منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 16

العرض المتطور

  1. #1

    حول العالم على كرسي متحرك/ الأستاذ حسين القباني

    حول العالم على كرسي متحرك "1"
    أحبتي الكرام هذه سياحة جديدة،في كتاب آخر،ونحن هنا نمارس سياحة في سياحة،فالكتاب – وعذرا لرفع الكلفة والقول "كتاب"هكذا بدون ألقاب ,, ولكن المقامات محفوظة – هو نفسه سياحة أو رحلة نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيحول العالم على كرسي متحرك) قام بالرحلة الأستاذ حسين القباني،والكتاب من نشر شركة مكتبات عكاظ للنشر والتوزيع،في طبعته الأولى سنة 1401هـ / 1981م. سوف ندخل إلى الكتاب عبر بوابته،أي عبر المقدمة نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيكل إنسان في هذه الدنيا،منذ أن وجدت الدنيا يحلم بالتنقل من مكان إلى آخر .. ومن كهف إلى كهف .. ومن بيت إلى بيت .. ومن مدينة إلى أخرى ... ومن بلد إلى بلد آخر .. بشرط أن يعود في النهاية إلى وطنه مهما طالت غيبته عنه ..حتى التجمعات الزراعية التي من طبيعة أهلها الاستقرار .. إن الفلاح ربما لا يفكر جديا في الخروج من أرضه لأي سبب .. ولكن من المؤكد أنه يحلم بالعالم الخارجي .. العالم المحيط بهذه الأرض،بكل ما فيه من خلائق ومناظر .. من شوارع .. وأزقة .. من عمارات شاهقة وقصور فاخرة .. من تقاليد وطباع .. وقد يقتصر الحلم على زيارة أقرب مدينة إلى قريته .. وقد يتمادى إلى زيارة عاصمة إقليمه .. وقد يسرف في التمادي لزيارة عاصمة بلاده ليعود إلى أبناء قريته هتفا (يا خلق الله).. وأنا كأي إنسان،كانت لي أحلامي في التّرحل .. في رؤية العالم .. أيا كان – هذا العالم،محليا أو دوليا .. ولعل محنة المرض المزمن الذي لا زمني منذ صباي كانت أدعى إلى إذكاء هذه الأحلام .. وما أكثر الساعات التي عشت فيها حالما يقظا .. وما أكثر اللحظات التي كنت أثوب فيها إلى رشدي وأهز رأسي يأسا وأنا أجد نفسي عاجزا عن الانتقال من مقعد إلى مقعد في نفس الغرفة أو من غرفة إلى أخرى في نفس البيت .. ولجأت إلى الكتب لأحقق فيها أحلامي .. لاسيما كتب الرحلات والمغامرات .. كتب ألكسندر ديماس ورايدر هاجارد وتشارلس ديكنز .. جزيرة الكنز في صباي .. سجين زنده في شبابي .. و"كنوز الملك سليمان: .. و"عائشة" .. و"عودة عائشة" .. وأخذت أطوف بأحلامي مع هذه الكتب مناطق القطب الجنوبي لأعيش مع الإسكيمو .. وأتسلق الجبال لأعيش مع سكانها في سويسرا،وأمرق بالسيارة بين الغابات لأنتشي بصمتها ورهبتها .. وأحلق في السماء بطائرة أتوقع في كل لحظة أنها ستسقط بي .. وطالت أحلامي سنوات وسنوات حتى تبلورت شخصيتي وتركت كتب الروايات والمغامرات إلى ما هو أهم وأجدى في حياة الأديب .. ولكن الأحلام .. مجرد الأحلام .. كانت تقتحم عليّ خلوتي إلى نفسي. كلما قرأت لزميل لي كتابا عن رحلة قام بها){ص 1 - 2}.ثم جاءته الفرصة،فسافر إلى لندن للعلاج،فألف كتابا آخر {50 يوما في لند}غير هذا الذي بين أيدينا.وبعد هزيمة 1967،عكف على دراسة القضية العربية والدور الذي تلعبه الصهيونية،وأعد بعض الدراسات باللغتين العربية والإنجليزية .. (واتصلت بالسيد مدير الإعلام الخارجي بجامعة الدول العربية. وقدمت له مشروع الرحلة،والدراسات،والأهداف منها .. ووافق السيد المدير،وقرر أن يرسل خطابات إلي مكتبي الجامعة في باريس وروما ليقدم المسؤولون فيها كل التسهيلات اللازمة،مع الاستفادة مني إعلاميا ... وهكذا أصبح للرحلة هدف أساسي وطني .. بجوار الأهداف الأخرى .. ولم يكن من بين هذه الأهداف،أي هدف له علاقة بالسياسة – لأني – بكل وضوح لا أحب السياسة،ولا أفهم لعبتها،ولم أفكر يوما أن أكون أحد لا عبيها (..) وإذا كان القلم قد جنح في الحديث عن موقف بعض الحكومات أو الأفراد منها،فإن له بعض العذر .. لأنه قلم في يد إنسان .. والإنسان يسعده الموقف الكريم فيتغنى به،ويشقيه الموقف اللئيم فلا يسعه إلا التنديد به ... فلا عجب إذا تملكتني أريحية إنسان كريم ... ولا عجب إذا أسخطني موقف إنسان لئيم .. وفي كل الأحوال،أشهد الله على صدق ما أكتب عن هذا أو ذاك .. والله ولي التوفيق.){ص 3 - 4}.هذه الرحلة كانت سنة 1970م. وقبل أن نفسح المجال للأستاذ(القباني) ليسرد علينا وقائع الرحلة،أو نصحبه فيها ... أشير إلى ملاحظتين : أعتقد أنني قرأت عددا لا بأس به من الرحلات،وتحتفظ الذاكر بصورة سلبية تتمثل في تغييب الحديث عن شعائر الدين!! طبعا باستثناء المتدينين أصلا ،ولكنني أتحدث عن الكاتب المسلم العادي... حتى عندما يدخل مسجدا ففي فإنه يدخله كسائح!! أما الملاحظة الثانية،فتتعلق بكثرة حديث المؤلف عن النساء والنظر إليهن ... ومع أنني أعلم تماما لماذا يصر تيار معين،على تعرية المرأة وتتركز كل مطالبه – تقريبا - على ما يتعلق بعريها أو الاختلاط بها،أعلم ذلك،ولكنني سوف أكثر النقل من هذه الرحلة،لكي تتضح الصورة لدى من لا زال يسأل : لماذا كل هذا التركيز على المرأة؟! مع لفت النظر إلى أن الكاتب ليس قادما من مجتمع متزمت مغلق،متلفعة نساؤه بالسواد ... لذلك تبدو قضية مطالبة ذلك التيار بالاختلاط وبعري النساء (عادلة) جدا!!! فهل من العدل أن يستمتع الرجال في العالم كله برؤية (البكينيات) أوأكثر أو أقل ... بينما يحتاج أحدنا إلى السفر خارج البلاد لمشاهدة ذلك؟!! أو يكتفي بمشاهدة الصور!!!!! مع ما سبق لا تمنعنا معرفتنا بأهداف التيار المشار إليه،من القول بأن التيار الآخر لا تنقصه المبالغة والتضييق فيما فيه خلاف فقهي. .. وإلى الرحلة. يقول الكاتب نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيلن أطيل الحديث فيما أعددته للرحلة من اتصالات مع إدارة الإعلام بجامعة الدول العربية،ومن اختيار المرافقين،ومنهم ابنتي الطالبة بالتعليم الجامعي،ومن محاولات لتحويل مبلغ بسيط إلى العملة الصعبة لا يكاد يكفي ثمنا لبنزين سيارة مسافة خمسة آلاف كيلو متر ..وكان برنامجي في المرحلة الأولى أن أقطع نحو عشرة آلاف كيلو مترا في عشرة دول حول البحر المتوسط.وتذكرت – وأنا أقلب بين يدي المبلغ البسيط الذي تقرر أن أعيش به مع ثلاثة مرافقين أكثر من شهرين – بعض الزملاء المحظوظين الذين طافوا قبلي حول العالم واثبين من طائرة إلى أخرى. ومن مدينة في أقصى الغرب إلى أخرى في أقصى الشرق،تنتظرهم الشيكات السياحية والمبالغ المحولة بلا حساب،والفنادق الفاخرة التي يستقبلهم فيها صفوف من عمالها ....وهززت كتفي وأنا أحاول – مثل كل فقير مفلس – أن أقنع نفسي بأنه ليس بالمال يصنع الإنسان كل شيء،وأن الرحلة التي تكتنفها الصعاب والعقبات بسبب قلة المال هي الجديرة بأن تكون أكثر تشويقا وأكثر متعة ... وخيل إليّ أني أسمع في أعماق نفسي ضحكة ساخرة..!! وتمت جميع الإجراءات التي لن أطيل الحدث عنها،حتى تحدد يوم السفر،صباح الأحد – الثامن والعشرين من شهر يونيه .. ووصلت السيارة البيجو الاستيشن إلى باب المنزل .. وبدأت عملية نقل الحقائب الضخمة المحملة بالزاد والزواد إلى السيارة التي تقرر أن تحملنا إلى بنغازي .. ونظرت حولي لحظة الوداع ... أصدقاء كثيرون تركوا بيوتهم هذه الساعة المبكرة من الصباح لتوديعنا ... ابنتي تعانق أمها في لحظة وداع مؤثرة،فقد كانت تلك أول مرة تفترق عنها لمدة طويلة ...وتحركت السيارة وأنا أتمتم "اللهم سبحانك أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل". .. ونظرت إلى يساري ... إلى مرافقي الشاب إبراهيم سلامة .. صديق في سن الابن،ترك أعماله وزوجته ووالدته وإخوته وإخوانه ليصحبني في الرحلة .. مساهما في نفقاتها،لا لشيء أكثر من الحب والوفاء .. إن الدنيا لا تزال بخير .. وابنتي حنان. الطالبة بكلية الاقتصاد المنزلي،افترقت عن والدتها لأول مرة في حياتها،وقررت أن تتحمل مشاق السفر بسيارة أكثر من عشرة آلاف كيلو متر،لكي تتولى رعايتي صحيا .. ولكن هذا واجب الابنة .. كل ابنة نحو الأب .. كل أب .. والمرافق الثالث،الشاب محسن .. فشل في دراسته في مصر وقرر السفر إلى أوربا للتدريب على أعمال الفنادق .. ولكنه،بحكم ما بيننا من أواصر القربى،قرر أن يصحبني في رحلتي ليقوم بأعمال السكرتارية،ثم نفترق في أوربا،فيمضي إلى وجهته. وأعود إلى وطني بعد أن أكون قد أتممت الجزء الأول من الرحلة إن شاء الله .. ونظرت إلى السائق الليبي .. عمر .. شاب هادئ السمت. قليل الحديث .. ويزين بعض أسنانه – كالكثير من إخواننا الليبيين – بطرابيش فضية اللون. ){ص 5 - 6}.وبعد أن قضوا يوما في الإسكندرية،بحثا عن استكمال ركاب السيارة .. (وفي الساعة السابعة والنصف من صباح اليوم التالي كانت السيارة تحمل معنا،شابا اسكندرانيا واثنين من إخواننا الليبيين ... وتوكلنا على الله .. وفوجئت بالطريق بين العجمي وسيدي عبد الرحمن غير مستقر على حال .. في ارتفاع وانخفاض دائما ... وعمر السائق منطلق بالسيارة بسرعة تتجاوز المائة كيلو متر في الساعة .. وكلما مرت السيارة على مهبط في الطريق،ارتفعنا نحن من مقاعدنا إلى السقف .. ولولا استعمال صاحبي إبراهيم ساعديه لتثبيتي في المقعد – كلما اقتربنا من مرتفع – لما احتملت هذه السرعة فوق طريق من هذا الطراز ..ولكنه لم يلبث أن استوى في منتصف المسافة إلى مرسى مطروح (..) وتوقفنا في مرسى مطروح قليلا ريثما تناولنا طعام الغداء،ولم ننس أن نشتري بضع بطيخات شيليان لنحملهما إلى بنغازي .. فقد سمعنا أن البطيخ هناك مرتفع الثمن،وأنه ليس في حلاوة البطيخ المصري.وعادت السيارة تطوي الطريق إلى السلوم .. رمال بعد رمال على الجانبين ... وبين الحين والآخر نمرق بجوار بضعة بيوت صغيرة كان صاحبي إبراهيم يتساءل مدهوشا عن كيف يعيش سكانها في هذه البراري الشاسعة (..) ومضت السيارة تطير فوق طريق واسع ناعم كالحرير .. وعدنا ننظر على الجانبين البراري تمتد إلى مد البصر ... وعدت أتساءل : متى ينتصر سكان الصحراء على رمال الصحراء ... هل ستشهد الأجيال الآتية بعدنا كيف يستخدم أبناؤنا وأحفادنا العلوم الحضارية لاستصلاح هذه الأراضي وتحويلها إلى مزارع وبساتين ... إننا لن نصعد إلى القمر ,, ولكن علينا أن نقيم التوربينات الهائلة التي تدار بالذرة لتحويل مياه البحر إلى مياه عذبة تروي هذه البراري ... ونطلق السحب الصناعية لتمطر ماء تربو معه الأرض وتؤتي ثمارها،ونحول المنخفضات إلى بحيرات يتدفق فقوها ماء البحر مولدا الكهرباء ... ونحول بلادنا الصحراوية إلى جنات في الأرض. (..) ولما استأنفنا السير. شرعت شمس الغروب،وكانت قرصا متوهجا بالضوء الأحمر،تحاورنا .. فهي تارة عن يميننا .. وتارة على يسارنا .. حسب انحرافات الطريق،وبعد أن غابت في البحر،مضينا على البقية من شفق غروبها حتى اقتربنا من طبرق .. وتمنيت لو دخلت هذه المدنية التي شهدت أعنف المعارك في الشرق أثناء الحرب العالمية الثانية .. ولكن السائق كان متعجلا للوصول إلى بنغازي في نفس الليلة .. ومن ثم اكتفينا بالمرور بها من بعيد .. وكانت تبدو كشعلة فضية بأنوار الاحتفالات بأعياد التحرير .. وانطلقت السيارة مرة أخرى في طريقها إلى البيضا ... وبدأ الطريق يصعد ملتويا في سكون الليل .. وقيل لي أنها تقترب من الجبل الأخضر الذي تربض عليه المدينة بجامعتها الإسلامية ... والليل ساكن تماما إلا من هدير الريح المنبعث بسبب السرعة غير العادية للسيارة وحمدت الله حين رأيت ابنتي حنان مستغرقة في النوم ... (..) وعاد الطريق الثعباني في الهبوط إلى بنغازي .. واستيقظت ابنتي وحاولت أن تعرف أين نحن .. ولكننا أكدنا لها أننا نسير في طريق عادي،وأننا نقترب من بنغازي،وفوجئنا بالسيارة تمر على كوبري معلق يصدر أصواتا تحت عجلاتها .. ثم بكوبري مماثل كان يقف على مدخله جندي ينظم حركة المرور عليه بحيث لا تمر أكثر من سيارة في وقت واحد. ووصلنا إلى مدخل بنغازي بعد منتصف الليل ... وانحرف السائق إلى طريق في حي الفندق،وهو – كما رأينا في الصباح – من الأحياء الشبيهة بحي أبو العلا أو روض الفرج .. وتلفّت حولي كما لو كنت أنتظر رؤية المستقبلين لي .. ولكنني لم أر مخلوقا حتى توقفت السيارة أمام فندق صغير "فندق البيضا" .. وهنا فقط لمحت ثلاث قطط تتعارك على كومة من القامة بالقرب من الفندق ..وعلى هذا النحو كان استقبالنا في بنغازي حين دخلناها بعد منتصف الليل ..){ص 7 - 11}. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله
    أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي -المدينة المنورة Mahmood-1380@hotmail.com
    تعددت يابني قومي مصائبنا فأقفلت بالنبا المفتوح إقفالا
    كنا نعالج جرحا واحد فغدت جراحنا اليوم ألوانا وأشكالا

