مقاربة نقدية لقصة«خذني معاك وأجرك على الله»
1 تشرين الأول (أكتوبر) 2012بقلم عبد الرحيم حمدان حمدان
لعل تجربة الدكتور مدحت دردونة في الكتابة الإبداعية تسمح للدارس أن يقرأ قصته القصيرة الموسومة بـ " خذني معاك، وأجرك على الله" بعيداً عن الانفعال، والتي توحي بولادة قاص مبدع، إذ إن ما يلفت اهتمام المتلقي في هذه القصة أنها تصور مشهداً من مشاهد النص الحركي التقطته عدسة كاميرا الراوي من الواقع اليومي المعيش، وراحت تعرضه للمتلقي من جديد في ثوب أدبي سردي ممتع، وفي لوحات مشهدية متتابعة، فجاءت في مجملها بنية متكاملة مترابطة في معمارها، لا مجال فيها لأي نتوءات أو ترهل.
تسرد القصة حكاية شاب ضرير يقف على قارعة إحدى الطرق، ينتظر مرور أحد سائقي العربات المجرورة بالحيوانات؛ لينقله في عربته إلى المكان الذي يريد الوصول إليه، حتى إذا ما أحس باقتراب إحدى العربات نادى بأعلى صوته مخاطبا سائقها:"خذني معاك..وأجرك على الله"، بيد أن صرخته تضيع أدراج الرياح، فلم يستجب له أحد، إلي أن ينجح في أخيراً في إيقاف إحدى العربات التي يقودها فتى لا يتجاوز الخامسة عشرة من عمره؛ ليقله، ولم يكد الضرير يستقر على ظهرها، حتي أخذ يتولي قيادة العربة بنفسه، وسط دهشة الفتي واستغرابه، يقول السارد:"ولمّا اطمأن إلى توقفها أخذ يتلمس مكان جلوسه في المقدمة، وقفز إليه كالمبصرين، فأصبح في وضع يساوي وضع سائق العربة، تمايل يمينًا ويسارًا ليثبت إلْيَتَيْهِ على خشبة الكارو، ولما اطمأن رفع قدمه اليسرى وأدخلها في الفراغ المخصص لحركة الحمار، وهذه وضعية تناسب المحترفين من سائقي العربات، وسارت العربة...".
عند قراءة القصة يتبادر إلى الذهن الدلالة التي يؤديها العنوان: "خذني معاك وأجرك على الله"، والذي يوحي في مظهره، إلى موضوع إنساني مستقى من مجالات الحياة العادية، لكن عند الانتهاء من قراءتها، والتمعن فيها، وتفكيك تراكيبها وتعابيرها، يبدو للمتلقي أن العنوان كان أعمق مما يتخيله القارئ، لأنه يخوض في موضوع بالغ الخطورة، وهو أنَّ مَنْ يحسن إلى الناس، يُقابل إحسانه بالإساءة، لهذا كان العنوان هو الكلمة المفتاحية للقصة جدها المتلقي متشظيةً في أجزائها بأسرها، وكان بمثابة الخيط الرفيع الذي يشد عناصر القصة جميعها، فيسهم في إحكام بنيتها، ويجسّد فكرتها وثيمتها الأساسية.
ولعل من الشائق ملاحظة أن لغة القصة جاءت متوافقة مع المضمون الذي تطرحه، فالدوال تعبق بالحياة اليومية الواقعية، والجمل في معظمها جمل فعلية قصيرة، وهي توحي بالحيوية والحركة والتدفق؛ لتتلاءم مع صفة الشاب الضرير ملامحه، ويمكن إبراز هذه السمات في ما جاء في القصة، يقول الراوي في مفتتح القصة:"على نقر حوافر البغل، وخشخشة السلاسل، يتوقف الضرير الشاب ، يقترب الصوت، وقبل أن يمر به يرفع يده وعقيرته قائلاً: خذني معاك وأجرك على الله! خذني معاك وأجرك على الله! فتهوي عصا الْحَمًار على عجز الدابة: دي، دي، دي ولِه، فيغادر الصوت، وأذن الضرير ترقبه بحسرة، فيواصل السير، يقترب صوت آخر، يتوقف الضرير: خذني معاك وأجرك على الله ! خذني معاك وأجرك على الله! فيأتي الرد: حا، حا، حا ولا! ويذوب الصوت، وتعود الحسرة للضرير، ثم يواصل السير".
