رواية مناهل الغمام بين الإيحاء الرمزي والواقع والخيال
ريمة الخاني
كاتبة عربية سورية
كانت مدرسة ابتدائي سابقا
درست هندسة شبكات-Mcse
صاحبة موقع فرسان الثقافة.
إصدارها الجديد رواية مناهل الغمام رواية من القطع المتوسط تقع في 146 صفحة
وهي ضمن مجموعة إصدارات روائية و مجموعات قصصية متنوعة توزعت على مدار سني حياتها الحافلة بالعطاء فالكاتبة من النوع المثابر الذي لا يركن لحالة الاكتفاء بما وصلت إليه ، فهي تعمل ضمن آلية مبرمجة ونشاط دائب موزعة نتاجها في أكثر من ميدان
لذا فهي عبر أكثر من ثلاثة عشر سنة ، ناشطة متميزة في مواقع الأنترنيت تكتب في مشارب شتى المقالة ،النقد ، القصة ، الشعر ، فنون ، ودراسات أدبية ، ولها من الإصدارات المنشورة
*باب الخزانة
*تجارب من الحياة
* مجموعة قصصية مشتركة صادرة عن اتحاد الكتاب الفلسطينيين
* قلم بلون الطيف /مجموعة قصصية
* النوم في دوائر الفراغ /مجموعة قصصية
* أسرار صغيرة /مجموعة قصصية
* ديوان شعري :جرح المحبة وذكريات ممنوعة
* عشرات القصص المنشورة في الصحف العربية والمحلية
* وأخيرا وليس آخرا رواية مناهل الغمام والتي هي موضوع بحثنا
رواية مناهل الغمام
محاور الرواية
الرواية تتناول حقبة زمنية طويلة نسبيا تمتد من سنة 1973 ولغاية عام 2011 (37)عاما ، وهي فترة تمخضت عن الكثير من الأحداث المحلية العربية والعالمية التي مر بها العالم ، فما بين حرب باردة وبين دق طبول الحرب يعيش العالم حالة من الخوف من المجهول ، وربما سوريا مستثناة من المنطقة العربية لما شهدته من فترة استقرار سياسي نسبي ، في الوقت الذي كان يمر الخليج بحرب مهلكة ومدمرة ، ولبنان كان محطة لحروب عدة وصراعات طائفية أنهكت المنطقة .. وجعلتها تعيش فوق بركان والعالم يمور في ظل صراع بين أركان القاعدة والعالم الغربي ، وقد كان الوضع قاتما ملبدا بالغيوم
ولعلها استهلال روايتها بحرب 1973 وذلك لكونها الفترة المشرقة الوحيدة في حياة الأمة العربية والتي أعادت للشخصية العربية جزء من ثقتها واعتدادها بذاتها ، في فترة كان المثقف يعاني فيها من الذل والهوان إثر اندحارات ونكسات ، وحروب غير متكافئة ، وتنازلات . وصراعات إقليمية وطائفية كان للاستعمار والصهيونية اليد الطولى في تحريكها بما يحقق تواجده بشكل دائم ،و ليضمن تحقيق مصالحه ، محركا أدواته وعملائه في إشعال المنطقة بلهيب حرب لا يخمد أوارها ، ويبقى ذلك الصراع ، المؤثر الأساسي في سيكولوجية الوعي مما أنعكس على مسار العلاقات الاجتماعية، والسياسية، والثقافية
وتعتبر رواية مناهل الغمام إفراز لهذا الواقع بكل تناقضاته ، رواية كتبت بأسلوب سردي بلغة ( الأنا ) وهي أقرب إلى السيرة الذاتية للكاتبة ، إذ تناولت مراحل مختلفة من حياتها مرحلة الطفولة والصبا والشباب ، ثم مرحلة النضوج الفكري والنفسي ،
أكدت كاتبة الرواية إنها قدمتها بتضافر وتجانس مزج الواقع الذي عاشته وكان تأثيره جليا عليها ، والخيال الذي فرضه الشكل البنيوي للرواية ، والإيحاء الرمزي الذي أرادت توصيل رسالة من خلاله ، هي رسالتها الفكرية والتربوية ، الترميز جاء بشكل مقروء وواضح وقريب من حالة السرد واتبعت أسلوبا رمزيا يتفق مع بساطة التركيب اللغوي ، و كان هذا مقصودا ، لأن الكاتبة وما تملكه من ثراء لغوي وقدرات ثقافية ، لم توظفها في بنية الراوية مما جعلها وكأنها موجهة لكل الفئات العمرية ومختلف المستويات الثقافية ،و لأن الأسلوب البسيط للرواية جعلها تنأى بنفسها عن التعمق بأساليب رمزية عصية على الفهم ، والبحث عن الدلالات الإيحائية العميقة
