تقديم
إن طرح مفهوم الأمومة في مجتمعاتنا العربية ، لا يتم سوى بالارتباط مع مفهومين أساسيين هما الأسرة والطفولة .
و لا شك بأن هذه الأبعاد الثلاثة ، الأسرة ، الأمومة ، الطفولة ، هي من القضايا المحورية في تطور أي مجتمع .
ولكنها في مجتمعنا العربي خصوصاً تحمل إضافة إلى أهميتها الوظيفية ،ثقلاً وجدانياً كبيراً ، بحيث أن تناولها من ناحية علمية يلقى صعوبة كبيرة تشبه صعوبة تناول المقدسات . وتدق في العادة نواقيس الخطر أمام كل تغير يطال أحد هذه الأبعاد . إذ فوراً يشعر الشخص العربي بالتهديد يطال بنية هويته .
والأمومة في هذا الإطار هي واسطة العقد . عليها تقوم الأسرة ومن خلالها يتم إعداد الطفولة ، و بها تتبلور بالتالي صورة المجتمع بأكمله .
يصح هذا التقديم على المجتمعات كافة . ولكن نعتقد أنه في المجتمع العربي يزداد نفاذاً ، بسبب شدة التوظيف الاجتماعي في شأن الأمومة .
ويكفي أن نراجع المقولات الدينية والاجتماعية السائدة بشأنها لنعرف مدى أهميتها .
فالجنة تحت أقدام الأمهات ، والأم هي من يجب أن تُطاع أولاً وثانياً وثالثاً قبل أن يُطاع أحد غيرها ، وهي عماد الأسرة ، وهي التي إذا أعددتها أعددت شعباً خير الأعراق . بالمقابل .
ويمكن ملاحظة عدد من الخصائص التي تميز الأمومة كما مورست تقليدياً في المجتمعات العربية :
أولاً : إن الأمومة قبل أن تكون تجربة شخصية معاشة عبر جسد المرأة ، وكيانها ، هي وظيفة اجتماعية هامة ، يتلقاها الفرد أكثر مما يختارها .
ثانياً : على الرغم من أن الأمومة تمر عبر الإنجاب ، أي عبر جسد المرأة ، إلا أن القرار بشأنها ليس متعلقاً بالنساء أولاً ، وإنما يتأسس في مجتمع أبوي تهيمن فيه المصالح والتعبيرات الذكورية . ومن الدلائل الأبرز على هذه المفارقة أن المرأة الأم لا تحصل على حق الوصاية على أبنائها في حالة الطلاق ، كما أنها لا تمتلك إمكانية منح الجنسية لأبنائها في حال تزوجت من أجنبي .
ثالثاً : الأمومة في العرف السائد هي رسالة تتطلب تضحيات عظيمة ، وهي ليست وظيفة تتطلب مهارات ، وبالتالي لا أجر يعادل القيام بهذه الرسالة ، وبالنظر إلى غياب التوصيف فلا طريقة لمعرفة مدى إتقان الدور سوى رضا الأشخاص المحيطين ، وعلى الأخص منهم الزوج – الأب الذي يمسك بقرار الأسرة .
رابعاً : الأمومة عمل وجداني مكثف ، يتعارض مع العمل العقلي . وهذا الأمر يؤدي إلى أن المهارات العقلية قد تؤدي إلى إعاقة عمل الأمومة . وكلما كانت الأم أكثر عقلانية كانت أقل جدارة في القيام بهذا الدور .
خامساً : الأمومة وظيفة تحدد طبيعة الأنثى . والمرأة لا تستطيع أن تحقق جوهر وجودها سوى من خلال هذه الوظيفة البيولوجية الأنثوية .
تلخص هذه الخصائص دور الأمومة كما هو متعارف عليه . وهي تنبئ عن توجه اجتماعي ضابط لوظيفة الأمومة يقوم على تضخيم البعد العام لتجربة الأمومة ، وتقليص حيز التجربة الشخصية الفردية فيها . فهل يمكن لهذا التوجه أن يكون في صالح التطور المأمول للمجتمع العربي ؟
إن الشكوى العامة من التخلف الاجتماعي العام من قبل العديد من المفكرين والباحثين وصناع القرار في المجتمع ، يمكن أن تشكل إجابة بالنفي على هذا السؤال . ولا مبالغة في رد بعض أسباب هذا التخلف إلى مثل هذا الموقف من الأمومة .