إن تكرار الأفعال المضارعة: يتوقف، يقترب، يمر، يرفع، يغادر، ترقبه، يواصل، يقترب، يتوقف يأتي يذوب، وتعود يواصل- يصبغ القصة بالطابع الحدثي، فيدرك أنها قصة حدث، إلى جانب كونها ترسم شخصيات، إنها تتصل بالحدث والشخصية، وتهتم بهما معاً بدرجة واحدة. يدرك المتلقي الحصيف أن ما تقوله القصة يتدفق ببساطة لغوية واضحة وسهولة تقترب من التلقائية في تجاوب تام مع الأحداث المشهدية. وأن اللغة تتطابق مع المستوي النفسي للشخصية الرئيسية، وهي لغة مطعمة بألفاظ وعبارات مستوحاة من الحياة اليومية، من مهنة أصحاب العربات وحياتهم.
وقد تجاوبت اللغة وعناصر القص أيما تجاوب، إذ استغل الكاتب الطاقات الإيحائية للدوال، ووظفها في أنساق لغوية متنوعة بحيث غدت تحمل في كل نسق دلالات مختلفة عن النسق الآخر، فدال( أطمأن) يرد في حقول دلالية متعددة، ويحمل محمولات إيحائية متنوعة، يقول الراوي:"ولما اطمأن إلى توقفها أخذ يتلمس مكان جلوسه في المقدمة" يحمل لفظ"أطمأن" في حقله الدلالي مدلولاً نفسياً شعوريأ.
أما لفظ "أطمأن" في السياق الآتي:" ولما اطمأن رفع قدمه اليسرى وأدخلها في الفراغ المخصص لحركة الحمار، فإنه يحمل مدلولاً مادياً يوحي بالاستقرار والثبات والتمكن. ويجيء لفظ"أطمأن" في الحقل الدلالي الثالث على النحو الآتي:"وأخذ يتفحصها(العصا) بيده اليسرى مارًا بتعاريجها وما بها من عقد حتى وصلت يده إلى نهاية العصا، فاطمأن إلى طولها وعرف نوعيتها"؛ ليحمل مدلولاً عقلياً يشي بأنه اقتنع وتأكد.
وقد يظن المتلقي أن تكرار هذا الفعل جاء بطريقة تلقائية أي دون وعي أو إدراك لما يحمله من دلالاته المتنوعة، لكنّ نظرة متأملة إلى النسيج اللغوي الذي ورد فيه هذا الفعل تبرز بجلاء الغاية الفنية والإيحائية التي قصدها الأديب من وراء توظيفه في الصورة التي جاء فيها. ذلك أن هذا التنوع في الحقول الدلالية يكشف عن قدرة بارعة في استثمار إمكانات الدال الواحد على الإيحاء بمعانٍ متنوعة، ويشحنه بدلالات ثرة.