إذ يعمد القارئ إلى تحليلات افتراضية قد تبتعد عن المضمون والقصدية ،
وقد خرجت الكاتبة عن نمطية وقواعد الرواية التقليدية والتي تعتمد السرد والبداية والنهاية والعقدة و اتخذت مسارا طبيعيا لمجرى الحياة باتساق مع وقع الأحداث ، عرضت الواقع على علاته دون رتوش أو تزويق فهي تلك الحياة البسيطة المشحونة بالموعظة والحكمة والرشد المغروس في نفس كل شخص أنها تزجي بالعظات بلسان أبطال القصة لكن الناصح هو الكاتبة نفسها
وقد تعمقت بتحليل الطبيعة السيكولوجية للشخصية السورية ،مجسدة ذلك في تصرفات أبطالها ،فهي شخصية مسالمة ، بسيطة غير معنية ببروتوكلات ولا أتكيت يقيد علاقاتها الاجتماعية شعب أغنته تجارب الاحتلال الفرنسي بنوع من الألفة والتعايش بين كل طوائفه وملله ، جعلتهم في بوتقة واحدة لا فرق بين مسلم أو مسيحي علوي ، أو سني شيعي ، أو نصيري أو درزي الدين لله والوطن للجميع ، فالشعب هو هذا الفيسفساء الجميل المتناسق بكل أطيافه ، الكل يعيش حالة من الرضا الذاتي والقناعة بأن الحياة يجب أن تعاش بجمالها ، وهذه الحقيقة عايشتها أنا في سوريا ، ووجدت الكاتبة ترسم الصورة التي بقيت عالقة في مخيلتي مذ الثمانينات من القرن الفائت ،
، وحتى شخصياتها السلبية( ولأنهم بشر ) فلم تقتل إنسانيتهم وتحيلهم إلى وحوش كاسرة بل تركت فيهم بذرات طيبة ، تجعلنا نتعاطف معهم أ حيانا ،
والرواية بمجملها تدور حول محور أساسي هي إن الأصالة لا تموت رغم كل المحاولات التي يعاني منها الأعداء ، ورغم أن هذه القوى المؤثرة والتي تدار من الخارج ، والتي حاولت جر البطلة للسقوط ، كانت في بعض الأوقات أقوى من أصيلة ، لذا فهي تعيش حالة صراع وتلك القوى ، ولولا محاولات الرجوع إلى الذات وتلك البذرة الأصيلة المزروعة في داخلها لسقطت في الهاوية ، وهنا أكدت لنا الكاتبة : إن القيم الأخلاقية والمبادئ التي تزرع منذ الطفولة بتلك المواعظ المستمرة تأتي بقطافها عند الوقوع بالشدائد ، وكان هذا ديدن أمها في التوجيه والرشد، حيث أنها لم تترك شاردة أو واردة إلا ونبهت عنها أصيلة ، فأمها مثلها الأعلى المرأة الشرقية الحكيمة والمحبة لأولادها وجيرانها وزوجها والوفية لعقيدتها ، مثالا للإيثار والتضحية ، والطيبة ، كل هذه الخصال زرعت في أصيله ، مما جعلها أهلا لأن تكلف بمهمة غاية في الأهمية تتعلق بمعلومات غاية في السرية ، هي حفظ رقاقة فيها سر لم تطلعنا عليه الكاتبة ، ولكنها أكدت أنه سر يخص قضايا أمنية تتعلق بالعراق وبالوطن العربي وهذه العقدة التي أوجدتها الكاتبة فيها إيحاء إلى عمق المؤامرة التي تحاك ضد الأمة وأن الشباك التي تنسج وتلف خيوطها على ضعاف النفوس والخونة ليكونوا عونا للأعداء تتخذ سبل وأشكال مختلفة للإيقاع بالغير ، فهم لا يتوانوا عن استخدام أي وسيلة مهما كانت وضيعة للوصول للغاية المراد تحقيقها حسب المبدأ الميكافيللي (الغاية تبرر الوسيلة ) ، ورغم ذا فهؤلاء قلة قليلة معروفة ومفضوحة ومحسوبة خطواتها
والخائن هنا لا يشكل فئة أو طائفة معينة فهو المسلم ، وهو المسيحي ,وهو اليهودي ، ونجد ذلك في شخصيات محدودة
ومنهم أم فارس التي لم تفرح بنصر أكتوبر . وأحمد زوج أصيلة
شخصية أصيلة الرئيسية في الرواية ودورها الوظيفي بالنص