  2. #2

    رد: حول العالم على كرسي متحرك/ الأستاذ حسين القباني

    حول العالم على كرسي متحرك "2"
    بعد ذلك الاستقبال الحافل .. (ظلت صورة القطط الثلاث المتعاركة على كومة القمامة تطاردني في أحلامي خلال نومي المؤرق .. ولكنني كنت أحاول في فترات الأرق أن أوهم نفسي بأن هذه المخلوقات التي استقبلتني في لحظة وصولي إلى بنغازي بعد منتصف الليل بساعة أو بأكثر إنما ترمز للوداعة والهدوء والترف .. وفي أعماق نفسي كنت أرى الحقيقة وأشعر – لأول مرة – بشيء من الخوف .. غريب مع الرفاق الثلاثة في بلدة لا أكاد أعرف فيها أحدا .. ماذا يحدث لو أنني لم أجد أي لون من ألوان الترحيب أو الاستقبال في الصباح .. إنني لم أحاول أن أتصل بأحد قبل وصولي،بعد أن ذكر لي القنصل الليبي في مصر،أن الحكومة الجديدة أصدرت الأوامر بعدم استقبال أو تقديم أي تسهيلات رسمية للصحفيين والفنانين لأسباب رفض أن يذكرها لي {طبعا تلك حكومة القذافي وصحبه،والذين كانوا قد استلوا على السلطة في العام السابق لزيارة الكاتب.. وها نحن بعد أكثر من أربعين سنة .. في الانتظار ... فك الله كرب إخواننا في ليبيا }.ونهضت في الصباح المبكر في الغرفة المخصصة لي مع ابنتي حنان .. وفتحت النافذة لأرى أول منظر في المدينة في ضوء النهار .. ميدان صغير لوقوف السيارات على جانبيه شارع ضيق يمر بجوار الفندق،يشبه إلى حد كبير شارع الغورية في القاهرة "وقد تأكدت من هذه الحقيقة بعد أن سرت فيه بعد العصر" .. وشارع آخر واسع يمتد على أحد جانبيه مجموعة من البواكي (..) ولكن الفندق نفسه،والشهادة لله،نظيف ومريح وجميل الأثاث،وخفيف على الجيب،وهذا هو المهم،لأني عرفت أن أجر المبيت في الغرفة،بسريرين،بالدرجة الأولى لا يتجاوز مائة وأربعين قرشا ليبيا "أي ما يساوي جنيهين مصريين" .. ولكن العيب الوحيد أنه يقع – كله – في طابق واحد يرتفع عن الأرض بحوالي ثلاثين درجة،وكان رفاقي الثلاثة – بما فيهم ابنتي حنان – يهبطون بي مرة واحد في الصباح،ويصعدون مرة واحدة في المساء ... (..) وتناولنا طعام الإفطار من حقيبة زادنا،وما أكثر ما حملنا معنا،حتى لا ننفق من العملة الصعبة القليلة التي معنا إلا في أشد الضروريات .. وأفطرنا جبنا وزيتونا وبيضا مسلوقا ومربى،وأتبعنا هذا الشاي الذي لم يكن مستساغا،لأن مياه الشرب في بنغازي تشوبها أملاح معدنية (..) وجلسنا نضع برنامجنا اليومي .. الاتصال بالسيد جميل الفرجاني. وهو يمت لي بأواصر من النسب. (..) وتمت المحادثة بين صاحبنا محسن – الذي أصر أن يقوم بدور السكرتير الخاص بي – وبين السيد جميل الفرجاني الذي ما إن عرف بوجودي في بنغازي حتى كان أمامنا بسيارته اللانشا بعد أقل من ربع ساعة من المحادثة التلفونية .. وكانت أول عبارة قالها لنا بعد أن تبادلنا كلمات الترحيب :من الذي جاء بكم إلى هنا ... إلى هذه المنطقة من المدينة لماذا؟إنه حي شعبي جدا شديد الازدحام والضوضاء و – ونظر إلي كأنما يريد أن يقول "ولا يليق بالمقام" .. وابتسمت وقلت في نفسي (لو عرف القروش التي خرجنا بها عملة حرة لنطوف حول البحر الأبيض المتوسط،لأدرك أننا نزلنا في فندق أعلى من مستوانا بكثير"... ولن أطيل الحديث فيما لقيناه من ألوان الكرم على يدي هذا الرجل حتى لا نخجل تواضعه .. ولكن يكفي القول أنه تخفف من جميع أعبائه وأعماله ومسؤولياته واضعا نفسه وسيارتيه البيجو والمرسيدس وقصره الفاخر في الفويهات تحت أمرنا ... ولكننا أصررنا على المبيت كل ليلة في فندقنا البسيط .){ص 13 - 16}.وظلت النقود القليلة تطارد الكاتب .. وتساءل : ( هل سأجد في كل مدينة أو بلدة أصل إليها مثل السيد جميل الفرجاني .. تلك هي المشكلة .. أو هذا هو السؤال .. ولكن من كان الله معه في السفر،وخليفته في الأهل،فلن يجد إلا الترحيب في كل مكان ...ونشرت أخبار وصولنا صحيفة الحقيقة،وهي أوسع الصحف انتشارا في بنغازي .. وفي اليوم التالي نشرت نبذة عن حياتي مع صورتي،وعن المكان وموعد إلقاء محاضرتي "أثر الثقافة الإسلامية في تطوير الحضارة الإنسانية" وقد تحدد المكان بالمركز الثقافي العربي،والزمان بالخامسة من مساء الجمعة .. وحتى يحين موعد المحاضرة،أخذنا نعايش الليبيين في بنغازي على مختلف المستويات وقد لاحظنا أنهم لا يعترفون بالألقاب .. وهذا في الواقع شيء جميل ... كل إنسان ينادي الآخر باسمه مجردا. حتى لو كان المنادي عاملا بسيطا والمنادى عليه صاحب الشركة التي يعمل بها... ولاحظنا أنهم يسمون الخادمات باسم "الصبايا"وهذا شيء جميل ولكنهم يقولون عن "الست" "مره" وهو شيء يزعج الذي لا يعرف هذه الحقيقة .. وقد كان هذا الاسم سببا في وقوع أزمة معروفة حين صاح أحد الليبيين وقد استهواه الطرب من صوت أم كلثوم"يا سلام يا مره"وكان يقصد طبعا "يا سلام يا ست"ونحمد الله أنه لم يقل"يا سلام يا مرة الكل"قاصدا "يا سلام يا ست الكل" .. ومن الألفاظ التي أثارت انتباهي قولهم عن اللون الأسود. أزرج .. والأزرق زرجيني،والقرع العسلي ... البكواه،والفلفل الأسمر ... فلفل أكحل (..) والليبيون لا يقبلون على أكل الجبن بأنواعه المختلفة. ولهذا قلما تجد من يبيع أي صنف من الجبن في بنغازي ... ولكنهم يحبون المكرونة حتى أصبحت من ألوان أطعمتهم الشعبية .. وهم يطهون الأرز كما نفعل نحن في مصر،ولكن لديهم نوع آخر من الأرز "يسمى المبوخ" أي المطهو على بخار الماء .. والكسكسي المتوج بالخضر"وهراديم"اللحم من الأكلات المحببة إليهم ... وهناك صنف من الطعام اسمه الزميط ويصنع من الدقيق والعسل الأبيض وزيت الزيتون،ومن ألوان اللحوم لديهم لون يسمى الجديد – بكسر الجيم وتشديد الدال – وهو لحم عادي يقطع قطعا كبيرة وينشر في الشمس حتى يصبح "قديدا"ثم يخزن ليأكل منه الليبي على مدار السنة ويكثر تناوله بين القبائل الغربية ... ولكن الأجيال الجديدة لم تعد تستسيغ هذا اللحم {ما أحوجهم إليه في هذه الأيام ... وهو "القديد" بالفصحى. و"التشطار" عند الشناقطة. و"القفر" عند أهالي نجد ... ويسميه السودانيون باسم يحمل معنى غير لائق،حسب استعمالنا لنفس المفردة!!} واللحوم في بنغازي ممتازة بوجه عام – على عكس ما كنت أظن -،والمترفون من أهلها يخرجون في أيام العطلات إلى الخلاء والجبال وقد حملوا معهم الحوالي (أي الخراف التي لم تبلغ عامها الأول ) وهناك يذبحونها ويسلخونها ويخرجون أحشاءها ثم يحشونها بالأرز المعمر والمكسرات ثم يعيدون لف الحمل في جلده المسلوخ ويضعونه في حفرة تحيط بها جمرات الفحم ... (..) والليبي يتناول إفطارين في اليوم .. الإفطار الأول "مسح زور"ويتكون من القهوة والخبز الإفرنجي المغموس في زيت الزيتون .. وهو يعتقد أن هذه الوجبة الخفيفة وسيلة لتخلص المعدة من العصارات الصفراء المتخلفة فيها أثناء الليل ... وفي الساعة العاشرة يتناول إفطاره العادي كاملا وعادة يتكون من شطائر التونة والهريسة والخبزة .. أو الخبز .. (..) وقد لفت انتباهي إلى حد كبير هدوء الليبي وبطء حركته وأخذه الأمور ببساطة وبلا تعقيد ... وبعده عن الثرثرة ... وأنت إذا دخلت محلا ليبيا تركك صاحب المحل تختار ما تشاء،ثم تسأله عن الثمن .. والثمن محدد ... وإذا حاولت المساومة فإنه يرفض أن يبيع لك ولو دفعت أكثر مما طلب أولا ... والواقع أنه على حق في هذا الموقف. لأنه لا يزيد في السعر المعترف به. ولا يحاول أن يستغل .. وقد سمعت في نشرة البلاغات المحلية بالإذاعة أن السيد فلان التاجر الكبير استورد "كذا طن من كذا شيء" من لبنان .. وقد حددت الحكومة سعر الطن بكذا جنيه،ويباع الكيلو للمستهلك بكذا قرش ... وقد عرفت من جميع الذين اتصلت بهم،ومعظمهم من مواطني في مصر،أن الليبي لا يخالف التسعيرة سواء كانت ودية أو رسمية،وأنه مشهور بالأمانة التي تثير الإعجاب.ولكن المساومة ممكنة في شراء السيارات المستعملة .. وقد شهدت هذه التجارة تجري في قطعة أرض فضاء بحي الفندق ... وقد طلب البائع مبلغ ثلاثمائة وخمسين جنيها ليبيا في سيارة هيلمان ستيشن موديل 66 وبحالة جيدة .. ولكن الشاري استطاع أن يظفر بها بمائتين وخمسين ثم استقلها وانطلق بها على أن يتم إعداد أوراق البيع والشراء في اليوم التالي.والشوارع في معظم الأحياء واسعة نظيفة وحسنة الرصف،وفي أثناء إقامتنا في أوائل شهر يولية كان هناك أسبوع للنظافة،وكانت الإذاعة الرسمية والصحف .. لا تكف عن تذكير المواطنين للمحافظة على نظافة مدينتهم .(..) ويحين موعد المحاضرة التي سألقيها في المركز الثقافي العربي (..) وأعترف أني سعدت إلى حد كبير حين وجدت قاعة المحاضرات بالمركز محتشدة بعدد كبير من أهالي بنغازي المثقفين وبعض رعايا الدول العربية الشقيقة .. وكان في مقدمة الحاضرين السيد جميل الفرجاني. وأشهد أن السيد أحمد كمال مدير المركز،وجاري السابق بحي المنيل،كان موفقا في الإعداد للمحاضرة التي أعقبها فيلم تسجيلي .. وعدنا إلى الفندق لنستعد للسفر في صباح اليوم التالي إلى طرابلس ... الساعة السابعة والنصف من صباح السبت الرابع من شهر يولية .. السيارة البيجو التي ستقلنا إلى طرابلس واقفة أمام الفندق .. ورفاقي مع الحاج عبده بستاني السيد جميل الفرجاني يضعون الحقائب بداخلها وفوقها .. والسيد جميل يحاول التغلب على تأثره لفراقنا بعد أن قضينا في ضيافته الحاتمية أربعة أيام ... وكنت أنا أتلفت حولي لألقي النظرات الأخيرة على المنطقة الشعبية التي نزلنا بها ... وكان هذا التساؤل يلح على نفسي "ترى هل ستتاح لي فرصة رؤية هذا المكان مرة أخرى في حياتي" .. أن أقطع مسافة ألف وسبعمائة كيلو مترا في سبعة عشرة ساعة متواصلة ليست بالرحلة التي يقبل الإنسان عليها ببساطة ما لم تكن لأول مرة .. وكان أمامنا أن نقطع إلى طرابلس ألفا وخمسين كيلو مترا .. ولكني بعد تجربة الرحلة السابقة أصبحت أرى أن قطع الألف كيلو متر في السيارة في ساعات متصلة ليس بالأمر الشاق،وخطرت ببالي ذكرى أولائك الأجداد العظام الذين كانوا يقطعون هذه الفيافي القاحلة فوق الجمال أو سيرا على الأقدام .. من الرباط في أقصى الغرب،إلى القاهرة ثم السويس ثم المدنية المنورة .. ثم مكة المكرمة ليؤدوا فريضة الحج .. هل كان يخطر ببال ألئك يوما أن هذه المسافة التي كانوا يقطعونها في عام وبعض العام أصبح قطعها الآن لا يستغرق بضع ساعات بطائرة نفاثة ... يفطر الإنسان في الرباط ليتناول غداءه في مكة؟!وتحركت السيارة وأيدينا تلوح للسيد جميل وتابعه الحاج عبده ... ومررنا بالطرق البنغازية التي كانت الشعارات لا تزال معلقة فيها .. شعارات الوحدة ضرورة حتمية،"الشعب سيد الجميع"،"لا أحزاب ولا حزبية بعد اليوم" ..(..) وخلفنا مدينة بنغازي المدنية التي تسللت إليها ليلا مرهقا مكدودا لأرى ثلاثة قطط تتعارك على كومة قمامة بجوار الفندق،والتي غادرتها بعد أربعة أيام وخمسة ليال لعلها أن تكون من أجمل أيام وليالي العمر.وعاد الطريق الممهد الناعم يمتد بين الصحراوات على الجانبين لا نهاية لها .. ولكن الصحراوات هذه المرة كانت مكسوة بنباتات برية غبراء اللون مما يدل على أنها أرض صالحة للزراعة لو توفر الماء لها .. وتلتهم السيارة الطريق بسرعة مائة وعشرين كيلو مترا ... وكان السائق فرج شابا طويلا أبيض البشرة هادئ السمت،كصاحبه الأول عمر،ولكنه كان أبرع في القيادة،لأنه كان يعرف كيف يتحكم في السيارة أثناء صعودها وهبوطها فلا نندفع نحن إلى السقف كما كان الحال مع السائق عمر في جزء من المنطقة الواقعة بين الإسكندرية ومرسى مطروح .. وظلت الصحراء هي سيدة الطريق قبل بلدة المقرو وما بعدها .. وكنا بطبيعة الحال نمر بقرى صغيرة على جانبي الطريق حتى وصلنا إلى مدينة سرت ... وأصررت على أن نتجول خلالها حتى أرى على الطبيعة إحدى هذه المدن الساحلية الصغيرة،وكانت البلدة رغم صغر حجمها جميلة الممرات والطرق والمنازل ولما رأيت فندقها الصغير المشيد على الطراز العربي المغربي،تمنيت لو أمضيت فيه يوما أو يومين .. فقد كان الهدوء الشامل والهواء الجبلي،والصحراء الممتدة على مدى البصر،وبعض الأشجار التي كانت تزداد جمالا في تلك المنطقة الخالية من الخضرة .. كان كل شيء مختلفا عن حياة المدن المزدحمة ومغريا بالبقاء فيها ولو يوما وليلة.وتحت شجرة خارج المدينة،وبالقرب من محطة بنزين ومشرب شاي،جلسنا نتناول الغداء،وكانت الساعة تجاوزت الواحدة بعد الظهر .. ){ص 16 - 23}.لنترك الأستاذ (القباني) ورفاقه .. يتناولون غداؤهم ... بالهناء ... إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله.

  3. #3

    رد: حول العالم على كرسي متحرك/ الأستاذ حسين القباني

    حول العالم على كرسي متحرك "3"
    بعد تناول (الغداء) .. واصلوا السفر .. ( وعادت الصحراء تسود الطريق إلا من بعض الشجيرات والقرى والنجوع القليلة،حتى فوجئت،قبل مدينة مصراتة بحوالي ثلاثين كيلو متر – كما علمت فيما بعد – بتباشير الخضرة تغزو الصحراء وتتسيد الطريق .. ورأيت الأشجار والنخيل في مناطق متفرقة .. وكلما أمعنت السيارة في طريقها،ازدادت الخضرة والأشجار والنخيل .. وأحسست بالراحة النفسية .. إن الصحراء في ذاتها قد تبدو جميلة مهيبة،لمدة ساعة أو بعض ساعة وقد يستطيع ابن المدنية أن يعيش فيها يوما أو يومين .. وربما بضعة أسابيع أو أشهر إذا كان عمله مرتبطا بها ... ولكن شتان بينها وبين المناطق التي تسودها الخضرة ... النابعة من الماء .. الذي جعل الله منه كل شيء حي ..ووصلنا إلى مصراتة – وقد قيل لنا أن الاسم مشتق من كلمة "مصر أتت"أي مصر جاءت بخضرتها وزرعها وخيراتها .. وكانت المدينة أكبر نسبيا من المدن التي مررنا بها .. ولكنها تمتاز بأنها تسبح في ألوان من الخضرة والأشجار والزهور والنخيل .. طرقاتها ممهدة،ومنازلها نظيفة تنم عن ذوق – رفيع،وحدائقها أو بساتينها ممتدة،ومقاهيها عامرة بالرواد،رغم فترة الظهيرة الحارة (..) ووصلنا بعد نصف ساعة إلى بلدة صغيرة تسمى زلطين .. تسبح هي الأخرى في خضرة الأشجار والنخيل والزهور .. وفيها تناولنا شاي العصر .. وقد فوجئنا – ونحن نشرب الشاي لأول مرة في الطرق – بشاي ثقيل رهيب المذاق ... ولكن الكمية كانت قليلة فاستطاع كل منا أن يحسوها،رشفة صغيرة بعد أخرى،حتى أتينا عليها .. وسألت السائق عن نوع هذا الشاي،فقال إنه شاي أحمر .. هل هناك شاي آخر ... نعم ... هناك الشاي الأخضر .. وهو أقل حموضة من الشاي الأحمر .. وهناك الشاي الكيس .. أي الذي يوضع كيس الشاي الصغير في كوب من الماء الساخن مع السكر .. مثل الشاي الذي نسميه في مصر (كشري) .. ولما ذقنا بعد ذلك هذا الشاي أدركنا أنه مبتغانا ..(..) وبعد زلطين ازدادت الخضرة على الجانبين كثافة .. وكانت أحراش النخيل تمتد على مدى البصر ... أمامنا وحولنا .. والطريق يمضي بنا كخط أسمر عريض طويل ليس له نهاية ... وازداد إحساسنا بالبهجة (..) والهواء الآتي من البحر عن يميننا يزيد ساعة الأصيل بهجة انتعاشنا .. واستقام الطريق بعد بلدة سوق الخميس – وهي بلدة صغيرة رائعة الجمال – إلى طرابلس .. عابرا منطقة سياحية قال السائق عنها أنها جرابولي أو ترابولي ... ويبدو أن السائق كان جاهلا بتلك المنطقة،لأن ترابولي هي "طرابلس بالإيطالية ... (..) واستقام الطريق بين أحراش النخيل والمزروعات على الجانبين والبحر يبدو من بعيد بين الحين والآخر (..) وتذكرت ذات ليلة أمنية جاشت بنفسي وأنا جالس أمام شاشة التلفزيون في القاهرة .. تذكرت منظر سيارة كهذه تنطلق بركابها السعداء في طريق كهذا ... تحف به الأشجار والنخيل على الجانبين إلى غاية البصر (..) ودخلنا طرابلس في السابعة والنصف مساء .. وكانت الحركة في المدينة في تلك الساعة من المساء تنم عن الحيوية التي تتميز بها طرابلس كما علمت فيما بعد .. وطرابلس قبل الثورة كانت عاصمة الولايات الغربية .. والعاصمة الأولى للبلاد .. وكانت بنغازي عاصمة ولاية برقة .. والعاصمة الثانية للبلاد،ولكن الثورة قررت أن يكون للبلاد عاصمة واحدة،مثل كل بلاد العالم،وكان طبيعيا أن تكون طرابلس هي العاصمة ... ولم تستقبلني في طرابلس كلاب ولا قطط والحمد لله .. فقد كان الوقت من الليل مبكرا،ولم تكن هذه المخلوقات قد بدأت تسرح بحثا عن رزقها بين الفضلات .. ونزلنا بفندق الاكسلسيور المطل على البحر .. وهو فندق من الدرجة الأولى من ناحية الأسعار،ولكنه أقل كثيرا من الفنادق السياحية الممتازة (..) وفي صباح اليوم التالي،وقبل موعدنا مع السيد أنيس في الثانية بعد الظهر،خرجنا نجول في المدينة .. وفد لاحظت لأول وهلة أو شوارعها كلها – على وجه التقريب – كما عرفت بعد ذلك – تمتاز،مثل بنغازي،بالبواكي التي تحتمي بها المحلات التجارية،ولا حظنا كذلك أن الشوارع كلها،بلا استثناء،نظيفة وواسعة بعكس شوارع الإسكندرية التي ليس بها شارع واسع إلا طريق الحرية،واستهوتني بوابة أثرية قيل لي أنها تفضي إلى سوق المشير ... واجتزناها .. وسرنا في سوق المشير .. وهو سوق مسقوف مليء بالممرات المتفرعة منه .. وهو يشبه إلى حد كبير خان الخليلي. وبه من البضائع المستوردة والمحلية ما يقرب مما في خان الخليلي والموسكي .. وسرنا نتلفت حولنا ولعابنا يجري لما نراه من سلع بلغت حدا عجيبا من الرخص .. والعجيب أن السلع المستوردة أرخص في طرابلس مما تباع في بلادها المصدرة .. وهذه سياسة الدول التي تريد أن تفتح لنفسها أسواقا عالمية .. وإسرائيل تصدر بعض منتجاتها عن طريق إيطاليا وفرنسا دون أن تذكر اسم البلد المصدر إلا بعد أن يفتح المشتري السلعة ويجد ورقة تحمل الاسم .. ولو أني ذكرت أسعار السلع هنا – ولاسيما في الملابس والأدوات – الخزفية وأدوات التصوير والترانزستورات،لتسببت في أزمة سكانية في المدينة بسبب الوفود التي ستهرع إليها من كل مكان"كان هذا عام 1970" .. وبقدر ما كانت شوارع بنغازي خالية من النساء إلا القليلات في وسط المدينة كانت شوارع طرابلس مليئة بهن .. وكنّ نوعين لا ثالث لهما : السيدة الليبية بزيها الوطني الذي يكسوها من الرأس إلى القدمين فيما عدا فتحة صغيرة عند إحدى العينين تتبين منها السيدة الطريق،وهذا زي مختلف الألوان .. ولكن الغالبية هي اللون الكريم. والنوع الثاني من النساء والبنات الوافدات من مختلف الدول .. وكلهن يرتدين الملابس العصرية على أحدث طراز .. والشاب الليبي يكتفي بالنظر .. وأحيانا النظر الطويل المركز،ولكنه لا يعاكس باللفظ ولا بالإشارة أو الصفير ... ولم أر في شوارع طرابلس شبانا يتسكعون أو بنات يحاولن إغراء الشبان على المعاكسة .. والمقاهي كثيرة وهادئة رغم ازدحامها ليس بها هذا الضجيج العجيب الذي تنفرد به مقاهينا في مصر. وليس بها قرقعة الطاولة والدومينو .. ويبدو أن قلة عدد السكان نسبيا – إذ يبلغ تعداد سكان طرابلس حوالي مائتين وأربعين ألفا بما فيهم من الأجانب المدينة تتسع لأضعاف هذا العدد – أقول يبدو أن هذه القلة العددية في السكان هي السبب في ذلك الهدوء الذي يرين على المدين دائما،ولاسيما بعد الثامنة مساء،حين تغلق جميع المحلات أبوابها ..إنك تسير فيها بالسيارة أميالا بعد أميلا،جيئة وذهابا،فلا يكاد يقع بصرك بعد الثامنة على إنسان .. وإنما على صفوف لا تنتهي من السيارات على الجانبين .. جميع الجوانب بلا استثناء .. زاخرة بالسيارات الواقفة والمارقة،كلها من أحدث طراز،وقد عرفت أن عدد السيارات في طرابلس يزيد عن مائة وعشرين ألف سيارة،أي بمعدل سيارة لكل اثنين .. وهي أعلى نسبة في العالم. وقال لي السيد أنيس الفرجاني مفسرا إقبال الطرابلسيين على شراء السيارات،أن المدينة واسعة،وسيارات الأتوبيس قليلة،وسيارات التاكسي باهظة الأجرة وبلا عدادات .. والمشوار الذي لا يتجاوز خمسة كيلومترات قد يكلف الراكب جنيها،وإذا ساومه فنصف جنيه .. وانخفاض سعر البنزين في ليبيا من الأسباب التي تغري الطرابلسي باقتناء سيارة،فضلا عن هذا ارتفاع مستوى الأجور (..) أسعار الخضروات عالية إلى حد مذهل (..) واللحوم مرتفعة الثمن .. يصل الكيلو إلى جنيهين {في الهامش : كان الكيلو في مصر يومذاك بستين قرشا} وقد تعجبت وأنا أذكر أن ليبيا قبل عشرين سنة فقط أو على التحديد قبل خمسة عشر سنة،أي قبل ظهور البترول كانت من الدول المصدرة للماشية،,لكن ظهور البترول،وارتفاع أجور العمال،جعل المزارعين والرعاة يتدفقون إلى المدن وراء الربح والحياة البعيدة عن جفاف الصحراء .. وكما ذكرت فإن المزارع والبساتين وأحراش النخيل تحيط بالمدينة من جوانبها الثلاثة وتلطف جوها على مدار السنة (..) ولا أدري من أين تستمد طرابلس المياه لري كل هذه المساحات الخضراء بداخلها وخارجها .. ولكن المهم أنها عرفت كيف تبدو كالجوهرة في صحراء قاحلة تحيط بها من كل جانب (..) قبل أن أتحدث عن أهم مشكلة يواجهها الشباب في ليبيا،وهي مشكلة الزواج،أحب أولا أن أذكر أن مدينة طرابلس استقبلتنا في حفاوة لم نكن نتوقعها .. فما أبعد الفرق بين وصولنا إلى بنغازي ونحن لا نعرف كيف سيكون استقبالنا فيها،ومن الذي سيستقبلنا وهل سنجد فيها ما يدفعنا لمواصلة الرحلة أم الإسراع إلى إنهائها والعودة إلى الوطن قانعين من الغنيمة بالإياب ..ما أبعد الفرق بين هذا كله،وبين وصولنا إلى طرابلس لنجد السيد جميل الفرجاني قد حجز لنا غرفتين في فندق الاكسلسيور الممتاز ... وجرس التلفون يرن في غرفتي عقب وصولنا،وإذا المتحدث مندوب جريدة الثورة يهنئنا بسلامة الوصول بعد أن عرف من صحيفة الحقيقة نبأ مغادرتنا بنغازي إلى طرابلس.ورن جرس التلفون مرة أخرى لنجد المتحدث هو قريبنا السيد أنس الفرجاني شقيق السيد جميل (..) وفي مساء اليوم نفسه مضينا إلى الشارع العام القريب من الفندق .. وهو شارع عمر المختار الذي تقوم المحلات الفاخرة على جانبيه .. وكان بعضها قد أغلق أبوابه،والبعض الآخر يستعد للإغلاق ... وسرنا تحت "باكية"نتفرج على المعروضات في الواجهات الزجاجية الفاخرة .. واقتربنا من نهاية "الباكية"عند تقاطع طرق لنجتاز الشارع العرضي إلى الباكية الأخرى ..ولا أدري حتى الآن ماذا حدث على وجه التحديد في تلك اللحظات الخاطفة التي لم تستغرق دقيقة أو دقيقتين على الأكثر،ولكنها بدت لي كأنها زمن كامل ... لقد وجدت نفسي أطير من فوق الكرسي – عند حافة الرصيف في نهاية الباكية – وأهوي على رأسي بأرض الشارع .. وأحسست بآلام لا توصف وأنا أسقط بكل ثقل جسمي "أكثر من تسعين كيلو جرام"على ركبتي المريضتين .. وفي نفس الوقت – ورغم الفزع والألم – سمعت صرخة ابنتي حنان وهي تهتف بفزع أكبر "بابا ..بابا " .. وفي دقيقة كان ولدنا إبراهيم قد رفعني إلى المقعد بمساعدة ولدنا محسن وبعض المارة الذين فوجئوا بهذا المنظر .. ولا أدري كيف عدنا بسرعة بالغة إلى الفندق. ولكنني كنت ألاحظ اثنتين من السيدات كانتا تساعدان ابنتي على السير نحو الفندق وهي بينهما في شبه إغماء ... وكان الجميع يحاولون أن يؤكدوا لها أن "بابا"بخير .. وأنه كالقطط بسبعة أرواح" .. ووجدت نفسي بجوار النافذة في غرفتي بالفندق وأحد النزلاء يقدم لي كويا من عصير الليمون المثلج ويقول :- قدّر ولطف يا أستاذ فتمتمت قائلا :- كيف حال حنانفقال :- حقنتها بإبرة مهدئة .. وهي الآن بخير .. وكنت أحاول في تلك اللحظة أن أكتم الآلام الرهيبة التي انتشرت في جسمي و مفاصل ركبتي .. وكانت الركبتان محدودتي الحركة بسبب تليف عضلات المفاصل وترسب بعض الأملاح الجيرية حولها ... وكان السقوط عليهما بثقل الجسم قد ضغط على المفاصل المتليفة بشدة مفاجئة أدت إلى انتشار هذه الآلام التي لا يمكن وصفها. والتي لو أن الإغماء يريحني منها ..وتحسست جانب رأسي فإذا به قد تورم قليلا ... ولكنه كان أيضا يؤلمني وكانت المخاوف تملأ صدري بسبب هذه الصدمة التي أصابت رأسي .. فقد كنت قرأت عن حالات كثيرة من الانفصال الشبكي نتجت عن صدمات أقل من هذه بكثير .. وقرأت أيضا عن حالات ارتجاج المخ التي تسببت من صدمات مفاجئة كهذه .. وكان الخوف من حدوث شيء من هذا أكبر من الآلام التي انتشرت في مفاصل ساقي .. وكانت المعلومات عن الانفصال الشبكي أو ارتجاج المخ،أنها أي هذا أو ذاك – يحدث عادة بعد يوم أو يومين أو ثلاثة .. أي كان علي أن أتوقع في هذه الفترة أن أفقد بصري أو أفقد السيطرة على عضو آخر من جسمي بسبب ارتجاج المخ ..){ص 23 - 35 }. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي -المدينة المنورة

