في حضرة الموت العربي بقلم : صلاح صبحية
في حضرة الموت العربي تنتفي القيم الأخلاقية ، فلا قيمة للإنسان أمام عبودية المنصب ، بل إن الإنسان ليصبح الجسر الذي يعبر عليه أسياد العصر وصولاً إلى ارتكاب جريمة شطب الوطن من فكر ومخيلة ساكنيه ، وتمتزج عبودية المنصب برائحة الدم العربي وتتخضب بلحم المقهورين والمعذبين ، وهذا لم يعد سراً على أحد بعد أن تبين إنّ لكل حاكم عربي مقابره الجماعية السرية ، وبعد أن اتضح للصغير قبل الكبير بأنّ منصب الرئيس أو الملك أو الأمير ليس عملاً سياسياً وإنما هو تجارة ربحها فاحش ورأسمالها أجهزة أمن تخنق الإنسان العربي في حله وترحاله ، وآخر ما يمكن أن يفكر به شهبندر التجار المتصرف بأحوال البلاد هو مصلحة العباد والبلاد ، وأحياناً تكون مصلحة البلاد والعباد لديه كالبهارات الهندية يرشها على أجساد العباد لتنتشي حمداً وتسبيحاً له ، فإذا كان للأسرة ربها الذي يراعها ويحميها وتنقاد إليه في السراء والضراء ، وإذا كان عبد المطلب ربّ الإبل الذي يحميها لأنّ للبيت ربّ يحميه ، فإنّ حاكمنا العربي الذي جعل من نفسه ربّاً على دولته لا ليراعها ويحميها بل ليعيث بها فساداً وإن أشاد صروح الحضارة فيها والتي في ظاهرها رقي وتقدم وازدهار وفي جوهرها تدمير للنفس البشرية ، فربّ البلاد والعباد في عصرنا استحضر فرعون موسى ليذ ّبح معه أبناء البلاد فما استطاع إلى ذلك سبيلا ، وكما التقط فرعون موسى من اليـّم ليصبح قرة عين لزوجته ومن بعد ذلك عصاً يضرب بها البحر فينشق إثنا عشر طوداً تطوق موسى ربّ البلاد والعباد فيتحول الفرعون إلى متسول ٍ للبقاء على قيد الحياة ، فما يسعفه كلّ استبداده وظلمه وقهره للعباد فالوقت وقت حساب ، فهل يستحضر فراعين هذا العصر فرعون موسى ليتلو عليهم من نبأه ما نسوه .
وفي حضرة الموت العربي ينتشي الإنسان العربي فخراً ، فلم يعد الموت لديه ذلاً وهواناً بقدر ما أصبح حياة جديدة ، فالموت العربي اليوم هو جسر العبور إلى الحياة الإنسانية التي يكون فيها الإنسان إنساناً ، والتي يتحول فيها الإنسان من كائن فردي أناني إلى كينونة جماعية اجتماعية ، فالموت العربي بإرادة العربي هي تراجيديا العصر لينبعث هذا الإنسان جديداً من موته ، فإن اسموا الموت العربي ربيعاً فهو في الحقيقة خريفاً يعرّي الأرباب العرب من ربوبيتهم لتنهار عروشهم وممالكهم ، وخريفاً يـُعري الإنسان العربي من خوفه وذله وهوانه ، ومهما حاول الأرباب الأعراب ستر عوراتهم برقع بالية فإنهم غير قادرين أمام الخريف العربي الذي يتعرى فيه الجميع لتنكشف حقيقة ذاتهم أمامهم فلا يستطيعون منها هروباً ، فالرئيس والملك والأمير والإنسان العربي لا يلبسون شيئاً ، ولكن لكل واحد منهم عـُريه الذي يؤدي به إلى حياة جديدة ، فالأرباب ينفضح عـُريهم في الهروب أو في الزنازين أو في المجارير أو في الجحور أو في مواخير الفسق والمجون ، بينما ينكشف عـُري الإنسان العربي بتحوله من مجرد ساكن في مملكة الأرباب إلى مواطن في وطن الحرية .
وفي حضرة الموت العربي وتخلصه من ماضيه لابدّ من مواجهة الحقيقة التي بانت كشمس الظهيرة في آب ، الحقيقة التي تهم الوجود العربي انطلاقاً من كينونته العربية ، هذا الوجود الذي يستند إلى حضارته الضاربة في عمق التاريخ ، ويستند إلى لغته العربية المحكمة في بنائها ، كما يستند إلى إنسانيته في نشر رسالته الفكرية والعقائدية والعلمية ، لنعود بذلك إلى أخلاقنا السمحة في بناء الإنسان العربي الجديد الذي تعتمد على روح الجماعة وتنهل من نبع التعاون والتكافل في البناء والرقي والازدهار ولسان حالنا يقول إنّ في الموت الذي نعيشه اليوم انبعاث جديد لحياة جديدة عنوانها الإخلاص والصدق والأمانة ، وإنّ الجميع أمانة لدى الجميع ، وإنّ الحفاظ على الوطن هي مسؤولية كل مواطن ، والمواطنون جميعاً متساوون في الحقوق والواجبات وإن اختلفت مواقع أعمالهم في الوطن ، والمنصب أياً كان موقعه هو مسؤولية أمام الذات الفردية وأمام الوطن وأمام الله ، فكلكم راع ٍ وكل مسؤول عن رعيته ، ولا يمكن أن يكون الوطن في مجتمع حر ملكاً لأي صاحب منصب فما خـُلق الإنسان إلا ليعيش حراً كريماً في حياته على أرض وطنه .
15/12/2011