الأولاد زينة الحياة الدنيا
داهمه صديقه القديم برفقة زوجته دون سابق موعد ... كان في أشد حالات اليأس ... وحين خلا الجو لهما جلسا معاً في خلوة من الليل يسهران ويعيدان ذكريات الأمس .
رحل مع صديقه إلى أًمسية غريبة ... تصفح معه كل مآسي الحياة ... ولا يدري كيف انتزع منه صديقه
كل همومه في تلك الليلة ....
كان يحب ممارسة هوايته لوحده ، وحاول أن يقنع ضيفه بوجهة نظره ... وأن بعض الناس يمارسون هوايتهم على انفراد أحياناً ... وهوايته هذه الليلة أن يمارس بوحدته رؤية همومه وحده ... يجلبها من مدافنها ... يستحضرها من عالم الأرواح ... يزرعها في أفكاره ... ويكتب لها
تدخل زوجته ... تقدم لهما الشاي ، ثم تجلس مع ضيفتها ... تتحادثان ... وتسترقان السمع لما يقال ....
المطر يستمر في الهطول , والهواء شديد البرودة ... فيما يلح الضيف على عبد الكريم أن يبوح له بكل أسراره , ومكنونات نفسه ...
تحدث عبد الكريم عن الكثير ... عن النجم الذي أفل ... الشمس الذي غربت والقمر الذي طمست معالمه الغيوم ... تحدث عن القهر والمرض ... عن الديون المتراكمة ... عن متطلبات الحياة التي لا ترحم .
ضيفه هذه الليلة صديق قديم , يعرف معظم أسرار , كما يعرف عنه الكثير من الأمور المخفية ... همومهما مشتركة في هذه الحياة , وهذا ما شجع الضيف على انتزاع ما بأعماق صديقه.
قال عبد الكريم في معرض حديثه : كنت أعيش الحياة بكل معانيها , السعادة والفرح ... المال ... العمل الجيد ... الأصدقاء ... الحب ... ولكن لا أدري ماذا حصل بعد ذلك , ولماذا انقلبت أموري رأساً على عقب ؟
السعادة لم تدم ... والفرح في حياتي بات كنقطة مطر ٍ في صحراء قاحلة ... منذ أكثر من ثلاث سنوات , والحالة تسوء أكثر فأكثر ... وفي لحظة ٍ هبّت زوجته واقفةً , نظرت إليه نظرة عتاب ٍ ثم غادرت الجلسة ...
كان عبد الكريم مندفعاً في الحديث , وحين تنبه لنفسه كان الليل قد أعلن نهايته ...
فاستأذن الضيف , وغادر مع زوجته تاركاً صديقه الحميم في أشد حالات اليأس !
الانحناءات ما زالت تتقوقع في أعماق عبد الكريم , وبقي على هذا الحال حتى شعر أن الوقت يمر متباطئاً , يحمل في طياته كل مآسي العالم وحطامه إنه يعرف قدره جيداً , ويراهن على أن التعاسة هي شقيقه التوأم ...
إنه يعيش متاهة الإنسان الضائع الذي فقد ظله تحت خطواته المرتحلة إلى عالم الآفاق المظلمة ... طال الليل وآثار العملية السابقة ما زالت تؤلمه , يشعر الآن أنه يعاني من نزيف حاد ...
في الذاكرة قيود أقوى من آلاف السلاسل المعلقة الأعناق ... حاول التقيؤ من فكرة التعاسة ... وشعر لوهلة ٍ أنه ارتكب خطأ ما في هذه الجلسة ... لكنه لا يعرف ما قاله حاول أن يصفي ذهنه ... لكنه شعر بالعجز التام ...
دخلت زوجته فجأةً إلى خلوته ... لقد كان بأمس الحاجة إلى إنسان يزيل عن كاهله همومه المتراكمة... قدمت له فنجاناً من القهوة , ثم مسحت دمعةً محاولةً إخفاءها , لكنه توهم أن مشكلةً جديدة قد أضيفت إلى حياته ؟!!