ولقد ربط العديد ما بين تجربة الفرد مع أمه ، وتجربته مع أمته . فمنهم من رأى أن حب حضن الأم يتحول إلى محبة حضن الأمة . والأمان والانتماء يأتيان عن حضن الأم ويحولان الهوية الشخصية إلى هوية اجتماعية ... وعن طريق التعاطي مع الطفل من قبل الأسرة عامة والأم خاصة وبعد ذلك المجتمع المحيط، يستطيع الفتى العربي أن يبني مجال المكان والزمان والطموحات والتطلعات ... ( والملاحظ ) أن الوضعية الاجتماعية المادية ( العربية ) التي تحضن الأم بها طفلها أم المجتمع صغاره هي وضعية متشنجة متوترة وقاسية .
كما رأى آخرون أن المرأة تفرض على أطفالها هيمنتها العاطفية كوسيلة تعويضية عما لحق بها من غبن باسم الأمومة المتفانية .
تغرس في نفوسهم التبعية من خلال الحب ، تشل عندهم كل رغبات الاستقلال ( يجب أن يظلوا ملكيتها الخاصة ) .
كما ويتفق العديد من المفكرين على أن الوضعية الاجتماعية التي نعيشها والتي تتميز ببنيتها الأبوية الهرمية وبدونية العنصر النسائي فيها ، هي القاعدة التي تحرك اشتغال كافة المؤسسات الاجتماعية . وأن التغير المنشود يتطلب معالجة نواحي مختلفة من هذه الوضعية الاجتماعية ومن أبرزها إعادة تقييم وظيفة الأمومة وتوصيفها بما يتناسب مع متطلبات التطور والتحديات التي تواجه المجتمع العربي بإزاء ما يسمى بالعولمة .
إن التساؤل الأساسي هو كيف يمكن للأمومة أن تساهم بإعداد جيل المستقبل ؟ على أية قاعدة ؟ وضمن أية تصورات ؟
لا يمكننا اليوم في العالم أجمع أن نتعامل مع مستجدات الحياة الاجتماعية وتغير النظرة إلى الطفل والفرد بالطريقة نفسها التي تعاملنا بها في السابق ومن الطبيعي أن تتغير مؤسسات التنشئة الاجتماعية ، ومن أهمها مؤسسة الأمومة بما يتوافق مع هذا التطور . ومن الطبيعي أن يكون المجتمع العربي جزءاً من حلقة التطور هذه . ولكن ما يشكل موضوعاً للتفكير والنقاش هي وتيرة التغير التي يعيشها هذا المجتمع .
إذ يبدو لنا أن التغير يجري بشكل سريع في بعض القطاعات ، متوافقاً بذلك مع سرعة التغيرات في العالم ، ولكن بالمقابل هنالك قطاعات تعصى على التغير . مما يؤدي من ناحية إلى عدم التجانس في نمو القطاعات المختلفة ، ومن ناحية أخرى إلى نوع من المراوحة في قطاعات أخرى ( ولا سيما منها ما تعلق بالأمومة تحديداً ) تتمثل بحال التخلف إزاء تحديات طروحات العولمة .
إذن ثمة اتجاه عالمي ، يبرز اليوم من خلال العديد من الدعوات ، وخصوصاً تلك التي أخذت تطلقها النساء . ونستشف من هذه التطورات عدداً من التوجهات الحديثة التي تغير بشكل جذري في التطور السائد حول وظيفة الأمومة .
توجهات حديثة عامة
- الأمومة تجربة إنسانية :
بعيداً عن الشعر ، الأمومة تجربة إنسانية غنية . وهي تعطي ، كما التجارب الإنسانية الأخرى كالحب والزواج والتعلم والعمل ، شعوراً بالإنجاز والتحقق على الصعيد الشخصي .
والشرط الأساسي في كل التجارب الإنسانية أن تكون تعبيراً عن إرادة ومجالاً للإبداع الذاتي ، لا أمراً مفروضاً بالإلزام والجبر .
وبهذا المعنى ، لا يعود عيش الأمومة كرسالة وحيدة واجباً مقتضى ، ويمكن للمرأة أن تحقق وجودها عبرها ، كما عبر تجارب أخرى ، حسب الظروف التي تنشأ فيها .