أصيلة :الشخصية المحورية الرئيسية بالرواية وتعرفها الكاتبة بأنها شخصية من لحم ودم فتاة من الواقع تعيش معنا فنراها الابنة والأخت والصديقة والزوجة والأم ، هي باختصار تلك الفتاة السورية النقية الطاهرة ، لها أحلامها وأمانيها وطموحاتها ، بحبها العميق المعطاء ، وبكرهها ومقتها لكل من يحاول أن يقتل أصالتها ، ويشوه براءتها ونقاءها وهذا ما اعتمدته الكاتبة في إهدائها حيث جاء في هذا الإهداء
إلى كل الأصيلات اللواتي لم يتزحزحن عن التمسك بقيمهن التي أمن بها
وإلى كل من عرفن طريق الهدى ، فمضى فيه واثقا ، وإلى كل من أحب الوطن ، وكل من استعصى على يد الغدر والخيانة أهدي روايتي هذه )) ... ريمة
بهذه الصورة ترسم لنا الكاتبة ريمة الخاني البطلة فهي لم تكن من النوع الخرافي ، كالأبطال الخوارق إنها شخصية بسيطة ، دائما تظهر وهي مستقبلة لنصائح والديها مستجيبة لها ، غير متذمرة طموحة بحدود المعقول ، فضولية من باب المعرفة ،( أحلم أن أكون أسما هاما ولامعا في يوم من الأيام ) ص16
الاستهلال بداية حارقة
أغلقت أمي التلفون وهي تصرخ باكية ؛
-كان الله في عونك يا أم فارس
لتعلن عن خبر جاء بداية صادمة وفاة فارس أبن جارهم الذي شكل محورا من محاور القصة حيث ظل الهاجس الذي يتراءى لها كلما حاولت التقرب من أخيه فادي توأمه فكل منهما نقيض للآخر فارس يمثل شخصية عدوانية ، وهو شرير بفعل اضطراب طباعي مما أوجد نفسا ضعيفة ، أنانية ،
وهو ما أرادت الكاتبة أن ترسمه لنا حول شخصية فارس والتي كانت ميالة إلى خاله اليهودي العميل لأنه يحمل بعض من سماته ، لذا فأن الطبيعة السلوكية للفرد هي التي تساهم في بناء فرد محب لوطنه أو خائن فمثل هكذا شخصية تجد في داخلها الكثير من المنافذ التي يمكن للخيانة الدخول منها ، ورغم ذا فأن أصيلة تحزن لموته ، فهناك شعور يكتنف النفس البشرية ، يشكل هاجس الموت والرهبة التي تحيط به محركا لدوافع نفسية قد تغاير حقيقة المشاعر التي يحملها الشخص ، فالموت يغم النفس ويقود الإنسان إلى النكوص والارتداد وحالة من الحزن التي تخيم لفترة طويلة على حياتنا رغم ما يسببه هذا الشخص من أذى نفسي ومادي للغير ، غير أن أخاه ، فادي كان ذو شخصية جذابة ،و محبوبة مشحون بالعاطفة والحب ، فيه قد غرس حب الوطن ، وحب الناس ، وحب أصيلة ، وحب الخير ، وقطعا لم يأت هذا الغرس من عائلته بل كانت نتاج احتكاك بالمجتمع وبالطيبين منهم ، رغم احتفاظه بمسيحيته واعتداده بدينه ، ورغم محاولات مسح ذكريات أخيه، لكن أصيلة ظلت ترى فيه صورة فارس المشوشة والتي كانت عامل رفض مضاف لشخص فادي ، ورغم أنها كانت ترفض هذا الاعتقاد لكن دوافع نفسية غريزية كانت تدفعها بالاتجاه الآخر هو الابتعاد عنه
الشكل التربوي في الرواية
((لقد شعر فرويد بأن التأثير المتبادل بين المجتمع والإنسان يتطلب الإصلاح عن طريق تطبيق المبادئ الرئيسية في سبيل رفع وتربية الأطفال وهذا يعني بأن الآباء والأمهات والمعلمين يجب أن يخضعوا لعلم النفس في مفاهيم تربوية جديدة)) وقد ينعكس هذا على القيم والمبادئ التربوية التي يغرسها والدي أصيلة في داخلها
و الرواية من أول صفحاتها وحتى نهايتها عبارة عن نصائح تربوية وأخلاقية ، ولعل الكاتبة ولكونها أستاذة تربوية أرادت أن يكون لها ذات التأثير على القارئ وكأنها توجه خطابا تربويا لكل الأعمار والفئات
