جهاد التحرر.... عام بعد عام....
1911:
أسست جمعية سرية في باريس عن طريق مجموعة من الشباب المثقف سميت: (الجمعية العربية الفتاة). وهدف هذه الجمعية تحرير الأراضي العربية من الهيمنة العثمانية والأجنبية.
1912:
وتداعى الشباب العرب للعمل تحت شعار هذه الجمعية وأسست لها فروع سرية في بعض الأقطار العربية، خوفاً من بطش الاستعمار.
1913:
وقد كانت البلاد العربية تعيش هذه الفترة في ركام من الظلمات، التي مارسها الحكام الاتحاديون من جماعة الاتحاد والترقي في تركيا، والذين استولوا على الحكم بعد أن تم لهم خلع السلطان عبد الحميد.
ومنذ ذلك الوقت اكفهرت سماء البلاد العربية وراحت تجتاز سلسلة من العقبات والأحداث والتحديات الخطرة والمنذرة بالسوء، في ميادينها الداخلية والخارجية، حيث لعبت بها أهواء بلاد ودول كثيرة ومطامعها.
وبدأت سورية تتصدى لهذه السياسة الغاشمة، وراح الوطنيون يطالبون بإعلام الدول الحيادية بما يمارسه الاستعمار في سورية وفي العالم العربي.
وانعقد مؤتمر عربي في باريس عام 1913، وافتتح أعماله في 18 حزيران في قاعة الجمعية الجغرافية 186 شارع (بولفار سان جرمان) وقد تم التعبير عن إرادة التحرر والاتفاق بصورة واضحة وبصيغ معتدلة ولكنها حازمة، وإن قرارات المؤتمر التي أبلغت إلى الدول العظمى، وإلى السفير العثماني في باريس، قد وضعت (وللمرة الأولى) القضية العربية أمام الرأي العام العالمي.
وحضر هذا المؤتمر السوريون وعلى رأسهم إحسان الجابري الأخ الأكبر لسعد الله الجابري وكان ارتكاس هذا الحضور في نفس سعد الله كبيراً بحيث عزز موقفه وشدّ عزائمه في المضي في جهاده.
وكان العداء، وكانت البغضاء تنتشر وتستشري بين الشعب العربي وبين الأتراك منذ أن انفجر بارود الحقد في نفوسهم، إثر حادثة (الصفعة)([1]).
كانت صفعة كالها شفيق مؤيد العظم لطلعت باشا التركي، وأصبحت الشرارة الحامية التي فجرت بركان الغضب في نفوس الحاكمين، ولا سيما وهم معبؤون تعبئة قوية بفعل النشاط اليهودي السري في تركيا.
وتضافرت جهود نواب العرب في مجلس (المبعوثان) في تركيا، مع الجمعيات والأحزاب التي أسسها العرب منذ مطلع القرن العشرين، منها: (جمعية الإخاء العربي الإسلامي) و(حزب الحرية) و(الائتلاف العثماني) و(المنتدى الأدبي) الذي كان في ظاهره ثقافياً، وفي حقيقته سياسياً، و(الجمعية القحطانية) و(جمعية العهد) و(الجمعية الفتاة) التي انتسب إليها المغفور لـه الملك فيصل بن الحسين.
1914:
وفي هذا العام دقت نواقيس الحرب العالمية الأولى، وجند سعد الله في الجيش العثماني (كوجوك ضابط) أي ضابط صغير، وعين مراقباً على الأرزاق وقوافلها في بلدة (أرض روم) وقضى مدة الحرب بعيداً عن الوطن. كان مخلصاً في خدمته للجيش، أميناً على ماله وأرزاقه وتلك عهود وذمم، كما كان وفياً للعهود العسكرية، على الرغم من شعوره بأن الأتراك كانوا يظلمون قومه، وأبت كرامته أن يخون الأمة التي يخدم في جيشها. ولعل الإخلاص في العمل مبدأ أخلاقي يدل على عمق التوازن النفسي والروحي، فليس في داخل الذات صراع أو نزاع بين الفكرة والعمل، وإنما توجد وحدة سيكولوجية تجمع النية والعزم والتنفيذ.
وعندما انتهت خدمته وأصبح حراً يعيش المبادئ التي تنمو فيه، انبرى لمحاربة الاستعمار العثماني الذي خيّم بظلمه وظلامه على البلاد العربية؛ والآن، وفي جو من حرية التصرف سار في درب الجهاد وفي رأسه قبس من نور وفي قلبه وثبة وطن.
وكان يفهم من الاتفاقات الدولية منذ عام 1914 أو قبله بقليل، أنه في حال تفكك الإمبراطورية العثمانية، فإن منطقة النفوذ الفرنسي في الشرق الأدنى، ستتناول سورية كاملة بحدودها الطبيعية، وإن من شأن ذلك تأمين التوازن العادل بين الدولتين الفرنسية والبريطانية وفي الواقع تعرضت الإمبراطورية العثمانية لخسارة أراضيها وقد ألغيت امتيازاتها بقرار وحيد الطرف أصدرته تركيا في عام 1914 أي بعد أن دخلت فيها ضد الحلفاء، ولكن الإلغاء التعاقدي لم يتم إلا بموجب معاهدة (لوزان) في 24 تموز 1923.
1915:
وأمام أطماع فرنسا بامتلاك مناطق نفوذ بحرية وبرية صرح وزير البحرية الفرنسي في أيار 1915 "أن البحر لن يكون مفتوحاً إلا إذا بقيت سورية ضمن دائرة نفوذنا" وهنا وقفت تركيا في صف الإمبريالية الألمانية والنمساوية، كما لجأ الحلفاء إلى التقرب من العرب، وسرعان ما حصلوا على مساندتهم في وقت مبكر مقابل تعهدات ووعود حازمة بالاستقلال، ومن أجل ذلك جرت مفاوضات بين الشريف حسين شريف مكة، وبين السيد هنري مكماهون، المقيم العام البريطاني في القاهرة.
ابتدأت هذه المفاوضات في شهر تموز 1915 وانتهت إلى اتفاق في 10 تموز 1916، وقد تضمن هذا الاتفاق في بنوده إعادة الأراضي التي كانت دائماً للأمة العربية، وتعهد العرب مقابل ذلك بتقديم العون للحلفاء من أجل كسب الحرب.
ولكن... عندما عيّن جمال باشا السفاح قائداً عاماً للجيش الثالث، نصب أعواد المشانق في كل من دمشق وعاليه، لشنق خيرة الشباب الوطني في عام 1915.
1916:
وفي 11 أيار من هذا العام تخلّت فرنسا بموجب اتفاقية (سايكس ـ بيكو) عن جميع حقوق سورية في فلسطين وشرق الأردن، وتنازلت لإنكلترا عن أراض تغطي مساحتها سبعين ألف كم2.
ونص هذا الاتفاق على تجزئة عجيبة للأراضي العربية المنسلخة عن الإمبراطورية العثمانية حيث تم إشباع الأطماع جميعها، وقد خصصت منطقة على الساحل السوري لفرنسا، ومنطقة في الجزيرة لبريطانية، ومنطقة تتضمن فلسطين عدّت دولية.
أما سورية الداخلية، فقد قسمت إلى منطقة تخضع للنفوذ الفرنسي، ولكنها ذات سيادة عربية، وأخرى تخضع للنفوذ البريطاني مع احتفاظها بسيادتها العربية، وعندما احتجّ الإيطاليون، أضيفت منطقة تخضع للنفوذ الإيطالي، وذلك من جنوب الأناضول في مناطق أضاليا وأضنة وقونية.
ثار الشعب العربي لهذه التقسيمات التي تجري دون علمه، وقام بمظاهرات وحشد قواه إلى أن كان يوم 10 حزيران حيث أعلنت ثورة الشريف حسين بن علي شريف مكة والذي أعلنها من بطاح مكة ثورة عربية تحريرية ضد الحكم العثماني.
وأطلّت تباشير الفرح إثر هذا الإعلان، وبادر المثقفون العرب إلى الالتحاق بالثورة، وتحملوا الكثير في اجتياز الفيافي والصحارى، سيراً على الأقدام أو على ظهور الجمال. وكان الضباط وبعض الجنود في الجيش العثماني، أسبق الجميع في الالتحاق بالثورة، على الرغم مما لا قوه من تعذيب حتى الموت.
