، ونادى به كل مخلص للقضية الفلسطينية. فلن يكون هناك أي تقدم أو خير أو حل للاقتتال الداخلي ما لم يتوقف نزيف الدماء الذي يوقد في نفوس الطرفين ناراً لا تنطفئ أبداً، ولا تستجيب لأي حل توافقي. فالدم يدعو إلى مزيد من الدم، والاقتتال الداخلي يؤجج بعضه بعضاً، وهو كالسلسلة كلما سحبت منها حلقة تداعت إليك باقي الحلقات، وهذا ما علمناه وخبرناه وقاسيناه في تجربتنا مع الاقتتال الداخلي في مصر والذي استمر سنوات طويلة.
ووقف الحملات الإعلامية لا يقل أهمية عن وقف نزيف الدماء، فحملات التشهير والتخوين والعمالة والتكفير التي يطلقها كل فريق على الآخر، وكذلك المظاهرات العدائية لكل واحد منهما ضد الآخر قد تكون في بعض الحالات أشد خطراً من القتل، وهي في الوقت نفسه دعوة مفتوحة للقتل والتصفية الجسدية للآخرين.
إن على الحركات الإسلامية جميعاً أن تعرف قيمة الصلح وخاصة بين المسلمين، وعليها أن تدرس لأبنائها فقه الصلح مع المسلمين ومع غير المسلمين كما تهتم بتدريسهم فقه الجهاد، وعليها أن تعلمهم أن الصلح جائز مع كل أحد، مسلماً كان أم غير مسلم، ما لم يحل هذا الصلح حراماً أو يحرم حلالاً، وأن الصلح جائز مع غير المسلمين حتى وإن كان فيه ضيم وهضم بالنسبة للمسلمين، والضابط الوحيد له أن يحقق مصالح الإسلام والأوطان العليا. وعلى الجميع أن يعلم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قبل الصلح على الضيم والهضم، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل له من هذا الضيم والهضم فتحاً قريباً ومخرجاً.
ومَن أقبل على الصلح من الحركات أو الدول الإسلامية والعربية عليه أن يوطن نفسه على قبول بعض الضيم والهضم، وخاصة في ظل هذا المناخ الدولي والإقليمي الخانق، وإن لم يوطن نفسه على ذلك فقد يكون هلاكه ودماره نتيجة حربه المستمرة التي هو فيها عادة الأضعف.
ولو أن الله لم يشرع ولم يبح الصلح لاستمر أي نزاع مسلح بين المسلمين وغيرهم إلى ما لا نهاية أو إلى فناء الطرفين أو فناء الأضعف. إن صلاح الدين الأيوبي قد عقد مع الصليبين العشرات من معاهدات الصلح، ولكن الدعاة والمربين عادة لا يذكرون له إلاّ معركة حطين فقط، ولا يشرحون لأبنائهم سوى ذلك، وهذا اختصار مخل في التربية والدعوة الإسلامية.
إنني أدعو "حماس" أن تقبل الممكن المتاح طالما كانت فيه مصلحة أمتها وشعبها، وأن ترفض دعوة من يدعوها إلى المستحيل أو ما لا تقدر عليه حالياً؛ لأن المزايدة على المستحيل تضيع الممكن ولا تأتى بالمستحيل.
وعلى حماس أن تضع لدولتها وشعبها أهدافاً ممكنة التحقيق، وأن تتذكر أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لو قال في أول أمره لا يبقى دينان في جزيرة العرب لاستؤصل الإسلام والمسلمون ولكن الرسول – عليه الصلاة والسلام – دعا إلى الممكن، وقال وقتها في مكة (خلوا بيني وبين الناس)، وجعل هذه الكلمات العظيمة دستوراً له في هذه الفترة، وكان يعيش في مكة وقتها وفيها قرابة ثلاثمائة وستون صنماً حول الكعبة، ولم يحطمها، ولم يأمر بتحطيمها وقتها.
وقبول الممكن المستطاع مع بذل كامل الجهد هو دعوة القرآن الكريم (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) و(لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا).
ما هو موقفكم من فلسفة وطريقة تنظيم "القاعدة" والأعمال التي يقوم بها؟
نحن نحترم كل من يعمل للإسلام.. والخلاف بيننا وبين القاعدة خلاف شرعي وليس خلافاً شخصياً.. وكثير من العوام قد تسعدهم بعض أعمال القاعدة مثل 11 سبتمبر كراهية في أمريكا.. وأنا أقول لئن أسعدتكم 11 سبتمبر أياماً فقد أتعست ملايين المسلمين في كل مكان سنوات وسنوات.. وذلك مثلما أسعدت بيرل هاربر اليابانيين أياماً، وأتعستهم سنوات طويلة بعد قصفهم بالقنابل الذرية سنة 1945..
ومشكلة القاعدة هي أنها تريد أن تحارب العالم كله، وتنتصر عليه بإمكانياتها المعروفة لجميع أبناء الحركة الإسلامية.. فقد حاربت أمريكا في 11 سبتمبر، وروسيا في الشيشان، والهند في كشمير، وباكستان في محاولة قتل كل رموزها، وإندونيسيا واستراليا في بالي، والسعودية في الرياض.. وغيرها ... وكذلك المغرب ومصر وكل الدول تقريباً مع أن الرسول (صلى الله عليه وسلم ) لم يحارب عدوين في وقت واحد.
ومما نأخذه على القاعدة أنها قدمت الاحتراب الداخلي في بلاد المسلمين على مواجهة الغزاة والمحتلين.. فحاربت السعودية مما أدى إلى ضعف السنة وعلو الشيعة وإضعاف الدين ورفعة العلمانيين.. وحاربت الأردن.. والمغرب.. وإندونيسيا.. ومصر.. وباكستان .. وغيرها من الدول الإسلامية مما أدى إلى الإضرار الشديد بالدعوة الإسلامية في هذه البلاد.
ومما نعيبه على القاعدة أيضاً قتل المدنيين من المسلمين وغير المسلمين.. من النساء والأطفال والموظفين والشيوخ والكبار.. وكل ذلك حرمه الإسلام حتى لو كان المدني من دولة محاربة.. ما لم يحمل السلاح.. وحرمة قتل المدنيين من غير المسلمين.. وحرمة قتل المسلمين من أهم ضوابط الجهاد.. وقد رددت عليهم في موضوع التترس الذي يفهمونه فهماً خاطئاً في كتابي "تفجيرات الرياض".. وكذلك رد عليهم الشيخ عصام الدين دربالة في كتابه القيم "إستراتيجية القاعدة".
كل ذلك فضلاً عن فكر القاعدة نفسه، والذي يكفر كل حكام المسلمين بلا استثناء، فضلاً عن أعضاء البرلمان والنيابة والقضاء وكل الجيش والشرطة.. فضلاً عن أصناف أخرى كثيرة وهذه الأمور هي بداية الخلل.
المصدر : الإسلام اليوم