  4. #4

    رد: حول العالم على كرسي متحرك/ الأستاذ حسين القباني

    حول العالم على كرسي متحرك "4"
    قبل الحلقة :فوجئت بعدد من التعليقات على (زهرات من بستان أحلام ..) .. رغم أنني اغترفت بعضا من الكتاب على عجالة ... ولعل العجيب أيضا .. أن التعليقات كانت كلها من أخواتي أو بُنياتي !!! فهل سبب ذلك أن الكتاب موجه للنساء أصلا؟!!على كل حال ... أحببت أن أسأل إن كانت هنالك من يرغب .. بل من ترغب أن نضع كتاب الأستاذة أحلام (نسيان) على قائمة (السياحة)؟
    يواصل الأستاذ (القباني) سرد رحلته .. (وتحسنت حالتي في الصباح بعض الشيء ... ولكن الآلام كانت تنوشني إلى حد مزعج وأنا في الطريق إلى الموعد المحدد لإلقاء المحاضرة قبل الخامسة بعد الظهر،أحاول جاهدا كبت هذه الآلام .. وأعتقد أن الجمهور الكبير الذي ملأ قاعة المحاضرات بالمركز وفي المقدمة كان الصديقان الأستاذ محمد طاهر وقرينته الدكتورة نعمات لم يلحظا شيئا مما كنت أعانيه وأنا ألقي المحاضرة.. ولما اشتد الألم ختمت المحاضرة قبل نهايتها (..) ولعل السيد سعد حسن مدير المركز يعرف الآن لماذا لم أستطع أن أستطرد في المحاضرة إلى نهايتها ... وبمناسبة الحديث عن الأدب العربي واللغة العربية الفصحى المشتركة بين العرب،أذكر أنه لو لا هذه اللغة العربية الفصحى لما كان بمقدوري أن أتفاهم إطلاقا مع إخواننا في ليبيا .. إن اللغة الليبية العامية،واللهجة الليبية تجعلان التفاهم بينهم وبين المصري يكاد يكون مستحيلا قبل مرور فترة طويلة من الوقت على الأقل،ولكن اللغة العربية السليمة كانت العامل الحاسم في أن يفهم العربي أخاه العربي أينما كان وحيثما كان ... أقول هذا للذين ينادون باستعمال اللغة العامية – من أجل الفن – أقول لهم ما معنى هذه العبارات التي يستعملها التونسيون وبعض الطرابلسيين : وجميع الليبيين :"لعوص يمين" "لعوص شمال" أي "انحرف يمينا أو شمالا" {في الهامش : يعني اتجه يمينا أو اتجه شمالا} "نروح فدّهور في الخرارات" يعني "نذهب للنزهة في الشلالات" (..) ومن المناظر التي لاحظتها في بنغازي وفي طرابلس،كما سبق أن لاحظتها في شوارع لندن وجود عدادات للسيارات الواقفة على جانبي الطريق الرئيسية .. العداد يضيء بعد ربع ساعة ما لم يضع صاحب السيارة في فتحته نصف قرش .. ويمكن لصاحب السيارة أن يضع أربعة أنصاف قرش مرة واحدة لكي يطمئن إلى أن من حقه الانتظار ساعة كاملة (..) وبمناسبة ذكر السفارات،أقرر أنني لم أعان في طرابلس من شيء قدر ما عانيت من المسؤولين في سفارة تونس .. لم أكن أتصور أن يعامل العرب من سفارة بمثل هذه القسوة والتحدي .. في القاهرة رفضوا إعطاءنا تأشيرة مرور .. مجرد مرور وكذبوا علينا قائلين أننا سنجد هذه التأشيرة جاهزة في طرابلس بمجرد وصولنا إليها .. ولكني فوجئت بالسفارة التونسية في طرابلس مزدحمة بالعرب الذين يريدون المرور إلى الجزائر والمغرب .. ويمكنك أن تدرك الفارق الضخم بين موقف دولة عربية وأخرى،فالجزائر والمغرب تسمحان بدخول ومرور العرب بلا تأشيرات،بلادهما ترحب بكل عربي يريد أن يمر أو يدخل (..) لقد رأيت إخواننا العرب الغاضبين يصطدمون بحراس السفارة أكثر من مرة،وبرجال الشرطة الطرابلسيين حين حاولوا الدخول لتهدئة الحال أكثر من مرة. (..) وإلى أن نحصل على تأشيرة مرور في تونس نعود إلى طرابلس الجميلة (..) .. الواضح أن مسألة الحواجز بين الجنسين لا تزال قائمة رغم ظهور بعض الفتيات الليبيات بالملابس العصرية .. وبمناسبة الحديث عن الفتيات الليبيات،قالت لي سيدة أن الفتاة الليبية التي تستكمل تعليمها وتحتل مركزا في إحدى الوزارات،تكون عادة على جمال بسيط .. أما الجميلة فإنها تخطب وتتزوج قبل أن تتم تعليمها .. تماما كما كان يحدث في بلادنا منذ نصف قرن .. وأنا حتى الآن لم أتحدث مع فتاة أو سيدة ليبية مائة في المائة،لأعرف اتجاه تفكير المرأة الليبية،وما تأمله في المستقبل،ومدى ما تقدمه الجمعيات النسائية من خدمات للخروج بالمرأة الليبية من عهد الحريم إلى عهد الوصول إلى القمر .. وهذا الحديث عن المرأة يجرنا إلى أهم مشكلة يواجهها الشباب الليبي ... وهي مشكلة الزواج .. وهل هناك ما هو أهم من موضوع الزواج في نظر الشاب الذي أنهى دراسته وبدأ حياته العملية .. المشكلة تتلخص في المغالاة الشديدة في ارتفاع نفقات الزواج بالنسبة للشاب .. إن هذه النفقات لا تقل عن ثلاثة آلاف جنيه {في الهامش : كان هذا عام 1970 أي عندما كان متوسط الصداق في مصر ثلاثمائة جنيه} ينفقها الشاب المتوسط الحال على عروسه بين صداق وحلي وهدايا "منها ما لا يقل عن عشرة أطقم فاخرة للملابس لها ولأخواتها ووالدتها وأقرب النساء إليها" .. وفي الموسم على العريس أن يرسل إلى بيت العروس،قبل الزفاف طبعا،سيارة محملة بأجولة الأرز والسكر والبصل وصفائح السمن والحوالي "الخراف الصغيرة" وعليه أيضا أن يؤثث البيت تأثيثا كاملا بكل الضروريات والكماليات .. والشاب فوق المتوسط قد ينفق على عروسه ما لا يقل عن عشرة آلاف جنيه،عدا تأثيث فيلا فاخرة وشرائه سيارة جديدة خاصة بعروسه .. ويمكنك أن تتصور ما ينفقه الشاب الثري .. (..) وقررت قيادة الثورة أن تضع حدا لعذاب شباب بلادها كما قلنا ... وأنذرت أرباب الأسر في أحد المؤتمرات الشعبية التي تقام للتشاور في حل مشكلات البلاد،الواحدة بعد الأخرى،بأنه إذا لم يخفف الآباء من النفقات المطلوبة من المتقدمين للزواج من بناتهن{!!!} خلال ستة أشهر. فإنها ستضع تفسيرا جديدا لعبارة "الأجنبيات"أو على الأقل،سيجعل هذه العبارة لا تنطبق على النساء العربيات جميعا كما كان الحال من قبل (..) ولكنني شخصيا لا أعتقد أن هذا حل جذري للمشكلة .(..) والزواج في بنغازي له تقاليده الخاصة .. فهناك ليلة الحناء كما هو الحال في معظم البلاد العربية. وفي ليلة الزفاف تذبح الخراف ... وتستمر الأفراح من ثلاث إلى سبع ليال،وتحييها فرقة من النساء السود عادة،ثلاث نساء،أجرهن في كل ليلة عشرين جنيها،واحدة طبالة،و الثانية مغنية،والثالثة تدير أقداح الشاي للمدعوات .. وفي بنغازي يضاف إلى هذا أن تقوم بعض بنات الأسر بالرقص على دقات الطبلة وصوت المغنية .. وهناك تقليد معروف أيضا في بنغازي .. وهو أن تخرج العروس قبل اختفاء آخر نجمة في السماء عند الفجر،وتجري في الطريق .. وتجري وراءها البنات العذارى للحاق بها .. واللحاق بها يعتبر تفاؤلا باللحاق بها في الزواج .. ويعود الجميع إلى بيت العريس الذي يكون إخوانه قد احتفلوا به على رنين الكؤوس – قبل تحريم الخمور في ليبيا بعد الثورة – ويمضون به إلى غرفة الزفاف،ويدفعوه ضاحكين وهو يتظاهر بالحياء .. ثم يغلقون الباب ... وينتظرون في الخارج حتى يخرج إليهم {!!!!!!!!!!!!} أما في طرابلس فإن الزيانة "أي المرأة التي تزين العروس"تبقى مع العروس في ليلة الزفاف حتى يدخل العريس ويقول لعروسه : نورت حوشك{أي نورت بيتك : يسمون البيت "حوشا"} يا عروسة .. وهنا تقدم له الزيانة قطعة سكر،ولعروسه مثلها .. استبشارا بأن يجعل الله أيامها كلها حلوة ,, ويخرج العريس تاركا عروسه لتقضي ليلتها الأولى في بيته بين أهلها وأحبابها .. ويتم الزفاف الحقيقي في الليلة التالية .. (..) والآن .. قبل أن أغادر هذا القطر الشقيق في طريقي لاستكمال رحلتي .. أكاد أسمع بعض همسات الساخرين الذين لا يعجبهم العجب .. إنك لم تذكر عيبا واحدا في هذه البلاد .. فهل يعني هذا أن ليبيا أرضا وشعبا،جنة الله في أرضه .. أم أنك قبضت؟وللرد على همسات هؤلاء الذين سأقابلهم بعد عودتي إن شاء الله،أقول أنني لست ممن يقبضون ليكتبوا .. (..) هذا من ناحية،ومن ناحية ثانية،فإني أحب دائما أن أفتح عيني على الجوانب الطيبة في كل بلد أمر به .. أما الجوانب السيئة،فهي موجودة في كل بلد .. ولا أحد يجهلها،ولا تحتاج إلى ذكرها .. لأنها شيء يخص أهلها .. وأنا لا أنسى صديقنا الذي لم ير في الهند العظيمة .. العظيمة حقا،إلا البقر في الشوارع وإلا الحميات في مصب الأنهار .. وإلا الأوحال والأمطار والسير بأقدام حافية بسبب تكاثر الأوحال،وإلا الناموس والحشرات والأفاعي ... (..) انتظروا يا أصدقائي حتى أزور الهند يوما ... وسوف تعرفون حقا .. ما هي الهند ومدى ما وصلت إليه من حضارة في جميع الميادين ..الساعة تقترب من العاشرة صباحا .. والسيارة البيجو الاستيشن 405 تقف أمام باب فيلا الأخ أنيس الفرجاني تحمل حقائبنا الخمسة الثقيلة جدا .. وحانت لحظة الوداع مرة أخرى .. أياما عشرين أمضيناها في طرابلس مرت سريعة كالحلم الجميل .. وكنا قد حصلنا في اليوم السابق على تأشيرة مرور بتونس لا تزيد مدة صلاحيتها عن ثلاثة أيام .. وقد حصلنا عليها بعد حوار ساخن مع القنصل التونسي في طرابلس. وانطلقت السيارة يقودها شاب ليبي أسمر "عرفنا فيما بعد أنه جزائري هارب من أحكام في الجزائر"ومرقت من شوارع جميلة نظيفة طالما سرنا فيها بمقعدي المتحرك ,, وراحت شرائط الذكريات تنساب أمام مخيلتي كلما أمعنت السيارة في الانطلاق .. (..) وتمضي السيارة المارقة في هدوء ولا كلاكسات أو فرقعات شاكمانات الموتوسيكلات .. الحركة في هذه الساعة من النهار على أشدها .. ولكن الهدوء يكسو المدينة إلا من حفيف السيارات. وتلفت حولي لأملأ عيني مما أرى .. فمن يدري متى أعود إلى هذه المدينة الجميلة مرة أخرى ..(..) وتنطلق السيارة إلى الحدود التونسية قاطعة نحو مائة وثمانين كيلو مترا ... وعلى طوال الطريق كنا نرى قوافل سيارات الإيطاليين واليهود المهاجرين من ليبيا بعد صدور قرار استرداد ممتلكاتهم للشعب ... ووصلنا الحدود الليبية في حوالي الثانية بعد الظهر .. ثم انتقلنا بضعة أمتار – لا تزيد عن مائة متر – لندخل الحدود التونسية .. وكانت الساعة قد بلغت الثالثة بعد الظهر .. ولكن قيل لنا أن نؤخرها ساعة،لأن فارق التوقيت بين ليبيا وتونس ساعة،وهكذا أصبح هذا الفارق ساعتين بين القاهرة وتونس .. ولاحظت دقة تفتيش الحقائب في الجمرك التونسي .. لا فرق بين عربي وأجنبي. الجميع يجب أن يفتحوا الحقائب ويضعوها على منصبة خاصة ليجري موظفو الجمارك تفتيشها .. وكان أمامنا خمس سيارات،منها ثلاثة إيطالية هاربة إلى تونس .. وحاولت أن أشعر بالعطف عليهم،فلم أستطع .. لم تطاوعني مشاعري أن أعطف على هؤلاء المغتصبين الذين نصب آباؤهم وأجدادهم المشانق للعرب المناضلين في ليبيا .. ترى .. هل كان هؤلاء يعلمون أن الوقت سيحين للانتقام المشروع ..حقا "الآباء يزرعون الحصرم والأبناء يضرسون"كما قال السيد المسيح عليه السلام،واقترب موظف الجمرك التونسي نحوي وهو يلقي بعلبة سجائره الفارغة في ضيق فأسرعت وقدمت إليه سيجارة من علبتي قائلا :- سيجارة مصرية .. وابتسم الرجل – وعلى الأصح – الشاب،وتنازل السيجارة قائلا :- مصري ..- نعم .. - أهلا بك في تونس ..وكدت أن أكذب سمعي .. أهلا في تونس؟ إذن فيم كانت هذه المماطلة من الموظفين المساكين المغلوبين على أمرهم في سفارتي القاهرة وطرابلس .. وأقول مساكين وأنا أعني هذا .. لأني في مقابلاتي معهم لاحظت أنهم على جانب كبير من الضيق بالكلمة ... ولكن وجوههم كانت تنطق بهم .. (..) ونعود إلى الموظف التونسي بالجمرك .. لقد راح يدخن السيجارة المصرية ويقول :- باهي ياسر (يقصد كويسة جدا) ..){ص 35 - 62}.وبعد أن غادروا منطقة الجمارك،توقف بهم لسائق ليتناول غداءه،وكانوا هم قد تناولوا الغداء أثناء الانتظار في الجمارك .. وحين أخبروه .. (هز الخبيث كتفيه ودخل المطعم .. وطالت غيبته ونحن نتململ من التأخير،وذهب إبراهيم لاستعجاله،ولكنه عاد مسرعا يقول :- دا بيشرب بيرة - وقعته سودة وأسرع محسن إلى داخل المطعم ليتأكد ... وعاد يقول :إنه محروم من شرب الخمر في ليبيا بعد تحريم شربها .. وهو قد جاء إلى تونس ليسكر .. هكذا قال لي.وشعرت بالانقباض .. إن الطريق إلى تونس لا يزال طويلا،ولا يزال أمامنا أن نمضي إلى قابس .. وصفاقسي .. وسوسة .. وبين كل مدينة وأخرى مائة وخمسين أو مائتي كيلو مترا .. فكيف يقودنا إلى هذه المدن سائق مخمور .. ولما خرج بعد ساعة،صرخت فيه وقد انفلت زمام أعصابي .. ولكنه تجاهل حديثي العنيف،وانطلق بالسيارة يغني .. وكان صوته،والحق يقال،جميلا ... لكن ما قيمة جمال الصوت وقد أصبحت حياتنا معلقة في خيط واه .. ){ص 62 - 63}. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي -المدينة المنورة
    تعددت يابني قومي مصائبنا فأقفلت بالنبا المفتوح إقفالا
    كنا نعالج جرحا واحد فغدت جراحنا اليوم ألوانا وأشكالا

