شابٌ قاص مبدع حقيقيّ، قلمه رشيق، ولغته زاخرة بشعريّة شفيفة، ملتزمة.. يستوفي في قصصه الشروط الفنيّة المطلوبة، ولا أرى سبباً مقنعاً يحجبُ عنه فرص الانتشار الجدية وسط هذا الكمْ المُسفّ الذي يغزو مكتباتنا وعقول الناشئة، والغريب أن تجد هذه المنشورات «الهابطة» تحمل تقديمات وموافقات وإطراءات بعض الممسكين بأقدار الثقافة من الكبار.!
إن هذا السلوك غير المبرر على المستوى الفني على الأقل، ساهم في عزوف الناس عن القراءة وفي تضخيم أزمة «الهبوط الثقافي» إذا جازت التسمية التي نشكو منها جميعاً، في الوقت الذي غيّب فيه هذا الشاب المبدع وغيره، وعانى كما يعاني الكثيرون من رفضٍ غير مبرر لطباعة أو نشر مخطوطاته، والأسباب كثيرة وجاهزة، يكفي أن يذّيل القارئ كلمات مصدرها رأيه الخاص على المخطوط، يدّعي هبوط المستوى الفني مثلاً أو السياسي أو الأخلاقي، وهذا يكفي لرفض تبني أو نشر المخطوط، ولا يعرف صاحب المخطوط سببا للرفض، ولا يُسمح له بأن يعرف.
همس في أذني هذا الشاب، ونحن نخرج من أمسية أدبية قصصية أحياها قاصّ ألمعيّ واحد، أصرّ ألا يشاركه أحد قطف المجد، وأن يكون وحدهُ درّة فاتحةَ الأمسية، ومسك ختامها، وبعد أن قام بكل الحركات الاستعراضية التي يفتعلها عادة بعض «الكبار»، بدأ في ترتيل لحن قصّته، ولم يفته أن يراقب بين قراءة سطر وسطر ردّة فعل الدهشة لدى الحاضرين، ولا الوقفة المعهودة كإشارة إلى فريق المصّفقين لبدء وصلة تصفيق حارّة.
انتهت القصّة وكنت وصديقي الشاب نحسبها لم تبدأ بعد.!
خرجنا نجرّ ذيول الخيبة والأسف لهدر ساعة أو أكثر في سماع هراء تافه ليس له هدف.
قال صديقي هامساً: هل هذا هو الأستاذ الكبير «فلان» الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.؟
قلت: هو بشحمه ولحمه.
نظر إليّ بحسرة وهمس كأنه يحدّث نفسه: كيف يصبح الكاتب الصغير كبيراً.؟
حاولت في سرّي أن أنتقي من كثير الأسباب سبباً فما أفلحت.!
وبعد أن أخذتني مشاريع الأجوبة إلى متاهات بعيدة وقريبة هزّت ثقتي بنفسي وبالدنيا وبالناس، قلتُ: وليكن.. إذا كان هو وأمثاله كباراً أو صغاراً «والصغار قلّة والحمد لله» فلهم حضور، وهم في قلب المشهد الثقافي، وقد يكون بعضهم من حملة لواء ذلك المشهد، وهو أمر لا يعنيني من قريب ولا من بعيد اللهم غيرتي على الثقافة، بل إنني أقف بكثير من التقدير والاحترام أمام الأعلام الكبار الذين تتلمذنا على أياديهم وإبداعاتهم، الذين كرّسوا القيمة والمعنى الحقيقي الباهي لثقافتنا وأدبنا، فكانوا النخب، والطلائع، لكنني أخص حديثي عن «الصغار»، أولئك المتسلّقين على تهمة الأدب، وما دام الأمر كذلك، فلأحمل عباءتي وأترك ما لا يعنيني، وأدع الأيام تفصل الغثّ عن السمين.
المفارقة أن المبدعين الأصلاء الشرفاء الذين لا ينافقون ولا يمارون، يطويهم التغييب والإهمال والموت قبل أن يحظوا بفرصة انتشار.
أما هذا الصغير الذي صار كبيراً، فقد صار كبيراً في كل شيء.. غنى.. ومناصب.. وعلاقات.. ونتاجات أدبيّة غزيرة تتساقط علينا بين جلدات كتب فاخرة، وندوات ومقابلات وسفريّات لا تتوقّف، وتعويضات خرافية، وفِرق تطييب وتطبيل وتزمير..
قلتُ: حتى هذا لا يعنيني.
المأساة الأكبر أن هذا الصغير وأمثاله الذين صاروا بقدرة قادر كباراً هم بعض الممسكين بقدر الثقافة، ومصائر المبدعين، وهم قلّة، لكنّها قلّة مؤثّرة.
من الظلم والإجحاف أن يمسك هؤلاء بأقدار مستقبل النشء، يرفعون هذا ويغيّبون ذاك دون رؤية فنيّة تسعى لضخ دماء جديدة شابّة، كم نحن بحاجة إليها في مسار حيواتنا كلها.