وبالنظر إلى تراثنا العربي التقليدي المديد في تمجيد الأمومة وفي عيش رغدها ، فإن هذه التجربة تتميز عن سواها من التجارب ، لكونها ما زالت الطريق الأسهل و الأقرب لتحقيق الهوية الأنثوية بالمعنى الإيجابي اجتماعياً ، وتعويضاً عن الغبن اللاحق بصورة المرأة عموماً .
- الأمومة موقف :
الأمومة ليست الإنجاب ، وهي ليست عملاً بيولوجياً صرفاً . إنها موقف يتبناه الفرد في مختلف الأوضاع الحياتية بما فيها الاجتماعية والثقافية والسياسية . وهذا الموقف يتجسد بفكرة الاحتضان . لا أمومة بدون حضن . والحضن بهذا المعنى هو إلغاء المسافة ما بين الفرد والآخر ، تقريبه إلى القلب والحس والفكر ، وحمايته . غنها إذن موقف سلمي ومسالم ، يستوعب الآخر ، ويعمل للمحافظة عليه . والسلام هو قدر الأمومة النهائي .
من هنا فإن الحفاظ على البيئة هو موقف أمومي ، ورفض الحروب هو موقف أمومي . والعمل السياسي اليومي الذي يأخذ باعتباره مصلحة المواطنين هو موقف أمومي .
وفي مثل هذا المنحنى تتحول الأمومة من أن تكون شاناً أنثوياً بحتاً لأن تكون شأناً اجتماعياً يمكن لأفراد المجتمع أن يتبنونه . ولا يعود من سبب والحال هذه إلى إطلاق التسميات المبخسة كالعنوسة والعقر وسن اليأس لأنها تغدو من غير معنى .
صحيح أن الأمومة عطاء ، ولكن العطاء لا يحصر بالنساء وحدهن ، كما لا يحصر بالأبناء وحدهم . ومن المعروف أن الرجال ، كما النساء قادرون على العطاء وفي مجالات عديدة ومتنوعة .
هذا يعني أنه يمكن المرور إلى هذا السلوك من غير باب الوظيفة البيولوجية تحديداً .
أليست وظائف التعليم والخدمات والتمريض والإدارة تعبيراً عن مواقف أمومية ، لم تنشأ بواسطة البيولوجيا ؟
- الأمومة سلوك :
تتجسد الأمومة في جملة مهمات تتطلب أنواعا مختلفة من السلوك ومن التقنيات . منها مهمات أساسية وتتعلق بالتغذية وأشكال العناية اليومية ، من غسيل وحمام ، ومنها مهمات تربوية وترفيهية من تعليم ومشاركة الأطفال في اللعب وفي التواصل اللغوي ، ومنها مهمات تتعلق بأنشطة إشراف غير مباشر وتتمثل بالتواجد المساند والداعم .
إن النظر إلى الأمومة كمهمة يؤدي إلى تطلب امتلاك مهارات محددة ، ويتقل هذه الوظيفة من الوضعية الوجدانية الهائمة من غير أي تحديد والعاصية بالتالي على أي تقويم ، إلى الوضعية السلوكية القابلة للتعديل والمواءمة والتغير تبعاً للضرورات .
- الأمومة تعلم :
أن تعلم الدور الأمومي يقع على عاتق الثقافة الاجتماعية . تتعلم الفتاة منذ ولادتها وبالتدريج هذا الدور من خلال عمليات نفسية عديدة ومركبة ، أهمها التماهي ( Identification ) والنمذجة ( Modeling ) القائمة على التعلم بالملاحظة . ومن خلال وسائط متنوعة من قبيل المكافأة واستحسان تبني النمط الأمومي في التصرف ، ومن خلال ألعاب الدمى والعرائس ، وتوقعات الأهل ... إلخ تتعلم الفتاة دورها الأمومي في اللاحق. هذا الواقع يجعل من الدور الأمومي دوراً تقليدياً مكرساً يعاد إنتاجه على نحو دائم . فالبنات ستصبحن أمهات مثيلات لأمهاتهن ، وسيعدن إنتاج الدور بخطوطه العامة ، من دون الأخذ بالاعتبار عوامل التغير التي قد نلحق بالنموذج الذي تتوجه وظيفة الأمومة له .