من جهة أخرى يجئ تكرار الصيغية الاستفهامية التي ترددت على لسان الراوي المشاهد في حوار داخلي غير مسموع:"... كُنْتُ أرْقبُ هذا المشهد، وأنا في حالة ذهول واستغراب، ماذا دهاكم أيها الناس؟! هل انْتُزِعَت الرحمة من قلوبكم؟! هل تحجّر إحساسكم إلى هذا الحد؟! هل استغنيتم عن الأجر والثواب؟!"؛ ليعطي تموجاً في المشاعر، وتنوعاً في الدلالات، ويوحي بقدرة المبدع على انتشال المشاعر الإنسانية الكامنة في أعماق النفس البشرية، والصعود بها إلي السطح؛ ليكون لها القدرة على إحداث المشاركة الوجدانية مع الذات الساردة. تتسم لغة القصة بالتكثيف والتركيز والدقة، فاللغة في القصة القصيرة لغة إيجاز، وترميز، وإيحاء، وحذف إبداعي، وإيقاعات متعددة في عبارات محدودة. فليس ثمة عبارة يمكن الاستغناء عنها، فاللغة مفردات وتراكيب في القصة القصيرة بعيدة عن التفصيلات والشروح والحوارات التي تسهم في ترهل البنية القصصية، وتبعثر الدلالة، وتشتتها.
لعل أبرز ما يلتفت القارئ أيضا هذه اللغة التي يتجسد فيها عالم القصة في كونها لغة غنية بدلالاتها وإيقاعاتها، صادقة في تعبيراتها، طعمها الأديب باللغة المحكية، فحملت صوت الذات الساردة في دفئها وانسيابيتها، وفى هذا كله سر نجاح هذه القصة القصيرة. وإذا كانت القصة تغرق في بساطة الحدث؛ لكونها تنغمر بالمشاعر الإنسانية، فإن ما يُدهش المتلقي أنها جاءت صغيرة في صغر مساحة القصة النصية، بحيث لم تتجاوز مساحتها عدة أسطر.
أما فيما يخص الحدث في القصة، فقد جاء حدثاً بسيطاً، بساطة الشخصية، بساطة اللغة، وقد جاء الحدث مركزاً في مشهدين اثنين: أحدهما: مشهد الشاب الضرير وهو يحاول جاهدا إيقاف العربات؛ ليركب فيها، ولكنها لا تتوقف، والمشهد الآخر توقف إحدى العربات التي ما لبث أن صعد ممتطيا ظهرها، إن الكاتب يعرض هذين المشهدين وكأنهما شريط يُشاهد على شاشة سينمائية، مستخدماً في ذلك عنصر الحركة والصوت كمؤثر درامي يتناسب وشخصية الضرير، فحاسة الصوت للضرير أنسب له من أي حاسة أخرى، فهو يدرك بسمعه نقر الحوافر وخشخشة السلاسل، وهو يجيد لغة الصوت إذ ينادي بنبرات مفعمة بالشفقة والاستجداء واستدرار عاطفة سائق العربة:"خذني معاك، أجرك على الله"، أكثر من إجادته للغة التلويح باليد لإيقاف العربات لمساعدته.
ومن الملامح البارزة التي رسمها الكاتب لشخصية الشاب الضرير أنه يمتلك قدرة فائقة في التمييز بدقة متناهية ما بين الأصوات التي تُقال للعربة التي يجرها حصان عن طريق تكرار المقطع الصوتي (دي، دي، دي)، والمقاطع الصوتية التي تُقال للعربة التي يجرها حمار(حا حا حا). وهو في الوقت ذاته يتعرف بذكائه وفطنته وخبرته إلى الصوت الذي يقال للعربة التي يجرها حمار، عندما تأخذ عجلاتها في التوقف"هييييششش!". إن هذا التنويع والتلوين بين الأصوات يغني النزعة الدرامية في القصة،وبعمقها، ويضفي عليها تأثيراً في النفس، ويقرّبها من تصوير الواقع تصويراً دقيقاً.
تحولت شخصية الشاب الضرير في هذه القصة إلي نموذج إنساني يَعْلق بالذاكرة، فالقارئ لا يستطيع أن ينسي صورة ذلك الشاب الضرير(بدون اسم)، والذي يحمل دلالة رمزية للإنسان الذي يمارس سلوكاً غريباً غير طبيعي يستجلب الدهشة والاستغراب؛ ليعكس ما في داخل نفسه من رغبة جامحة في قيادة العربة، وهذا السلوك يحمل دلالات تأويلية كثيرة، والتي منها أنه ربما كان قبل أن يصاب بالعمى حَمَّاراً، وربما أنه جُبل على حبّ التسلط، وحبّ القيادة، ولعله عاش محروماُ أو عاش مطحوناً؛ لذا يريد أن يمارس هذه النزعة في القيادة؛ لينفّس عن ذلك الكبت الداخلي الذي يمور في نفسه.