وكان رد فعل الإمبراطورية العثمانية عنيفاً، فاستمرت تنصب أعواد المشانق وحاصرت المدن وجوعت السكان، ولعل تجويع الناس كان واحداً من ألوان السياسة الغاشمة التي مارسوها في بلاد العرب، بلاد القمح والخيرات... وكذلك نفوا بعض المواطنين العرب من مناطقهم، ودكوا مدينة (الحلة) في (العراق).
وعلى الرغم من هذا كله تابع الشعب مسيرته، ولما اكتمل عدد المجاهدين المقاتلين بدأت الجحافل تتوجه إلى الديار الشامية عن طريق ـ العقبة ـ عمان ـ دمشق، ومن ثم سارت إلى منطقة الثورة، وانضمت إليها بعض القبائل العربية لمواصلة الجهاد وبلغ عدد المتطوعين الملتحقين بالثورة ما يقارب 100,000 متطوع.
1917:
ولم تزل الحرب العالمية في لظاها وعنفوانها، واستولت الثورة الشيوعية على الحكم في روسيا، ولم تتورع عن إفشاء (السر الكبير) عندما نشرت معاهدة سايكس بيكو حيث تم فيها اقتسام البلاد العربية من قبل الحلفاء (سراً).
في 2 تشرين الثاني في العام نفسه صدر وعد (بلفور) القاضي بإنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين، تعهدته الحكومة البريطانية.
وعلى الرغم من أن العرب ناصروا الحلفاء أثناء الحرب، ولكنهم نالوا أسوأ معاملة منهم باقتسام أراضيهم وضرب حقوقهم عرض الحائط...
كانت القوى الغاشمة هي التي تتحرك وتحرك الشعوب، فما جدوى التفكير وما جدوى المقاومة أمام (ثعالبة السياسة الاستعمارية).. ستبقى مقاومة سلبية النتائج وسيبقى عمل المجاهدين تجديفاً عبثي الإقناع...
الدول العظمى تتحرك، تدير المؤتمرات... تخطط... تبرر بمنطق الاستعمار ولا شأن للبلاد الضعيفة والتي لا تملك من أمرها شيئاً...
وكانت صدمة قوية لسعد الله وهو يرى ويشهد ما تم من مؤامرات في سنة واحدة... (سايكس بيكو، وعد بلفور)...
لن يرضى أن يخضع لهذا المصير... ولكن... ما هو الحل...؟
توحد جهود العرب... تكتل العرب... توحد كلمة العرب... تشكل رأي عام عربي موحد وكان يرى أن سورية ـ خصوصاً ـ والتي استطاع شعبها أن يهضم في تاريخه أصفى الحضارات لن يخضع أو يعيش في ظل العبوديات...
1918:
وانتهت الحرب العالمية الأولى، زال الحكم العثماني عن سورية، وراحت القوى المنتصرة تتلاعب بمصير العالم العربي...
وأمعن الحكم العربي الذي تلاعب به الاستعمار كما يريد تشويهاً وتمثيلاً وقامت أول حكومة عربية، وفتحت صفحة جديدة في تاريخ سورية الحديث... بدا لأول وهلة أن الدولة الفتية، أضعف من أن تتحمل عبء التبعات الجسيمة التي فرضتها مسؤوليات الحكم...
وراح الأمير فيصل بن الحسين يطالب الحلفاء بتحقيق الوعود التي قطعوها لأبيه الشريف حسين خلال الحرب العالمية الأولى من أجل إعطاء سورية حريتها واستقلالها، وكبر الأمل في نفس سعد الله الجابري وهو يرقب من بعيد الخطوات السياسية الكبرى. وسرعان ما انكشف (البرقع السياسي) أمام الأمير فيصل، حيث طمست تواقيع الصكوك والوعود وتفاقمت أطماع الدول، واتضح لفيصل أن فرنسا وإنكلترا اتفقتا على اقتسام الأراضي المحررة من الإمبراطورية العثمانية.
وحول هذه الأراضي سال لعاب الدول الأوروبية الاستعمارية ذات الاحتكارات البترولية والتي تمارس نشاطها بموجب اتفاقيات مجحفة، انتزعت من حكام البلاد دون موافقة الشعب، ولعلّ الاحتكارات البترولية هي أخطر أخطبوط استعماري في العالم وقد امتدت أذرعه إلى البلاد العربية ومنها سورية. وفي الواقع اشترك الاستعمار الفرنسي مع الاستعمار الإنكليزي في اقتسام أملاك ألمانيا وتركيا فكان لفرنسا الانتداب على سورية ولبنان، وللإنكليز فلسطين والعراق.
أما في داخل سورية فلا زال الجيش العربي يتقدم حتى دخل مدينة دمشق في 30 أيلول 1918، واستقبله الشعب بالتصفيق والزغاريد. دخل الأمير فيصل دمشق مع المتطوعين العرب، وحلّ هو في دار البارودي والد فخري البارودي، الذي اشترك في الثورة منذ أيامها الأولى.
شرع فيصل في أول وصوله في تأليف حكومة عربية، وعهد إلى اللواء علي رضا باشا الركابي أحد أبناء دمشق أحد قواد الجيش العثماني، بمنصب الحاكم العسكري لمدينتي دمشق وحلب، وكل مدينة يحتلها الجيش العربي. وبينما كان الجيش العربي يواصل زحفه نحو الشمال السوري، سقطت مدينة بيروت بيد الحلفاء، فأرسلت الحكومة العربية في دمشق، برقية إلى رئيس بلدية بيروت، تطلب فيها رفع العلم العربي فوق دار الحكومة.
وأقيم احتفال كبير في هذه المناسبة، بعد وصول اللواء شكري باشا الأيوبي من دمشق، الذي احتل دار الحكومة، وأعلن انضمام بيروت إلى الدول العربية.
بيد أن القائد الإنكليزي، أصدر أمراً إلى اللواء الأيوبي بمغادرة بيروت والعودة إلى دمشق خلال أربعة أيام. وأنزلت الراية العربية عن دار الحكومة، وعين الجنرال (بياباب) الفرنسي حاكماً على مدينة بيروت.
كان هذا التصرف أول تنكر للحكم العربي في سورية من جانب البريطانيين والفرنسيين، وقد اكتشف بصورة واضحة التواطؤ السري الذي تم بين الحلفاء على اقتسام سورية الأجزاء المحررة من الاستعمار العثماني، ولا سيما ما يتعلق بالأراضي السورية، وكأنهم يريدون بذلك طمس الهوية السورية ومحوها ووضع سورية موضع التبعية والاستلاب، والفتن والاغتراب، وسورية لم تكن تعلم بهذه الخطوات.
ودخل الفرنسيون سورية باسم الانتداب دخلوها دخول الظافر ليحتلوا البلاد ويظلموا العباد. ولكن الجيش العربي استطاع أن يحتل مدينة حمص في 14 تشرين الأول 1918، ومدينة حماه في 16 منه ومدينة حلب في 25 منه، كما بدأت ثورات سورية متفرقة منها ثورة الشيخ صالح العلي في جبال العلويين الذي أعلنها ضد الفرنسيين منذ عام 1918 واستمرت حتى عام 1921 وكانت ألوية النصر تُعقد لـه في أكثر المعارك.
ثم حدثت اشتباكات ومناوشات مع الجيش التركي، إلى أن تم جلاؤه نهائياً عن سورية في 31 تشرين الأول 1918.
وأعلنت الهدنة بين الأتراك والحلفاء، وصدر تصريح بريطاني فرنسي مشترك يؤكد أن أهداف الحلفاء من الحرب هي التحرير النهائي والكامل للشعوب التي عانت مدة طويلة من الاضطهاد التركي. وتم إعلان تنازل تركية عن ولايات الشام وبغداد والحجاز وعسير واليمن.
1919:
وتلقى العرب خبر افتتاح مؤتمر الصلح بين الحلفاء والعرب، وقد افتتح هذا المؤتمر في 18 كانون الثاني 1919 في قاعة (الساعة) بوزارة الخارجية الفرنسية، وقد حضر الملك فيصل ليطالب الحلفاء بتنفيذ وعودهم التي كانت قد أعطيت للعرب.
ولكن روح المماطلة والتسويف أقضت مضجع الشعوب العربية في مثل هذه المؤتمرات، وكانت أن عمت الثورات السورية تعبر عن غضب الشعب، فقامت ثورة مسلحة بقيادة الزعيم إبراهيم هنانو([2])، في شمال حلب (جبل الزاوية) وكان هنانو لا يقاتل الفرنسيين كرئيس عصابة، بل كقائد جيش مسلح تابع للدولة العربية، وكذلك قامت ثورة البيطار.