ويمكن التفكير في هذا الصدد بأنه قد يكون من الأنسب أن تقوم المدرسة بجزء من عملية الإعداد هذه . فمن المعلوم أن المدرسة هي مساحة عقلانية وتتحكم بها أهداف عملية ومعارف علمية . وهي بسبب من دورها الطبيعي قابلة للتغيير أكثر من الأسرة ، ومن هنا فإن مشاركتها في مثل هذا الإعداد قد يكون خطوة عملية متقدمة . ويجب التنبيه هنا إلى أن المناداة بأن تأخذ المدرسة جزءاً من مسؤولية هذا الإعداد لا يعني العودة إلى البرامج التعليمية التي كانت سارية في الماضي ، حيث كان التعليم منفصلاً للجنسين وكانت في مدارس البنات برامج خاصة بالبنات ، وإنما يدعو إلى تبني منظور مختلف لهذا الإعداد لا يقوم على أساس الجنس ، فكل التلاميذ معنيون بهذا الإعداد لهذه الوظيفة الاجتماعية وليس فقط الفتيات .
- الأمومة وظيفة اجتماعية :
ولأن الأمومة سلوك اجتماعي ، فلا ريب بأن التطور الاجتماعي يفرض بشكل أو بآخر ضغوطه على الممارسة المتعلقة بالأمومة . فالمرأة اليوم أخذت تنخرط في العمل ، ولا بد لهذا الانخراط من أن ينعكس في مجال الممارسة اليومية للأمومة .
ومن تداعيات هذا التطور اليوم في مجتمعاتنا لجوء الأمهات للاستعانة بمساعدة عاملات ( عموماً أجنبيات ) في المنزل ، وهو ما حدا بالعديد إلى الاحتجاج خوفاً في الظاهر على تشويه القيم التي سينشأ عليها الطفل من الاختلاط بالأجنبي ، ولى عدم توازن شخصية الطفل بسبب ابتعاد أمه ، وخوفاً في العمق من ابتعاد امرأة عما اعتبر وظيفتها الأولى والطبيعية ، ومن تقويض أسس الأسرة العربية .
إن عمل المرأة ليس ترفاً بل ضرورة يفرضها تطور المجتمع وتطور أفراده . وتبن الدراسات أن عمل المرأة ينعكس إيجاباً على صورتها عن نفسها وبالتالي على مجمل سلوكها الأمومي وغير الأمومي .
وحيث أنه لن يكون من العدالة التضحية بفئة لصالح فئة أخرى ، فإن إيجاد صيغ رعاية بديلة ومساعدة من شأنه التوفيق بين الجوانب المختلفة لدور المرأة اليوم .
ومن جهة أخرى ، تشعر النساء اليوم ، العاملات في المنزل أو خارجه ، أن مهمة رعاية الطفل اليومية هي مهمة شاقة ومتعبة .
فمع تحول الأسر من البنى الممتدة إلى البنى النواتية ، أصبح المنزل أكثر فأكثر مكاناً خاصاً ومنعزلاً عن بيئة العمل والتسلية ، ويقل عدد الأشخاص الذين يتواجدون فيه وتقل فرص التفاعل والتحدث مع آخرين خلال النهار . لذلك فإن وجود أشخاص مساعدين من شانه أن يخفف من ثقل الشعور بالوحدة والانعزال ويتيح لهن فرصة التخفيف من بعض ضغوطات رعاية الأطفال .
ألا يجعلنا ذلك نفكر بأن اللجوء إلى مثل هذا الحل لمن استطاعت إليه سبيلا هو أمر مقبول وإيجابي ، ويساهم في عيش تجربة الأمومة بسعادة أكبر؟
من ناحية أخرى ، تتأثر الأمومة بالظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تجري فيها . فمثلاً من المعروف أن الأوساط الميسورة اقتصادياً وتعليمياً، من شأنها أن تساعد على أداء أفضل لدور الأم . كما أن العوامل الثقافية ، والقيم الاجتماعية تؤثر تأثيراً هاماً في سلوك الأمومة .