  5. #5

    رد: حول العالم على كرسي متحرك/ الأستاذ حسين القباني

    حول العالم على كرسي متحرك "5"
    وتستمر الرحلة مع السائق المخمور .. ( وكنا قد طلبنا في بني جردان أكوابا من الشاي فقيل لنا إنه لا يوجد في تونس كلها غير القهوة والمرطبات .. و أما الشاي فممنوع تعاطيه أو تقديمه في المشارب العامة بأمر من السلطات الحاكمة .. لماذا يا عالم؟! لأن الشاي يهرب من ليبيا وسعره فيها ستين قرشا ليبيا للكيلو – ويباع في تونس بجنيهين أو ثلاثة. وكنا قد تعودنا على شرب الشاي في ليبيا ..والليبي يشربه في كل ساعتين أو ثلاثة قائلا"دير لنا شاي"وله العذر .. فالشاي رخيص،والسكر أرخص،الكيلو بخمسة قروش،وشعرنا بالضيق وقلة المزاج،ولم يكن معنا ترموس،وصبرنا على الحرمان من الشاي،وفي بلدة مارتا،بعد بني جردان بنحو ساعة،هبط صاحبنا طربان وهو يقول :- هنا قهوة مشهورة جدا،يقولون لا تجعل قهوة مارتا تفوتك إذا مررت بها ..وشربنا قهوة مارتا،ولم نجدها تختلف عن القهوة الفرنسية في شيء .. ولكن الخبيث انتهز فرصة انشغلنا بشرب القهوة ليعب زجاجتي بيرة،ولم يتورع عن إحضار زجاجتين أخريين في السيارة ليشرب كلما "حبك المزاج"ولم يكن في مقدورنا أن نفعل شيئا أكثر من توجيه عبارات اللوم والعتب إليه .. وقد قال له الراكب منصور محاولا استثارة مروءته :- لا تنس يا طربان أن معنا رجلا مريضا لم يغادر السيارة من العاشرة صباحا،ومعنا أيضا آنسة شديدة القلق على أبيها.ولكن طربان يرفع عقيرته بالغناء وهو ينطلق بالسيارة .. وحاولت أن أنسى الموقف بالنظر إلى المروج والأشجار الممتدة على جانبي الطريق،وكانت المناظر أخاذة إلى حد كبير،والطريق ضيق ومتعرج ليس كالطرق الليبية الملساء،والشمس المائلة إلى الغروب تحاورنا كعادتها،فهي أمامنا حينا،وعلى يسارنا أو على يميننا حينا آخر،وفي قابس كانت قد غابت تماما،واندفع طربان بالسيارة مخمورا في طريق وعر يحاول أن يسبق الزمن ليصل في نفس الليلة إلى تونس،ولكن إحدى العجلتين الخلفيتين فرقعت وتعطلنا نحو نصف ساعة حتى وضعنا العجلة الاحتياطي،وعلمت أن الإطار الخارجي في العجلة المعطلة قد تمزق تماما،أي أصبحت غير صالحة للاستعمال،وهكذا سارت السيارة بلا عجلة احتياطية .. وازداد إحساسنا بالخوف والرهبة .. ومن حسن الحظ أن النوم غلب ابنتي حنان فلم تدرك الخطر المحيق بنا في كل خطوة تقطعها السيارة،وتوالت المناظر الخلابة في شفق المساء،الهضاب والجبال من بعيد،والأشجار والمزارع على الجانبين،والأراضي الصحراوية أو البور تمتد بين الحين والآخر،والطريق ضيق،واشتدت الظلمة،وأضاء طربان مصابيح السيارة ولم نعد نرى إلا الطريق أمامنا في المسافة التي يضيئها المصباح،ويتعرج الطريق ويتولى{لعلها : يتلوى} وطربان يتمايل برأسه ويرفع عقيرته بالغناء،وكلما أقبلت سيارة من الاتجاه الآخر،انحرف بقوة ليتفادها،و نهتز نحن بعنف،وأمسك صدري بيدي وأنا أخشى أن يتوقف قلبي من فرط الرهبة. ونصل أخيرا إلى صفاقس فنجد التيار الكهربائي مقطوعا بها،بالمدينة كلها،ولكني لمحت رغم الظلمة،والسيارة تقف أمام مزلقان سكة الحديد،دراجة بخارية يقودها شاب وقد جلست وراءه تونسية في ملابسها الوطنية البيضاء (..) وبعد صفاقس اشتد الطريق وعورة ولكن طربان لم يكن يهتم،فهو يضحك حينا ويغني حينا،ثم يكتئب فجأة (..) ووصلنا إلى مدخل قنطرة حيث وجدنا عداد من السيارات قد توقفت وأحد رجال الشرطة واقفا ينظم حركة المرور،وقلت لطربان في تلك اللحظة :- هل أطلب منه أن يشم رائحة فمك الآن؟ وشحب وجه اللعين ولكنه قال ساخرا :- وكيف تصلون إلى تونس إذا وضعوني في السجن؟ولم نستطع أن نناقش،,في الوقت نفسه لم ندر ماذا نفعل،الطريق قطعه السيل،والوقت يمر لإصلاحه،والليل يوغل،والظلام حولنا يثير الرهبة،وأضواء السيارات الحمراء كأنها عيون شيطانية تحملق في وجوهنا والإرهاق يكاد يقتلنا (..) وأريح رأسي على مسند المقعد تاركا الأمر كله لله،وتذكرت ردي على صديق لي أشفق علينا من هذه الرحلة:- إنني خارج وليس لي اعتماد إلا على الله ..ويبدو أنني غفوت قليلا،لأنني تنبهت فجأة على صوت الشرطي يطلب من طربان المرور على القنطرة بعد أن تم إصلاحها وطلب منه أن يسير متمهلا بقدر الإمكان،وكانت بعض السيارات الخفيفة قد مرت أمامنا،ببطء شديد،وكنت أسمع صرير ألواح القنطرة الخشبية تحت عجلات كل سيارة،ونظرت إلى الجانبين،فوجدت القنطرة قائمة على هاوية عميقة ليس لها قرار،وأحسست بقلبي يوشك أن يقف والسيارة تقترب من القنطرة التي تم إصلاحها على عجل وفي ظلمة الليل،ماذا لو أن العمال كانوا مرهقين فلم يحسنوا إصلاحها،وتحركت السيارة ببطء شديد على ألواح القنطرة التي راحت تصر كأنها تشكو من الثقل،وتذكرت حقائبنا الخمسة الثقيلة،كل حقيبة لا يقل وزنها عن ثلاثين كيلو جراما،وندمت على حمل هذا المتاع كله،وفرقع شيء،وراءنا وسمعت صيحات عالية تحذرنا،ولكن السيارة اندفعت إلى الأمام في قفزة واحدة،وانهار جزء من القنطرة وراءنا مباشرة،ولكننا كنا قد تجاوزناه بأمتار قليلة .. وحتى الآن أصحوا من النوم مفزوعا وقد رأيت في الحلم كالكابوس – أن السيارة تهوي .. وتهوي إلى القاع السحيق (..) وبدأت أضواء تونس تومض من بعيد .. يا رب .. ودخلنا في طريق عريض ذي اتجاهين،وحمدت الله أن طربان لم يعد – على الأقل – في حاجة إلى من ينبهه إلى السيارات القادمة من الاتجاه الآخر .. وكالجواد الذي يستجمع قواه في المرحلة الأخيرة من الشوط،اندفعت السيارة تسابق الريح إلى أن دخلنا تونس والساعة تدق الثالثة صباحا.){ص 63 - 68 }.ولم يجدوا غرفة مناسبة في الفندق الذي أوصلهم إليه سكران،أو طربان ... فرفضوا النزول من السيارة،نام المؤلف وابنته – بعد أن أسدلا الستائر على نوافذ السيارة – في السيارة نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيفتحت عيني لأجد ضوء الفجر قد لاح،أين أنا؟ ما هذه السيارة التي أقبع فيها؟ وبدأت أفيق تدريجيا لأدرك أنني في السيارة التي حملتنا من طرابلس إلى تونس في عشرين ساعة يقودها سائق مخمور،وينطلق بها في ممرات جبلية على جسور أكلتها السيول،وفي طرق ملساء حينا،وشديدة الوعورة أحيانا .. وسمعت صوتا بجانبي يقول :- مصريين- نعم- مرحبا بكم في بلاكمونظرت إلى المتحدث الواقف بجوار السيارة فإذا هو غلام لا يتجاوز السابعة عشرة من عمره يطلق شعر رأسه"نصف خنفس"(..) ترى رجلا يبيع شيئا تعرفه من شكله وهو ينادي عليه :العَضْم الطايب {لم أكن أشك حين قرأت هذه العبارة،وقبل أن أقلب الصفحة،أن المقصود – كما هو معنى الكلمة في اللهجة الشنقيطية : "اللحم الناضج" ولكن ..} وتدرك من شكل السلعة التي ينادى عليها أن هذا"العضم " ليس إلا بيضا،وتدرك أيضا من كلمة"طايب"أنه بيض مسلوق(..) وقررنا أن نبحث عن فندق - من أي درجة – طالما أنه بالقرب من محطة سكة الحديد ما دمنا قررنا السفر بالقطار (..) وافترقنا عن السائق طربان ونحن نرجو ألا نرى وجهه مرة أخرى،أو هذا على الأقل شعوري،بعد أن جعل الشيب يغطي البقية الباقية من شعر رأسي بسبب ما عانيناه على يديه في الليلة السابقة.(..) وهنا أقف قليلا لأقول أنني في خلال اليومين الذين أمضيتهما في مدينة تونس لم أر فتاة أو سيدة عصرية ترتدي الثوب العادي،وإنما هي ترتدي أحدث ما وصلت إليه الأزياء في باريس،وقد قال لي زميل صحفي تونسي أن هناك اتجاها عاما بين الحكام أو على الأصح،بين بعض الحكام يرمي إلى تشجيع الفتيات والشبان على هذا التمادي في"المودة"حتى يتم تحويل تونس إلى بلد أوربي مقطوع الصلة بالعرب والعروبة .. والنوع الآخر هن المحجبات أو المرتديات الملابس الوطنية،وهي عبارة عن ملاءة بيضاء تسمى الفراشة من الحرير أو الكتان،بيضاء عادة،وملونة في أحوال قليلة،ولكن التونسية حين تجمع طرفها عند الوجه تترك للعينين{هكذا} وأحيانا تترك الوجه كله مكشوفا.أما"الخَنْفَسة"بين الشبان،تونسيين وأجانب،فكانت أوضح السمات في شوارع تونس،الشعور الطويلة بين الشبان،وأحيانا تقابلها اللحى الطويلة أيضا،والبنطلونات الضيقة جدا،أو الميكرو جيب بين الفتيات،ومما يؤسف له أنني أمضيت في مقهى باريس نحو نصف ساعة وبالقرب مني فتاتان على جمال مذهل وكانتا جالستين في مدخل أحد أبواب المقهى،وكانت كل منهما تدخن السيجارة الطويلة بين أصابع طويلة ناعمة تتألق فيها الخواتم الذهبية والماسية،والشعر الذهبي متموج ومرسل على الكتفين ومفروق من الجانب اليسر،والأصباغ على الوجهين بأسلوب ينم عن الذوق الباريسي الممتاز،وكان يجلس معي في تلك اللحظة شاب من الزملاء الصحفيين في تونس،ولما رآني أطيل النظر إلى هاتين الفتاتين. ابتسم وقال يل :- ما رأيك في هذين الشابين؟- شابين؟!!- نعم .. من الخنافس ..!{لعل بعضكم يذكر أننا نشرنا – عبر استراحة الخميس : الشعرية – "أرجوزة" للشاعر الجزائري محمد الأخضر السائحي،يرد فيها على سؤال ورده عن "الخنافس"فقال :تسألني عن موضة الشعور ***** وكيف صارت صفة الذكوروعن لباس وحد الجنسين ****** وطار بالمعنى من الاثنينكلاهما يخطر في السراول"أي البنطال" ** ويلبس النعل بكعب عالييعلق الصليب فوق الصدر *** ويربط الحزام حول الخصر الأمر سهل إنه التساوي ****** وهو كما ترى من المساويوربما زاد من الجنون ***** فعادت النساء بالذقونوطارت النهود في الرجال *** فليس هذا الأمر بالمحالفنحن في عصر الصعود للقمر **** لا فرق فيه بين أنثى وذكر }وخجلت وأسفت على ضياع الرجولة والشباب لوثته الحضارة الأوربية المنحلة. ويقولون إن هؤلاء الهيبز أو الخنافس هم جيل من الشباب المثقف المتمرد على حضارة هذا العصر وعلى ما يعانيه العالم من تمزق وحروب وكراهية وتعصب في كل مكان،ولكنني شخصيا أسخر من هذا التفسير،لأن هذا اللون من الخنفسة وتشبه الشبان بالفتيات ليس تمردا على مساوئ العصر،وإنما هو إضافات أخرى لهذه المساوئ،إنه لون من تحلل شباب يريد أن يهرب من المسؤولية ومن أداء الواجب لإصلاح ما يراه فاسدا – فهل إطلاق الشعور كالنساء سيصلح فساد عصرنا،هل القذارة وإطلاق الأظافر والمبيت على الأرصفة،واصطياد القطط ليلا وذبحها "وهذا يحدث فعلا"هو رمز التمرد على الحروب!(..) إن هناك اتجاها من المتفرنسين يحاولون أن يقطعوا البلاد عن العرب،ويجعلوها جزء من أوربا،ولهذا يشجعون اللغة الفرنسية،ويعرقلون إعادة فتح جامعة الزيتونة التي كان لها الفضل في الحفاظ على هذا القليل من اللغة العربية في تونس،إن جامعة الزيتونة الآن لا تعدو أن تكون مسجدا أثريا تدخله الأجنبيات بما يشبه المايوه ليتفرجن عليه،(..) ورغم أننا كنا في الجمعة،إلا أننا وجدنا كل الأماكن و المتاجر ودور الحكومة مفتوحة،ولم نعثر على مسجد واحد،ولم نسمع أذان وقت من أوقات الصلاة لا في الشوارع ولا في الراديو،وإنما رأينا الكثير من الكنائس الفاخرة والمعابد اليهودية الضخمة (..) وأمضينا يومي الجمعة والسبت نتجول نهارا في الأحياء الشعبية ونتنسم عبير الشرق القديم بكل أصالته وعروبته،ونمضي المساء في الشوارع العصرية الواسعة النظيفة المضاءة على أحدث طراز،ولم يفتنا أن نتجول في متجر ضخم،أو سوق يسمى"المغازة العامة"وكلمة مغازة مشتقة من الكلمة الفرنسية "مجازان"أي المتجر أو السوق. والواقع أني دهشت وأنا أتجول بالطابقين الأرضي والأعلى،لا يمكن أن يخطر على بالك شيء دون أن نجده فيه – فيما عدا الطائرات والصواريخ وقطارات السكة الحديدية – أما فيما عدا هذا فإنك واجد كل شيء،من الإبرة إلى قسم الأثاث – الفاخر مارا بأقسام الملابس والأدوات المنزلية والمكتبات والعطور والتريكو والأقمشة وكل شيء ... كل شيء. (..) أشهد أن مدينة تونس من المدن التي أحببتها كل الحب رغم الفترة القصيرة التي سمح لي بالإقامة فيها،إلا أنني لاحظت أن السادة المتفرنسين أساءوا إلى طابعها أثناء محاولاتهم جعلها جزء من الشاطئ الفرنسي،لقد أصبحت بالعباءات التونسية والفراشات النسائية والملابس العصرية والهيبز والميكرو ميكرو جيب بلا طابع مميز .. كالراقصة التي لا يراها الذين هم فوق .. أو الذين هم تحت. والأسعار مرتفعة جدا بالنسبة للدخل العام. هكذا أكد لي الزميل الصحفي الحزين من أجل بلاده. (..) المرأة التونسية العصرية أصبحت بتشجيع المتفرنسين تهتم فقط بالمودة والميكرو ميكرو جيب دون أدنى اهتمام بالثقافة والتعليم الجامعي إلا في النادر جدا،ومع هذا كله فإن تونس بلاد جميلة .. جميلة .. جنة مهملة لا تجد من يرعاها بإخلاص .. والشعب التونسي،شعب مرح،يسهر الليل كله إذا أمكن،ويصبر على تفاهات المتفرنسين،,يحب مصر العرب ويتحفز لإعادة بلاده إلى عروبتها التقليدية الطبيعية .. لقد ظلت ذكريات إقامتي القصيرة في تونس تملأ قلبي سعادة وحبا للتونسيين جميعا .. وأنا أستقل القطار في الحادية عشرة من صباح اليوم التالي،الأحد 26 يولية،في الطريق إلى الجزائر الرباط ... ) {ص 69 - 79}. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. والتي ستكون مع (نسيان com.) .. إذا أذن الله. أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي -المدينة المنورة