وقد اتفق صالح العلي مع إبراهيم هنانو وتعاونا، واتفق مع الشهيد يوسف العظمة، وقد عجز الفرنسيون في القبض عليه حياً أو ميتاً، وصدر الحكم عليه بالإعدام، ثم توارى عن الأنظار، اضطر الفرنسيون للعفو عنه بعد عام، وأصدر المفوض السامي الجنرال غورو قراراً بذلك.
عاش سعد الله مع هذه الثورات، وقد تفتحت أمام بصيرته أبعاد القضية كلها، وتفتحت خطوات الاستعمار الفرنسي والبريطاني كأغوار مغلقة على الفهم، أتراها أغواراً ماثلة في ظلام فكر الشعب؟ أم في تجاوز السلطات الحاكمة والغاصبة لحقوق هذا الشعب؟
ولكن الشعب كان يعيش هزة وطنية على أهبة الاستعداد لتلبية أي نداء للثورة، وكان التلاحم قوياً بين سعد الله وهنانو، فسعد الله يعبئ ويوقظ روح الجماهير، في الداخل وهنانو يقود الحركة عسكرياً من الريف، ويعتمد على سعد الله كسند مادي إلى حد كبير... وكان يثق برأيه، ويحبه من أعماقه، وكان يقول: "سعد الله حبيبي، ويا لسعادة من كان سعد الله أخاه وصديقه".
في هذا الوقت أراد الأميركيون، وخصوصاً الرئيس (ويلسون) أن يستطلع رغبة سورية التي وضع نظام الانتداب من أجلها. ولذلك قامت لجنة أميركية منذ 10 حزيران وحتى 21 تموز 1919 وقد أرسلت تحت قيادة (كراين، وكينغ) باستشارة الأهلين، وقد كان من الصعب التفكير بأن السوريين يمكن أن يرجعوا عن استقلالهم... إن السيادة الوطنية هي النظام الذي يفضلونه على أي نظام آخر.. وقد وقعت معاهدة فرساي في 28 حزيران 1919، ولذلك قصد الملك فيصل أوروبا مرة ثانية على أمل الاتفاق مع فرنسا.
وقد استقبل الملك فيصل استقبالاً حسناً من قبل كليمنصو رئيس الحكومة الفرنسية وهيأ لـه مشروع اتفاق فرنسي ـ سوري. وهو أول مشروع تمت مراجعته على أساس من السيادة، وفي هذه الأثناء جرى تعيين الجنرال (غورو) مفوضاً سامياً.
1920:
وعاد الأمير فيصل إلى دمشق في 13 كانون الثاني 1920 وعرض اتفاق كليمنصو على رجال السياسة في اجتماع سري عقد في منزل الدكتور أحمد قدري ولكن الوطنيين رفضوه بالإجماع، وكان الإحساس التاريخي يتضمن موقفاً نقدياً في مواجهة الأحداث القريبة والبعيدة على حد سواء.
وقام الأمير بجولة في المحافظات السورية، وازداد بهذه الزيارة يقيناً أن الشعب السوري بكامله يرفض وجود فرنسا.
واجتمع المؤتمر السوري في آذار 1920 وقرر إعلان استقلال سورية بحدودها الطبيعية بما فيها فلسطين، والمناداة بالأمير فيصل ملكاً دستورياً.
وفي 18 آذار 1920 أقيم احتفال بمدينة دمشق بحضور ممثلي فرنسا وإنكلترا وقناصل الدول، تمت خلاله مبايعة الأمير فيصل ملكاً على سورية وقد وضع المؤتمر السوري في جلسته التاريخية من هذا الشهر، مذكرة سياسية خطيرة قال فيها:
"إن الأمة العربية ذات المجد القديم والمدنية الزاهرة، لم تقم جمعياتها وأحزابها السياسية في زمن الترك، بمواصلة جهادها السياسي، ولم ترق دم شهدائنا ولم تثر على حكومة الأتراك إلا طلباً للاستقلال التام والحياة الحرة، بصفتها أمة ذات وجود مستقل وقومية خاصة لها الحق في أن تحكم نفسها بنفسها أسوة بالشعوب الأخرى، التي لا تزيد عنها مدنية ورقياً...".
وكان هذا حلم سعد الله لتوحيد البلاد العربية كلها، والرجوع إلى مصدر سياسي واحد يشمل سماء هذه البلاد.
ولكن... أحدث هذا القرار رد فعل عنيف في الأوساط السياسية الفرنسية والإنكليزية، وأعلن (لويد جورج) رئيس الوزارة البريطانية أمام مجلس العموم أن بريطانية وفرنسا أبلغت الأمير فيصل أنهما لا تستطيعان الاعتراف بقرار المؤتمر السوري.
وتوالت البرقيات المماثلة على فيصل من الرئيس الفرنسي ميلران واللورد اللنبي، تبلغه رسمياً قرارات مؤتمر الحلفاء المنعقد في 20 نيسان 1920 في مدينة سان ريمو الإيطالية، وقد عهد لفرنسا بموجبها الانتداب على سورية ولبنان، وعهد إلى بريطانية الانتداب على العراق وفلسطين.
توتر الجو العربي... عصفت الرياح المنذرة بالشؤم في كل مكان، سقطت حكومة علي باشا الركابي، نهضت حكومة هاشم الأتاسي، وكان من أبرز أعضائها رضا الصلح، عبد الرحمن شهبندر، يوسف العظمة، فارس الخوري، ساطع الحصري، جورج رزق الله...
في هذا العام ازدادت السحب قتامة وتصاعدت في جو مكفهر وقامت الثورات في كل مكان.
وبقي زعيم الشمال إبراهيم هنانو يتابع قيادة الثورة في الريف حيث تلاحمت مع ثورة الشيخ (صالح العلي) في اجتماع (مرعيان) في شباط 1920 في جبل الزاوية، قرب حلب التي راحت تسبح في غضب عاصف.
ولكن... ماذا يكون الموقف عندما يخرج من أبناء الشعب من يحارب أصحاب الرسالات العليا؟
كان جبل (بيلان) مسرحاً لثورة صبحي بركات، ولكن ما أن تمت الهدنة بين الأتراك والفرنسيين حتى ألقى بركات السلاح وانضم إلى الجيش الفرنسي، وخان الرسالة وأفلست قيمه الروحية والوجدانية، وبدأ يتعقب جيش هنانو ويضايقه.
وهذا هو السبب الدفين في قلب سعد الله الجابري في كرهه لبركات... الذي لجأ إلى الفرنسيين في سياسته وثورته، بعد أن طغت مصلحته على كل القضية. ورغم تحسن العلاقات فيما بعد بين أعضاء الكتلة الوطنية وصبحي بركات، فإن هنانو والجابري لم يغيرا موقفهما.
وكان سعد الله يرى أن الإنسان لن تكون لـه قيمة حقيقية بوصفه شخصية إنسانية إلا من خلال كفاحه ليكون ذا خلق وخلال حسنة.
وفي الواقع لم يكن من السهل نجاح الثورات لولا تهيئة الأجواء وشحذ النفوس وإثارة الوجدان الذي أصيب بالخدر...
وكان سعد الله يشحذ الهمم قدر الإمكان، ويبعث الحماسة في نفوس الشعب إذ عليه تتوقف الأمور وتقع مسؤوليات كبرى للتعاون مع القيادة؛ وبكل مثابرة على المبدأ المخلص، وتصلب عنيد دون تراجع في المواقف الوطنية مع النزاهة والسمو، راح سعد الله يعمل على خلق القوة اللازمة من اتحاد الأفراد والتحاقها بالقيادة، ورأى أن أية قوة على الأرض لا تستطيع الوقوف أمام أمة تملأ نفوس شعبها وقادتها قوة الإيمان وجرأة القلب ونزاهة الضمير. كما أن الحضارة تفترض أناساً أحراراً لأن بالأحرار وحدهم تتحقق الحضارة وتصنع.
شعر الفرنسيون بمن كان يحشد الطاقات ويلهب النفوس ويفجّر أطر الجهاد ويغلي مراجل المشاعر الوطنية، ولمسوا عن قرب أن سعد الله وراء ذلك كله، وآمنوا بما كان لـه من صفات خلقية ووطنية حببته إلى الشعب بل إلى العالم العربي الذي راح ينقاد لمبادئه وأول مبدأ هو (الحرية).
