أمة تستحق النصر.. أمة تستحق الرنتيسي
د. أحمد بن راشد بن سعيّد **
28/04/2004
الشهيد عبد العزيز الرنتيسي.. أسد فلسطين
"الرجاء والأمل هما الدعامة الكبرى لتعزيز صمود هذا الشعب رغم ما يصيبه من الألم، فإذا فقد الرجاء دب اليأس في النفوس، فيحل بها الوهن، وهذا ما يمكن أن نفهمه من قول الله عز وجل: {ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما}، فالله يفتح باب الرجاء لتثبيت المؤمنين وقد عضهم الألم".
وردت هذه الكلمات في آخر عمود للدكتور عبد العزيز الرنتيسي في صحيفة البيان الإماراتية، نشرته يوم الأربعاء الرابع عشر من نيسان (إبريل) 2004، وكان استشهاده يوم السبت السابع عشر من الشهر نفسه. أراد الرنتيسي أن يقول للأمة إن اليأس أحد أمضى أسلحة العدو، وإنه يعول عليه في فرض الأمر الواقع عليها، ودفعها للخنوع والاستسلام.
عاش الرنتيسي حياة قاسية حافلة بالمعاناة، لكنه لم يقطع الأمل يوما، وتنقل في محطات حياته من إنجاز إلى آخر، وقلبه عامر بالتفاؤل والثقة بالنصر.
ولد الرنتيسي عام 1947 في قرية يبنا الواقعة بين عسقلان ويافا، ولجأت أسرته بعد النكبة إلى غزة، واستقر بها المقام في مخيم خان يونس للاجئين، وكان عمره آنذاك 6 أشهر. نشأ بين 9 إخوة و 3 أخوات، واضطرته ظروف أسرته الصعبة للعمل وهو في سن السادسة. كان من مظاهر تلك الظروف أنه لم يجد مرة ما يشتري به حذاء جديدا، فاشترى حذاء مستعملا، وعندما ذهب لوداع أخيه الذي كان يتأهب للسفر إلى السعودية، لم يكن لدى أخيه حذاء، فأعطاه حذاءه، ورجع إلى البيت حافي القدمين. أنهى الرنتيسي دراسته الثانوية بتفوق عام 1965، وحصل على منحة لدراسة الطب في جامعة الإسكندرية بمصر. تخرج بتفوق عام 1971، وعاد إلى غزة ليعمل في مستشفى ناصر بخان يونس. خاض إضرابا مع زملائه احتجاجا على منعهم من إكمال دراستهم العليا، واستطاع العودة إلى الإسكندرية والحصول على الماجستير في طب الأطفال، ثم عاد مجددا إلى عمله في ناصر. شغل الرنتيسي عدة مواقع في العمل العام، كما عمل محاضرا في الجامعة الإسلامية في غزة.
في أواخر عام 1987 ولدت حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وتفجرت معها الانتفاضة الأولى، وكان الرنتيسي أحد مؤسسي الحركة. قام جنود الاحتلال الإسرائيلي باعتقاله في التاسع من كانون الأول (ديسمبر) 1987 بعد عراك بالأيدي بينه وبينهم، أرادوا خلاله اقتحام غرفة نومه، فصدهم ببسالة، واعتقلوه دون أن يتمكنوا من دخول الغرفة. بعد ثلاثة أسابيع من اعتقاله أُطلق سراحه، ليعتقل مجددا ويمكث في سجون الاحتلال عامين ونصف العام، حيث وجهت إليه تهمة المشاركة في تأسيس حماس، وصياغة البيان الأول للانتفاضة.
لم يتسلل اليأس إلى قلب الرنتيسي طوال أمد اعتقاله، وكان يوطد نفسه على الصبر والثقة بوعد الله. يقول عن فترة اعتقاله: "منعت من النوم لمدة 6 أيام، كما وضعت في ثلاجة لمدة أربع وعشرين ساعة، لكن رغم ذلك لم أعترف بأي تهمة وجهت إلي بفضل الله". بل استطاع الرنتيسي أن يحول فترة الاعتقال إلى إنجاز، فأتم حفظ القرآن الكريم. يقول: "أعظم فائدة هي إتمام حفظ كتاب الله في السجن"، ويصف السجن بأنه "يصقل الإنسان، ويعوده الصبر والجلد، ويهذب النفس، فالسجن مصنع الرجال".
