مركزية القدس والأقصى: فلسفة الإحساس بالمنطق (الحلقة التاسعة)
مصطفى إنشاصي
بعد أن قص عليّ صديقي ما اكتشفه عن الثورة عندما بدأ يحضر لإعداد رسالته للدكتوراه، وأنه لو كان يعلم ما علم قبل انتمائه لها لَمَا أضاع كم سنة من عمره معها، سألته: كم لنا نعرف بعض؟ أجاب: عُمر من نهايات عام 1983 تاريخ خروجنا من الأسر الصهيوني في أنصار، الذي تم أثناء اجتياح العدو الصهيوني للبنان عام 1982م. قلت له: وطوال هذا العمر لم تعرف السبب في اهتمامي بالصهيونية ومحاولة التأصيل لجذورها الدينية وهذه الأبحاث التي تراها مكدسة في درج المكتب، ولم ترى النور منذ ما يقارب الخمس وعشرون عاماً. وفيها كثير من الأفكار عن الأصول الدينية للصراع، التي كَتب فيها بعدي الكثيرين وفي بعضها لم يصلوا إلى العمق والتوثيق الذي وصلت له. قال: لا!.
لست نادماً
قلت: أقول لك الآن: أنت اكتشفت أن الثورة، أو قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لا تملك مشروع ولا رؤية حقيقية لتحرير فلسطين في نهاية تسعينيات القرن الماضي، عندما بدأت تعد وتحضر لكتابة رسالة الدكتوراه وندمت على كم سنة ضاعت من عمرك مع هذه الثورة، ولو كنت تعرف ما عرفته قبلها ما قطعت دراستك وحضرت إلى لبنان للدفاع عن هذه الثورة. أما أنا فقد اكتشفت ذلك منذ عامي 1978-1979م، وعلى الرغم من ذلك بعد أن أنهيت دراستي الجامعة عام 1980م لم أسافر للعمل في أي دولة عربية، واكتفِ بما لحق بي من ضرر من علاقتي بالثورة في السنوات الماضية، وسجن كثير من أصدقائي، وحرماني من العودة إلى أرض الوطن، ومنع جميع أهلي من السفر للخارج. ولكني سافرت إلى لبنان، إلى حيث البندقية التي في ظلها أشعر بوجودي وبها أحافظ على كرامة أمتي، إلى القواعد العسكرية علني أجد فيها من يسمع قولة حق، كنت أظن أنني سأجد هناك البيئة الصالحة والتربة الخصبة التي من وسطها يمكنني تغيير كثير من مفاهيم الصراع للانطلاق نحو التحرير الحقيقي، وبالتأكيد أنت في غنى وأنت عشت حياة القواعد أن أشرح لك ما في نفسي وتعلم ما لقيت من معاناة ومطلع على ظروف حياتي الآن، ورغم ذلك لست نادماً، ولوعاد الزمان سأعود.
في حياتي كنت شاباً مثل كثير من الشباب الذين لم يعرفوا باب المسجد في حياتهم إلا قليل، وكنا نصلي في المناسبات فقط، وفي نهاية عام 1976م سافرت من فلسطين إلى مصر لألتحق بالجامعة، وفي عام 1977م حضر إلى القاهرة ابن عم لي لمناقشة رسالة ماجستير في الطب وقد كان ملتزماً إسلامياً، وقد حرص على نصحي بالصلاة والالتزام وقد بدأت أستجيب له. عندما لاحظت حماسي للثورة واستشف من خلال تجربته الشخصية أني قد أكون منتمي تنظيمياً لحركة فتح قص علي تجربته في الثورة التي التحق بها بعد تخرجه من كلية الطب عام 1970، ومحاولاته هو وأطباء آخرين كانوا معه وغيرهم إصلاح بعض الفساد وفشلهم في ذلك لأن التوجه العام في الثورة هو الحفاظ على الفساد وتجذيره، وحدثني عن معارك السنوات الأولى للثورة بعد انتقالها للبنان التي شارك فيها وحصارهم في الشياح وتآمر البعض عليهم أثناء الحصار وعدم تقديم الدعم لهم، وانتهاء تجربته في مؤتمر الحركة عام 174 تقريباً عندما طرحوا خطة عملية للإصلاح زمحاربة الفساد وكان الرد عليهم: الباب يفوت جمل! وفعلاً فات منه هو وآخرين وتركوا الثورة وذهبوا للعمل في أقطار عربية بشهاداتهم! وطبعاً ذكر لي قصص كثيرة عن الفساد والانحطاط الأخلاقي وغيرها مما كانوا شهوداً عليه ومما يسمعون عنه بعد تركهم الثورة، وكان ردي النهائي عليه: أنت خضت تجربتك دعني أجرب! ولكني كنت أراجع مسئولي التنظيمي من فترة لأخرى بتلك المعلومات التي كان يحدثني عنها ابن عمي المتعلقة بالفساد المالي والخلقي وكان مسئولي أوقات يعترف واوقات يبرر لها!