وكان إيمانه بنوال الحرية ـ ولو طال الزمن وتشبث العدو ـ هذا الإيمان كان يغذيه بنشاط إرادي وسط اندفاع جارف للقوى الاجتماعية وهذا يعني نمو قدرة التصميم الذاتي المستقل وسط دوافع نفسية.
وفي كتابه "الإسلام ـ وآسيا" ذكر (أوجين يونغ) أن المسيو (دي جوفتيل) ألقى خطاباً في مدينة تولي عام 1920 ذكر فيه "ليعلم الناس أن سورية ولبنان قطران متممان لفرنسا وإن ثورة بلادنا وثورة اللبنانيين والسوريين (مشتركة) ويصبح الانتداب المعزز بالقوة المسلحة معززاً بقوة أعظم هي المصالح المشتركة".
وهكذا كان... فقد قرر مؤتمر (سان ريمو) في 19/20 نيسان 1920 منح فرنسا الانتداب على كيليكيا وسورية، كما منحت بريطانيا الانتداب على فلسطين وشرق الأردن، واحتلت جيوش فرنسا دمشق وقضت على الاستقلال وأعلنت الانتداب، ووضعت يدها على زمام الأمور ومرافق البلاد.
وفي 9 تموز 1920 وقعت معركة ميسلون بين القوات الفرنسية الغازية بقيادة الجنرال غورو وبين القوات العربية التي قادها وزير الحربية يوسف العظمة، وانتهت بانتصار الجنرال غورو واستشهد يوسف العظمة وتشتت قواته، وكأن هذه المعركة قد وضعت حداً للسيادة السورية. وسرعان ما توجه الجنرال غورو وفي دمائه تغلي روح التحدي والعدوان إلى ضريح السلطان صلاح الدين الأيوبي وقال: "ها نحن عدنا يا صلاح الدين... إن وقفتي هذه تكرس انتصار الصليب على الهلال".
وفي تاريخ 13، 14 تموز أصدر الجنرال غورو إنذاراً وطلب:
1ً ـ استلام الخط الحديدي.
2ً ـ قبول العملة الفرنسية.
3ً ـ تسريح الجيش العربي.
وتحركت جيوش فرنسا نحو الشمال، واستسلمت حلب يوم 13 تموز 1920 للجنرال (دي لاموت) الذي عين كامل باشا القدسي والياً على حلب، وأعلن انفصال حكومة حلب عن حكومة دمشق.
وفي 31 آب 1920 أنشأ الجنرال غورو (المفوض السامي) بموجب القرار (318) دولة لبنان الكبير بمساحة /10170/كم2، ولكن لجان الحدود بقيت تعمل أكثر من عشرين عاماً حتى أصبحت مساحة لبنان /10400/كم2.
وقد أعلن غورو من قصر الحرش في بيروت دولة لبنان الكبير بضمان فرنسا وحمايتها. وضم إليه أقضية بعلبك والبقاع وحاصبيا وراشيا، بعد أن كانت تابعة لحكومة دمشق، وهذا العمل السياسي يجسّد معنى الاغتيال الحقوقي ووأد حرية التملك الوطني.
واحتجت دمشق رسمياً. ولكن... من يسمع؟... وتوالت التقسيمات تباعاً، ففي 8 أيلول اصدر المفوض السامي إعلان حلب دولة مستقلة باسم دولة حلب، لها علمها الخاص وتنتهي حدودها الجنوبية عند الكيلو 115 أي بعد خان شيخون.
في هذه الفترة بالذات كان الملك فيصل قد أبرق إلى اللورد (كرزون) وزير الخارجية البريطانية ـ بواسطة اللورد (اللنبي) موضحاً أن هدف الفرنسيين إخراجه من سورية وإرغامه التخلي عن العرش، ومما قاله في البرقية: "أنا لا أرغب في البقاء في هذه البلاد مهاناً ذليلاً، ولا أطيق الذم الذي يوجّه إلى أمتي من غير حق".
وفي مساء اليوم نفسه جاء الكولونيل (تولا) وسلم الملك فيصل كتاباً باسم الحكومة الفرنسية جاء فيه: "أتشرف بإبلاغ سموكم الملكي قرار الحكومة الفرنسية أنها ترجو منكم أن تغادروا دمشق بأسرع ما يستطاع، بسكة حديد الحجاز مع عائلتكم وحاشيتكم، وسيكون تحت تصرف سموكم والذين معكم قطار خاص يبرح محطة الحجاز بدمشق غداً 28 تموز الساعة الخامسة صباحاً".
وذهب فيصل وجرى وداع لـه، وذهب معه ساطع الحصري والدكتور عبد الرحمن شهبندر. غادر الملك إلى درعا في قطار خاص حمله إلى حيفا، ثم توجه في باخرة متجهة نحو إيطاليا وكان معه إحسان الجابري وساطع الحصري ونوري السعيد وتحسين قدري.
وانطوت صفحة جهاد وتضحية في أول خطوة تخطوها سورية نحو التحرر، وانطوى أمل سعد الله في أن يكون الملك فيصل هو الرمز لوحدة البلاد العربية.
وتوالت التقسيمات باستمرار... ففي 23 أيلول أصدر المفوض السامي (الجنرال غورو) قراراً بإنشاء دولة العلويين على أن تكون اللاذقية عاصمة لها، كما جرى تعيين الحدود السورية الفلسطينية باتفاق (فرنسي ـ بريطاني) وقع في باريس بتاريخ 23 كانون الأول 1920. على أن الكارثة الكبرى لسورية هو حل الجيش الوطني، واعتبار أسلحته وذخائره وما لديه من أوائل غنيمة حربية....
وألّف المفوض السامي غورو حكومة جديدة برئاسة (الألشي) وألغيت من الوزارة الجديدة وزارتا الدفاع والخارجية (وهما أهم وزارتين بالنسبة للمستعمر) وأصبح المندوب السامي هو الحاكم الفعلي للبلاد.
1921:
ثم بدأت تنازلات من الفرنسيين للأتراك لإرضائهم وكسب تعاونهم. ففي 9 آذار عام 1921 وقّع (أريستيد بريان) الرئيس الفرنسي معاهدة في لندن تعيد فرنسا بموجبها لتركيا إقليم كيليكيا... وبموجب هذه المعاهدة مُنحت الأقلية التركية في سنجق إسكندرون نظاماً إدارياً خاصاً مع اعتبار اللغة التركية بالنسبة لهذه الأقلية لغة رسمية كالعربية والفرنسية.
وبعد ذلك قام الفرنسيون بتجهيز /5/ خمس حملات يقود أحدها الجنرال غورو لمحاصرة الثوار في جبل الزاوية شمال حلب. فاضطر إبراهيم هنانو لمغادرة الجبل في 12/7/1921 وبرفقته /55/ جندياً وضابطاً، غير أن أربعة من ضباطه وقعوا أسرى في أيدي الفرنسيين وقد أعدموا على الفور.
تابع هنانو سيره على جواده جنوباً في بادية الشام، يأوي إلى منازل البدو في النهار، ويسير ليلاً، حتى بلغ عمان في رحلة طويلة شاقة خوفاً من بطش الفرنسيين.
وفي عمان آواه الأمير عبد الله بن الحسين، أمير الأردن، وشاء هنانو أن يذهب إلى القدس لزيارتها رغم نصح أصدقائه بالعدول عنها، ولكنه أصر على ذلك واعتقلته هناك السلطات البريطانية بناء على طلب من القنصل الفرنسي. واحتج الأمير عبد الله إلى الحكومة البريطانية طالباً إطلاق سراح ضيفه وجاره، فلم تستجب السلطات البريطانية لطلبه، مما أدى إلى قيام مظاهرات كبيرة في الأردن، وقد أرسل هنانو مخفوراً إلى بيروت.
وهكذا غدر به الإنكليز بالاتفاق مع الفرنسيين وسلموه لهم على الرغم من كل قانون عرفي أو دولي.
نقله الفرنسيون إلى حلب وحاكموه أمام المجلس العرفي، متهمين إياه بجرائم عادية (سلب، نهب، قطع طرق، قتل).
كان سعد الله لا يفارق هنانو، وفي رفقته كان يذكي الحماسة والاندفاع للقضية الوطنية حتى في أحلك الساعات وأشدها هولاً، كان لا يغمض لـه جفن إذا كان هنانو في متاعب أو معاناة...