((مازال صوت والدي يزجي إلينا حكما تربوية ، أسمعها جيدا وتهبط في مطار فكري ولا أجد لها مدرجا )) فرغم هذا الاعتراف الضمني الذي يؤكد أن حكم والدها كانت لا تجد لها أذنا صاغية لديها ، لكن حقيقة الأمر تفند ذلك ، فلولا تلك الحكم لما كانت أصيلة
قد نرفض شيئا في الظاهر لكن العقل الباطن يبقى خزين تتراكم فيه تلك الأفكار والتي تبلور نفسها لتصبح أدوات رفض وممانعة لكل ما لا يتفق مع هذا المخزون الأخلاقي
ولن تكون أمها إلا الضمير المؤنب والأداة التي تقوم كل سلوك خاطئ ومرفوض فهي الكاميرا التي ترقب حركاتها ، وهي الناصح التي لا تدعها تغيب عن عينيها ،
_ (مذ كنت صغيرة وأنت ، تتطفلين على خصوصيات الناس حتى عندما نكون في أمكنة عامة )
(ص32) أذن هناك حالة من التوجيه الدائم حتى في صغائر الأمور ، فهي تزرع القيم النبيلة في حقل أبنتها الخصب ، فهذا الرقيب يشعر بأن الواجب المناط به هي هذه التوجيهات المستمرة ويشعر بأن أي ابتعاد عن البنت هو ابتعاد عن تلك القيم ونرى هذه التوجيهات والإرشادات تتغير وتغير سنها ، وهي دائما تأتي على مقياس عمرها الزمني
(بفعلتكما هذه طيش وتهور ، ولا تستحقان أبدا أي تفسير ، قبل أن تهدءا وتسكنا ) ص (46)
(انتبهي هذا ابن خالك لا يجوز أن تلعبي ، ولا أن تتضاحكي معه كثيرا ، وهذا خالك الصغير مزاحه مزعج ، فانتبهي أن لا تبتعدي عني في الليل ) ص(47)
( أخفضوا أصواتكم عند سؤالكم عن إجراءات السفر ، لاداعي للكثير من الردود ، أو دعوني أنا أرد عنكم ) ص69
بل ستأتي معي يا أصيلة ستأتي معي الآن ، هذه الأجواء ليست لي ولا لك .. تعالي معي يا أصيلة وعودي إل أصيلة التي أعرفها جيدا
ص133
(أنت بالذات اعتبري ما قلته ممسوحا من ذاكرتك ، أفهمت وهذا فارس لا تكلميه أبدا حتى لو بتحية عابرة) ص20
رغم أن الكثير من النصح جاء على شكل وعظ تربوي مباشر ، ورغم أنه كان يحتاج إلى التلميح فقط لأننا لسنا معنيين بتلك النصائح وأن ما يحتاجه القارئ هو قراءة واعية يمكن استجلاء القصد من خلال الحدث والسرد من غير الحاجة للدخول بالتفاصيل الدقيقة ، لكنها كانت تمارس هذا الدور موجهة خطابها للعامة من الناس الكل مشمول بهذا الخطاب ، أساتذة ومثقفين عالمين ومعلمين ، للقارئ العادي والقارئ العارف ، أخرجته ضمن إطار تربوي عام للمجتمع وهي نصائح مطلقة وعامة وغير قابلة للنقاش لأنها من المسلمات الثابتة ، لبناء شخصية ملتزمة بالتقاليد والقيم ، لذا كانت أسرة أصيلة أسرة مثالية والأنموذج الذي يجب أن تكون عليه العائلة
ملتزمة بثوابتها الوطنية والاجتماعية ، الأب رجل صالح ، وطيب ، إلى أبعد الحدود ،والأم مثال للطيبة والأخلاق ، وقد رسمت الكاتبة دور كل منهما في رسم ملامح البطلة وتأثيرهما عليها فهي تجد نفسها بين واقع ملتزم ،وبيئة دينية تربت عليها ، تعيش بفكر أبيها وأمها وتبقى الرغبات المنفلتة قيد السيطرة مادام هناك مرجعية لها ، وكل حالة شذوذ تجد لها روادع ذاتية فالبطلة علقت يافطة على سبورة ذاكرتها تنبهها إلى مكامن الزلل والخطل ،تبدو تلك العائلة مثال للعلاقات العائلية العربية المثالية والمستقرة والهادئة والتي لا تشوبها أي شائبة ، تبقى تلك العلاقات متقدة ومتجددة ، لأنها تحمل سمات إنسانية خالصة ، وأعراف اجتماعية على الجميع عدم الخروج من إطارها العام حتى يبقى بعيدا عن الانتقاد والشبهات ،كما إن التأثير الديني فرض نفسه ، وأوجد من تعاليمه الفيصل بين الخير والشر ، بين الصالح والطالح .
ورغم أن الكاتبة تعرض شخصيات سلبية من خارج بيتها ، لكنها شخصيات هامشية تبدو كفقاعة تظهر عند الحاجة وتختفي ،فالظروف المادية والاقتصادية تكون دائما المسيطرة على سلوكيات الكثير ، وتحدده واحد من العوامل الأساسية للسقوط ترسم لنا ملامح صديقة لها قد زلت وجنحت بعيدا عن السلوك القويم والتي أغرتها المادة ، وحاجتها لها ، ومتطلبات الجامعة ، في محاولة لتقليد أولاد الأغنياء والتشبه بهم من حيث الملبس والمأكل ، وكحالة غير
طبيعية وغير محترمة تتكلم عنها كشيء منفر ،مقيت ،
(فالعمل الذي تسلمته كسكرتيرة جعلها كما عرفنا مؤخرا تبيع
أعز ما تملك ..!)ص83 هذه الإشارة التي انفردت بها الكاتبة وبحوار مقتضب وعرضي ، جاءت كدلالة إلى أن القيم التي تربت عليها ترفض مثل هذه الظواهر ، ولكنها لا تنسى الدور الاقتصادي وماله من تأثير على سلوكيات الفرد ، حيث تؤكد أن العوز والحاجة ،سببا في تكسر صروح من التربية والبناء الجاد لسنوات طويلة في خلق شخصية قويمة و نافعة قادرة على العطاء ، ففي حوار عابر بينها وبين صديقة لها ، والتي طرحت من خلال ذلك رؤيتها الفكرية ، حول التأثير المادي على سلوكيات الفرد (( أنها تشكر الله أن والدتها توفر لها من المئونة التي تحفظ ماء الوجه أمام الجمع الغفير من الطلاب والطالبات الذين يعملون في أماكن مريبة ، فواقعهم الفقير كان يجبرهم على شق طريقهم وحدهم)) ص82
الرمز والقدوة في الرواية
أن شكل الرواية وتراكاماتها العقدية والنسيج اللغوي لها جاء على خلفية الصراع بين الإنسان والواقع ، بين التداعيات والإحباط ومحاولة أثبات الذات
ويشكل رمز السلطان عبد الحميد رمز للعدالة والبطولة و لعدم الاستسلام والخنوع لإرادة الاستعمار والصهيونية وقوى الظلام ، وهو دافع وحافز مضاف للبطلة لإبقائها أصيلة ، تقف بالضد من كل محاولات التأثير عليها لزحزحة القيم النبيلة التي تمسكت بها
السلطان عبد الحميد رمزا حاضرا في كل أفراحها وأتراحها ، يأتيها على شكل رؤيا تشكل مادة للتنبؤ بالمستقبل ،و يشكل مرآة داخلية ، لشخصية أصيلة فهو يعكس حقيقة ا لأحداث عبر قراءة مستقبلية ، فسرعان ما تظهر بوادر كل حلم جلية متبلورة في حقيقة ما لذا فثمة وشائج خفية تربطها بالسلطان وبشكل روحي لا انفصام منه
قد يكون ارتباط بالقيم والمبادئ ، وما أفرزه الواقع السياسي الأليم من تداعيات ، وما شكله من عقدة نقص عالقة بنا ، ونظرة دونية للإنسان العربي ، لذا فأنها أوجدت في الخلافة الإسلامية والرجوع إلى قيم الأصالة والمواقف المبدئية كبديل للخروج من هذه التداعيات
_ ((نعم جاءني بلباسه السلطاني وهو يشير بيده إلى مكان ما لم أتبينه يبدو كمنزل بعيد لا أعرف عنه شيئا ، أو كأنه يسعى ليطلب مني شيئا ))ص54
السلطان عبد الحميد يأتي بكل هيبته السلطانية يمر عليها كحلم أو كرؤيا لها تفسيرات وتأويلات و التي تتخذ من مسار الراوية كممهد لأفكار تريد
طرحها ، وهو رمزا يحتوي على خصوصية ، لا تفك طلاسمه بسهولة إلا عبر التتابع في السرد واستجلاء الرموز المختلفة ، ففي ذاكرتها كم من الرموز البطولية عاشوا معها كقيم إنسانية ثابتة تستلهم منهم العزم فرموزها أبطال قوميين أحبو فلسطين وكان لهم دورا مشرفا من قضية العرب المركزية ، فهم احمد العزاوي ، بطل من الأبطال الذين أرخوا صفحات مشرقة من تأريخ شعبنا ونضاله ، ويوسف العظمة الذي قدم حياته قربانا للوطن ، والسلطان عبد الحميد الذي رفض تسليم فلسطين للصهيونية وهو الدكتور جابر عبد الوهاب صاحب الرقاقة ، وهو العراقي الذي ساهم ببطولة في حرب تشرين وهو خالها المقاتل الذي جاء يحمل سمات النصر والفرح ، وهو أبوها ، أذن حددت الكاتبة خيارا لا مساومة عليه هو حبها للوطن وكل من ينتمي إليه ، وبين كرهها ومقتها لمن يخرج عن تلك العلائق الوطنية ، لذا ترى أصيلة فرحة مع بقية الأطفال وهي تسمع بطولات خالها العائد من الجبهة وتفرح حين يسقط النشامى طائرة من طائرات العدو الصهيوني ، أنها تتحرك بعفويتها وتحاول أن تضفي على ذلك الحب حالة من التلقائية ، لأنه نابع من القلب ، وما ينبع من القلب لا يحتاج إلى بهرج وزخرف كلامي ، حب الوطن لا يحتاج إلى شكر و أوسمة فهو حب يمليه الواجب الإنساني والوطني والديني .
حرب تشرين وتأثيراتها السيكولوجية
سميت حرب التحرير بالنسبة للعرب وسميت في إسرائيل بحرب الغفران
فقد حققت هذه الحرب أهداف كبيرة للعرب وانجازات ملموسة بعد أن توغلت القوات السورية إلى عمق هضبة الجولات و القوات المصرية بعمق 20 كم شرق قناة السويس فقد دمرت القوات السورية كل التحصينات في هضبة الجولان ، و قامت القوات المصرية بتحطيم خط بارليف في6ساعات وكانت القوات العربية قوات ساند ة ، وقد شارك الجيش العراقي بقوة وببطولة أصبحت مضرب للأمثال ، ومن أهم نتائج هذه الحرب ، تحرير الكثير من الأراضي المحتلة ، كما أنها حطمت أسطورة الجيش الذي لا يقهر وإعادة الثقة بنفس العرب وإعادة كرامتهم المهدورة ،
الكاتبة لم تصور لنا أناس مهزوزين ، وخائفين ، ومتوترين ، ولهم نظرة سوداوية اتجاه هذه الحرب ، ولم تعطي للحرب تلك البشاعة و الآثار السلبية التي
تطغي على الشارع ، مثلما عكسها وصورها الكثير من الكتاب حتى لو كانت حربا عادلة ، وما تحمله الحرب من مآسي تجرها على الشعوب ودمار يطال البنى التحتية والاجتماعية والبيئية ،
لقد صورت الحرب كنزهة وهي قدر لابد منه لإعادة ماء الوجه ، لم تهيئ لنا جوا ملبدا بغيوم الحرب و قتامة الوضع الذي عادة ما ترافق هذه الحروب ، بل فتحت لنا نافذة من التفاؤل ،
- فتح باب الشرفة على أثر الضغط الذي سببه صوت الانفجار الهائل ص23
تبدأ الكاتبة ريما حكايتها عن حرب تشرين ، بهذه الاستهلال بلا خوف ولا ضجة وبتحذيرات من باب الاحتياط الواجب
((أم فارس وأم أنطوان لا تكفان عن الحديث والثرثرة ، يبدو أنه حديث سابق لم ينته ويبدو إن التواصل الهاتفي مستمر بينها لم ينته أيضا ،)) ص25
كل شيء طبيعي والجو لا يوحي بأن هناك قتال النساء يحملن سلالهن وهن مزودات بمتاع السهرة من فواكه ومقبلات
ولهن طقوسهن الخاصة لابد أن يعشنها في أقسى الظروف ثرثرة لا تنتهي فلانة تزوجت وأخرى طلقت
الأطفال ينظرون إلى الطائرات المتساقطة ، فيصفقون لطيارينا الشجعان
_ أنظري للسماء ، ما هذا الذي يهبط بمظلة ..؟
يبدو أنه طيار إسرائيلي
فيصفق الأولاد ببراءة حتى تحمر أكفهم ، هذا مشهد خال من التكلف والإضافات الزخرفية رسمت لنا الكاتبة وببراعة الأديب المحترف صورة من أرقى المشاهد المعبرة ، بل إنها أوحت أن للحياة ديمومة إضافية ، وجمالية ، وصفاء رغم أجواء الحرب ، قد لا نجدها في الحياة الطبيعية
، وهذه هي الرسالة التي أرادت أن توصلها لنا الكاتبة بأمانة ، فهي لا تقف عند هذا الحد بل تتعداه إلى أنها تصور الحرب أغنية يتغنى بها المقاتل العائد من الجبهة ، فهو يرى مُثل مشاركة معهم في القتال إبراهيم هنانو ، وسلطان الأطرش ، وصالح العلي وألاف من الشهداء يتقدمون معهم ، ليصنعوا الانتصار ، ويكسرون شوكة العدو ، ليرى بأم عينه كيف يهرب الإسرائيلي أمام المقاتل العربي
( بقائهم على قيد الحياة وهم في قلب المعركة آخر ما يفكرون به )
كان خالها يحدثهم بفخر واعتزاز عن بطولات العربي المقاتل وهي صورة لا تحتاج لتعميق أو إطالة ، فقد كانت بطولة حقيقية عكست جوانب إنماء للحس الوطني وتغذية للأفكار الأصيلة التي يجب غرسها عند جيل الصبا والشباب
علاقات أصيلة العاطفية
كأي فتاة أصيلة تحب وتحب ، تحلم بشاب ،يكون فتى أحلام مستقبلها ، وعلاقة عاطفية ناجحة لكن ذلك لم يشكل هاجسها الأكبر لأنها ما أن وعت وأحست بأنوثتها واكتمل نموها العاطفي ، حتى وجدت نفسها محاصرة بزاوية ضيقة ، لترى نفسها منقادة بشكل آلي إلى زواج تقليدي وبلا علاقات عاطفية مسبقة ولا رسائل ولا مواعيد جاءت بشكل مفاجئ (( أحمد متوسط الطول ، أشقر بعينين عسليتين جذابتين وسيم الطلعة ثابت الخطوات )) ص84هو كل ما رأته في هذا الخطيب ، أصيلة تجد في رأي أمها وأبيها ورؤيتهم ، السداد ورضاهم هي غاية ما تريد ، لذا جاء هذا الزواج من أول طارق ودون تمحيص وسؤال ومعرفة مسبقة والذي فاجئنا دخوله المفاجئ نحن أيضا ، وقد شكل لدينا هذا الدخول تساؤلات عدة، ليشكل بداية الذروة وبداية العقدة التي كشفت لنا الغاية من هذا الزواج ، و بقي الشك يدور حول شخصية أحمد التي يكتنفها والتي راحت رؤيا أصيلة للسلطان عبد الحميد وعدم رضاءه (( رأيت شخصا أسمه احمد يتعارك مع السلطان عبد الحميد ، يريد أن يأخذ منه ملابسه السلطانية ، وأنت بين هذا وذاك مشتته ، وبقي هذا الحلم كذلك حتى النهاية ))ص95
الشخصية الثانية في حياتها هو فادي المسيحي أبن جارهم والذي كان يحب أصيلة حبا صادقا ، ولكنه حبا ممنوعا لأن ثمة موانع كانت تحول دون تحقيق أهدافه ، فهو من دين آخر وهي المحبة لدينها والمؤمنة برسالته ، والملتزمة بتعاليمه ، تجد في هذا الحب نوع من المخاطرة والابتعاد عن مبادئها ، رغم إن قلبها كان يهفو إليه ، وأن ثمة مشاعر خفية تداعب عاطفتها ورغم شعورها بصدق مشاعره
سر الرقاقة
(الرقاقة رمز كبير في الرواية )
ولعل السر الذي جعل فادي يمنعها من الزواج من أحمد هو ذات السر الذي رأته في المنام ، وتنكشف الحقائق بعد الزواج ليظهر احمد على حقيقته إنسان لاتهمه مبادئ و شخص غير ملتزم بتقاليد أو أعراف مادام هو عبدا للمال الذي أسقط ماء وجهه وأذل كبرياءه فهو كالعبد أسياده هم الذين يحركونه ، تكشف لنا القصة ، إن محاولات للسرقة تأتي بتزامن مع سفر أحمد، كانت تحدث في بيت أهلها وبيتها الجديد ، مما جعلنا منشدين أكثر إلى السر الذي يكتنف هذه الرقاقة ، ما هي ..؟ ما الذي تحويه ..؟ ولم كل هذه الأحداث التي طفت على السطح والتي تزامنت بين الزواج وتلك الرقاقة
ولأول وهلة يتبادر لذهننا أن أحداثا بدت غير منطقية في الرواية هو إرسال شخص للبحث عن الرقاقة دون أن ينوه عن سر بحثه والمفروض منه أن يحاول استنطاقها لمعرفة السر وأين تخبئ تلك الرقاقة ، ولكنه اكتفى بضربها وتكميمها والتفتيش عنها ، والأولى بزوجها أن يكون هو الباحث عنها في بيته ، فبحثه لا يثير الريبة ولا المسائلة القانونية
أضف إلى ذلك أنه كان من بين أهدافه هي تلك الرقاقة الذي جند أشخاص غير آبه لشرفه وما قد يصيبه ، وحتى لا ننظر بعين الارتياب وأن قصورا بدا في تناول هذه الحادثة من قبل الكاتبة قد نجد عذرا لها بأنها أرادت بذلك عنصر التشويق يكون حاضرا حتى النهاية .. وأنها ما أرادت كشف كل الأوراق في لحظة واحدة ، وإنما كانت تعتمد التدرج والإيحاء ،
وبعد أن يأس أحمد من تجنيد أصيلة لغاياته الدنيئة ، ويأس من العثور على الرقاقة ، أصبح لا لزوم لبقاء أصيلة على ذمته ، يطلقها وينهي علاقته بها ، ولم يكن بينهما خلاف ترسل ورقة الطلاق لها لتكون مفاجئة صادمة لها ولأبيها الذي رغم ثقافته العالية ، وكونه قاضي كان المفروض أن يتفهم وضع أبنته ، لكننا محكومين بأعراف وتقاليد ، تركن الثقافة والفكر أحيانا جانبا ، لذا فتلاقي أصيلة منه الصدود ، والجفاء، وتقوض أركان علاقة ودية كانت قائمة بينهما مبنية على الثقة والاحترام ، لأن المرأة المطلقة تكون موضع كلام الناس وهمسهم وغمزهم ،
وبعد مجيء جابر عبد الوهاب تكتشف إنها لم تكن أهلا لتلك الأمانة فتصاب بإحباط ، وتتوه في ظلمة ظنونها ، (أن القلق الموضوعي الواقعي هو تجربة أنفعالية مؤلمة جدا ) حيث كانت تعيش أصيلة حالة من العذاب والـتأنيب مع ذاتها بفعل تلك الرقاقة
ومما يهدئ من روعها ويقلل من صدمتها أن الرجل لم يأتي لأخذها ، و تعتقد أن الرقاقة سرقت ، لذا تخرج في ليلة مظلمة وفي جو ماطر لتلتقي بساجدة صديقتها في الفندق الذي كان أبيها القاضي يعقد اجتماعاته به وقد أتت بشكل لا إرادي فثمة دوافع ذاتية يحركها العقل الباطن هي التي قادت أصيلة لهذا الفندق وهذا ما فسرته ساجدة بتبريرها لمجيء أصيلة ،
وتكتشف أن ساجدة لم تكن مجرد صدفة في حياتها بل كانت الصديقة التي تريد المحافظة على خصوصيتها وبقاء ها أصيلة وأنها كانت في مهمة هي وفادي وأم زكي للحفاظ على تلك الرقاقة التي يكون مسؤولية الحفاظ عليها هي مسؤولية الجميع ، لأنها تهم أمننا الوطني ، أما مدلولاتها الرمزية فهي تكمن في أنها تتكامل بثالوث تكتمل أركانه بأصيلة ، وأصيلة التي تمثل الحاضر والمستقبل وهي المسئولة عن حفظ الأمانة والسلطان عبد الحميد هو الماضي التليد والتراث المجيد ، الذي ترك في ذاكرتنا صورة بطولية هو عدم بيعه فلسطين ..
و تنتهي القصة بانفراج تلك الغمة وزوال تلك الغمامة من قلبها لتبدأ حياة جديدة مقرونة بآمال جديدة حياة بلا خوف ، من المجهول
ودعوة ساجدة لها بالتغيير لتنتهي بتلك النهاية والتي تمثل انتصارا حقيقيا لها
بل ستأتي معي يا أصيلة ستأتي معي الآن ، هذه الأجواء ليست لي ولا لك .. تعالي معي يا أصيلة وعودي إل أصيلة التي أعرفها جيدا
ص133
الخاتمة
كانت الكاتبة رائعة الاختيار لموضوع الرواية فهي تمتلك أسلوبا سرديا شيقا رشيقا ، ولغة راقية ، استطاعت أن تسبر واقعنا العربي بمسبار خبير مقتدر ، تكشف مكامن الضعف والقوة في النفس البشرية ، وهي زاخرة بمعاني البطولة التي جسدتها في أرادة الشخص المحب لوطنه المتفاني بخدمته والذي يقدم نفسه قربانا لمبادئه
. وأرى أن الرواية مادة ثرية وغنية بالمواقف الإنسانية والاجتماعية والتي تحاكي الجيل المعاصر بسلاسة ويسر وبأسلوب تربوي علمي فذ
لم يأت من وهم أو فراغ بل جاء نتيجة تجارب ودروس واختبارات ، لذا فيمكنها أن تكون منهجا دراسيا لمرحلة متقدمة من الدراسة الثانوية للاستفادة من خصوصيتها كأدب ملتزم ، وكموعظة تربوية وأخلاقية فهي نتاج جيل ، تربى على مثل هذه القيم
فكان هذا العطاء