  6. #6

    رد: حول العالم على كرسي متحرك/ الأستاذ حسين القباني

    حول العالم على كرسي متحرك "6"
    وركب الأستاذ (القباني) ومرافقوه القطار الذي تحرك .. ( من محطة تونس في الحادية عشرة وعشر دقائق ليصل إلى مدينة(غار الدماء) وينطقونها (غار دما) على الحدود التونسية الجزائرية في الساعة الثانية والثلث بعد الظهر. ووصل في موعده تقريبا مارا بعدد كبير من القرى التونسية الواقعة بين المزارع والسهول وبعض الجبال القليلة الارتفاع،وكانت المناظر في تلك المنطقة رتيبة متشابهة ليس فيها غير قليل من التنوع،ولم تكن الجبال أكثر من تلال جرداء طينية اللون،وكانت بيوت القرى قريبة الشبه من القرى في الريف المصري وإن كانت – والشهادة لله – أكبر حجما وأنظف شكلا .. ولما لم أجد ما يثير انتباهي،رأينا أن نتسلى بتناول ما حملناه من فاكهة ومكسرات (..) وكان أملنا معقودا أن نجد في (غار دما) مصرفا محليا بإدارة الجمارك نحول فيه عددا من الدولارات إلى عملة جزائرية. ولكننا فوجئنا بما لم نكن نتوقع،جمرك غار دما مجرد قاعة صغيرة تم فيها تسجيل جوازات السفر والتفتيش الصوري بسرعة وكياسة،ثم أسرعنا لركوب القطار الواقف بالمحطة ليقلنا إلى مدينة عنابة بالجزائر. وبعد لحظات من ركوبنا القطار الجزائري،وكان من الناحية الشكلية أفضل كثيرا من القطار التونسي،ذلك أننا وجدنا أنفسنا في مقصورة خاصة لثمانية ركاب،ولكننا انفردنا بها لأن مقاصير الدرجة الثانية كانت أكثر من عدد الركاب (..) ومرة أخرى تذكرت أحلامي وأنا في بيتي في القاهرة أمام التلفزيون،أشاهد ركاب القطارات الطولية وهم في مقاصير كهذه،وأمام الجالسين بجوار النافذة منضدة متحركة عليها المرطبات وعلب السجائر والمجلات والكتب،وكنت كلما رأيت هذه المناظر على شاشة التلفزيون تنهدت وتساءلت في نفسي : ترى هل سيأتي اليوم الذي أجلس فيه على مقعد كهذا وأمامي منضدة كهذه والقطار يلتهم الأرض من مدينة دولية إلى أخرى ..وأغمضت عيني برهة وفتحتهما وتلفت حولي وأنا أخشى أن أكون في حلم لم ألبث أن أستيقظ منه لأجد نفسي جالسا أمام شاشة التلفزيون ببيتي في القاهرة (..) وبدأ القطار يتحرك متأخرا عن موعده ساعة بسبب الإجراءات الجمركية على الحدود،وهو تأخير لم يضق به أحد بحكم الظروف. وكانت الساعة قد بلغت الثالثة والنصف بعد الظهر وعند تحركه قلت لإبراهيم :- كم لدينا من أرغفة الخبز- أربعة - تكفي حتى وصولنا إلى عنابة في الثامنة إلا ربعا أو الثامنة على الأكثر .. قالوا إن عنابة بلد كبير وسنجد فيها بنوكا لتحويل ما نريد من الدولارات (..) لم أكن أدري في تلك اللحظات أيضا أني سأخترق مناطق تبهر لها النفس من فرط الجمال والإثارة وتعميق الشعور بما في الطبيعة من فتنة وبهاء،إنني لا أستطيع أن أقسم هذه المناظر من منطقة إلى أخرى،كان كل شبر في نظري قطعة من الجمال – ربما لأنني عشت حياتي في بلاد مسطحة على الأرض،ليس بها إلا الخضرة المباركة دائما أو الرمال الصفراء أحيانا .. ولكنها منبسطة أبدا دائما ..وأيا كان الأمر،فقد وجدتني أتشرب بنهم منظر كل شبر من الأرض التي يخترقها القطار(..) القرى الجزائرية المتناثرة والمعلقة بين الجبال – على السفوح أو القمم – وبين السهول،والحريصة على البقاء بعيدا عن قيعان الوديان حتى لا تغرقها السيول،قرى جميلة كل الجمال بيوتها ذات الأسقف القرميدية المائلة على الطراز الأوربي حتى لا يتجمع عليها ماء الأمطار أو الثلوج. وقطعان الماشية وهي ترعى العشب في السهول والوديان وعلى سفوح الجبال الخضراء. وكانت بعض هذه السهول مكسوة كلها بالخضرة الزاهية (..) وازدادت المناظر جمالا وبدأ الهواء يبرد قليلا ويزيد من انتعاش الجسم،ويصعد القطار زاحفا ربوة،وينحدر إلى سهل ويمرق بجوار واد سحيق،وينطلق بين السهول الخضراء،وتتلون سفوح الجبال بكل الألوان،الخضراء المكسوة بالزرع. والبنية ،والصفراء،والحمراء التي صنع منها خيالي صورة للدماء التي أراقها الجزائريون لتحرير بلادهم(..) وتناولنا ما لدينا من شطائر الخبز المحشو بالجبن أو المربى أو البيض المسلوق،وشربنا الشاي،ثم القهوة وقد صنعناها خلسة في المقصورة وظلت الشمس تميل في أفق الغروب حتى غابت وراء قمة جبل،لكي تظهر مرة أخرى في أفق سهل وهكذا (..) ولكن بقايا من أشعتها الضاربة في السماء ظلت تكشف لنا الدنيا حولنا بهذا الضوء الخافت الحزين الذي يسبق اللحظات الأخيرة قبل حلول الليل {تلك اللحظة .. لحظة الغروب .. داكنة الحزن،يبدو أن الكهرباء قد قضت عليها .. } (..) وأحسست بالحزن العميق وأنا أمد بصري من النافذة الزجاجية فلا أرى إلا انعكاس مقصورتنا المضاءة وقد نام الذين معي (..) أحاول أن أغمض عيني وأستجلب النوم،ويبدو أني نجحت. لأني فتحت عيني فجأة على صوت إبراهيم وهو يتحدث مع موظف يرتدي الزي الرسمي،وعلمت أنه موظف الجمارك (..) وأصر أن نفتح كل حقيبة وأصر أن يفتش كل ما معنا بدقة وكأننا مهربون،ولم نحاول طبعا الاعتراض،فهذا من حقه،ولكن كان من حقنا أيضا أن – نشعر بالضيق الشديد ونحن نعامل هكذا لأول مرة منذ أن خرجنا من بلادنا (..) أسرع إلينا الحمالون ليساعدونا في إنزال الحقائب،ولكننا أفهمناهم أننا لا نملك نقودا جزائرية،وكنا في "غار دما"قد واجهنا موقفا عصيبا حين ساعدنا بعض الحمالين قبل أن نصارحهم بخلو جيوبنا من النقود التونسية أو الجزائرية. ولكننا خرجنا من هذا الموقف بتقديم علبتي سجائر ثمنهما أربعين قرشا أخذها الحمالون على مضض (..) وتعاون محسن و إبراهيم وحنان على إنزال الحقائب من القطار،وحانت لحظة نزولي وذهب محسن لإحضار مقعدي المتحرك من مركبة البضائع لأن موظف القطار الجزائري أصر على أن يوضع المقعد أو "الكروسة"كما يسمونه في هذه المركبة – وفوجئ محسن بالمقعد عليه ورقة تحمل رقما استعدادا لشحنه إلى مدنية "وجدة"على الحدود الجزائرية المغربية،,عبثا حاول أن يجعل موظفي المحطة الجزائريين يفهمون أن هذا المقعد ضروري لراكب مريض لا يمكنه الاستغناء عنه،واشتركت حنان في المناقشة محاولة شرح الموقف،وكانت المناقشة والتفاهم،مستحيلا تقريبا،فالموظفون الجزائريون لا ينطقون إلا بكلمة ممنوع ... - يا ناس هذه الكروسة جزء من راكب مريض لا يمكنه الحركة إلا بها .. إنها بمثابة ساقيه- ممنوع .- كيف يمكننا نقله إلى المحطة ... أو المدينة حتى يركب قطار الساعة السادسة صباحا ..- ما بنعرف .. واقترب موكب الجدل من نافذتي،وأشارت حنان إليّ محاولة شرح الموقف بكل كياسة للموظفين المتشبثين بالكرسي أو الكروسة كما يسمونها ورأيتها تهمس لمحسن الفهلاو بكلمات وكان أحد الركاب يصيح بدوره بأنهم أخذوا منه عربة ابنه الوليد محاولا أن يفهمهم أن العربة ضرورية لنوم الطفل في المحطة إذا لزم الأمر وحتى يركب قطار الصباح،ولكن كلمة "ممنوع"كانت الرد الوحيد على كل شرح أو تفسير .. ورأيت محسن يحضر مع إبراهيم .. وحملاني معا إلى خارج القطار،واندفعت حنان بحركة مفاجئة ووضعت الكرسي المتحرك تحتي .. وفوجئ الموظفون بي جالسا عليه وأنا أبتسم في هدوء. وصاح أحدهم :- ممنوع .. هذا ممنوع .. وقلت أنا بكل هدوء :- ما بنعرف.وتقدم أحد الركاب محاولا أن يقوم بالترجمة بيننا وبين إخواننا الجزائريين "العرب" وقال لنا أن وضع الورقة أو الرقم يحتم أن ندفع رسوما قدرها خمسمائة فرنك جزائري على شحن الكرسي :- يعني كم جنيها - لا .. لا .. المسألة أبسط من هذا ... ما يساوي دينارا تونسيا أو حوالي خمسين قرشا ..- هل يقبلون دولارات .. وبعد أن سألهم هز رأسه نفيا .. فقلنا :- ليس معنا غير دولارات .. وهاج الموظف المسؤول .. وراح يرسل سيلا من العبارات الفرنسية لم نفهم منها غير "امبسيل"أي "أوباش" أو "ملاعين"أو أي شتيمة تعجبك .. وانتهت المناقشة بأن وافق الموظف المسؤول عن الشحن بتسجيل رقم جواز سفري لكي أسدد الرسوم في مكتب أي محطة مقبلة قبل خروجي من الحدود الجزائرية ... وكانت الساعة قد بلغت الحادية عشرة، و طلبنا أن نغادر المحطة إلى المدينة،فسمعنا كلمة"ممنوع"ولم يسعنا إلا أن ندخل إلى قاعة الأمتعة حيث وجدنا صاحبنا الراكب الذي أخذت منه عربة ابنه جالسا بجوار زوجته وقد أرقدا ابنهما الرضيع على فراش فوق أرضية القاعة،وجمعا متاعهما وحقائبهما بجوارهما،وتم التعارف بيننا،كان اسمه يوسف،من الفلسطينيين اللاجئين العاملين في ليبيا،وكان قد بدأ هذه الرحلة من طرابلس بسيارته الخاصة ولما وصل تونس وحاول أن يستمر بالسيارة ليجتاز جبال الأوراس،أدركه الخوف وترك السيارة في تونس واستقل القطار .. ولم نفترق ،أو على الأصح لم يحاول هو أن يفترق عنا طيلة الرحلة إلى حدود المغرب وقد وجد فينا زملاء يمكن الاعتماد عليهم وقت الأزمات،,بقينا في القاعة نصف ساعة،وجلست حنان على إحدى حقائبنا وقد غلبها النوم على أمرها،ولكنها ظلت تقاوم (..) قيل لي – وأنا أسأل عن سر تجهم الجزائريين وجمود ملامحهم،وعدم استعدادهم للتفاهم مهما تكن المناسبة. أن الأحزان لا تزال تملأ قلوبهم. وأن كل بيت،وكل أسرة فقدت في الثورة أكثر من شهيد واحد. وأن السنوات القليلة التي مرت بعد التحرير لم تمح مرارات الآلام التي عانها الشعب المكافح (..) وعدنا إلى المحطة لأجد ابنتي حنان قد فرضت بطانية على أرضية غرفة الأمتعة ونامت بجوار زوجة يوسف الفلسطيني،والطفل الوليد بينهما. وكان محسن قد جلس بدوره على وسادة صغيرة من الأسفنج كنا نحملها مع وسادة أخرى لأريح ذراعي عليهما طيلة السفر في السيارة أو القطار. وجلس وأسند ظهره إلى الجدار وراح في سابع نومة.وقررت أن أنام كذلك بعد أن رأيت أني سأعجز تماما عن البقاء فوق مقعدي خمس ساعات إلى أن يتحرك القطار. وفرش لي إبراهيم ملاءة على الأرضية،ووضعت الوسادة الأسفنجية تحت رأسي،ووجدنا لدينا من الأغطية ما يكفي لتغطيتنا جميعا،ولم ألبث أن استغرقت في نوم عميق لا إحساس فيه بصلابة البلاط تحت جسمي،بل مجرد إحساس بالضيق .. وإنما استيقظت في الخامسة منتعشا ضاحكا لأجد الجميع مثلي في حالة انتعاش وضحك .. ولم نهتم كثيرا بالنوم على البلاط،ولم نشعر بالضيق من هذه المعاملة غير العادلة التي كنا نلقاها من موظفي السكك الحديدية في جميع محطات الجزائر. إن متعة الرحلة في الواقع كانت أقوى من أن تجعلنا نضيق بمثل هذه المتاعب القليلة(..) .. وصل قطارنا إلى العاصمة الجزائر في العاشرة مساء بعد رحلة شاقة لم يخفف منها،بالنسبة لي،إلا روعة المناظر الجبلية التي كنا نمر بها،فقد كانت المناظر في الواقع تزداد جمالا كلما أمعن القطار في اختراقه لمنطقة جبال الأوراس،وفي كل بضعة كيلومترات نخترق نفقا،أو نمر فوق جسر يمتد على هاوية سحيقة،أو نصعد جبلا تبدو المدن والقرى تحته من بعيد وكأننا نحلق في طائرة منخفضة الارتفاع تسير ببطء ممتع مثير(..) وصلنا محطة الجزائر في العاشرة مساء ونحن ننفخ من الغيظ،فقد كنا نخشى ألا نجد صرافا في المحطة يحول لنا ما نريد من نقود،وكنا نخشى أن يرفض موظفو المحطة خروجنا منها،وقد وقع ما كنا نخشاه تماما،لم نجد صرافا يحول لنا من العملة ما نريد،ولم نجد أحدا يقبل أية عملة غير جزائرية،وفوق كل هذا تكررت عملية مقعدي المتحرك أو "الكروسة"حين أصر الموظفون أن يشحنوه رأسا إلى وجدة،وكان طبيعيا أن تكرر حركة الاستيلاء عليه. وفوجئ الموظفون بي جالسا فوقه (..) وجلسنا في قاعة الأمتعة الكبرى. وكانت خالية تماما إلا منا والزميل يوسف،وكان بها بضعة مقاعد خشبية وحجرية،قلنا أن النوم عليها أخف وطأة من النوم على البلاط،ولكننا فوجئنا بالموظفين يقولون لنا :- ممنوع - إذن نخرج إلى المدينة للمبيت - ممنوع- نخرج إلى رصيف المحطة ننتظر قطار الساعة السابعة صباحا - ممنوع- إذن ما ذا نفعل- ما بنعرفلقد تأخر القطار أربع ساعات عن موعده وليس هذا ذنبناوكان يقوم بالترجمة أحد الموظفين الذين يعرفون اللغة العربية"طشاش"وكان الرد :- قضاء وقدر .. كان يمكن أن تموت الماكينة في الطريق ... يقصد أن تتعطل القاطرة تماما في الطريق- إذن أخبرونا ما ذا تفعل - ما بنعرف .. لابد أن تخرجوا من هنا .. - إلى أين يا عالم- ما بنعرفوتبادلنا نظرات الدهشة والعجب فيما بيننا،إذن البقاء في القاعة ممنوعا،والخروج إلى الرصيف لانتظار القطار ممنوعا،والخروج إلى المدينة للمبيت فيها ممنوعا،والتفاهم مع إخواننا هؤلاء الجادين جدا،مستحيلا،فماذا يمكننا أن نفعل .. وحضر إلينا الزميل الفلسطيني متهللا وقال :- لقد وضعت حقيبتي الكبرى في غرفة الأمانات للتأمين عليها حتى الصباح .. ويمكنني الآن الخروج للمبيت في أي فندق.ولما علم أن الخروج من المحطة ممنوع،وأن جميع مكاتب تحويل النقود مغلقة في تلك الساعة،استطال وجهه وزاغت نظراته،ونظر إلى زوجته الجالسة في هدوء على مقعد رخامي ووليدها بين ذراعيها مستغرقا في النوم .. وهتف قائلا :- العالم دول مش عايزين يفهموا ليشثم أسرع إلى ابنه الوليد وانحنى عليه يقبله،بكل هدوء وعاد يقول :- ماذا سنفعل ؟وكان إبراهيم جالسا بالقرب منا متعبا مكتئبا لأن لأنه فقد نظراته الطبية أثناء حركة النزول بالحقائب من القطار ولما سمع يوسف يتساءل رد عليه قائلا :- اللي يعمله ربناوفي تلك اللحظة حضر أحد موظفي المحطة من الذين يعرفون عبارات قليلة باللغة العربية ولما شرحنا له ظروفنا قال :- فيه قطار واقف بالمحطة سيسافر إلى وهران في الحادية عشرة قال هذه العبارة بكلمات عربية ركيكة ولكننا فهمنا المعنى. ولم ننتظر كلمات أخرى،وإنما انطلق إبراهيم ومحسن وحنان في نشاط عجيب ينقلون متاعنا إلى القطار الذي لم يكن باقيا على تحركه غير نصف ساعة. وفي دقائق معدودة كنت جالسا هذه المرة في الردهة الصغيرة في مدخل الدرجة الثانية،على مقعدي المتحرك. لقد أصررت على ألا أتركه مهما كان الثمن. وأقبل موظف القطار وحاول أن يقنعني بالانتقال إلى مقعدي في المقصورة المخصصة لنا،ولكنني قلت :- ممنوع ... وكلما قال شيئا فهمته أم لم أفهمه،قلت بإصرار :- ممنوع .. ولم يبتسم الرجل،ولكنه هز كتفيه وانصرف.ولم أهتم بانصرافه غاضبا متجهما فلو أنه عاد بالجيش الجزائري كله،لما سمحت لأحد أن ينقلني من فوق الكرسي إلا جثة هامدة. (..) وفي هذه الفترة الحرجة كان الزميل الفلسطيني يتراقص لأن حارس غرفة الأمانات كان قد أغلق الغرفة على حقيبته الكبيرة و انصرف إلى بيته،وأمسى يوسف في موقف أشد من موقفنا حرجا،ماذا يفعل الآن، إن الحارس لن يعود إلا في الثامنة والنصف صباحا،ويكون القطار قد رحل،وربما يمنع من البقاء في العاصمة حتى التاسعة من مساء اليوم التالي،موعد القطار المسافر إلى وهران .. وراح المسكين يتواثب في جنون. ولكنه كان في أثناء تواثبه،لا ينسى أن يذهب إلى ابنه الوليد النائم على حجر أمه ويقبله،ثم يعود إلى الوثب والصياح في طلب بوليس النجدة أو أي بوليس أو سفير ليبيا أو أي سفير عربي ليحل مشكلته ...){ص 81 - 94 }. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي -المدينة المنورة
    تعددت يابني قومي مصائبنا فأقفلت بالنبا المفتوح إقفالا
    كنا نعالج جرحا واحد فغدت جراحنا اليوم ألوانا وأشكالا