كيف أغفو على فراش الأقاحي
وهنانو على فراش القتاد
في هذا العام بالذات، دعا الجميع إلى عقد مؤتمر عام في جنيف أثناء انعقاد الجمعية العامة لعصبة الأمم. وفي يوم 2 آب 1921 انعقد المؤتمر في جنيف وكانت غايته توحيد الأحزاب الاستقلالية ورصّ الصفوف.
واشترك إحسان الجابري مندوب حزب الاستقلال العربي مع كثيرين في سبيل تلك الغاية، ووضعوا نداء ينشد المطاليب الآتية:
1 ـ الاعتراف بالاستقلال والسلطان القومي لسورية ولبنان وفلسطين.
2 ـ الاعتراف بحق هذه البلاد في أن تتحد معاً بحكومة مدنية مسؤولة أمام مجلس نيابي منتخب من الشعب وأن تتحد مع باقي البلاد العربية المستقلة.
3 ـ إعلان إلغاء الانتداب حالاً.
4 ـ جلاء الجنود الفرنسيين والإنكليز عن سورية ولبنان وفلسطين.
5 ـ إلغاء تصريح (بلفور) المتعلق بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
لم تثمر هذه المساعي في الوقت الذي وقع فيه (فرانكلين بويون) اتفاقية أعطت فرنسا بموجبها لسكان إسكندرون وأنطاكية الحق برفع علم يحتوي على الألوان والشعارات التركية. وفي 20 تشرين الأول 1921 تنازل كذلك (فرانكلين بويون) عن أغنى إقليم في شمال سورية، يشكل المسيحيون أكثرية السكان فيه، وهو إقليم (كيليكيا) والذي يمتد فوق مساحة خمسين ألف كم2 من الأراضي الخصبة.
1922:
وبعد ذلك اتجه المفوض السامي من جديد إلى السياسة الداخلية وأمر بأن تجرى محاكمة الزعيم هنانو. وفي 15/5/1922 ـ وكان عام التحدي والكبرياء ـ انعقدت محكمة رهيبة، ولكن هنانو لم يرهبها وكان كل الحكام من الفرنسيين العسكريين، (فهم الخصوم وهم الحكام) وكان سعد الله لا يغيب، عن تلك المحاكمة العلنية...
وافتتحت المحاكمة... وحين قال رئيس المحكمة (المجلس العسكري) للزعيم هنانو: "إن الشعب السوري لم يطلب منك إعلان الثورة: فهل يمكنك أن تأتيني بشخص واحد سوري كلفك هذه المهمة؟".
وهنا فرق السكون الذي ران على جو المحكمة صوت شاب أنيق وقف ليقول بلغة فرنسية، بعد أن فجّر ألمه جرأة وإقداماً: "يا سيدي الرئيس... أنا أدعى سعد الله الجابري، من أبناء هذا البلد ومن مثقفيه... أنا والألوف معي كلفنا إبراهيم هنانو مقاتلة فرنسا التي دخلت بلادنا دون حق، ومن حقنا أن نقاوم الاحتلال الأجنبي بقوتنا المسلحة، وإن المجرم يا سيدي الرئيس هو من يعتدي على سلامة الناس وحرية الشعوب لا ذلك الذي يدافع عن استقلال بلاده ويجابه حراب السنغاليين في سبيل تحرير أراضي آبائه وأجداده. إننا نحن الذين طلبنا من الزعيم الكبير مقاتلتكم ونحن لن نتخلى عن مقاتلتكم ما دام فينا وطني واحد، حتى تخرجوا من بلادنا".
دوّت قاعة المحكمة بالتصفيق، فغضب رئيس المحكمة وصاح بالحراس: "أوقفوا كل من صفق هنا"، ثم التفت إلى سعد الله الجابري وقال لـه: "تلك هي نظريتك، ولكن إبراهيم هنانو قتل وفتك ودمر، فماذا ترى في ذلك؟".
فردّ الجابري: لقد أعلن إبراهيم هنانو الحرب عليكم باسم الشعب السوري العربي، والقتل والفتك والتدمير نتيجة طبيعية للحرب التي خضتم غمارها.
فقاطعه رئيس المحكمة قائلاً: "شكراً لمعلوماتك التي نحن بغنى عنها".
وانتهت المحاكمة بعد صراع مرير بين الحق والباطل...
هذه الجرأة الكبيرة في ذلك الوقت كانت مبعثاً لثقة الشعب بسعد الله وكان الوطنيون لا يقضون أمراً إلا بإرشاده ورأيه... ويصف شاعر سورية عمر أبو ريشة موقفه هذا ويقول:
ما نسيناه يوم جيء بإبراهيم=بين الحراب والأجناد
وتلقته سدّة الحكم خجلى=منه، من جرحه، من الأصفاد
وهجان القضاة تلمع في أحدا=قها الزرق مدية الجلاد
سألوه عن صحبه فأبى أن=يقفر الغاب من حمى الآساد
فسرى الصمت يحبس النفس المت=عب في رهبة القضاء البادي
وإذا زأرة يموج لها الجمع=وتدوي صخابة الأرعاد
وإذا سعد الأبي مطل=ثابت العزم مطمئن الفؤاد
صاح: إني فرندُ كل حسام=شهرته كف العلا للجلاد
كيف أغفو على فراش الأقاحي=وهنانو على فراش القتاد
أنا زودته بما ألقت الأيا=م فينا من عدة وعتاد
فاغسلوا ذل كيدكم بدمائي=واحملوا هامتي على الأعواد
حبذا الموت إن رأيت على=موتي حياة لأمتي وبلادي
أمام تخوف الفرنسيين من تخطيطه ونشاطه، بدأت سلسلة طويلة من القهر والإذلال بإصدار أوامر وأنظمة تقيد كل فكر وحركة.
وراحت سورية تغرق شيئاً فشيئاً تحت نير حديدي ظالم، وبدا هدف الاستعمار واضحاً، وهو تفريق البلاد والمحافظات وعزل بعضها عن بعض إدارياً ـ واجتماعياً وإقامة حواجز وحدود بين فكر وفكر وعائلة وعائلة.
ولعل سياسة تمزيق الأوصال في الجسم الواحد، يضعف بل يميت هذا الجسم، ولا سيما عندما يغذى جزء على حساب جزء آخر. وبسياسة التفريق والمحاباة، وتدليل بعض العناصر وإغرائهم بالوظائف والرشاوى، استطاعت السلطة أن تشتري بعض الأفراد بينما صعب شراء البعض وصعبت مساومتهم.
وعندما انتهت المناوشات بين فرنسا وتركيا في كيليكيا وتم التفاهم بينهما عقد مؤتمر في لوزان ـ سويسرا، لحل قضايا الشرق.
فتوجه الأمير شكيب أرسلان وإحسان الجابري إلى استنبول في شهر تشرين الثاني واتصلا بالسياسيين الأتراك ليبقى التنازل عن البلاد العربية للعرب ذاتهم، لا لفرنسا؛ ولكن تركيا رفضت وتمردت، فقويت فرنسا بهذا الرفض وراحت تلجأ إلى سياسة التفتيت والتقسيم... وأصبح الشعب السوري الذي لا يملك جيشاً ولا سلاحاً كالتائه على صدر الرصيف يهاجر من استعمار إلى استعمار.
وسارت السلطة على مبدأ (فرّق تسد) في كل مسالكها، وقسمت سورية إلى دويلات أربع وهي: دولة دمشق، دولة حلب، دولة العلويين، دولة جبل الدروز وأمام تقطيع الأوصال التعسفي راح سعد الله يسعى لجمع الكلمة، ولكن السلطة الاستعمارية راحت تراقب تحركاته وتتجسس على تجمعاته، بيد أنه لم يبالِ فمضى يشيع في النفوس تقبل مبدأ (الوحدة) بين المحافظات والتي لا يمكن لإحداها أن تستغني عن الأخرى.
ولكن الفرنسيين زادوا في الضغط، وأوجدوا المحاكم المختلطة وأكثروا من الأزلام والعملاء لاسيما من الطوائف المختلفة، وكان سعد الله يستغرب سياسة التفريق التي تقوم على أساس الأديان، وكان يقول: "في العراق مذاهب دينية كثيرة، ولكنهم لم يقسموا البلاد تبعاً للمذاهب والعرق، ولم يكن اختلاف الأديان في سورية يقوم بوجه الوحدة والاتحاد".