- الأمومة تقنيات :
ليست الأمومة أحاسيس ومشاعر فقط ، وإنما هي أيضاً تقنيات ووسائل . ومن المعلوم أن آليات الحمل والولادة والرضاعة قد تغيرت بفعل تطور الطب وتغير القيم عامة . وليس أدل على ذلك من نشوء مواضيع جديدة للعمل الاجتماعي الأهلي والرسمي يتمثل بما يسمى بالصحة الإنجابية . والدعوة تنتشر اليوم لتنظيم الحمل والولادة الآمنة وتحديد العمر المناسب للإنجاب وللتوقف عنه ، إلى ما هنالك من توجهات تعني فيما تعنيه تبني المجتمع عموماً لوظيفة الإنجاب ، وسحبها من يد المرأة كفرد .
وتزداد الكتابات والأبحاث النسائية اليوم حول رفض الأساليب التكنولوجية الجديدة اليوم للتدخل في شأن الولادة ومن خلالها للتدخل في شان الجسد الأنثوي . وتزداد حدة هذا الأمر خصوصاً في المجتمعات النامية ، حيث أن هذا التدخل لا يتم فقط من خلال منظور ذكوري يقوم على التجزئة وعلى التعامل مع تجربة الولادة كما لو أنها تجربة جسدية وليست تجربة كيانية للمرأة ، وإنما أيضاً من خلال منظور غربي يقفز فوق الاعتبارات الثقافية المحلية " فتعميم النتائج المستقاة من المجتمعات الصناعية ينطوي على بعض المخاطر ، لأن ظروف الحياة الاجتماعية والاقتصادية تختلف عنها في العالم الثالث " .
توجهات حديثة محلية :
ما المطلوب اليوم من الأمومة من أجل إنهاض الشخصية العربية في بداية الألفية الثالثة والتطور الاتصالي المتعاظم ؟ سأحاول فيما يلي رصد عدد من التحولات الضرورية في معاش المجتمع العربي .
المرأة نصف المجتمع ، وحينما يكون نصف المجتمع مغلولاً ، لن نتوقع أن يستطيع هذا المجتمع القيام بأعباء النهوض والتطور . وإلى اليوم ، ما زالت المرأة العربية تلعب دوراً تقليدياً محافظاً ، يؤدي بشكل أو بآخر إلى مراوحة مجتمعاتنا ويساهم في تخلفها . وفي حال لم يغير المجتمع نظرته وتصوره عن دور المرأة ، ولم يساعد المرأة على تطوير إمكاناتها ، فإنه لمن الصعب أن يأمل بالتطور المنشود ، حتى وإن جرى تحديث مختلف المؤسسات الاجتماعية ، كالتعليم والعمل .
ولن يفيد في هذا الصدد تعظيم الأمومة كما لو أنها التعبير الوحيد عن الوجود الأنثوي ، فالمرأة كيان غير متجزئ ، ولا يمكن فصل جانب من وجودها عن الجوانب الأخرى . فالأم هي نفسها الزوجة وهي نفسها الرفيقة وهي نفسها الإنسانة . وبالتالي فإن تبخيس الأنوثة لا يستوي مع تعظيم الأمومة .
من جهة أخرى ، فإن الاعتراف بمكانة المرأة وأهمية تحقيق ذاتها هو الطريق لتمكين الأمومة من أداء الدور المطلوب . وفي هذا المجال يتبدى وعي المرأة لذاتها ككيان فاعل وكضرورة لا بد منها . فالأمومة ليست وجداناً وحسب ، وليست كلاماً واهياً ، إنها دور ووظيفة ، تتطلب وجود شخص قادر للاضطلاع بها .
لهذا فإن رفع إمكانيات المرأة يصبح أمراً بالغ الأهمية . ومن المعلوم أن أهم وسائط التمكين هو اليوم التعليم . ولا شك أن أمية المرأة هي سبب أساسي في حال التخلف الذي نشكو منه.
وللمثال أذكّر أن في مراجعة لأحوال التعليم في العالم العربي في القرن العشرين ، يخلص الأمين إلى لوحة قاتمة عن هذه الأحوال ، ويرى أن أمية الأمهات العربيات كانت من العوامل الأساسية في هذه القتامة .
عن أمية المرأة العربية ، لا تنعكس على وضع المرأة فقط ، بل على مجمل أفراد المجتمع .