  7. #7

    رد: حول العالم على كرسي متحرك/ الأستاذ حسين القباني

    حول العالم على كرسي متحرك "7"
    بينما كان يوسف الفلسطيني يغلي من الغضب،ولا ينسى – في الوقت نفسه – أن يذهب ليقبل طفله .. (وفوجئنا بإبراهيم وحنان ومحسن يدخلون القاعة حاملين حقيبة صاحبنا،لقد عثروا على حارس غرفة الأمانات قبل أن يخرج من باب المحطة الرئيسية وظلوا يقنعونه بحرج موقف الراكب يوسف (..) وما إن رآها يوسف حتى تهالك جالسا بجوار زوجته وهو يتنفس بعمق وارتياح .. وجلسنا – أعني جلسوا – في مقصورة الدرجة الثانية،,بقيت في الردهة الخارجية بمقعدي،وتحرك القطار،ووجدت أنني أكثر راحة في مكاني هذا من الجلوس في المقصورة الضيقة حيث كان الزميل يوسف لا يكف عن تقبيل ابنه كل دقيقتين بانتظام،كما قال لي إبراهيم ومحسن – ضاحكين (..) ومرت ساعات الليل وأنا أنام حينا وأستيقظ حينا آخر،وتبلج الفجر وأضاء على الدنيا،وأخذت أشبع روحي بمنظر الحياة وهي تنبض في الكون حولي لحظة بلحظة،وبدأت الجبال من بعيد كأطياف هائلة تتحرك ببطء وإصرار،وأخذت معالم الأشياء تبين تدريجيا حتى انبثق ضوء الفجر على كل شيء فإذا كل شيء يعود للحياة من عدم الليل والظلام،والواقع أن الإنسان لا يدرك معجزة الليل والنهار،والعدم والوجود إلا في مثل هذه الآفاق الواسعة البعيدة عن عبث الإنسان وتفاهة الإنسان ومحاولات الإنسان – اليائسة – في تسخير الطبيعة،بينما تسخر منه في كل مكان ...ظللت أرقب الضوء أو نبض الحياة يزداد رويدا،رويدا .. ألوان الطيف تتوزع وتلون معالم الطبيعة في سمت العين بالألوان التي ترتاح لها النفس وتستريح لها العين،ويبتهج من عذوبتها القلب،وتسترخي لعذوبتها الأعصاب وتتدغدغ لبهائها الحواس ويطمئن لتناسقها الذهن،ويتلاشى أمام حلاوتها كل إحساس بالتعب والإرهاق والحاجة إلى النوم (..) وألاحظ أن القطار يسير ببطء غير عادي (..) ورأيت الوجوه التي كانت متجهمة تبتسم،ولم أدر السبب،ولكني لم ألبث أن سمعت همسات .. أن القطار يجر عشرين مركبة محملة بالجنود عدا مركبات الركاب العاديين،لماذا؟ .. يقال أن انقلابا وقع في وهران،ولهذا فإن الوجوه المتجهمة دائما تبتسم الآن،ولم أشأ أن أرد على محدثي،ما لي أنا وللسياسة،ومن يدرني أن هذا المتحدث صادق فيما يقول،أليس من المحتمل أن يكون عينا يريد أن يعرف اتجاهاتي السياسية،أليس من المحتمل أن يكون هذا النبأ أو هذه الشائعة شركا يلقي بي – إذا تحمست له ،في معتقل جزائري .. ونظر إلي المتحدث يريد أن يعرف رأيي ... وقلت :- إن الساعة تقترب من الثامنة ولم نصل بعد إلى وهران ..- ولكن .. ألم تسعد بما قلت لك؟- إننا إذا لم نصل إلى وهران قبل قيام قطار وجدة في الواحدة فسوف نضطر إلى قضاء أربع وعشرين ساعة أخرى في المحطة أو في المدينة ونحن لا نملك مالا جزائريا .. وهز محدثي كتفيه وانصرف عني في شيء من الغضب {عجيب!! كيف حولت بعض الأنظمة العربية الإنسان العربي إلى (متوجس)!! (مرعوب) من المعتقلات إن أبدى رأيه السياسي!! وعجيب أيضا كيف انقلب حال الجزائريين!! يبدو أنهم فجأة أصبحوا يجيدون الحوار باللغة العربية الفصحى!! وابتسمت الوجوه التي كانت متجهمة !!!} .. وازدادت المناظر الطبيعة جمالا حولي حتى نسيت الموعد الذي يجب أن نصل فيه بهذا القطار السلحفائي إلى وهران وبدا لي أن الطبيعة في كل خطوة ترتدي من أجلي ثوبا جديدا،كل ثوب أجمل من سابقه،ولكأنها تقول لي : لا يحزنك ما تلقاه من البشر،فليس بين البشر من هو معصوم من الأخطاء والعقد النفسية. وعش معي هذه الساعات فإنك قد لا تعيشها مرة أخرى.ووصلنا إلى وهران في الواحدة إلا ربعا،وهبطت من القطار وأنا أستحث إبراهيم ومحسن وحنان للإسراع بحمل حقائبنا ومتاعنا إلى القطار المنتظر بالمحطة،وأقبل الزميل الفلسطيني يوسف يقول :- ألا يحسن أن نبقى في المدينة حتى مثل هذا الوقت في اليوم التالي؟وصرخت فيه بأعصاب ثائرة :- ابق أنت .. أما أنا فإني أريد أن أصل إلى حدود المغرب في أسرع وقت ..- ولكن ليس معنا خبز- لنصم .. ألا تصوم رمضان- وأين نحن من رمضان يا أستاذولم أبال به .. وإنما أخذت أحرك المقعد بقدمي وقد دبت فيهما قوة مفاجئة وانطلق المقعد بي دون مساعدة عبر الممر الممهد إلى الرصيف الآخر حيث يقف قطار وجدة،وفوجئ إبراهيم ومحسن وحنان بي عند مدخل الدرجة الأولى،وسرعان ما حملت إلى ردهة هذه الدرجة،مصرا ألا أنزل عن مقعدي مهما يكن الأمر ){ص 95 - 97 }.وركبوا قطارا سريعا،عوضهم عن بطء القطار السابق،وتسلموا استمارات لملئها،فملؤواها باللغة العربية ،فرفض الموظف استلامها .. (وقلت للموظف الشاب بهدوء :- لماذا .. ما هو الخطأ- ممنوع لغة عربية- ولكن الاستمارة مكتوبة باللغة العربية- ممنوع لغة عربية- نملأها باللغة الفرنسية - ممنوع- إذن ماذا نفعل- ما بنعرفوأقبل محسن ساخطا وأمسك بالاستمارات ومزقها وألقى بها من نافذة القطار .. قائلا :- ما في استمارات .... واللي عايزين تعملوه اعملوه ..ورفع الموظف يده بحركة تهديد وانصرف. وظهر أن تهديده لم يتجاوز أن جعلنا،حين وصلنا إلى مبنى جمارك الحدود الجزائرية آخر الركاب الذين تم تفتيشهم وإطلاق سراحهم ليعودوا إلى القطار ويجتازوا الحدود إلى المغرب.){ ص 97 - 98}.كما يقول المثل الشعبي (ليالي العيد تبان من عصاريها) .. (ووصلنا إلى الحدود المغربية في الثامنة مساء،ورأينا على الجانب الآخر من الرصيف القطار الذي كان ينتظرنا لينطلق في التاسعة إلى الرباط .. وقال لنا موظف الجمارك المغربي وهو يرى حالتنا وما كان يبدو علينا من إرهاق وضيق و"بهدلة"بعد أن أمضينا ليلتين وثلاثة أيام بلاد طعام إلا اللوز والمربى واللبن والبيض المسلوق،قال لنا بابتسامة لطيفة :- لقد انتهت كل متاعبكم هنا .. اطمئنوا .. اطمئنوا .. وأمر لنا بمرطبات،واعتذر آسفا لأن صراف المحطة انصرف منذ دقائق،ولكن لا بأس لسوف يتفاهم مع رجال المحطة لكي يستقضوا ثمن التذاكر في الرباط عندما نصل في الثامنة صباحا،وهناك في محطة الرباط سنجد أكثر من مكان لتحويل ما نشاء من نقود إلى عملة مغربية (..) وفوجئنا بموظفي المحطة المغاربة،يعاونوننا في حمل الأمتعة إلى القطار الآخر،وأصر أحدهم أن أجلس،أنا ومن معي،في ديوان خاص بالدرجة الأولى،رغم أنه لن يتقاضى إلا ثمن تذاكر الدرجة الثانية،وتقدمنا إلى أقرب مقصورة بجوار مدخل المركبة وطلب من ركابها أن ينتقلوا إلى مقاصير أخرى لأن مصريا مريضا يحتاج إلى هذه المقصورة القريبة من الباب،وخرج الركاب الأربعة بأمتعتهم وهم ينحنون أمامي برؤوسهم،وكل منهم يقول لي بابتسامة :- لا بأس .. لا بأس . ولما استقر بي الأمر في ديوان الدرجة الأولى بمقاعده الفاخرة العريضة الصالحة للجلوس والنوم،نظرت إلى محسن وإبراهيم وحنان وقلت :- هل نحن في حلم؟!وقال إبراهيم بضحكته الصافية البريئة :- إحنا يا أستاذ في المغرب.وجدت نفسي في مقصورة بالدرجة الأولى،أعدها لنا – كما سبق القول مفتش السكة الحديدية في وجدة،واسمه على ما أذكر،عبد الحميد ... ومن المصادفات العجيبة أنني عرفت أثناء زيارتي للسيد محمد بن زيان في مصيف أفران بالمغرب،بعد ذلك طبعا،أن السيد عبد الحميد هذا الموظف المغربي الإنسان. هو زوج ابنة الصديق محمد بن زيان ،مدير التعليم السابق بالمغرب،ووكيل مكتب تنسيق التعريب في الدول العربية بالرباط .. أقول وجدت نفسي في هذه المقصورة الفاخرة،الأولى من ناحية الباب،والمستقلة عن باقي مقاصير القطار،وليس معي غير ابنتي حنان،أما ولدانا محسن وإبراهيم فقد أعد لهما المفتش الإنسان مقصورة أخرى بجوارنا حتى يستطيع كل واحد منا أن يستقل بمقعد كامل يمكن تحويله إلى سرير. لقضاء ساعات الليل التي سيستغرقها القطار للوصول إلى الرباط .. وجاء المحصل بعد المفتش،نفس الأسلوب المهذب في المعاملة،نفس الابتسامة الصافية،نفس التفاهم الذي كان يتم بالقلب قبل اللسان. وكانت اللغة العربية السليمة هي لغة المخاطبة بيننا،بعكس إخواننا الجزائريين الذين لم يكونوا يفهمون من اللغة العربية – للأسف الشديد – إلا كلمتي "ممنوع" و"ما بنعرف" ..كان إبراهيم ومحسن معنا – قبل أن نفترق للنوم – وأخرج إبراهيم – الذي كان – أمينا للصندوق – النقود ليدفع ثمن التذاكر .. ولكن المحصل قال :- جئت لأطمئن على راحتكم فقط ..- شكرا جزيلا أيها الأخ العزيز- أما ثمن التذاكر فيمكنكم أن تسددوه في الرباط بعد أن تحولوا ما شئتم إلى العملة المغربية. (..) كان القطار الفاخر ينطلق بسرعة تزيد على ثمانين كيلو مترا في الساعة ولكن العربات لم تكن تهتز أو تتأرجح كعربات قطارات تونس والجزائر،وكانت ستائر الليل مسدلة على نوافذ القطار لا تتيح لنا أن نرى شيئا من الطبيعة التي ننطلق فيها .. وبدا لي فجأة أن القطار يحملنا إلى مجهول يملأ النفس بالتوجس،بالخوف،أو الفرحة،باليأس أو الأمل،بالمتاعب أو الراحة .. أربعمائة وستين دولارا هي كل ما يملكه أربعة أشخاص،أحدهم لا يسير خطوة إلا على مقعد متحرك،وثانيتهما فتاة لا تزال في أول الصبا لا تحسن القيام بأي عمل. والجميع قد ابتعدوا عن وطنهم نحو أربعة آلاف كيلو متر،والقطار يحملهم إلى نحو سبعمائة أو ثمانمائة كيلو مترا أخرى ..وكل ما معهم أربعمائة وستون دولارا ..آ .. نسيت .. وحقيبة بها بعض المأكولات المحفوظة تكفيهم بضعة أيام لا تزيد عن خمسة .. وقلت لولدنا إبراهيم :- كم يوما يكفينا هذا المبلغ في للإقامة في الرباط؟وفكر إبراهيم برهة ثم قال :- إذا نزلنا في فندق متوسط فإنه يكفينا للإقامة فقط – دون أكل – حولي أسبوعين - أي حوالي أسبوع بالأكل- وأسبوعان في فندق من الدرجة الرابعة – هبوطا – مع الاقتصاد الشديد في نفقات الطعام ..- وبعد ذلك يا إبراهيم ..ونظر إبراهيم نحو النافذة ورفع عينيه إلى أعلى .. إلى السماء وقال :- وبعدها يحلها الكريم ..ثم أردف مسرعا :- ألن نكون ضيوفا على الحكومة المغربية؟إن خطاب السيد محمد الدوكالي مدير الإعلام الخارجي الذي رد به على خطابي،لا يحمل أكثر من عبارات الترحيب بنا في المملكة المغربية حيث سنجد كل حفاوة من زملائنا الأدباء والكتاب في المغرب. وحك إبراهيم مؤخرة رأسه بيده وقال :- يعني ليس فيه أي وعد قاطع باستضافتنا رسميا- أبداوخيم علينا صمت ثقيل لم يكن يقطعه إلا صرير عجلات القطار الذي كان ينهب الأرض نحو الرباط .. على مسافة خمسة آلاف وثلاثمائة كيلو مترا من أرض الوطن .. وقال إبراهيم بصوته الهادئ ووجهه الذي ينم عن الطيبة المطلقة :- سمعتك تقول لأحد الأصدقاء أنك ماض في الرحلة معتمدا على والله وحده .. وتمتمت في صوت خافت :نعم يا إبراهيم .. معتمدا على الله وحده .. ){ص 98 - 103 }. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي -المدينة المنورة
    تعددت يابني قومي مصائبنا فأقفلت بالنبا المفتوح إقفالا
    كنا نعالج جرحا واحد فغدت جراحنا اليوم ألوانا وأشكالا

  8. #8

    رد: حول العالم على كرسي متحرك/ الأستاذ حسين القباني

    حول العالم على كرسي متحرك "8"
    وعادة هواجس المستقبل تلتهم أفكار الأستاذ (القباني)،ففي ليبيا كانوا ضيوفا على أقربائهم من آل الفرجاني .. ( ورغم الحفاوة أو المعاملة الطيبة التي قوبلنا بها من موظفي الجمرك والسكة الحديدية المغربيين. فإن ما لقيناه من إهمال السلطات الرسمية في تونس والجزائر {سيعود ليعتذر للجزائريين بأنه لم يخبرهم بمروره عبر أراضيهم} وهما جزء من المغرب الكبير – جعلني أفكر طويلا فيما سيحدث لنا لو أننا وجدنا في الرباط بعض ما وجدناه في تونس مثلا ،حفاوة من أفراد الشعب المحب لمصر والمصريين،وإهمال تام من السلطات المسؤولة – إننا قد نجد اثنين أو ثلاثة في الرباط من الأصدقاء الذين تعرفت بهم في القاهرة،مثل السيد عبد الكريم القباج ومحمد بن زيان،أو آخر مثل الحاج عبد القادر التحيفة الذي كنا نحمل إليه هدية قرآنية من صديق له في القاهرة ،من المؤكد أن هؤلاء الأصدقاء أو المعارف الثلاثة سوف يدعوننا إلى ثلاث مآدب على الأقل،ثم ماذا بعد ذلك؟ أقول لكم الحقيقة أن النوم طار من عيني رغم حاجتي الشديدة إليه ... قد تكون لحظات من هذه اللحظات التي تنتاب النفس البشرية مهما بلغ بها الإيمان من قوة .. مادات لم تأخذ بالأسباب أولا! (..) وهكذا أخذت أحدث نفسي وأنا تحت سيطرة هذه اللحظات من الضعف،إن المبلغ الذي معنا قد يكفينا للعودة إلى الوطن إذا بدأنا هذه العودة في صباح اليوم التالي،وهذا شيء يكاد يبلغ حد المستحيل بعد ثلاثة أيام أمضيناها من قطار إلى آخر بلا نوم مريح،ولا طعام يذكر .. وإذا فعلنا هذا،فلماذا كانت الرحلة،ولماذا لم نناقش هذه الاحتمالات قبل أن نبدأ أول خطوة بها .. بل لماذا لم أشتر – كما يفعل الكثيرون كمية من السلع المستوردة الزهيدة الثمن في بنغازي ثم أعود في سلام (..) وفي كل لحظة كان القطار ينهب الأرض نحو ذلك المجهول .. وفجأة جمعت نفسي بقوة وتمتمت بصوت مسموع :- إن الله الذي رعانا حتى الآن سوف يرعانا بقية الرحلة طالما كان اعتمادنا عليه نابعا من إيمان عميق،إيمان لا شأن له بالحسابات ومنطق العقل .. (..) ولما فتحت عيني أخيرا وجدت ضوء الفجر قد غمر المقصورة،فنهضت جالسا،واقتربت من النافذة أحاول أن أنسى أحلامي المزعجة (..) وأخذت أعب من دنان الألوان التي كانت تسكبها الطبيعة وهي تستحم في بواكير أشعة الشمس،وخيل لي أن روحي تنزلق من جسدي لتهيم مع مواكب الضوء،والألوان،والإشراق،وتستحم مع الطبيعة في بحار الطيف الشمسي،وتتوثب على قمم الجبال البعيدة وعلى سفوحها القريبة،ولتعبر الوديان الخضراء بأزهارها البرية التي كانت ترسم عاملا من الألوان والأحلام،وبهجة الحياة. ورفعت المنضدة الأنيقة المثبتة على جانب المركبة تحت النافذة. وتناولت علبة سجائري ورحت أدخن سيجارة وقد عاد إلي الإحساس الدافق ببهجة الحياة (..) ونهضت حنان بعد أن داعبتها نسمات البكور،وجلست تفرك عينيها وتقول بعد تبادلنا تحية الصباح :- أين نحن؟!- في الطريق إلى الرباط- ونظرت في ساعة يدها ثم تمتمت :- ياه الساعة الآن التاسعة.ووقفت تسوي ثوبها وبنطلونها،وتناولت من حقيبتها الخاصة أدوات التجميل والصابون المعطر والمنشفة وأسرعت إلى دورة المياه بالقطار. وفي خلال غيبتها جاء محسن وإبراهيم وانهمكا في إعداد طعام الإفطار (..) وظهرت منطقة الأشجار التي تقع في ضواحي الرباط،وأخذت البيوت الصغيرة المتناثرة على طول الطريق تبدو بين الحين والآخر منبئة باقترابنا من محطة الرباط (..) ولاحت عمارات المدينة،البيضاء،من بعيد،تقترب بسرعة هائلة،وفجأة اختفى كل شيء .. فقد دخل القطار في نفق ليصل إلى محطة تحت الأرض،ولهذا كانت المحطة عملا هندسيا جميلا،مدخلها الفاخر على مستوى الشوارع،ثم تهبط منه مقدار طابقين أو ثلاثة إلى أرصفة القطارات التي تنطلق في نفق طويل يبدأ في مدخل المدينة،وينتهي في آخرها،دون أن تعيق القطارات حركة المرور في شوارع المدينة .. وهبطنا من القطار في تمام التاسعة تماما (..) وقبل أن تهبط من القطار،رأيناه يتحرك بهدوء ليواصل رحلته إلى مدينة الدار البيضاء في نهاية الخط،وخفق قلبي بعنف وصرخت :- اقفزي يا حنان ..وقفزت ... وسقطت على يديها وركبتيها،ولكنها كان سقطة بسيطة لأن القطار لم يكن قد أجمع سرعته بعد .. وقد ذكرني هذا التحرك الخافت أو "التسلل"للقطارات على طول البلاد المغربية،فمنذ غادرنا تونس كنا نجد القطار"يتسلل"من المحطة في موعده أو بعد موعده دون أي إنذار أو تحذير،تكون جالسا تتحدث في هدوء،وإذا بالقطار يتحرك،وببطء في أول الأمر طبعا،وإذا هو يندفع مطلقا صفيره (..) ووقفنا برهة أمام مدخل محطة الرباط أنظر،لأول مرة في حياتي إلى شوارع مدنية الرباط،وكان ضوء الصباح باهرا. أكثر إشراقا من أي صباح رايته من قبل،ولم أكن أدري لماذا .. بل ولا أدري السبب،قد يكون إحساسا داخليا. وقد يكون السبب في هذا الإشراق غير الطبيعي للصباح في الرباط،إن المدينة كلها كانت تسبح في اللون الأبيض المطرز بالخضرة الزاهية وألوان الزهور المتعددة،المباني جميعا بيضاء ناصعة وكأن عمال الطلاء قد هبطوا لتوهم من واجهاتها ..وكان ثمة أزيز متصل قد أثار سمعي دون أن أعرف مصدره في أول الأمر،ولكنني لم ألبث أن تبينت الحقيقة،كانت هناك أعداد كبيرة من راكبي وراكبات الدراجات البخارية تنطلق في الشوارع المتفرعة من الميدان الواقع أمام مبنى المحطة،شوارع كثيرة واسعة،نظيفة،تحف بها الأشجار،وتتوسط الشارع الرئيسي،"محمد الخامس"،صفان من النخيل المتوسط الارتفاع،وكان الهواء نديا،والجو منعشا،والمارة يسيرون على الأرصفة في جو لا أثر فيه للتسكع،مواطنون بملابسهم التقليدية أو ملابس عصرية،وأجانب من الجنسين،عاديون أو "خنافس"بلحاهم الطويلة،والميكرو والميني جيب،والسيارات تمرق من الشوارع المتفرعة وإليها في سرعة وهدوء لا صريخ عجلات ولا ضجيج الكلكسات،ولا زعيق ركاب الأوتوبيسات وسائقيها (..) هذه إذن مدينة الرباط مدنية الأحلام التي طالما راودتني .. المدنية التي رأيتها كثيرا في أفلام الجاسوسية والمغامرات،ومدينة القلاع والأسوار القديمة،والحصون والروابي،والشرق القديم المجيد (..) وعاد إبراهيم ومعه الحمال قائلا أنه عثر على فندق متوسط الحال،يسمى فندق الأكسلسيور،على مسيرة ثلاث دقائق من مبنى المحطة،وانتحى بي جانبا وقال في همس :- أجر المبيت في الغرفة ذات السريرين اثنا عشر درهما .. أي حوالي مائة وعشرين قرشا ..وقلت :- عال جدا .. - ومن حسن الحظ وجدنا غرفتين متداخلتين بهما حوض - ودورة المياه- في الطابق الأعلى - والغرفتان!!- في الطابق الأول .. ارتفاع عشرين درجة فقط ..- بلا أسانسير طبعا- نعم ووصلنا مدخل الفندق،وكان أول ما لفت الانتباه تناقض الاسم "الأكسلسيور"مع هندسة البناء،فقد كانت هندسته على الطراز المغربي،الباب له قبو،وله عتبة مرتفعة،والواجهة تحمل الطابع المغربي بنقوشه العربية القديمة،والأرضية من البلاط المزخرف بوحدات مكررة ملونة،ودهليز طويل يؤدي إلى بهو صغير يحتوي على مكتب المدير ومقاعد الاستراحة ،وكانت ثمة عاملتان تقومان باللمسات الأخيرة من عملية تنظيف القسم الأسفل من الفندق،وكان طبيعيا أن أختلس النظر إليهما،فقد كانتا أول مغربيتين تبدوان على طبيعتهما،كان الوجه شاحبا بعض الشيء،قمحي اللون والعيون سوداء واسعة. والشعر أسود ناعما ومرسلا على الكتفين والقوام مشيقا،والتقاطيع عادية.(..) كنت أحاول وأنا أمضي على مقعدي المتحرك تحت البواكي في شارع علال بن عبد الله أن اشرب كل شيء حولي بنظرات نهمة ونفس متفتحة لاستيعاب كل نبضة حياة في هذه المدينة التي سحرتني من النظرة الأولى.كان الشارع الذي بدأنا منه التجوال يشبه شوارع طرابلس،البواكي على جانبيه والمحلات الفاخرة تعرض أحدث المنتجات المحلية والمستوردة،وفي جزء منه قريب من الفندق – داعبت أنوفنا – بل معداتنا – روائح الفطائر التي كان يعدها مخبز عصري (..) وكانت المقاهي على الجانبين كثيرة،أنيقة ونظيفة وتغري بالجلوس،كان روادها عادة من الجنسين،والفتاة الأوربية في الرباط كأختها في تونس،لا تعرف من الملابس إلا الميكروجيب،والميكرو ميكرو ... ولكن ماذا كان بوسعي أن أفعل مع ولدنا إبراهيم .. كان ممتازا في كل شيء،إلا كراهية النظر إلى ذوات الميكروجيب،وقد عانيت من كراهيته هذه الشيء الكثير،فقد كان يصر أن يتولى قيادة مقعدي حتى يتيح الفرصة لحنان أن تتفرج بحريتها على ما تعرضه الواجهات من روائع الملابس والأقمشة والتحف،وكان من نتيجة إصراره هذه أن راح يدير المقعد بزاوية منفرجة كلما مررنا على باقة من الزهرات الأوربيات جالسات على مقهى،واضعات السيقان على السيقان وبخاطرك بأه!!ولكن على مين،كان هو يوجه المقعد إلى زاوية منفرجة،ولكنني كنت أدير رأسي على عنقي في زاوية حادة أختلس خلالها،من تحت النظارة،نظرات خاطفة،ولكن كافية لإثارة الدفء في دماء كادت خمسون عاما أن تبردها .... وقد قلت له ذات مرة في أثناء حوار في هذا الشأن :- إذا لم يكن هذا الميكروجيب قد صنع خاصة لمتعة أنظارنا،فلماذا صنعوه ..فكان رده عليّ :- لأنظار الخلابيص يا أستاذ ..- أتعني أنني خلبوص- لا سمح الله يا أستاذ ... ولكن الشرع يقول النظرة الأولى لك .. والثانية عليك .. - حلوا جدا .. أنا أكتفي بالنظرة الأولى واتفقنا على ألا ينحرف بالمقعد في زاوية منفرجة عند المرور على ذات ميكرو جيب ،ولكن الماكر كان يمر بسرعة كلما اعترضنا شابة حسناء،وكان يتلكأ إذا وقفنا أمام شمطاء أمريكية معصعصة الساقين .. وكان أحيانا يتوقف بالمقعد أمام بعض هؤلاء المعصعصات،مختلقا سببا من أسباب كثيرة يمكن للإنسان أن يتوقف من أجلها،لإخراج منديل،أو مسح زجاج النظارة أو مسح الجورب .. إلخ.وكنت في كل مرة أسمع ضحكه المكتوم وهو يراني "أرفض"{هكذا بالمعجمة} بقدمي بعيدا عن ذلك المنظر"المؤذي". (..) وانتهى الشارع بميدان متوسط الاتساع يتفرع من جانبيه – عرضا – شارع واسع فاخر تتوسطه جزيرة مخضرة،وتقوم أعمدة النور على جانبيه وفي الجزيرة التي تتوسطه،وحول الميدان،وكانت الشمس المائلة في سمت الغروب تسكب ضوءها الهادئ – في رفق – على كل شيء .. وعلى أهم شيء تعلقت به نظراتي في تلك اللحظة ... كان في الجانب المقابل للشارع الذي خرجنا منه سور ضخم من الحجارة الصلدة الحمراء،وفي وسطه،عند طرف الميدان،بوابة واسعة علمت أنها تفضي إلى حي من أحياء المدنية القديمة وأنها تسمى بوابة السويقة،وتسمرت عيناي على البوابة وعلى السور الضخم الممتد على جانبيها،وعلى الأرضية المرصوفة بالبلاط الصغير وعلى جمهرة الداخلين والخارجين منها،ومعظمهم من الأهالي،والباقون من السياح والهيبز ... وتمتمت كأنما أحدث نفسي :يخيل لي أني رأيت حلما تجسد أمامي فجأة ..(..) وغادرنا القهوة إلى جزيرة الميدان .. ونظرنا إلى اليمين ثم على الشمال ونحن لا نعرف إلى أي اتجاه نواصل التجوال،وسألنا عن ضاحية سلا،وأشار المسؤول إلى اليمين،وبعد مسيرة لحظات في الشارع الأنيق،رأيت من بعيد منظرا أعتقد أني لن أنساه في حياتي،منظر الشمس الغاربة وهي تنسكب في مهرجان من النور على دور فيلا بيضاء تقوم {على} ربوة مطلة على نهر متوسط الاتساع .. نهر الرقراق ..وتراخيت في مقعدي المتحرك عل أرضية ناعمة،ومددت عيني على هذا المنظر الفريد الذي لم أر له مثيلا من قبل،أنت في القاهرة المزدحمة لا تستطيع أن ترى غير العمارات العالية في شوارعها الحديثة. وعلى ضفاف النيل لا نرى من بعيد إلا صفوفا من العمائر والحدائق المحيطة بها أو الحقول عند وراق العرب أو جزيرة الذهب،أو الكازينوهات والأشجار في الجزيرة،وكلها بطبيعة الحال مناظر تخلب ألباب الغرباء والسائحين،ولكن منظر مدين بيضاء وبيوتها الصغيرة كالحمام الأبيض،تقوم على ربوة فوق نهر رقراق الماء ... تبدو .. كلها تقريبا بشوارعها ومعارجها وممراتها .. كأنها شيء يفوق الحلم ..){ص 104 – 121 } إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي -المدينة المنورة