ولم يكتف الفرنسيون بسلوكهم هذا وإنما زادوا في التحدي إذ عمدوا إلى عملية تخريبية وهي غسل الأدمغة وتفريغ الشعب السوري من الداخل. وأدمغة الجيل هي (الغاية) الاستعمارية، فعندما تملأ هذه الأدمغة بقيم ومفاهيم لا جذور لها ولا أساس في تكوين الفرد السوري وتربيته، فسوف يشب الجيل كما يريد التبشير المدرسي الاستعماري، والذي خلق في الواقع، جيلاً مضطرباً مخلوعاً من تراثه وروابطه واتصالاته النفسية والاجتماعية، لأن برامج التدريس في الأصل وضعت بنهج استعماري...
وكثرت المدارس هذه والتحق كثير من أبناء الشعب بها، حتى نشأت فئة ترعرعت في معاهد الأجانب وهي بعيدة جداً عن التفكير القومي الصحيح والانتماء إلى الوطن والجذور؛ واتجه التدريس نحو تمجيد فرنسا، وكرست كتب التاريخ لدراسة تاريخ فرنسا وبعض البلاد التي غفت تاريخياً ونامت حضارتها، كبلاد الفرس وبابل وآشور، وألغي تدريس التاريخ الوطني لخلق فجوة بين حاضر وماض، ولحق الأذى فكر التلاميذ، إذ نشؤوا وأفكارهم وقلوبهم مزروعة بحب فرنسا وحضارتها؛ ويشهد الكثيرون حتى من الأساتذة الذين أرغموا على تدريس هذه المواد؛ كيف أن الطالب يعرف عن ظهر قلب كيف يرسم خريطة فرنسا، ولكنه يجهل أن يرسم خريطة سورية أو أي بلد عربي آخر...
ونتيجة لذلك غسلت الأدمغة، وبعدت المسافات بين الجيلين وذاب التجانس في الرأي والمواقف واضمحلّت المفاهيم المتقاربة والمتوحدة، وضاع فهم الأمور على حقيقتها.
وهكذا استطاع الاستعمار الفرنسي أن يحدث شروخاً في نفسية الشعب الواحد، وأن يحدث اختلالاً في التوازن الاجتماعي القائم؛ وظهرت ارتكاسات اعتقادية وسياسية متنافرة بين الأفراد. ولكن الشعب تابع نضاله من أجل الوحدة بين المحافظات.
وفي 22 حزيران أعلن مجلس الاتحاد الوحدة التامة لسورية بناء على تقرير فاخر الجابري كما أعلن عن المجلس التأسيسي بناء على طلب الحكومة، وبعد شهر تقريباً، وفي 24 تموز 1922 تقرّر في عهدة لوندرة (صك الانتداب)، وقد جاء في مادته الأولى:
ـ تضع الدولة المنتدبة في خلال (3) سنوات تبتدئ من دخول هذا الانتداب دور التنفيذ، دستوراً أساسياً لسورية ولبنان وهذا الدستور الأساسي يوضع مع السلطة المحلية. ويجب أن يراعي فيه حقوق وأماني جميع السكان القاطنين في البلاد المذكورة.
يقول سعد الله الجابري:
"هذا الصك في ثلاثة أرباع مواده ـ إشارة واضحة للتنقيب عن الآثار ولذلك كان حذراً وقلقاً في رؤاه المستقبلية. فقد تكون هذه المواد جسراً لسيطرة سياسة من نوع جديد. ونصت المادة الخامسة من هذا الصك على أن المزايا والحصانات التي كان الأجانب قد حصلوا عليها سابقاً لن تكون نافذة تحت الانتداب؛ ولكنها تعود بمجرد زواله؛ وهكذا فإن صك الانتداب أعطى فرنسا وبريطانيا العظمى حق التدخل في الشؤون الداخلية حتى بعد زوال الانتداب".
وتابع غورو سياسته في تمزيق سورية حيث أصدر قراراً بتاريخ 24 تشرين الأول 1922 أقام فيه دولة الدروز ـ ولم يكن عدد سكان الجبل وقتئذ يتجاوز 40 ألف نسمة.
ذكر الكاتب السياسي باتريك سيل "Patric Seal" في كتابه "بلاد العرب The Arab Countries" رأي سعد الله في سياسة شاءت أن تقضي على البلاد العربية؛ يقول سيل (مترجماً) رأي سعد الله: "إن تجزئة سورية، يتعارض مع بنيتها السياسية والطبيعية والجغرافية وقد كانت التجزئة نتيجة لتحالف قوى أجنبية، تمت بشكل سري وعلني وفرضت على الشعب السوري بالقوة.
والسوريون، كباقي العرب المخلصين، يرغبون في الوحدة خاصة في هذا العصر الذي يشهد ذوبان الكيانات الصغيرة، والقضية السورية تشمل أربعة كيانات هي: سورية، لبنان، فلسطين، وشرق الأردن.
وهناك عوامل أساسية تأخذ دورها في تشكيل مطالب الوحدة في المنطقة، بغض النظر عن شكل الوحدة المنشودة، وهي التي وجهت نضالنا في السابق ضد جميع المعيقات.
وبعد مضي عشرين عاماً أضحت كل دولة تعيش على نمط عوّدت شعبها على أن يناسب أسلوب معيشته الحاضرة وحسب قيمه الخاصة.
وتبعاً لهذا التغير المفروض، تعين علينا أن نغيّر سياستنا طبقاً لهذا التغيير المستجد وذلك بأن نسعى لقبول التسوية وإقناع الطرف الآخر بذلك؛ على أن تبقى دمشق (العاصمة) وأن يكون الحكم فيها جمهورياً؛ ونحن نصرّ على الوحدة على أن نترك اختيار شكلها للمواطنين.
إن شعب لبنان بما فيه من أقلية مسيحية وغالبية إسلامية وذلك في المناطق التي ألحقت بلبنان بعد الحرب الكبرى، يرغبون في الانضمام إلى سورية دون قيد أو شرط، ونحن نتوق إلى إقامة سورية الكبرى، وإلغاء التقسيم المفروض علينا بالقوة، وبالمنافع الأجنبية وطمع خصوم سياسيين؛ ونحن نريد الوصول إلى هذه الغاية بكل وسيلة ممكنة، يختارها أهل المناطق المسلوخة عن سورية، ونحن لا ننكر العقبات الكبيرة التي تعيق حركتنا. يقول سعد الله: "إن هذا الشكل من التعاون بيننا وبين لبنان، يمكن أن يتخذ مثالاً يُحتذى لشكل التعاون بين بقية المناطق التي سلخت عن سورية؛ إلى أن تتم الوحدة وتنتهي هذه التجزئة التعسفية... وفي الواقع فإن تقسيم سورية قد أخّر نموها وتقدمها وغيّر موقعها من مكانها الصحيح. ومن خلال رغبتنا في تحقيق هذه الوحدة، بالإقناع المسالم والتفاهم المتبادل نود أن نؤكد على ضرورة إبقاء دمشق عاصمة والنظام جمهورياً لكل المؤسسات القائمة على سورية".
1923:
ولكن على الرغم من المساعي السياسية كلها والمؤتمرات جميعها بين البلاد العربية، فقد أعلن تطبيق صك الانتداب في سورية ولبنان في 5 تشرين الأول 1923، أيام الجنرال (ويغاند).
بيد أن فرنسا لم تقم بتعهدها وفق صك الانتداب، بل تمادت في حكمها المباشر محتفظة لنفسها بحق التشريع والتنفيذ، وكان سعد الله يكتب العرائض، عرائض احتجاج على حق الانتداب؛ ولكن الاستعمار سادر في حركته السياسية التي رسمتها الدول العظمى.
ترى هل أخذت فرنسا بعين الاعتبار احترامها ومراعاتها لحق الشعب وأمانيه وهل كان يسمح للوطنين الإعراب عن رأيهم سلباً أو إيجاباً؟ في الواقع... كان عام 1923 مسرحاً لثورات كثيرة، ولم تنطفئ نار الثوار وحسب تصريح الجنرال (ساراي) المندوب السامي الثالث لسورية ولبنان قال: "لقد قامت في سورية ولبنان عام 1922 خمس وثلاثون ثورة ودفن فيها من الجيش الفرنسي /5/ آلاف جندي".
1924:
وفي هذا العام وافقت عصبة الأمم في 29 أيلول على صك الانتداب في قصر سان جيمس في لندن؛ وكان سعد الله الجابري في حلب؛ وأراد أن يفجّر إطار الإمكان الإنساني والوطني لدى الحلبي، وراح يسعى لتهيئة النفوس ويجمع المخلصين للقضية ـ حتى بدت وكأنها هوس وطني مضفور مع أواصر الحياة....