وتعريف الأمية اليوم لا يقتصر على عدم القراءة والكتابة ، ومع أن هذه الأمية ما زالت على أي حال كثيرة الانتشار في مجتمعنا ، وإنما أيضاً على الأمية الثقافية والتكنولوجية فالتفكير الخرافي مثلاً هو نوع من الأمية الثقافية . ونستطيع أن نتوقع أن نتائج التعليم العقلانية تمحوها المجابهة مع الواقع اللاعقلاني الذي يعيشه الفرد العربي في منزله .
إن دور المرأة / الأم الأمية يؤثر على نحو مباشر في أبنائها ولا سيما منهم الإناث . ولقد بينت الأبحاث أن النساء اللواتي توصلن إلى مراكز فاعلة في المجتمع كن مدفوعات من قبل أب متعلم وليس من قبل أم . فالأم التقليدية المستكينة أقل قدرة على تحفيز فاعلية الأبناء وطموحهم .
ويرتبط التعليم مباشرة بعملة الإبداع . ويصعب تصور شخصية مبدعة إذا لم تكن قادرة على التواصل مع مستجدات العلم . كما يصعب التفكير في إمكانية نمو الإبداع في وسط جامد لا يقبل التغيير ، وحين يكون الأشخاص الرئيسيين في تربية الطفل هم أنفسهم يعانون من القمع وكبت الطاقات .
كما يرتبط تعليم المرأة / الأم بشكل مباشر مع تنمية العقل والمنهج الفكري عند الطفل . وكمثال على ذلك نجد أن دراسات كثيرة تؤكد على أن النجاح في المدرسة يتأثر مباشرة بمستوى تعليم الأم .
من جهة أخرى فإن من القضايا المطروحة بقوة واقع الأسرة اليوم، وخصوصاً وظيفة الأمومة فيها هو تنمية شعور الطفل بالانتماء إلى مجتمعه العربي ، ولا يسعنا التفكير في مثل هذا المنحنى إذا لم نعمل على أن تكون الأسرة بكامل أطرافها فاعلة ومشاركة في قضايا مجتمعها .
في هذا الإطار يمكن القول أن مشاركة الأم في الشأن العام من شأنه أن يهيئ لتبلور وعيها المجتمعي ، ويفتح أفق المنزل على المساحة العامة . وبالتلازم مع هذا المنحنى تتم الدعوة إلى إلغاء الفصل ما بين الخاص والعام ، واعتبارهما كليهما جانبين أساسيين من الحياة الاجتماعية ، وعلى الأفراد جميعاً ، بغض النظر عن انتمائهم الجنسي ، الاشتراك فيهما .
إن مشاركة المرأة في الشأن العام تأخذ أشكالاً مختلفة ، قد يكون العمل من أهمها ، ولكنه لا يختصرها . والملاحظ في الواقع أن اتجاه التعليم لدى الإناث العربيات هو أقوى بكثير من اتجاههن للعمل المأجور . ومن العوامل المسفرة بهذا الواقع تندرج قيمة الأمومة والأسرة التي ما زالت من القوة بحيث نرى العديد من المتعلمات لا يسعين للعمل خارج منازلهن ، ويفضلن البقاء مع أطفالهن وإدارة شؤون منازلهن ، على الأقل لفترة محددة .
وثمة أشكال أخرى لمشاركة المرأة ، غير العمل المأجور ، منها مثلاً العمل الاجتماعي الأهلي التطوعي الذي يمثل هو أيضاً تعبيراً متزايداً عن حاجة المرأة المتعلمة للتعاطي الفعال مع شؤون المجتمع .
ومهما يكن من أشكال مشاركة المرأة في الشأن العام ، الأسري أو الأهلي أو الاجتماعي ، فإن الأمر الأساسي في هذه المشاركة هو تدعيم صورة المرأة لنفسها من خلال إحساسها بالقدرة على التأثير والفاعلية . ولا نرى أن ثمة صورة واحدة لتحقيق الذات ، كما لا نرى سبباً للتفضيل ما بين المرأة العاملة وغير العاملة . غير أن الوصول إلى مثل هذا الاعتبار يستدعي تأمين خيارات حرة للمرأة ، في الإنجاب وفي العمل كما في كافة الشؤون الاجتماعية ، ويستدعي أيضاً تقدير المساهمة النسائية في المجالات المختلفة .
فالجنة التي هي تحت أقدام الأمهات ، تنتظر من قام بالأعمال الحسنة ، أما النوايا فلا حساب لها .