سألها إن كانت تعاني من شيء ... لكنها امتنعت عن الرد ... وحين ألّح عليها غاضباً ... رجفت وبكت بحرارة . قالت: صحيحٌ أنني غير متعلّمة لكنني أعي ما تقول دوماً... إني أقدر لكنك تجرحني أمام أقربائك وأصدقائك , وأشعر دوماً أن حديثك موجهاً إليّ بالذات ...
فمنذ أن تزوجتني مال حظك كما تقول ... ولازمك الشقاء , ولكنني أتساءل ماذا فعلت لك ؟! ألم تتزوجني لكي أنجب لك أولاداً ... لقد أعطاك الله ما تريد , إنك تملك ثلاثة أولادٍ هم أفضل من كنوز الدنيا ... استيقظ تفكيره فجأةً , وزوجته ما زالت تبكي تتكلم وتبكي بحرارة ... حاول عبد الكريم أن يشرح لها أن المقصود من حديثه هو الحالة المادية والصحية التي يعاني منها , وليس المقارنة بينها وبين حاله في السابق وحاله الذي تحوّل إلى الأسوأ معها.
للحظةٍ تركها , وعاد يعقد مقارنةً سريعة بين الحالتين , فوجد أنه رغم الأحوال السيّئة التي يعيشها , إلاّ أن الله رزقه بما يتمناه , أعطاه أحلى ما في الوجود , أبناءه الثلاثة... وإن كان قد أخذ منه شيئاً , فقد أعطاه الأفضل ....
تغمضُ عيناه على نور ٍ , دمعةُ زوجته الحارة تحجبُ عنه الرؤية رويداً رويداً.. يسرح في مجال فكره المحدود , وتنبلجُ بسمةٌ من بين آلامه , تصرخُ زوجته في أعماقها , إذا كنت سبب تعاستك فاطردني من حياتك إلى الأبد...
ذابت الكلمات فجأةً , وبقيت الرجفة المتألمة تحرك الشفاه , وبهدوءٍ طلب منها أن تتركه وحده هذه الليلة ... تلاشت المناظر , وتبقى صورة واحدة تملأ ذاكرته ووحدته هذه الأسرة , وهذا النعيم , بسمة الأولاد وفرحهم حين يعود للبيت ... كلمة بابا حين تنطلقُ من أفواههم ... عطية الله سبحانه وتعالى التي لم يعرف قيمتها قبل الساعة .
في الواحة الإسطوانية لا بدّ أن يتأقلم الإنسانُ مع واقعه , يشعرُ , أنه يمتلكُ الدنيا وهو يحملُ طفله الرضيع ويداعبه , هنا نداء الحياة الفكرة تنطلقُ من أبسط مواقعها كيف لم يفكّر بالسعادة الحقيقية التي يعيشها ؟ وهذا العطاء الذي قدّمه الخالق حين مَــــدَّ لـه جذور الحياة , وأنبت بذرة الخير .
لم يخطر بباله أبداً جرح شعور زوجته , وكان همّه التعبير عمَّا هو فيه من شقاء الحياة متناسياً راحة البيت وضجيج الأولاد المحبب إلى قلبه.
كانت فكرة الشقاء والتعب تحجب عن عينيه النور ورؤية السعادة الحقيقية .. كانت ترحل به إلى بلاد ملؤها الصحارى والرمال والضياع .. سرح مع ذاكرته في لحظة صفاء .
الأولاد هم السلوى الحقيقية إلى النفس الحزينة .. للحظة شعر أنَّ الشباب يدبٌّّ في عروقه .. وإنه عاد إلى عنفوان شبابه ..
ألقى نظرة على أولاده وهم يغطون في سبات عميق .. تقدَّم منهم وقبلهم واحداً واحداً ، ثم دلف إلى حجرة زوجته التي كانت في انتظاره ..
ابتسم لها وهمس في أذنها ..
اسمحي لي أن أقولها بملء فمي ..دعيني أصرخ في أعماق الحياة .. دعيني أبدِّد الصمت والظلام وأهتفُ بملء جوانحي :أيتها الإنسانة الواقفة إلى جانبي على درب الحياة ... إنك ملأت فراغي .. وهمسك هذه الليلة بدّد ظلمات حياتي ....
**********************************************