مكانة المرأة في الخطاب الأدبي العربي (١)
٢٣ أيار (مايو) ٢٠١٠بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي
«1»
ما دامت بواعث القِيَم سامية في النفس البشرية، فقد كان المفترض فيها أن تكون مشتركة بين الناس. غير أن حواجز المجتمعات، ومن ثَمّ حواجز الثقافات، قد أفرزت التمايز بين أهل كل مجتمع وثقافة وأهل كلّ مجتمع وثقافة آخرين. بل لقد أفرز العزل الاجتماعيّ التمايز داخل المجتمع الواحد نفسه، كأن تكون هناك قيمةٌ مرتبطة بالذكور دون الإناث، أو العكس. فهل القيمة مرتبطة بجنسٍ دون آخر؟ الأصل أن لا يكون ذلك كذلك. لكن الواقع يدلّ على هذا التمايز بين مجتمع الرجال ومجتمع الإناث.
إن قيمة كالشجاعة مثلاً ترتبط في المجتمع العربي بالرجل وحده؛ حتى إن "موسوعة القيم ومكارم الأخلاق العربية والإسلامية"(2) لتدلّ على ذلك بقولها: "الشجاعة التي تعبّر عن قيمة يجلّها أفراد المجتمع كبيرهم وصغيرهم، تطفو على سطح الذاكرة عند كل موقفٍ (رجوليٍّ)، يقتضي (شهامة ورجولة)." وكأن الشجاعة قيمة لا تكون إلاّ في الرجال، مع أنها تكون في النساء كذلك؛ من حيث هي خصلة نفسيّة، وذلك ما أثبتته المرأة اللبنانيّة، على سبيل المثال، خلال الحرب الأهلية في لبنان(3)، كما أثبتته المرأة عبر شواهد التاريخ. إلاّ أن العُرف الاجتماعيّ يجعل نموذجيّة الشجاعة هاهنا مرتبطة بالذكورة وحدها. ويشهد على هذا النزوع التصنيفيّ للقِيَم كذلك المجلّدُ (الثلاثون) الخاص بقيمة الشجاعة من تلك الموسوعة؛ حيث تنقل اقتران الشجاعة بالرجل عند العرب. حتى إن هذه الصفة لا توصف بها المرأة، حسب ما يزعم (ابن فارس)(4) عن (أبي زيد). "قال أبو زيد: سمعت الكلابيّين يقولون رجلٌ شجاع، ولا توصف به المرأة."(5) وتوشك هذه الصفة حين تقترن بالمرأة في لسان العرب أن تشير إلى قيمة سلبيّة من قلّة الأدب (مع الرجال)؛ "فالشجعة من النساء الجريئة على الرجال في كلامها وسلاطتها."(6) فهل ذلك لطبيعة المرأة فقط، كما حاولت "موسوعة القِيَم"(7) أن تلتمس التوفيق بين نفي الشجاعة عن المرأة واتّصاف بعض النساء بها؟ أم أن الأمر يتعدّى ذلك إلى قيمة الذكورة والأنوثة في المجتمع العربيّ أصلاً، والميل إلى عزل المرأة عن مواجهة الحياة، بحُجّةٍ ظاهرها ضعف المرأة وباطنها قِيَم ذكوريّة أخرى، وصلتْ في بعض مستوياتها في المجتمع الجاهليّ إلى وأْد البنات، وفي عصورنا المتأخّرة إلى وأْد المرأة اجتماعيًّا وثقافيًّا ومعنويًّا؟ هذا لأن من "دواعي الشجاعة وأسبابها دفع الظلم والذلّ [كذا وَرَدَ في الموسوعة، والصواب: "الذَّبّ"] عن النفس، وطلب العزّ والمجد"(8)، وليس للمرأة نصيبٌ من ذلك، إن لم يكن نصيبها بعكسه.
« 2 »
ويمكن أن يقال نقيض هذا عن قيمة أخرى أكثر ارتباطاً بالمرأة، هي قيمة "الحياء". حتى كانت الفتاة مضرب المثل في الحياء؛ فجاء في أمثال العرب: "أحيَا من بِكْر"، و"أحيَا من فتاة"، و"أحيَا من كَعاب"، و"أحيَا من مخدّرة"، و"أحيَا من هَدْيٍ"، و"أحيَا من مُخَبَّأة"(9). وتقول المرأة نفسها في امتداح الحياء في الرجل، وإن كان أصله في المرأة، حسب الشاعرة (الخنساء)(10):
وأحيَا من مخبّـأةٍ كَعابٍ
وأشجع من أبي شِبلٍ هِزَبْرِ
كما تقول (ليلى الأخيليّة)(11) عن حبيبها (توبة بن الحُمَيِّر):
وتوبةُ أحيا من فتاةٍ حَيِيَّةٍ
وأجرأُ من لَيْثٍ بِخُفَّانَ خادِرِ
وهذا ما تشير إليه "موسوعة القِيَم"(12) حينما تقول عن الحياء: "وأجمل ما يكون في النساء، وذلك حين تنكسر أنظارُهنّ وتتمارض لواحظهنّ"، مستشهدة بشِعرٍ للفرزدق. لأنه "كما أن الحياء يستر صاحبه كما يستره اللباس، فإنه كذلك يقيه قالة الناس، ويمنع عِرضه من آفات ألسنتهم وقذفه بالحق أو بالباطل، وهو بالنساء أجمل وألصق، يقول (النابغة الجعديّ) في مدح نساء بني تميم:
ومثل الدُّمَى، شُمُّ العرانينِ سَاكِنٌ
بهنَّ الحَيَاءُ لا يُشِعْنَ التَّقافِـيَا"(13)
ولذلك قد تدَّعي المرأة عدم الحياء والعفاف- كما تذكر "الموسوعة"(14)- لتُذيق الرجل طعم الغيرة، مثلما فعلتْ (هند الهمدانيّة)(15)، في رسالتها إلى زوجها، الذي تركها وذهب غازياً. وعلى كلّ حال، فكثيرًا ما يبدو أن القلم- ذا القِيَم الذكورية- يتدخّل لنفي البشريّة عن المرأة أو مساواتها مع الرجل في السلوك، إيجابيًّا أو سلبيًّا.