في أواخر عام 1992 أبعدته إسرائيل مع مئات من نشطاء حماس والجهاد إلى لبنان، وبرز الرنتيسي كناطق رسمي باسم المبعدين، الذين رابطوا في مخيم العودة بمنطقة مرج الزهور. كان زعيم حماس طوال فترة الإبعاد شعلة من حماس، وكان يتحدث عن العودة الحتمية إلى فلسطين بلغة الواثق وعزيمة المؤمن. لم يكن الرنتيسي مصرا فقط على العودة إلى غزة، بل كان ينظر إلى الأفق البعيد، إلى الجليل والمثلث والنقب، إلى الأرض التي باعتها اتفاقات أوسلو بلا ثمن لكيان لقيط قام على الاغتصاب والعدوان. كان في مرج الزهور يحن إلى قريته "يبنا"، ويراها قريبا، وإن رآها بعيدا من كان يصفهم بأصحاب الواقعية المهزومة. وقد عبر عن هذا الحنين قبل ثلاثة أسابيع لشبكة "بي. بي. سي" البريطانية قائلا: "أريد العودة إلى يبنا".
وعندما سمحت إسرائيل للمبعدين بالعودة، اعتقلت الرنتيسي وزجت به في السجن ثلاث سنوات ونصف، ليبلغ عدد سني اعتقاله في سجون الاحتلال 7 سنوات، إضافة إلى سنة الإبعاد في مرج الزهور. وعلى إثر اتفاقات أوسلو، ونتيجة للضغوط الإسرائيلية، اعتقلت السلطة الفلسطينية الرنتيسي 4 مرات، ومكث في سجونها 27 شهرا، توفيت خلالها والدته.
في صباح العاشر من حزيران (يونيو) 2003 حاولت إسرائيل اغتياله، وفشلت، وتحدث الأسد الجريح من على سريره في المستشفى قائلا: إن المقاومة ستستمر، وإن العدو لن يزرع اليأس في نفوس المقاومين، وإن الأرض ستحرر من دنس الغاصبين.
لم يكن الرنتيسي يتحدث عن إسرائيل وإرهابها بلغة الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال فحسب، ولا بلسان الأمة المكلومة المبتلاة بالعنف الصهيوني فحسب، ولكنه كان يتحدث عن المشروع الصهيوني بوصفه فسادا في الأرض كلها، وشؤما على العالم كله. كان مشهده في المستشفى أقوى من كل تعبير، فالجرح لا يزيد المقاوم إلا تعملقا وعنفوانا واطمئنانا للنصر، أو كما قال محمود درويش: "علمتني ضربة الجلاد أن أمشي على جرحي وأمشي، ثم أمشي وأقاوم".
بعد اغتيال الشيخ أحمد ياسين، ظهر الرنتيسي لشعبه ثابت الجنان، واثق الخطى، لم يفت في عضده الخطب الجلل. قال معلقا على استشهاد الشيخ: إن " شارون وحكومته يظنون خطأ أنهم باغتيال هذا الشعب ومقاوميه وقيادته (سيوهنون) عزيمته وعزيمة فصائله، والواقع أنهم في وهم كبير".
ويضيف: "ليغزل على غير هذا المغزل شارون، والصهاينة، والمتربصون، مسيرتنا متواصلة، ودربنا صعب، ولكنه الدرب الوحيد الذي يصل بنا إلى ما نصبو إليه، ولذلك لا ضعف، ولا استكانة، ولا هوان على الإطلاق".
ظهر الرنتيسي أمام الكاميرات هاتفا بصوته الجهوري: ليقصفوا سياراتنا، ليفجروا أجسادنا، ليصنعوا ما بدا لهم، فإننا لن نركع، وستستمر المقاومة حتى تحرير الأرض.
أصبح الدكتور الرنتيسي نجما تلتقي به الإذاعات وشبكات التلفزيون والفضائيات، وأثار الإعجاب عالميا بقدرته على التعبير بالإنجليزية عن عدالة قضية فلسطين، ومدى الظلم الذي يحيق بأهلها منذ ما يزيد على سبعين عاما، واعتبرته مجلة تايم الأمريكية أحد الشخصيات العالمية النادرة. وعندما سأله أحد الصحفيين الغربيين عن احتمال اغتياله، أجاب إنه لا يخاف الموت، وإنه يتمنى الشهادة، مؤكدا أنه إذا حان أجله فإنه يفضل الموت بالأباتشي.