  9. #9

    رد: حول العالم على كرسي متحرك/ الأستاذ حسين القباني

    حول العالم على كرسي متحرك "9"
    بعد بحث مضني،عثر الأستاذ (القباني) ورفاقه على منزل الحاج عبد القادر التحيفة،والذي دعاهم للغداء – حسب المتوقع تماما - في اليوم التالي،وفي صبيحتة نفس اليوم،تناولوا إفطارهم في الفندق،من مخزونهم الغذائي .. (وبعد هذا الإفطار – الذي لا شأن له بحساب الإقامة في الفندق – عقدنا جلسة كالمعتاد نقرر فيها ما سنفعله في يومنا،أجلس أنا للكتابة،وتقوم حنان بكي بعض الملابس التي غسلت في الليلة السابقة،ويمضي إبراهيم ومحسن للبحث عن مكتب تنسيق اللغة العربية لتحديد مقابلة مع صديقنا عبد الكريم القباج ومحمد بن زيان،على أن يتم هذا كله قبل موعدنا مع الحاج عبد القادر التحيفة .. (..) وقلت لمضيفنا :- إنني لا أتناول الغداء عادة إلا بعد الظهر، وأرجو أن يكون هذا الموعد مناسبا لكم ..وقال المضيف :-إذن هلم إلى بلاج سلا نقضي فيه الوقت الباقي على معود الغداء ..وكان البلاج قريبا من البيت،نستعمل في الوصول إليه السيارة،وكان يقع وراء السور القديم الذي قلت أنه يمتد على طول الشارع الذي يطل عليه بيت مضيفنا. وسرنا في ممر طويل مرصوف يؤدي إلى رمال البلاج،وتوقف مقعدي المتحرك عند حافة الممر المرصوف،لأن الرمال كانت أكثف من أن تمضي عليها عجلات المقعد دون أن تغوص فيها ،ومن حسن حظي،وحظي دائما حسن في مثل هذه المواقف،رأينا فتاة مغربية جالسة على مقعد حجري عند حافة الممر (..) أما الفتاة فقد أشرق وجهها الخمري بالابتسام حين اقتربنا منها،ولم تحاول أن تنهض أو تنصرف،وإنما ظلت جالسة تنصت إلى الاتفاق الذي تم على أن أبقى في مكاني ريثما يمضي الباقون إلى حافة الماء،وقلت وأنا أنظر إلى الفتاة أبادلها الابتسام :-إنني لن أكون بمفردي على كل حال ...وقالت وقد فهمت ما أعني :-مرحبا بك يا عمي .. -عمك .؟؟ وابتعلت الكلمة التي كانت دائما تأتي في الوقت غير المناسب،لتذكرني بالشعر الأبيض الذي ملأ فودي،ولكن ما ذنبي يا بنات إذا كان هذا البياض لم يصل وأعتقد أنه لن يصل إلى القلب ...وقلت لها :-مغربية ؟-نعم-من الرباط -والدتي من فاس ..{ودار بينهما حوار طويل،عن دراستها،في المرحلة الثانوية،وعدم معرفتها إذا كانت ستكمل تعليمها الجامعي أم لا،فإذا تزوجت لن تكمل ..} واندفعت الكرة بالقرب منا،وفوجئت بمحسن الفهلاو يسرع لالتقاطها ثم يهمس في أني قائلا :- مين قدك .. الماء .. والبلاج ... والوجه الحسن .. (..) وأحب أن أؤكد بهذه المناسبة أن المتعة التي كنت أشعر بها وأنا أجلس إلى غادة حسناء كهذه،كانت أبعد شيء عن المتعة النابعة من أي إحساس جنسي،وإنما إحساس "رومانتيكي"رفيع،لقد ذكرتي – وتذكرني دائما هذه المناسبات – بأيام صباي،فلا أراها أمامي "مجرد أنثى مغرية"وإنما هي إنسانة جميلة أستريح بالحديث معها،وأنعم بالنظر إليها،ويسعد قلبي بابتسامتها،تماما كما يسعد المرء حين يرى في الصباح باقة ورد تلمع بالندى ..وعلى كل حال لا داعي للتفلسف الآن،يمكنني أن أقول أنني كنت ناعما بهذه الجلسة،أحاول الحديث حتى لا تنصرف {يا رجل .. أحد يعيق "باقة ندية"عن الانصراف؟!!! على كل حال بعد حوار طويل،عرف أنها قرأت بعض كتبه،ثم حضر والدها للسلام عليه،وأخيرا ذهبوا إلى بيت مضيفهم}(..) ولم أكن أتوقع أن يقدم "الحاج"نساءه إلينا،ولهذا فوجئت برؤية السيدة حرمه تقبل لتحيتنا باسمة وهي ترفل في رداء من الحرير الطبيعي المطرز بالقصب وخيوط الحرير الثمين،وصافحتنا جميعا في حياء واضح وهي تغمغم بكلمات مغربية لم نفهمها،وكنا في خلال هذين اليومين قد تعلمنا كلمتين : مزيان أي حسن أو "كويس" و "أخا" أي لا بأس.وتقدمت بعد الزوجة – ابنة في نحو الثانية عشرة من عمرها لطيفة باسمة مثل أمها،هادئة رقيقة (..) وبدأنا الطعام بصنف هو أقرب إلى السلاطة الخضراء،وصنف آخر كالصلصة الحمراء السميكة المتبلة بالفلفل والشطة وزيت الزيتون،وبعدها قدم الباذنجان المقلي مع صلصة حمراء سميكة أيضا وشرائح الفلفل الأخضر،وكان معه طبق من شرائح "الفقوس" أو القثاء ثم قدم إناء كبير مستطيل يحمل زوجا من الدجاج "الإنجليزي"أو الهولندي ولعله دجاج مغربي،وكان محمرا بالصلصة وتحيط به شرائح البطاطس المحمرة والزيتون الأخضر (..) وبعد الدجاج قدمت الشوربة أو "الحريرة"وكانت سميكة جدا مكونة من حساء الدجاج والشعرية ومكعبات البطاطس والجزر الأصفر وحوائج الدجاج"الرؤوس والأعناق والأجنحة"ولكننا تناولنا منها شيئا عن سبيل المذاق،لا الأكل،ولم نستسغ أو لم أستسغ أنا على الأقل – هذا اللون ،وربما كان للشبع أثره في هذا الإحساس .. وفوجئنا في النهاية بإناء "الكسكسي"الرائع يوضع أمامنا وقد توج بالخضر المطهو بالصلصلة والمكسرات،وقطع اللحم الكبيرة،ولكننا كنا قد شبعنا تماما،ولهذا أخذت أنظر إلى "الكسكسي"في حسرة الأخ الشاعر أبو شوشة النحال "عندما دعي إلى وليمة مفاجئة وكان متخما من وليمة سابقة .. وحاولت عبثا أن أتناول كمية كبيرة منه،فقد كان "الكسكسي المغربي" أمنية طالما حلمت بها معدتي وأنا في مصر،وها هو ذا أمامي كومة هائلة متوجة بالخضر واللحم،ومع هذا فقد رفضت معدتي أن تستقبل أكثر من حفنتين .. وجاءت ألوان الحلوى بعد ذلك،شرائح البطيخ "الدلاع" بقشورها،وشرائح الشمام"البطيخ"بقشوره ثم العنب الشبيه بالعنب الرزاقي وغسلنا أيدنا بعد ذلك،ثم شعرنا جميعا "بالخدر"أو "الوخم"الذي يعقب امتلاء المعدة وسحبها للدماء من الأطراف للرأس وكانت الساعة قد بلغت الرابعة حين نهضنا من النوم وتهيأنا لشرب الشاي الأخضر (..) وأصر الحاج أن يوصلنا بسيارته إلى البيت،وعادت حنان من مجلسها بين ضيفات لزوجة الحاج،جئن ليتعرفن على هذه الغادة المصرية،وكانت قد أمضت معهن فترة نومنا وفي الطريق إلى الفندق قالت هامسة :- إنني لم أفهم كلمة واحدة من أحاديثهن ..(..) وقررنا أن نمضي المساء في المدينة القديمة،ودخلنا من بوابة أخرى مواجهة لشارع الملك محمد الخامس،وشارع الملك محمد الخامس من أجمل شوارع الرابط (..) وبعد الميدان الذي يتقاطع فيه الشارعان،محمد الخامس والحسن الثاني،والذي تنتهي عنده أو تبدأ عنده خطوط سيارات الأتوبيس،يمتد الشارع قليلا نحو خمسين مترا ليصل إلى إحدى بوابات السور الضخم الذي يفصل المدينة القديمة عن المدينة الجديدة .. واجتزنا البوابة .. وتغير كل شيء في لحظة .. لم أكن أتصور يوما أن من الممكن لأي إنسان أن ينتقل في لحظة من القرن العشرين ليجد نفسه في القرون الوسطى بكل ما قرأه عنها من حقائق واساطير قد يكون الوضع في القاهرة أيضا حين ينحرف الإنسان من شارع الأزهر إلى شارع الغورية،ويجد نفسه في متاهات مصر التي شهدت عصور المماليك والعثمانيين والحملة الفرنسية (..) لقد مررت بهذه التجربة مرات ومرات في القاهرة الحبيبة (..) ولكنني لم أشعر في كل مرة بهذا التغيير المفاجئ،بهذا الانتقال السحري من الجديد جدا،إلى القديم جدا .. ربما كان يرجع السبب إلى أن الانتقال في القاهرة من الجديد إلى القديم يأتي تدريجيا،فأنت تمر في القاهرة بشوارع عصرية جدا،ومنها إلى شوارع شقت في أواخر القرن الماضي،ومنها إلى شوارع أخرى مدت في الخمسينات من هذا القرن (..) ولكن الأمر يختلف في الرباط،فبينما أنت تسير في شارع من أحدث شوارع الدنيا وأكثرها أناقة وجمالا واتساعا،إذا بك .. حين تنحرف بضع خطوات من بوابة في السور الممتد على جانب الشارع،تجد نفسك في مدينة من أجمل مدن العصور الوسطى (..) ولولا أن معداتنا متخمة بطعام الحاج التحيفة،لتلمظت شفاهنا وتحلبت أفواهنا ونحن نشم روائح الشواء (..) وأنا لا أريد أن أزعم أن "زنقات"المدينة القديمة تختلف كثيرا عن شارع الغورية وما يتفرع منه من"حواري"ضيقة تفوح برائحة الشرق القديم،فالاختلاف يكاد يكون معدوما- ولكن المدينة القديمة في الرابط تقوم بكاملها وراء أسوراها الضخمة وبوابتها القديمة – وطابعها الذي لم يفسده تسرب العصر الحديث إذا استثنينا هؤلاء الهيبز الأبالسة. وجلسنا نستريح في مقهى،أعني خارج مقهى،وفي مكان لا حظنا أن الهواء المنعش يهب عليه من ناحية الشمال (...) وكذلك لفت نظارنا إلى حد المضايقة شاب من الهيبز كثيف اللحية قصير البنطلون لا يغطي نصفه الأعلى غير بلوزة مفتوحة،وشعر رأسه منكوش وفي ذراعه تعلقت فتاة مثله عارية الوسط،وتغطي الجزء الأعلى من صدرها بما يشبه مشد الصدر،,نصفها الأسفل ببنطلون قصير جدا،وكان الفقر باديا عليهما بوضوح،بل كانت نظراتهما تنم على أنهما ينتظران من يدعوهما إلى كوب شاي أو شطيرة جين (..) وشجع جلوس صاحب المقهى معنا بعض الرواد من المغاربة،فجاءوا على استحياء يتعرفون بنا ويرحبون،واتسع نطاق الجلسة حتى خيل إلي أنها شملت المقهى كله من الداخل.وتحولت الجلسة تلقائيا إلى ندوة الأسئلة تتولى .. وأجيب أنا للمجموعة التي تلتف حولي (..) واستغرق الرد على هذه الأسئلة أكثر من ساعتين وأحمد الله أني كنت مستعدا لإجابات في إفاضة وإقناع {عن وضع مصر بعد هزيمة 67،وتفكيرها في الانتقام} بعد أن أعددت نفسي ثلاث سنوات لمواجهة موقف كهذا،ولم أحاول طبعا أن أقدم صورا مشرقة كأنه ليس في الإمكان أحسن مما كان أو هو كائن،وإنما تحريت أن أكون صادقا وواقعيا(..) وعندما وصلنا إلى مدخل العمارة التي يقع بها الفندق لمحت بجوار المدخل متجرا ساهرا يعرض في واجهته الزجاجية ألوانا من الخضر والفاكهة واتفقت آراؤنا جميعا على شراء كمية من التفاح اللبناني الممتاز الكيلو بدرهم{يا ترى كم كيلو التفاح اللبناني الآن،بعد أكثر من أربعة عقود؟} وكمية من الطماطم المغربية الجذابة وبضعة أرغفة من الخبز اللامع،وقررنا أن نضيف إلى هذا بعض ما نحمله من جين ومربى وزبد لنصنع وجبة عشاء فاخرة ... وإن شاء الله ما حد حوش!! ) {ص 129 - 142}.لافت للنظر جدا،هوس الكاتب بالمرأة!! والذي كنا نظنه من خصائص الدول التي ينتشر فيها الحجاب،وتنعدم فيها (لابسات البكيني) إن جاز أن يسمى لباسا!! أو هكذا يفسر البعض انتشار المعاكسات،والتحرشات لدينا .. ويبدو أن الأمر في حاجة إلى إعادة نظر في أسباب هذه الهوس،وهذه التحرشات ... عموما،في اليوم الثاني ذهبوا إلى البلاج لتناول طعام الغداء .. (أن أجلس في مشرب ومطعم يمتد أمامه شارع مرصوف تتهادى عليه بعض السابحات الفاتنات – الشاردات عن مياه المحيط – والراغبات في استعراض أجسامهن أمام رواد المقاهي والمطاعم،وكان المايوه البكيني هو الغالب،ولاسيما على أجسام الفتيات الأوربيات من ذوات الشعور المرسلة،وكانت الشماسي في ذلك البلاج عبارة عن مخيمات صغيرة من أقمشة مخططة – على الأغلب – مغلقة من ثلاثة جهات،ومفتوحة من الجانب الرابع المواجه للبحر ... (..) وفي الساعة الثالثة كثرت أسراب الجميلات اللاتي ازددن جمالا وبهاء وجاذبية البكيني اللعين .. أستغفر الله العظيم .. {رأى الأستاذ (القباني) بطاقة دعائية لفندق "باليما" ولكنه صرف النظر عنها،فالأمر فوق أحلامه ،ثم شاهد الفندق نفسه} وكان الفندق على مسافة يسيرة جدا من دار البريد،ووقفنا أمامه في جزيرة الطريق تحت أشجار النخيل،ننظر إليه .. كان أجمل كثيرا من صورته في البطاقة،وكانت الكافيتريا الملحقة به،تمتد أمامه في حديقة واسعة،أنيقة،تناثرت فيها المقاعد والكراسي تحت الشجر الظليل المكثف،حوله نافورة بجوار المطعم،وكان معظم الجالسين،كما لاحظت من الأجانب،أعني الأوربيين،وكان بينهم بعض الهيبز،لعجبي الشديد،بملابسهم الرثة ولحاهم المرسلة،وشعورهم المشعثة،ورفيقاتهم الجريئات ..وقلت لنفسي : "أليس هذا المكان .. جنة من جنات الأرض" ..ورفعت صوتي قائلا لولدنا إبراهيم :-هلم نعد قبل أن تعود حنان فلا تجدنا .. وبعد لحظات قليلة من عودتنا،رأيت حنان آتية تجري وهي تلوح من بعيد بورقة في يدها،ولاحظت أنها لم تغير ملابسها،وظننت أن في الأمر شيئا،ولكنني اطمأننت حين لمحتها تبتسم،ومرت لحظات خلتها أياما،وهي معزولة عنا بسبب حركة المرور في الميدان،ولما سمح للمشاة بالعبور،اندفعت نحونا جريا – كطفلة صغيرة سعيدة – وقالت وهي تلهث وتضع الورقة،أعني المظروف في يدي : - أقرأ يا بابا ... خطابا من السيد محمد الدوكالي ..وقرأنا جميعا الخطاب في وقت واحد،وأعدنا قراءته مرة أخرى حتى نتأكد أننا فهمنا جيدا .. ){ 150 - 153}. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي -المدينة المنورة
    تعددت يابني قومي مصائبنا فأقفلت بالنبا المفتوح إقفالا
    كنا نعالج جرحا واحد فغدت جراحنا اليوم ألوانا وأشكالا