بيد أن الخوف من السلطة الفرنسية كان مسيطراً على النفوس، والخوف على الراتب كان يقلق البال، قال سعد الله: "إن أكثر الناس في حلب يودون الذهاب للسلام على ملك الحجاز ولكن الخوف مؤثر عليهم".
وراح بعض الوطنيين يسعون معه لتمكين قيام الوحدة؛ وضم شمل المحافظات التي سلخت، وكان أن سافر عبد الرحمن الشهبندر إلى أميركا، ووجه نداء إلى الشعب الأميركي يطلب فيه وحدة سورية ويرفض الصهيونية، وذكر سعد الله في يومياته: "قرأت أن عبد الرحمن الشهبندر قد عاد، واستقبل من الشعب، ولكنه أنزل من قبل السلطة في محطة (القدم) عوضاً عن محطة الحجاز كي لا ينطلق ولا يكدر... ولكنه خطب بالشعب، ورأيت بين سطور الخطبة شيئاً من الجرأة بالمطالبة بالاستقلال والحرية، أرجو أن يكون زعيماً حقيقياً للبلاد...".
وأرسلت ثلاث برقيات للشهبندر تهنئه بالوصول كما أرسلت برقية لعبد الحميد كرامي في طرابلس الشام ولشكري الجندي في حمص لعودتهم من منفاهم وهذه صورة برقية للشهبندر: "سرت البلاد بمقدم ابنها البار وركن وحدتها واستقلالها؛ لازلتم حاملي لواء الجهاد المفدى المقدس".
واستبشر سعد الله خيراً إذ انعقد أمله براقاً في شخص عبد الرحمن الشهبندر، ولكن ازداد ضيق الاستعمار من نشاط سعد الله وتحركاته فحاولوا استمالته وتقريبه منهم، ولكنه لن يخضع لمستعمر؛ قالوا عنه إنه عنيد متصلب، ويذكر سعد الله في يومياته: "نقل إلي الطبيب صبري فرح أن الفرنسيين يعيروني (كالخشبة) لا تقبل المرونة؛ ويريدون المذاكرة، ولكنها تبدو صعبة معي... فأجبته: "هم الذين رسوا هذه الخشبة واضطروها لترك مرونتها بشرائط سياستهم وإدارتهم المتحضرة".
"والواقع أنه لا يمكن أن يمر يوم ولا نرى ولا نسمع ما يزعجنا، بما يأتيه الفرنسيون في البلاد، دعت التجار لتسألهم رأيهم في الوحدة، فما كانت توجه سؤال الوحدة إلا وتضيف إليه من التهديد والتخويف بأساليب مختلفة لكي يكون الجواب سلبياً؟ فمن جملة ذلك لما سألت عبد القادر جزماتي وكوزم وهما من أغنياء التجار في حلب أضافت قائلة: دمشق واردها أقل من وارد حلب فحلب تضطر للبذل وإنفاق واردها على دمشق؛ وبذلك ستضيع ثروتها بغير موضعها؛ فهل تطلبون الوحدة؟ أمام هذا السؤال والتهديد، وأمام التاجر النفعي الخائف لابد وأن يكون الجواب سلبياً ومع ذلك فالأمر كله كان خديعة؛ وما تريده فرنسا هو إسكاتنا عن مطاليبنا، ولكن إن شاؤوا أو أبوا لابد أن يأتي يوم ننال ما نتمناه رغم أنوفهم".
وبدأ سعي جديد وأسلوب جديد في التعامل مع بعض الشخصيات، في سبيل إيجاد توازن جديد؛ وفي تصور سعد الله أن يتعاون الأفراد في تكامل اجتماعي وسيكولوجي ليظهر للفرنسيين أن أهل حلب يد واحدة وصوت واحد. قال: "يشاع بأن الوحدة تقررت بين الولايتين حلب ودمشق، ولكن دون أراضي اللاذقية، وما عدا أراضي اسكندرون وإنطاكية، لم أفهم معنى هذا إلا ما هو مأمول من الفرنسيين، ومع ذلك أرضى بالوحدة التي أطلبها أنا، ولو كانت بين دمشق وحلب...".
"قرارات...! ونعمم القرارات... ولكن هل ينفذونها؟ أم تهمل كبقية القرارات...؟"
يقول: "أتاني كتاب من حسني البرازي، يكلفني الذهاب إلى عمان، وهذه نيتي وقصدي، ولكن مشاغلي وقلة دراهمي... كيف العمل بهم؟".
كان ينفق من جيبه الخاص ما يستطيع "أرسلت برقية إلى الملك وحفظت الأصل عندي، ودفعت /704/ قروش سورية، ولم يتبرع أحد من أصحاب الإمضاء بشيء.."
كان ينفرد بحمل المسؤولية، وإرسال البرقيات على نفقته الخاصة؛ يقول: "كُلفت بالسفر وكنت أود ذلك من صميم نفسي، ولكنني أخاف من الشغل العالق بي وهو مشكلة الوقف قاتل الله هذه الأمور تنسي الإنسان أفعاله الوطنية وواجباته".
وعندما كان يقارن بين الحركة والتحرك الوطني في حلب وغيرها من المحافظات؛ كان يرى أن المحافظات تنشط وتعمل، ما عدا حلب التي لعبت بها الأهواء والنوازع السيئة، بحيث فرقت حتى بين الأهالي في الحي الواحد، وأضاعت كلمتهم ومزقت وحدتهم، وخلقت بينهم كثيراً من الجواسيس حتى من بين الفئة المثقفة من أهالي حلب.
"واليوم مساء في اجتماع أحد الجوامع، جمعتنا الصدف مع بعض العلماء، فطلبت إليهم أن يهنئوا الملك حسين بقدومه إلى سورية، فما رأيت منهم إلا الاستنكار معللين بأن هذا الرجل غير محبوب من الناس؛ بدعوى أنه كان ضد الأتراك؛ وأبدى هذه الفكرة الشيخ أحمد الزرقا ولكن ذلك كان تفسيراً لآرائه لا الشعب".
وأدرك الفرنسيون ذلك حتى صرح مدير الاستخبارات الفرنسي عندما قال لنجيب الريس: "إياك والشغل بالسياسة هنا في حلب؛ لأن حلب غير دمشق، ما يجوز هناك لا يجوز هنا؟ لا تفسد الأهالي، ولا تعلمهم أفكاراً هم بعيدون عنها".
وحار الفرنسيون وكان لابد لهم من أن يوقظوا حركة تفسد ما بين الشعب، وبعدما أعلنت الوحدة الكاذبة أوعزوا إلى بعض الأشخاص في حلب بأن يطالب أن تكون حلب (عاصمة الدولة) وهذا أمر لابد من أن يصيب هوى في نفس كل حلبي؛ لأن المنفعة تقضي بذلك، والناس لا تدرك أن هذا العمل مناورة للإيقاع بين دمشق وحلب، ويكون ذلك واسطة للإدعاء بأن الشعب ممزق ومفرق لا يتفق على شيء حتى ولا على العاصمة([3]) ولا يملك وحدة الكلمة.
وكبرت الشائعة وراجت، وفرح بعض الحلبيين بجعل مدينتهم عاصمة و"الشائعة قوية في قضية العاصمة ونقلها إلى حلب، حتى جرائد دمشق تكتب ذلك، فإذا تحقق هذا دل على أن الفرنسيين يصارحوننا بالتلاعب([4]).
وفي الواقع بدأت الأهواء الشخصية تلعب في نفوس الشعب المستسلم للواقع المريض طمعاً في قضاء مصالحه؛ وكان هم فرنسا الوحيد أن تزعزع الثقة في التفكير الفردي المستمر بكل الطرق والوسائل، وتراها نجحت لحد كبير لاسيما وقد استمالت شخصيات كبيرة إلى جانبها. وقد شبّه سعد الله وضع سورية في ذاك الحين للأندلس أيام الانحطاط قال: "الله يأخذ بيد هذه الأمة التي أصبحت كالأندلسيين أيام انحطاطهم تتقاذفهم مطامع الأجانب وتضاربهم بعضهم ببعض"([5]).