هذا ما حدث فعلا، فقد أمطرته صواريخ الأباتشي في مشهد آخر من مشاهد الغدر والحقد، إنها سلاح الجبناء المذعورين الذين لا يملكون من مقومات الحضارة سوى أسلحة الدمار التي تكشف ما في صدورهم من كراهية وشهوة للقتل. وبالرغم من ضراوة الهجوم واشتعال السيارة التي كان يستقلها الرنتيسي ومرافقوه الذين استشهدوا على الفور فإن البطل نقل إلى المستشفى ولما يلفظ أنفاسه.
وهناك حرك يده، كأنما يريد أن يبعث الأمل في نفوسنا مرة أخرى، كأنما يريد أن يقول: لا أريد أن أموت الآن، سأحاول أن أبقى من أجل فلسطين، من أجل تخليص الأمة والبشرية من اليهود الصهاينة الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد. كأنه يقول لنا وهو راقد مغمض العينين على سرير الشهادة: الشهادة حياة، ولا يأس مع الحياة. لم يستطع أن يفعل شيئا في تلك اللحظات، وهو الذي عرفه الكثيرون قوي الشكيمة، شديد البأس، وهو الطبيب الذي طالما رسم الابتسامة على شفاه الأطفال في مخيمات اللاجئين وداوى جراحهم.
كنا نأمل أن يقوم الرنتيسي ليحدثنا عن المقاومة، عن الصمود، عن الصبر، عن الأمل الذي يجب أن يظل مشرقا، وعن اليأس الذي يجب ألا يتسلل إلى الصدور.
كنا نأمل أن يحدثنا بصراحته المعهودة، وبتحرره من قيود الدبلوماسية، عن "جنرالات الشر والإرهاب الأمريكان" الذين فقدوا هيبتهم "على أبواب الفلوجة الأبية"، وأصبحوا غير قادرين على "الاستمرار كمصدر إرهاب وابتزاز لشعوب العالم" – كما أشار في آخر مقال له في موقعه على الإنترنت. لكن البطل أسلم الروح، وكان حتى في لحظة استشهاده، والجروح تملأ جسده، مهيبا جميلا، وكانت قسمات وجهه ناطقة بالإباء والصمود والعنفوان.
لم يكن الرنتيسي يكافح فقط من أجل زرع الأمل في مواجهة الحلف الصهيو - أمريكي، بل كان يسعى لمكافحة حال الإحباط والتخاذل التي تراكمها كتابات (واقعية) تضرر أصحابها من النزيف الأمريكي في العراق.
يقول (في مقاله الأخير في موقعه): إن هؤلاء المتضررين "لم يتركوا فرصة إلا وذكرونا فيها أن أمريكا قوية، وأننا ينبغي أن نتفهم الواقع، وأن ننحني للعاصفة"، واليوم وبعد "الإذلال" الذي تتعرض له القوات الأمريكية في العراق، لم تعد لدى هؤلاء قدرة على "نشر الإحباط واليأس في نفوس المسلمين".
ظل الرنتيسي يذكر الفلسطينيين بأهمية إبقاء الأمل حيا من خلال خطبه ومقالاته وقصائده، وفي مقاله الأخير بصحيفة البيان يكرر هذا المعنى، فيقول: "ما من شك أن الهم الرئيس للعدو الصهيوني أن يوصد أبواب الرجاء في وجه شعبنا المجاهد؛ لأنه يدرك أن تضحيات الشعب ستهون إذا ما تذوق ثمار جهاده، مما يعزز صموده وتشبثه بخيار المقاومة، ومن هنا سيعمل هذا العدو المجرم على تحطيم معنويات الشعب الفلسطيني من خلال إخراجه صفر اليدين بعد هذا الجهاد المتواصل، والصبر الجميل على ما أصابه من معاناة". ويضيف: "وهذا يعني أن الفصائل الوطنية والإسلامية التي تقود انتفاضة هذا الشعب المجاهد يقع على عاتقها العبء الأكبر في التصدي لشبح اليأس وفقدان الرجاء".
عبد العزيز الرنتيسي شاهد آخر على حيوية هذه الأمة، وقدرتها الفذة على الصمود والمقاومة ونسف خرائط الهزيمة. إنها أمة تستحق النصر.. وتستحق عبد العزيز الرنتيسي.
--------------------------------------------------------------------------------
** أستاذ الإعلام السياسي بجامعة الملك سعود