  10. #10

    رد: حول العالم على كرسي متحرك/ الأستاذ حسين القباني

    حول العالم على كرسي متحرك "10"
    وتجمع الرفاق على الخطاب الذي أحضرته حنان ... (وقرأنا جميعا الخطاب في وقت واحد،وأعدنا قراءته مرة أخرى حتى نتأكد أننا فهمنا جيدا ..لقد رحب الرجل بنا في الرباط،وعاتبنا لأننا لم نرسل إليه برقية نخبره فيها بموعد وصولنا ليستقبلنا في المحطة،وذكر أنه ذهب إلينا في الفندق،في صباح يوم الجمعة نفس اليوم،فلم يجدنا،ثم عاد وذهب الساعة الثالثة فلم يجدنا،ولما كان مضطرا للسفر إلى طنجة بسبب ظروف عاجلة طارئة ولن يعود قبل يوم الاثنين،فإنه - سيترك لنا هذا الخطاب في فندق "فيلدا"بعد أن حجز لنا جناحا خاصا في فندق "باليما"إقامة كاملة "تشمل المطعم والكافيتريا"وأنه يرجو أن نجد الإقامة في هذا الفندق مريحة ريثما يعود،وإلا حجز لنا في هيلتون الرباط .. وأخذنا نتبادل النظرات في صمت،هل حقا أصبحنا في غمضة عين،نزلاء في هذه القطعة من جنة الأرض .. لقد وقفت أمامها منذ لحظة،وقفة الحمال الفقير أمام قصر السندباد،كما جاء في الأسطورة. . ولكنني لم أكن أتصور إطلاقا أن يتحقق حلم إنسان بمثل هذه السرعة،وقد يظن البعض أنني "أخلق"هذه المصادفة بخيال القصاص،ولكن الله يشهد أن هذا ما حدث لحظة بلحظة وخطوة بعد أخرى. وأفقنا من ذهول المفاجأة السارة،واندفعنا،تلقائيا – نحو فندق باليما وأنا لا أكف عن التفكير فيما حدث،إنني لم أكن أطمع من وزارة الإعلام في أكثر من أن تزودني بأحد موظفيها ليطلعني على الأماكن التاريخية،وأن يقدم لي ما أحتاج إليه من معلومات لأكتب عن "المغرب"الفصل الخاص به حين أدون ذكرياتي عن الرحلة،ولم يكن اتصالي بالسيد محمد الدوكالي بصفتي الرسمية،أو بصفتي الصحفية،وإنما أديبا مصريا يقوم بجولة في دول البحر الأبيض المتوسط (..) لقد سخر من حديثي عن المغرب وحماسي لما يزخر به من جمال ودعة وأريج تاريخي عاطر،أديب عراقي كان يعمل مدرسا هناك،وحاول أن يحدثني بإفاضة عن "الانحلال الاجتماعي والأخلاقي الذي تزخر به التيارات التحتية"في المغرب،وفي تونس،وفي الجزائر،وفي ليبيا،ولكنني لم أهتم كثيرا بأحاديثه،لأنني – أولا – لست من البلاهة لأزعم أن هناك بلدا يعيش أهله كالملائكة الأطهار الأبرار،ولأنني – ثانيا – أؤمن بأن كل إنسان يكتب عن بلد – يزروه – أو يقم فيه مؤقتا – من الزاوية الاجتماعية التي يحياها أو يمارسها،فلولا أن هذا الأخ العراقي قد انغمس في هذه التيارات الانحلالية لما عرف عنها شيئا(..) وأفقت من أفكاري عند وصولنا إلى فندق باليما،واجتزنا الكافتيريا "الفردوسية"وقد تحولت أنظار الكثيرين إلينا،ووصلنا إلى بهو الفندق الأنيق،ومضى إبراهيم ومحسن إلى مكتب الاستعلامات حيث علما أن جناحا من غرفتين وصالون ودورة مياه خاصة قد حجز لنا بالطابق الثالث،وأن الفندق على استعداد لاستقبالنا في أي وقت نشاء. وكانت الساعة قد تجاوزت الخامسة بقليل،ورأى إبراهيم أن يمضي إلى فندق فيلدا فيخلي غرفتينا على أساس ألا يحسب يوم الجمعة،ولكن مدير الفندق أكد له أن يوم الجمعة لابد أن يحسب لأننا لم نخطر الفندق بالرحيل قبل الثانية عشرة ظهرا ..وقررنا أن نبيت ليلتنا في فيلدا – لنأخذ حقنا – ونبدأ الإقامة في "جنة الأرض"من يوم السبت (..) كان فندق باليما يبعد مسافة يسرة جدا عن فندق فيلدا،بل كان ثمة شارع جانبي،اكتشفه إبراهيم – يختصر المسافة إلى النصف. ومن ثم لم تستغرق عملية الانتقال أكثر من نصف ساعة قمنا بها بعد إفطار دسم،وهكذا كنا متأهبين،قبل العاشرة صباحا للذهاب إلى "مبنى دار الفكر"للتعرف على بعض الأدباء والشعراء والكتاب في المغرب .. واكتشفنا ونحن نسأل عن الشارع الذي تقع في الدار،أنها أيضا في نفس المنطقة،لا تبعد أكثر من مسيرة خمس دقائق،ولما وصلنا إليها،ألفيناها دارة"فيلا على الطراز المغربي بوابة صغيرة يمتد وراءها شريط من حديقة صغيرة،ثم باب مغربي،ودهليز يؤدي إلى دهليز آخر مرصوف بالبلاط الأبيض والأسود،ثم حديقة داخلية صغيرة حسنة التنسيق،تراصت بها المقاعد والمناضد،ثم مبنى الدارة حيث قاعات الاجتماع والمكتبة والاستقبال والإدارة (..) ولم يكن عدد الحاضرين كثيرا كما توقع السيد عبد الكريم،لأن معظم الكتاب والأدباء كانوا يقضون إجازاتهم مع أهليهم في مدن أخرى،أو في المصايف الجبلية،ومن ثم لم أجد أكثر من خمسة عشر زميلا،أذكر منهم السادة محمد برادة كاتب قصة وناقد ومترجم وخريج القسم العربي بآداب القاهرة عام 1960،ومحمد الصباغ كاتب وأديب وشاعر،وإبراهيم السولامي أستاذ بكلية الآداب وشاعر وقصاص وله ديوان باسم"حب"ومن خريجي الآداب بجامعة القاهرة،والخيري الريوني كاتب قصة ومقدم برامج إذاعية .. وأعترف أن الجلسة كانت ممتعة إلى أقصى حد الإمتاع،فليس احب إلى ألأديب من الاجتماع بزملائه يبادلونه الحديث والآراء في مختلف شؤون الأدب والفن والنقد والمعرفة بوجه عام .. وكان السيد عبد الكريم بارعا في وقف تيار كل حديث ينحرف إلى موضوعات شائكة {!!!!!!} وتحدث الأستاذ إبراهيم السولامي عن أدبنا المصري المعاصر حديث المثقف الواسع الإطلاع،الغزير القراءة،النافذ البصيرة (..) وبعد وصولنا إلى حديقة الفندق مضينا إلى المطعم الملحق بها،وكان فاخرا بطبيعة الحال،مثل كل المطاعم الملحقة بفنادق الدرجة الأولى،ولما لم نكن من خبراء الأكل في المطاعم،ولما كانت كل خبرتي في تناول الطعام مع بعض الأصدقاء،داعيا أو مدعوا،في محلات الكباب المشهورة،فقد طلبت من محسن الفهلاو – الذي تدرب على الفندقة – في فندق سميرا ميس بالقاهرة،أن يوجهنا إلى ما ينبغي من سلوك – وتقاليد {جلسوا على طاولة مخصصة لخمسة أشخاص،لقربها من الباب،فحاول المتر أن ينقلهم إلى طاولة مخصصة لأربعة،ثم اقتنع بعد جدل مع محسن،وخصوصا بعد أن سأله عن رجل وامرأة – أجنبيان – يجلسان على طاولة مخصصة لثلاثة أشخاص ) فاعتذر وانحنى وانصرف مسرعا،ثم عاد يحمل أربعة دفاتر لقوائم الطعام،وقال محسن قبل أن ينصرف المتر : - هل تطلبون الألاكارت أو الميني؟!وقلت له : اسمع يا أخينا .. لا تستعرض عضلاتك علينا نحن أيضا ..وضحك محسن قائلا : - إنني أريده أن يعلم أننا لسنا محدثي مطاعم فاخرة .. - وما معنى الألاكارت و الميني - الألاكارت أن تختار من ألوان الطعام الموجود في القائمة ما تشاء،والميني هو الوجبة الكاملة المخصصة لهذا اليوم،والتي تقدم دون اختيار إلا في اللحوم .. - وما الفرق في الحالتين ؟ - الألاكارت أغلى كثيرا من الميني .. إنك تختار نفس الكمية ونفس الأصناف الموجودة في الميني،ولكن سعر الألاكارت يكون مضاعفا ..وإني أكاد أرى ابتسامة السخرية وهي ترتسم على زملائي الذين شهدتهم قاعات الأكل في المطاعم الكبرى أكثر مما شهدتهم غرف المائدة في بيوتهم،وأكاد أسمع همساتهم الساخرة المشفقة وهم يقولون "أين كان يعش هذا الزميل الذي لا يعرف الفرق بين الألاكارت والميني؟!! وأكاد أيضا أرى ابتسامة السخرية على شفاه الزملاء وأنا أصف الفندق الفاخر بحديقته الجميلة كأنها قطعة من الجنة،بينما يعيشون هم في أماكن أجمل منه بكثير،أعني قصور بحمامات سباحة وحدائق تمتد في كل اتجاه إلى مدى البصر،وأنا حين أقول زملاء،فإنما أعني زملاء في الصحافة والأدب من الذين يطلبون من الشعب أن يحتمل المعاناة ويربط الأحزمة على البطون،بينما يعيشون على أعلى مستوى من الرفاهية والثراء..وإذا تجاوزنا ابتسامات السخرية لإخواننا الذين ندعو لهم بالمزيد مما هم فيه من نعيم مقيم،أقول أنني أكتب في الواقع لإخواني وقرائي الذين هم ،في الغالب،مثلي،لم يترددوا كثيرا،وربما لم يترددوا إطلاقا على مطاعم من هذا الطراز،ولم يعيشوا يوما،في فندق من هذا النوع،ولم يشعروا – مثلنا- بطعم الحياة الخالي من هموم السعي من أجل الرزق وتكاليف المعيشة والعمل على موازنة الدخل مع المنصرف (..) وعدنا إلى حديقة الكافتيريا نستريح،وصعدت حنان إلى الجناح المخصص لنا لتنام فترة الظهيرة (..) وجلست أتأمل المكان في تراخي واستمتاع،وكنت قد لاحظت،منذ قدومي في اللحظة الأولى رجلا طويلا مهيبا يرتدي الملابس المغربية أو المراكشية – كما علمنا – ويرتفع فوق رأسه الطرطور عاليا،وتبرز من فوق أذنيه ذؤابتان من الطرطور،والجبة من القماش الفاخر،والنعل"البلغة"فاسية رائعة،وكان يسير في ممرات الكافتيريا،وفي بهو الفندق،مختالا بطيء الخطوات،ملفتا للأنظار،أنظار أمثالنا من النزلاء الجدد،وكان له وجه معبر وسيم،وعينان نفاذتان،يضع عليهما أحيانا نظارة شمس .. وفوجئت بهذا الرجل المهيب يقترب مني،ومن إبراهيم،ويحيينا بيده في تعال ثم يقول بلهجة مغربية : - من أين؟! - من مصر .. - أهلا ومرحبا .. - وهذه الحالة .. من زمان مشيرا إلى مرضي - نعم .. من الطفولة .. - شفاك الله .. هل تعرف ما هي زينة الحياة الدنيا .. - المال والبنون .. فهز رأسه ... وقال :هذا هو المعنى الظاهري،أما المعنى الباطني فهي الصحة .. والعقل .. ولم أرغب في الدخول معه في جدال ديني،وقبل أن يستطرد في الحديث لمح فتاة أجنبية ترتدي الميكرو جيب تمر من الكافتريا إلى بهو الفندق،فانطلق وراءها انطلاق الصياد البارع،وراء الفريسة .. (..) ومضى الزملاء. وبقيت في الحديقة مستمتعا بشمس الصباح التي كانت أشعتها تتسلل في حياء من بين أغصان الشجر،وترسم على أحواض العشب والممرات اللامعة زخارف أو لوحات "رائعة على المذهب السريالي" (..) وأفقت من ذكريات وطني على رؤية صاحبنا المغربي المهيب وهو يقبل بطرطوره العالي (..) وتلفت حوله واضعا يديه في جانبي خصره وكأنه قائد يشرف على الاستعدادات للمعركة،ثم لمح بعين الصقر سيدة أمريكية عجوزا كانت تجلس بمفردها إلى مائدة قريبة مني،ولعلك تسألني كيف عرفت أنها أمريكية فأقول إنها لهجتها وهي تتحدث الإنجليزية ومبسم سيجارتها الطويل،وعلبة سجائرها والولاعة الذهبيتين،,فستانها القصير جدا رغم اقترابها من السبعين،والإسراف في تجميل الوجه المجعد ولكن ماذا يصنع العطار فيما أفسد الدهر (..) وشيئا فشيئا بدأت الحقائق تتضح،وكان ما رأيته بنفسي من تصرفات الرجل يؤكد كل كلمة سمعتها عنه بعد ذلك،لقد أخبرني محسن الفهلاو – نقلا عن موظف بالفندق أن الرجل مشهور باسم"سلطان باليما"وكان هو الذي أطلق هذا الاسم على نفسه،وإن كان شباب الرباط يسمونه" شيطان باليما"(..) إنه رجل مراكشي المنبت،متوسط التعليم قرر أن يتخذ الاحتيال حرفه له،ورغم عدد المرات التي سجن فيها بسبب هذه"الحرفة"فإنه لم يكف عنها (..) وكان طبيعيا أن تعرف طراز هذه الخدمات،كان يجلس إلى الأمريكية العجوز المتصابية ويعرف رغبتها في نوع "الفتى"الذي تريد أن تصادقه طيلة إقامتها في البلاد (..) والرجال العجائز من السائحين في حاجة – بطبيعة الحال – إلى عطر زهرة أو أكثر "تنعش " منهم النفوس(..) وهكذا كان صاحبنا سلطان أو شيطان باليما يقوم بعملية التنسيق والتوفيق {وذهب الرفاق إلى منزل السيد عبد الكريم القباج } ولم تمض لحظات حتى أقبلت طفلة في الثامنة أو التاسعة من عمرها (سلوى) التي سميت الفيلا باسمها (..) وجاءت ربة الدار،حرم مضيفنا السيد عبد الكريم،طويلة القامة،رائعة السمت – كملكة أسطورية – في رداء حريري فاخر فضفاض يصل إلى القدمين،وينعقد عند الوسط بحزام من الذهب الخالص .. وكانت في جمالها تجمع بين الجمال العربي الأصيل والجمال الأسباني الذي ورثته عن جدتها لأمها الأندلسية،وكان حديثها أيضا باللغة العربية الفصحى المشوبة باللهجة المغربية،وأنا حين أركز على عبارة اللهجة المغربية فإنما أعني الاهتمام بنطق القاف ومد أواخر الكلمات إلى أعلى ... وسرعان ما أحضر الطاهي معدات الشاي،وكلها من الفضة الفاخرة والبورسلين الثمين،وأخذت حرم السيد عبد الكريم تقوم بصنع الشاي على الطريقة المغربية،وقد علمت أن السيدة المغربية هي التي تقوم بصنع الشاي لضيوفها إذا أرادت الإمعان في تكريمهم .. وأشعلت البوتاجاز الصغير،ووضعت عليه براد الشاي الفضي اللامع ومع الماء المغلي أعواد النعناع الأخضر،بكميات كبيرة – ثم كمية كبيرة أيضا من الشاي الذي يبدو لي أنه شاي صيني لا يترك لونا في الماء .. وقدمت السيدة بنفسها أقداح الشاي ،أكوابا من الكريستال الملون،وكانت تضع السكر حسب الطلب،ومع الشاي نوع من الحلوى تشبه"بلح الشام"إلا أنها محشوة بالفستق (..) ورغم اتفاقنا مع السيد عبد الكريم القباج أن تقتصر الضيافة على الشاي إلا أنه فاجأنا بعشاء مغربي فاخر أكد لنا أن الوجبات المغربية التي تقدم للضيوف أو في المآدب عامة،لا تكاد تختلف كثيرا في جميع البيوت المغربية بصرف النظر عن مراكز أربابها الاجتماعية،بل لا يكاد أيضا أن يختلف عما يقدم في أفخر المطاعم المغربية (..) ودار الحديث حول القضايا العربية،وضرورة سيادة اللغة العربية،والوسائل التي يمكن أن تحل المشاكل التي يعاني منها العالم العربي (..) وعدنا بسيارة عبد الكريم القباج وقد مضى يوم سعيد آخر من أيامنا في الجنة ) {ص 153 - 179 }. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله. أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي -المدينة المنو
    تعددت يابني قومي مصائبنا فأقفلت بالنبا المفتوح إقفالا
    كنا نعالج جرحا واحد فغدت جراحنا اليوم ألوانا وأشكالا

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. قصة الشاعر القباني مع الرئيس صدام حسين
    بواسطة أبو فراس في المنتدى من روائع الشعر
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 12-14-2018, 05:32 PM
  2. محاضرة الأستاذ محمد حسين زيدان - رحم الله والديّ ورحمه - في نادي مكة المكرمة الأدبي (صور من تاريخ المدينة المنورة) :‎
    بواسطة محمود المختار الشنقيطي في المنتدى تسجيلات الفرسان المسموعة والمرئية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 02-26-2016, 05:49 PM
  3. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 07-06-2015, 08:38 AM
  4. العالم الجليل الأستاذ الدكتور عبده الراجحي
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى أسماء لامعة في سطور
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 04-11-2011, 12:17 PM
  5. الأستاذ/عبد الله حسين عبد الله كراز
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى أسماء لامعة في سطور
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 09-22-2009, 08:50 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •