غزّة في الزّحاف
والعرب بين الإرجاف والانكفاف
ألم تر أنّه لمن الموافقات العجيبة ، والمغازي المهيبة ، أن تتبدّى أحوال المرجفين ، وتتكشف للناظرين ، في غزوة مثل غزوة الأحزاب ! التي تنادى فيها أعداء الملّة والدين ، فتحزّبوا وتكتبوا وتجيّشوا لاستئصال شأفة الإسلام والإطاحة بالمسلمين ، إذ تأجّجت في قلوبهم الأحقاد الدفينة ، فيمّموا وجوههم شطر المدينة ، يبغون بالقتل محمداً وصحبَه، ويرومون بالمَساءة دينه..
وعندما يُتحزب ضدّ أمّة الإسلام ، ويحاصرها عدوها بإحكام ، تتكشف معادن النفوس ، فمنهم من يلبس للحرب اللّبوس ، ليقحم بجسده وخيله المنايا بلا وجل ولا اضطراب ، وآخرون من دونهم يتسربلون سرابيل الخذلان ، ويتقمّصون أقمصة النكوص ، يغشاهم الهلع ، ويخيّم عليهم الفزع ، لينقلبوا أعيناً خؤونة تجوس خلال الصفوف المؤمنة .. أو ألْسُناً حِِداداً تسلق المرابطين ، فيتضح وقتئذ ويفتضح أمر من اتخذ الدّيانة كلمات طائرة ، وأمانيّ مرفرفة ، من شعائر مجردة أوشعارات هامدة ، فتراه يتحاشى النزال وعنه يتوارى ، وإذا ما سئل الفتنة فعن اتيانها لا يتوانى !
في ضوء ذلك كشفت سورة الأحزاب أنّ الناس عند الزحاف على ثلاثة أصناف :
إما أهل أصالة وإنصاف ( ولمّا رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليما) [ سورة الأحزاب آية 22 ]
أو أهل عمالة وإرجاف (وإذ قالت طائفةٌ منهم يا أهل يثرب لا مُقام لكم فارجعوا ) [ سورة الأحزاب آية 13] .
أو ذوو عزلة وانكفاف ( وإن يأت الأحزاب يودّوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ) [ سورة الأحزاب آية 20].
وكلا سنتلوا عليكم منه ذكرا ، ونقصّ من خبره عظات وعِبَرا :
أمّا أولئك الذين يخرّون صرعى في معترك المواجهات يوم الزحف والتلاق ، فهم أشرف الخلق على الإطلاق ، ولا أدلّ على ذلك من أنهم اصطفوا لمجاورة الملك الخلاق ، لتسرج أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى قناديل معلقة في عرش الرحمن ، لتجري عليهم الحياة والأرزاق ، فهم ( أحياء عند ربهم يرزقون) [ سورة آل عمران 169 ] .
فقد خرجوا جهاداً في سبيل الله وابتغاء مرضاته ، لم ترهبهم غطرسة العدو عند ملاقاته ، ففي صدورهم إيمان بالله ورسوله، ويقين بما وعدهم ربهم في محكم آياته ، وإنهم وإن أجلب عليهم عدوهم بخيله ورجله وآلة البطش والحرب ، ونشر الدّمار والخراب وزرع الموت في كلّ درب ، كلّ ذلك لم يكن ليفت في عضدهم ، أو يوهن من عزائمهم ، أو يزعزع يقينهم ، حتى وإن وقفت كلّ قوى الشرّ ضدهم ، وتواطات عليهم ، فهم يواجهون مكر عدوهم المستطير ، يبغون بذا التحرر والتحرير ، فإذا ما تكالبت عليهم الأمم ، كانوا في ثباتهم كالطود الأشم ، وما جاوز حالهم ما وصفهم به ربّهم ( ولمّا رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليما ) [ سورة الأحزاب آية 22 ].
فهم أهل أصالة وإنصاف ؛ أنصفوا دينهم وأمّتهم ومقدساتهم من أنفسهم، أولئكم سلام عليهم في العالمين .
بيد أنه في خضم كل صراع ، يطلع علينا فئام من الناس ، تتباين مواقفهم عمّن سبقهم ، من أهل الرّباط والجهاد والحماس ، فليس لهم في ساحات الوغى بلاء ولا مراس ، إنما يجنحون لتحقيق مآرب سرعان ما تتكشف لكل ذي لب بلا التباس ، فلهم في الجهاد وأهله وأنصاره أغراض وأعراض ، لا تنمّ إلا عن نفوس عششت في قلوب أصحابها الفتن والأمراض ، حسبك أنه إذا ما داهم الأمة خطر ، جدّوا في إشاعة أجواء الخور ، واستشرفت أنفسهم للمخادعة والغرر ، يبغون بذا الفتنة والضرر ... فأولئك أهل خَوَر ووهْن وإرجاف .
وحالهم هذا مفهوم ، ومن قديم الزمان معلوم ، وقد شخّصت غزوة الأحزاب نموذجاً يحكي حال هؤلاء الذين فقدوا الرّشد والصواب ، فممّا جاء بحقهم في آي الكتاب : ( وإذ قالت طائفةٌ منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا) [ سورة الأحزاب آية 13 ].