في مقابل ذلك جاء عن حياء الرجال في أمثال المولّدين، حسب (الميدانيّ)(16): "حياء الرجل في غير موضعه ضَعْف"، و"الحياء يمنع الرِّزْق". فكما أن الشجاعة كانت قيمة ذكوريّة، نموذجها الأعلى الرجل، فإن الحياء ظلّ قيمة أنوثيّة، نموذجها الأعلى المرأة. ولم يصبح الحياء قيمة أخلاقيّة للرجال إلاّ في الإسلام، حينما صار شُعبةً من شُعَب الإيمان، فجاء في الأحاديث الشريفة مثلاً: "الحياء من الإيمان"، و"الحياء خيرٌ كلّه"، و"إن لكلّ دِينٍ خُلُقاً، وإنّ خُلُق الإسلام الحياء"، و"إن فيك خصلتين يُحِبّهما الله، الحِلْم والحَياء"، و"كان النبيّ أشدّ حياءً من العذراء في خِدْرها"، و"إن الله حَيِيٌّ ستيرٌ يحبُّ الحياء"(17)، وغيرها من الأحاديث.
على أن قيمة كهذه هي قيمة مواربة، قابلة لأن يُنظر إليها بأهواء مختلفة، حتى إن المجتمع العربيّ قد يتصرّف فيها ليجعل ما خالف العادات والتقاليد أمرًا ينبغي أن يُسْتَحَى منه، وإن وافق قِيَم الحقّ والخير والعقل والجمال، وذلك كحياء الناس في معظم المجتمعات العربيّة من ممارسة بعض الحِرَف والأعمال الشريفة، لا لشيء سوى أنها تتعارض مع بعض العادات والتقاليد الموروثة. ولهذا كانت المعضلة متمثّلة في تربية الشعوب التي تتذرّع بقيمة الحياء في غير موضعها، فجاءت عبارات قرآنية توجيهية كقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾ (الأحزاب، 53). وأٌقوال مأثورة في أنْ "لا حياء في الدِّين ولا حياء في العِلْم"، كقول (مجاهد): "لا يتعلّم العِلْمَ مُسْتَحْيٍ ولا مُسْتَكْبِر"، أو قول (عائشة) في فضل تعلّم المرأة- وكان العِلم معيبًا في حقّ المرأة لدى العرب، أو مخشيًّا منه عليها، فضلاً عن حياء المرأة من بعض مسائله: "نِعْم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهنّ الحياء أن يتفقَّهْن في الدِّين."(18)
وتلك قيمنا، الجديرة دومًا بالمراجعة والنقد، لما يعتورها من تلبيسٍ ثقافيّ، لأغراض مختلفة ومصالح متعدّدة، ولما يُفترض أن تكون عليه من تطوّر، من حيث هي صنيعة الحياة ووليدة المجتمع، لا قوالب أبدية جامدة، صالحة بالضرورة لكل زمان ومكان.(19) وكلّ إشكاليّاتنا الثقافيّة هي بسبب ذلك التلبيس، وعدم الجرأة على المراجعة والنقد.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) هذه محاضرة ألقيتُها في قسم اللغة العربية وآدابها، كلية التربية- الأقسام الأدبيّة، جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن، بالرياض، تحت عنوان "مكانة المرأة في الخطاب الأدبي العربي"، صباح الثلاثاء 25 ربيع الآخر 1430هـ= 21 أبريل 2009م.
(2) (2000)، (الرياض: دار رواح)، 1: 57.
(3) انظر: كلاّب، إلهام، (1994)، "نسق القِيَم في لبنان"، مجلة المستقبل العربي، (مركز دراسات الوحدة العربية)، ع183، ص101.
(4) انظر: (1952)، معجم مقاييس اللغة، تح. عبد السلام هارون (القاهرة: دار إحياء الكتب)، 3: 247 (شجع).
(5) ابن منظور، لسان العرب المحيط، (شجع).
(6) م.ن.
(7) 30: 8.
(8) 30: 33.