وعندما حافظت على صلاتي وبدأت أقرأ وأثقف نفسي في الأمور الدينية قمت عام 1978م بداية شهر رمضان بإهداء المصحف الشريف لمسئولي التنظيمي في حركة فتح، وعندما عدت لزيارته بعد أسبوع وإذا به يقول لي: تعالى هان!
فشعرت أن هناك أمر هام. قلت خير؟ قال: وأنا أقرأ في المصحف الذي أهديته لي وجدت أية تقول: أن الله تعالى كتب الأرض المقدسة ـ فلسطين ـ لليهود؛ يعني الأرض بنص القرآن لهم، يقصد قوله تعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (المائدة:21). حاولت أن أصحح له بمعلوماتي المتواضعة آنذاك أن كتب ليس معناها: أن الله جعل الأرض لهم، وأن حق اليهود في فلسطين سقط مع ظهور الإسلام وعدم إيمانهم بالرسول صلَ الله عليه وآله وسلم ولكنه لم يقتنع، وقد فشلت في توصل ما أريد لقلة معلوماتي قرآنياً حول هذا الموضوع.
وبعد خروجي من عنده قضيت أسبوعي قبل عودتي إليه ثانية في قراءة التفاسير المتعددة، بحثاً عن كل ما له علاقة بهذه الآية من آيات قرآنية وأحاديث نبوية شريفة، وأسال من هم أكثر مني علماً في الأمور الدينية. إلى أن كونت فهم كامل وواضح حول الموضوع. وفي زيارتي التالية له استطعت أن أفسر له معنى الآية تفسيراً صحيحاً، وأن أوسع دائرة الحديث ليشمل بقية الآيات ذات العلاقة بالموضوع وبعد أن انتهينا من ذلك. قال لي: تعرف يا مصطفى؟ قلت له: خير؟
قال: الذي قلته اليوم وتناقشنا فيه حول موضوع حق اليهود الديني في فلسطين، وكيف أن هذا الحق سقط عنهم كثير جميل ومهم، وللأسف نحن في حركة فتح في التنظيم لا يوجد لدينا شيء مكتوب عنه، وأنا على قدر قراءاتي ومعرفتي أول ما قرأت الآية كدت أفهم منها أن الله كتب فلسطين لليهود، وأنه لا حق لنا فيها، ما رأيك أن تكتب هذا الكلام وتحوله إلى ملزمة (مذكرة)، ونرسلها للأخوة في التنظيم في لبنان يعتمدوها من ضمن سلسلة الأدبيات و كراسات الإعداد والتربية لأبناء التنظيم.
ويبدو وهو يتحدث أن الفكرة كبرت في رأسه. فقال: خلاص اعتبر هذا أمر تنظيمي، تكليف. أن تعد لنا بحث عن هذا الموضوع. قبلت بالتكليف الذي كان مثابة تحدي صعب لي، فأنا معلوماتي قليلة ولست باحثاُ ولا كتبت أبحاث قبل ذلك، والأمر عظيم وليس هين، له علاقة بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأنا في بداية التزامي، وكنت أخشى من الدخول في أمر شائك كهذا .. إلى غير ذلك.
قلت لصديقي الدكتور: تعرف؟! لقد قضيت شهور طويلة وأنا أتنقل بين مكتبات القاهرة لقد مسحتها مسح، وكذلك الأزبكية وقد كانت سوق كتب مفروشة على الأرض تجد بها كتب قيمة لا تجدها في المكتبات. وأنا أجمع كتب وأبحث عن كتيبات مدفونة، وأتصفح ما اشتريه سريعاً لأحصل على أسماء كُتاب وكُتب لانطلق أبحث عنها، وبعد القاهرة انتقلت إلى بعض المحافظات أبحث عن كتب كادت تندثر أو مخزنة في مخازن المكتبات من سنين طويلة تم نسيانها ولم تعد تتداول. لقد اكتشفت ما اكتشفته أنت عند كتابتك لرسالة الدكتوراه عام2000 عن الثورة وحقيقتها وأنها لا تملك مشروع تحرير، وأيضاً أنها لا تملك رؤية صحيحة عن حقيقة الصراع مع العدو الصهيوني لأنها بنت رؤيتها على قراءة خاطئة لحقيقة الحركة الصهيونية .. اكتشفت أن عالم الحقيقة لا يوجد فيما يُقال أو يُسمع أو يُقرأ بين أيدينا، لا! ولكنه هناك في الكتب التي لا تُرضي كثير من حملة الأيديولوجيات الحديثة، ومن أتباع التنظيمات التي حددت رؤية وموقف عقائدي مسبق من اليهود ولا تريد تغييره، لذلك لا تشجع على نشر مثل تلك الكتب – لقد وجدت في القراءة متعة منقطعة النظير خاصة وأنا أكتشف كل يوم الجديد، إلى درجة أنني أصبحت أنسى كتب دراستي الجامعية.