وإذا كانت الحضارة في جوهرها أخلاقية، فإن الأخلاق فسدت وأصابتها الميوعة ودخلت المنفعة قلوب الناس وأوصلت الشعب إلى واد غير ذي قرار. وأراد الفرنسيون من جديد أن يزيلوا الروابط الأخوية بين الأفراد فدخلوا عليهم من باب الدين حيناً ومن باب التنافس الوظيفي حيناً آخر، ومن باب المراكز الحساسة في قيادة البلد! وهذه كلها أسلحة فتاكة، إلى جانب إفساد الذمم والضمائر مع تفقير الشعب والتقتير عليه، وإلى جانب تأليب عناصر الفتنة والخراب والتخريب بأيد مجهولة وشحن النفوس بالقهر والإذلال أمام مخالفات بسيطة، لا تشكل أي جرم أو جنحة في الأحوال العادية، وهكذا كانوا يثيرون المواقف ويشعلونها دون أن تتلوث أيديهم...
وكان الباب الخطر الذي دخلوا منه هو باب الدين فرغم أن الحلبيين كانوا يعيشون بانسجام وحب مع الأقليات والطوائف كلها؛ فقد تمكن الفرنسيون وقد نبتوا في كل مكان، من ذر الغبار في عيونهم، وزرع النكد بينهم؛ وأرادوا بذلك تفرقتهم عن طريق الدين (وتلك نقطة حساسة جداً لأنها تتعلق بالمزاج والكرامة الشخصية عند كل فرد).
ولجأ الفرنسيون إلى أساليب وطرق منوعة لتفتيت الشعب من الداخل عن طريق أخلاقه ودينه وراح ينتظر ارتكاس الشعب وردود أفعاله.
يذكر سعد الله في يومياته: "شاهدت البارحة أمراً يدل على ما للفرنسيين من التعصب الديني، ويتظاهرون في بلادهم بإنكاره، وهو أن مطران الكلدان النازل في أوتيل بارون، ذهب إليه الجنرال الفرنسي، فأركبه سيارته وأجلسه إلى يمينه، وأوصله حتى النزل؟ ونزل قبله وودعه بكل احترام وعاد".
"أمر تافه لأول وهلة... ولكن لو قسنا هذه المعاملة بما يعامل به المفتي والقاضي وبقية علماء الإسلام، وما يصيبهم من الإهانة والاحتقار منه ومن بقية السلطة "لاتضح الفرق في المعاملة وفي التعصب"([6]).
هذه بعض مظاهر التفرقة وإشعار فريق بتميزه على فريق آخر حتى أصبح هذا التفريق رسمياً؛ في مذكرات سعد الله الجابري قوله: "اليوم 1/1/1924 اليوم عيد رأس السنة عند الغربيين، وأجري لـه احتفال في دوائر الفرنسيين، وعطلت دوائر الحكومة على الإطلاق؛ وصار لـه مظهر كبير في هذا البلد؛ ولم يكن لـه في الأول كذلك؛ لا أقول هذا لسبب يبنى على التعصب الديني مطلقاً، بل مما يدل على تسلط الفرنسيين على البلاد وأزالوا صبغتها؛ كنا نبتهج بأعياد المسيحيين أكثر منهم، ولكن هذا الأمر لم يكن([7])".
وفي الواقع ليس لدى الجابري أي تعصب ديني؛ والدليل أن رفقاءه في الجهاد وفي المواقف الوطنية، بل حتى في الانتخابات فيما بعد، كانوا من المسيحيين، فهناك أدمون حمصي وميخائيل ليان وسليم جنبرت وكان يعتمد عليهم في مواقف كثيرة.
وأدرك سعد الله أن فرنسا تسعى بإلحاح إلى التفرقة الدينية في سبيل تفكيك الأسرة السورية وفتح هوة بين الأقليات؛ وتعريض المسافات وإكثار الفروق بين مختلف الطبقات، لأنها تريد أن تجزئ سورية باسم (الأقليات) والطوائف والأديان، على الرغم من أنها لا تطبق سياسة التفريق العنصري على أرضها وفي بلادها. إنها تخلق سوء التفاهم بين الأقليات وتدعو إلى تفريغ البعد التاريخي، بيد أن فلسفة الشارع، التي تنبع من عمق المشاعر والأحاسيس الشعبية المتأصلة، والتي يشعر بها الزعماء المخلصون، هي التي تتجلى بالأغنيات و(الشديات) وتنطلق بها أفواه وحناجر الشعب والمتظاهرين، وهي تنادي بحماسة شديدة: "بدنا الوحدة السورية، إسلام ومسيحية".
أي أن الشعب في الواقع لم يفرق بين إسلام ومسيحية، وذلك دليل على روح الإخاء المنتشرة بين المواطنين.
ولكن السلطة لا تزال تتخذ مختلف الأساليب للتفرقة النفسية بأسلوب تعسفي، حتى استطاعت أن تفتح فجوة بين الإسلام والمسيحية عندما علقت ـ رسمياً ـ الأعلام الفرنسية على المؤسسات والمدارس يوم عيد المولد النبوي وكأنه عيـد الميلاد المسيحي: ولما اعترض سعد الله وانتقد مدير إحدى المدارس أجابه: "أنا تحت الحماية الفرنسية والبلاد كذلك".
كما رغبت السلطة في "مسايرة السياسة المسيحية التي أخذت تسير بكل متانة واطمئنان بحيث لا يعزل مأمور أو يستقيل إلا وينصب مكانه مسيحي، ونحن لا نقول شيئاً"([8]).
وامتدت هذه السياسة إلى خارج الحدود السورية ووصلت لبنان؛ فبعد أشهر قلائل استطاعت السلطة أن تمزق وحدة الإخاء الدينية وبشكل رسمي، أيضاً؛ بحيث فرقت بين المسلمين والمسيحيين بعيد استقلال لبنان الكبير، "وعلى ما يظهر أن اللبنانيين أنفسهم ليسوا براضين عن ذلك، بعد أن شعروا بضغط الضرائب والإدارة، ولم تكتف السلطة بهذا العمل، بل أعطت لهذه الدولة صبغة مسيحية رسمياً؛ فتغلق الحكومة وتتوقف الأعمال يوم الأحد، وتعيد بالأعياد الرسمية المسيحية... هذا ما وصلنا إليه"([9]).
وبعد مدة استفاقت بعض الجرائد حتى أن "الرأي العام كتبت مقالاً هاماً طالبت فيه بحقوق المسيحيين بلبنان"([10]).
وفي الشهر العاشر من عام 1924، فاز الموارنة والفرنسيون، والأصح الإكليروس والمفوضية، بانتخاب المجلس التنفيذي في بيروت، انتخبوا (ادّه) مرشحهم وديست الطائفة الإسلامية، وهذه الطائفة حائرة في أي طريق تسلك؟ الإئتلاف مع السلطة؟ أم التباعد عنه؟([11]).
والخلاصة، كان سعد الله يسعى إلى إقامة التوازن بين المصالح لدى الإسلام والمسيحية عن طريق (الشمولية الإسلامية) التي تستهدف تحقيق المقصد الأول للشريعة وهو (العدل) وبذلك لا تترك الضعفاء فريسة للأقوياء ولعل هذا يحقق قول أبي بكر الصديق: "القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له".
([1]) نصوح بابيل ـ صحافة وسياسة سورية في القرن العشرين.
([2]) إبراهيم هنانو كردي الأصل، سوري الموطن، ولد في كفر تخاريم من قرى محافظة حلب
(عام 1899 وتوفى عام 1935) ودخل الثانوية في حلب، وذهب إلى استنبول وانتسب إلى كلية الحقوق الإدارية وحصل على شهادتها وتدرج في الوظائف الإدارية من مدير ناحية فقائمقام، ثم عين (مكتوبجي) في مدينة حلب، كان يتعاون مع صبحي بركات إلى أن استسلم بركات للفرنسيين، فعاداه هنانو إلى الأبد، كما عاداه سعد الله الجابري، لأن بركات في نظرهما يعد عميلاً.
([3]) اليوميات: سعد الله الجابري.
([4]) اليوميات: سعد الله الجابري.
([5]) اليوميات: سعد الله الجابري.
([6]) اليوميات عام 1924 ـ سعد الله الجابري.
([7]) اليوميات عام 1924 ـ سعد الله الجابري.
([8]) اليوميات عام 1924 ـ سعد الله الجابري.
([9]) اليوميات عام 1924ـ سعد الله الجابري.
([10]) اليوميات عام 1924ـ سعد الله الجابري.
([11]) اليوميات عام 1924 ـ سعد الله الجابري.
__________________________________________________ _______________
- يتبع -