تمّ وصف شخصية الشاب الضرير من خلال الفعل والصوت وحركة الإنسان، وهنا تتجلي قدرة الكاتب في رسم شخصية الشاب الضرير بشكل واضح من خلال سيطرة الواقع المعيشي الاقتصادي والاجتماعي والنفسي.
تتجلى المفارقة السردية يشكل واضح في ملامح شخصية الشاب الضرير وأبعادها، إذ حاول الراوي أن يوهم المتلقي بأن الشاب الضرير يستحق الشفقة والعطف والرحمة والمساعدة، ولكن القارئ يُفَاجَأُ بأن هذا الضرير لا يستأهل أن تقدم له يد المساعدة، إنه يعضُّ اليد التي امتدت لتعاونه، إنه يستغل مساعدة الآخرين؛ ليمارس التطفل وحب للسيطرة والهيمنة والتفرد والقيادة؛ إنها صورة إنسان مريض يسعى إلى تفريغ شحنات من أحاسيس داخلية مكبوتة، ومشاعر هيمنة وسيطرة وحب قيادة وتوجيه.
إنها مفارقة ساخرة تكشف للقارئ سرّ عزوف سائقي العربات عن مساعدته، وتقديم يد العون له، لأنهم جربوا سلوكه وخبروا تصرفاته، أما الفتى سائق العربة، والذي لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، فقد وقع فريسة لهذا الشاب الضرير، ذلك أنه لا يمتلك خبرة كافية، ومعرفة كاملة بتصرفات الضرير التي تثير الدهشة والاستغراب؛ لذا عطف عليه، فتوقف له؛ ليحمله.
يمكن للمتلقي أن يُحَمِّلَ نهاية القصة بُعداً رمزياً يتمحور في أن في المجتمع نماذج من البشر إذا ما قدمتَ لهم يد العون والمساعدة، فإنهم يتجاوزون حدودهم، ويتدخلون في شئونك الخاصة،:" وسارت العربة، فمد الضرير يده يتحسس ما حوله فوقعت على عصا الحمّار، فأمسك بها من طرفها ورفعها في الهواء، وأخذ يتفحصها بيده اليسرى مارًا بتعاريجها وما بها من عقد حتى وصلت يده إلى نهاية العصا، فاطمأن إلى طولها وعرف نوعيتها، وفي لمح البصر أخذت هذه العصا تنهال على مؤخرة الحمار: حاااا، حاااا ، حا ولا! فيما كان الفتى صاحب العربة ينظر إليه مندهشًا، وكانت العربة تغيب عن الأنظار".
نستنتج من خلال هذا العرض الوجيز، أن القاص الدكتور مدحت دردونه عرف كيف يوظف عناصر القص من: شخصيات وأحداث وزمان ومكان ونهاية توظيفاً يحقق لقصته مضامين إنسانية وجماليات فنية، وعرف أيضاً كيف يستثمر التقنيات الكتابية الإبداعية من وصف وسرد ومفارقة بطريقة تعطي مساحة واسعة للقارئ لأن يحلق في عالم الفهم والتأويل حسب أدواته وإمكاناته القرائية.
مدحت دردونة من مواليد غزة، يعمل أستاذاً جامعياً في جامعة القدس المفتوحة، منطقة شمال غزة التعليمية، له إسهامات متعددة في مجال كتابة القصص القصيرة، ودراسات نقدية في مجال الأدب والنقد.
المصدر:
http://www.diwanalarab.com/spip.php?article34495