وبعد أن كنت أبحث في التفاسير وكتب الأحاديث النبوية وقليل من كتب إسلامية لها علاقة بالموضوع، وجدت نفسي أغوص في عالم الفكر والسياسة والتاريخ وغيرها لأنسى في النهاية البحث المكلف به، لقد ضعت في عالم المعلومات الهائلة عن فلسطين وتاريخها والرؤى المختلفة للصراع وأبعاد الهجمة والتحالف اليهودي – الصليبي ضد الأمة والوطن. لاكتشف أن الحقيقة الواحدة حول الصراع وبُعده الرئيس جعل لها الكتاب ألف وجه، وكل كاتب أعطاها الوجه الذي يخدم توجهاته الفكري والأيديولوجي فقط. وغيب الحقيقة.
لقد وجدت أن الكتب المتداولة والمنشورة قد ذكرت معلومات وأقوال وأفعال لليهود والغرب الصليبي قادة ومجتمعات، وحللوها ووضعوها في سياق يقنعك أنها هي الرؤية الحقيقية عن أهداف اليهود والغرب الصليبي، في الوقت الذي استبعدوا فيه كل ما يدل ويؤكد على استقلالية المشروع اليهودي والهوية الدينية للحركة الصهيونية. وعن الغرب الصليبي كذلك وأن المستهدف في وطننا هو الإسلام في البداية والنهاية. لذلك توجهت منذ ذلك الوقت للتأصيل للصراع وعدم القبول بأي رأي إلا بعد تمحيصه. لقد كان ذلك الأمر أو التكليف التنظيمي نقطة الانطلاق التي ستضيء لي عالم الحقيقة حول كثير من أبعاد الصراع مع اليهود، وتكشف لي الكثير من الحقائق التي كنت أجهلها عن اليهود واليهودية والصهيونية وعن حقيقة الصراع كله، ولماذا هؤلاء الكتاب العظماء في نظري قبل أن أعرف ما عرفت يرفضون الاعتراف بالأبعاد الدينية في الصراع؟ ... كثير؟. ومن ضمن ذلك بدأ ينكشف لي واقع القيادة الفلسطينية الحقيقي وإلى أين تسير بنا.. الخ. لقد مثل ذلك الأمر لي نقطة التحول الرئيسة في حياتي نحو الإسلام الحقيقي.
ققد كتبت بحث من حوالي (60) ورقة فورسكاب على الوجهين كعناوين رئيسة وفرعية مع كم سطر تحت كل عنوان لتكون مسودة كتاب أتفرغ لكتابته في المستقبل عن أبعاد الصراع التاريخية وصححت فيها كثير من المعلومات التاريخية عن تاريخ فلسطين التي كتبها مؤلفيها متأثرين بالروايات التوراتية عن تاريخ فلسطين وشعوب وطننا كله، والبُعد الديني في الصراع قرآنياً وأن الحق الدني في فلسطين لنا بحكم أننا نحن المسلمون ورثة الأنبياء جميعاً عليهم السلام وكل إرثهم الديني والتاريخي، والبُعد الحضاري للصراع بيننا وبين الغرب الذي انتهى بتحقيق النبوءة القرآنية والإعجاز التاريخي في القرآن وبالتحالف اليهودي النصراني والتآمر على زرع القومية اليهودية كقومية غريبة عن شعوب المنطقة في فلسطين، لتكون أداة الحفاظ على أنظمة التجزئة (أنظمة سايكس – بيكو)! والجزء الثاني كان عن الجذور التاريخية أو التطور التاريخي للديانة اليهودية وفكرة الخلاص المسيحاني وكيف تحولت من انتظار المسيح اليهودي والعودة السلمية إلى الفعل البشري والعودة بالجهود البشرية، وخصصت فصل لمناقشة مقومات القومية اليهودية العلمانية وعدم صحتها وأنها مقومات أمة دينية لا قومية علمانية، والنصف الثاني من الفصل تحدثت فيه عن دور حركة الإصلاح اليهودية (الهسكلاه) لا في دمج اليهود في المجتمعات الغربية ولكن في تهيئة الأوضاع على الصعيد اليهودي لنشوء الحركة الصهيونية وعلى الصعيد الدولي لدعم الحركة الصهيونية! وفصل مطول في مقدمته ركزت على إثبات أن قادة الحركة الصهيونية جميعهم يهود مؤمنون توراتيون ولكن كل منهم يؤمن بيهوديته على الطريقة التي يرى أنها تحقق أهداق اليهود في فلسطين وفي العالم، وأثبتت فيها أن اليهودي يبقى يهودي بغض النظر عن الفكر أو الفلسفة أو الأيديولوجيا التي يتنقها في الظاهر، وعن حقيقة تعصب اليهود اليساريين لعقيدتهم التوراتية واستغلال اليساريين والعلمانيين العرب والمسلمين وخداعهم ... وختمت بأن اقتبست من سير القيادات الصهيونية المؤسسة للحركة الصهيونية سواء ما كتبوه ونشروه أو خطوه في مذكراتهم وسير حياتهم ما يثبت إخلاصهم ليهوديتهم!