ففي قولهم ( يا أهل يثرب) إفصاحٌ مبين عن فحوى إعلامهم ، وما انطوى عليه من انسلاخ من الأصالة ، ومغازلة لأهل الزيغ والضلالة ، وأنهم إذا ما حزبهم أمر استحالوا حثالة ؛ ذلك أنّ المصطفى صلى الله عليه وسلم نهى عن تسمية المدينة بيثرب ، مبيّنا بلسان عربي مبين ، أنّ هذا من صنيع المنافقين ، فقال : ( يقولون يثرب وهي المدينة ) [ متفق عليه ].
وسرّ النهي النبوي : أنّ مسمّى يثرب من الثرْب وهو الإفساد ، أو من التثريب وهو التعيير والاستقصاء في اللوم والتوبيخ ، ومنه قول يوسف عليه السلام لإخوته ( لا تثريب عليكم اليوم ) [ سورة يوسف الآية 92 ].
وهذا المعنى لا يليق بدار هجرته ، وموطن نصرته ، ومغرز رايته ، ومنبت دعوته صلى الله عليه وسلم ، والمؤمن الصادق إنما يتشبث بمبادئه ، ويستمسك بثوابته ، ويستعصم بأصالته ، إذا ما حفته المكاره ، ونزلت بساحته الفوازع ، في حين يحيد عنها في مثل هذه الظروف كل منافق مخادع ، أو مستسلم موادع ، كأولئك المنافقين الذين كان الأولى بهم أن يتنادوا للجهاد ، ويتواثبوا عليه ، ذوداً عن العباد والبلاد، فيوصي بعضهم بعضا أن ( تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا) لكنهم تقاعسوا ، فإذا بهم يصدعون بقولهم ( لا مقام لكم فارجعوا) !
ولا جرم أنّ الأمة على مرّ عصورها – لا سيما في واقعنا المعاصر – تبتلى بأمثال هؤلاء المرجفين الذين يجدّون في توظيف ما يطرأ من شتات في الصف ، وهيمنة لعوامل الضعف ، لدى أمّة المصحف والسيف ، لتمرير حلول ، وتهيئة القبول ببنود ، تستساغ بزعمهم نظرا لطبيعة الظرف الموجود ، في حين أغمضت أبصارهم ، أو عميت بصائرهم ، عن البشائر المنعقدة بنواصي طريق الرّباط والمرابطين وبممانعتهم المتقدة ، ، فمواقف أولئك ساعة الزّحاف أفتك في جسد الأمّة من السمّ الزعاف .
فحذار حذار! من مواقف هذا الصنف الذي يؤسس بنيانه على شفا جرف هار ، لا يلبث أن ينهار..
وأمّا أهل الانكفاف فقوم نأوا بأنفسهم عن الأحداث ، فلم يُولُوا قضايا أمتهم ، وأهل ديانتهم ، وبني جلدتهم ، وأبناء عروبتهم أيّ اكتراث ، حتى وإن تحزبت الأمم على أمّتهم وأطبقوا عليها الالتفاف ، أو مورس عليها التعذيب والبطش والتنكيل والإبادة والاجتثاث ، أو صَلَى العدو بحرابه أمتهم صليّا ، سيتخذون ذلك كله وراءهم ظهريّا ، ويعيشون عن الأحداث في عزلة نفسيّة وحسيّة ، ولن تجد من أقلامهم أو جهدهم أو أموالهم ما سخّر لنصرة القضية ، بل أقعدتهم الأحداث جثيّا ، فلم يواسوا بما أوتوا ولم ينفعوا بها من المرابطين إنسيّا ، لذا جازاهم القرآن بأن جعلهم نسيا منسيّا ، فأخمد ذكرهم ، وحطّ في العالمين شأنهم ولم يعبأ بمصيرهم ، إلحاقا بهم بأشياعهم وأضرابهم ممّن جاء في سورة الأحزاب التنديد بهم ( وإن يأت الأحزاب يودّوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ) [ الآية 20 ] أو ما جاء في سورة الأعراف من إغفال لمصيرهم ( وإذ قالت أمّة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرةً إلى ربكم ولعلهم يتقون ، فلما نسوا ما ذكّروا به أنجينا الذين ينهَوْن عن السّوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ) [ الأعراف الآيتان 164، 165] فبيّنت الآيات مصير الناهين عن انتهاك الحرمات ، ومآل من اجترحوا السيآت ، في حين أهل الانكفاف الذين قالوا ( لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً ) كان أنْ لفّتهم أزمنة النسيان ، وتجاوزتهم عناية الرحمن ، ولم يتطرّق للحديث عن مآلهم أو الإفصاح عن مصيرهم بيانٌ ولا لسان ، ولا يخفى ما في هذا الإغفال من امتهان لهم وخذلان ... وهكذا جرت سنّة العزيز الدّيان فــَ ( كما تدين تُدان ) .