(9) الزمخشري، (1987)، المستقصى في أمثال العرب، (بيروت: دار الكتب العلمية)، 1: 90- 91.
(10) (د.ت)، شرح ديوان الخنساء، (بيروت: دار مكتبة الحياة)، 48.
(11) (1967)، ديوان ليلى الأخيليّة، تح. خليل إبراهيم العطية وجليل العطية (بغداد: دار الجمهورية)، 80: 20.
(12) 25: 8.
(13) موسوعة القِيَم، 25: 23.
(14) انظر: 25: 71- 72.
(15) انظر: يموت، بشير، (1998 )، شاعرات العرب في الجاهليّة والإسلام، تح. عبد القادر محمد مايو (حلب: دار القلم العرب)، 232- 233.
(16) (1955)، مجمع الأمثال، تح. محمّد محيي الدين عبد الحميد (مصر: مطبعة السنّة المحمّديّة)، 1: 230.
(17) انظر: وِنْسِنْكْ، أ. ي. (ولفيف من المستشرقين)، (1986)، المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي عن الكتب الستة وعن مسند الدارمي وموطأ مالك ومسند أحمد بن حنبل، (استانبول: دار الدعوة)، 1: 542- 543 (حياء).
(18) البخاري، (1981)، صحيح البخاري، ضبط وتعليق: مصطفى ديب البُغا (دمشق- بيروت: دار القلم) 1: 60 (باب الحياء في العلم).
(19) انظر في هذا كتابنا: نقد القِيَم- مقارباتٌ تخطيطيّة لمنهاج علميّ جديد، (بيروت: مؤسسة الانتشار العربيّ، 2005).
http://www.diwanalarab.com/spip.php?article23523
مكانة المرأة في الخطاب الأدبي العربي (٢)
٢٩ أيار (مايو) ٢٠١٠بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي
(العِلم والحريّة) «الحلقة الثانية»
إن القِيَمَ الاجتماعيّة لا تتأثّر في النظرة إليها في المجتمع العربيّ بعوامل الفطرة والطبيعة حسب، وإنما تتأثّر كذلك بالنظرة الجذريّة إلى قيَم الذكورة والأنوثة. ويتّضح ذلك بالنظر إلى كثيرٍ من القِيَم العربيّة، ومنها قيمة "طلب العِلم". فلقد بدا العِلم أكثر اقتراناً بمجتمع الرجال منه بمجتمع النساء، حتى لا نكاد نجد صفة "عالمة" في تراثنا العربي إلاّ نادرًا، مع وجودهنّ. ناهيك عن أن تعليم المرأة في حدّ ذاته كان يُنظر إليه بارتياب، وإنْ بدرجاتٍ متفاوتة على مدى التاريخ العربيّ(1)، وكأنما الرجال يخشون على أنفسهم من اقتراب المرأة إلى شجرة المعرفة، وما يترتّب على ذلك من نتائج. حتى لقد قال الجاحظ(2) (-255هـ= 868م)- وهو من هو في ثقافتنا العربيّة مكانةً ومظنّة عقلٍ وعدل-: "كان يُقال: لا تعلّموا بناتكم الكتاب، ولا تروّوْهُنّ الشعرَ، وعلّموهنّ القرآن، ومن القرآن سُورةَ النور." فحتّى القرآن لا ينبغي- وفق تلك الأعراف- أن تتعلَّمَه المرأة كاملاً؛ لأن سُوَرَهُ لا تخلو من محظورات على المرأة! ولذلك نهض (العِلم) قيمة معياريّة ذكوريّة إزاء قيمة (الجمال)(3). وكأن وجود أحدهما يعكّر في المخيال العربيّ صفو وجود الآخر؛ فالمرأة المثاليّة هي المرأة الجميلة (الجاهلة)، لا العالمة ولا المتعلّمة، بل لربما ازدادتْ قيمة الجمال في المرأة لجهلها، وعِيّها، وضعفها اللغويّ والبيانيّ، على حدّ قول (مالك بن أسماء بن خارجة الفزاريّ)(4):
منطقٌ رائعٌ، وتَلْحنُ أحيا ( م )
ناً، وخيرُ الحديث ما كان لَحْـنَا
أو قول (عمر بن أبي ربيعة)(5)- وهو "دنجوان" النساء والناطق الرسمي باسم الرجل العربيّ في ما يُحبّ في المرأة من الجمال، وتخيّل ما تُحبّ المرأة من الرجال، حدًّا بلغ به في تشخيص نزوعات ذلك، الخفيّة لدى العشّاق عادة، إلى: تصوير تبعيّتها له وتغزّلها به ورضوخها لإرادته وتدنّيها عنه:
فما اسْتَجْمَلَتْ نفسي حديثاً لغيرِها
وإنْ كان لَحْناً ما تُحَدِّثُنا خَلْفا
على حين يُعدّ اللحن اللغوي عيباً ممقوتاً في الرجال، دالاًّ على الجهل والعِيّ وانحطاط الطبقة الاجتماعيّة أو المحتد، ما لم يكن في مخاطبة امرأة محبوبة، حسب قول (البهاء زهير)(6)، بعد ذلك بقرون:
بروحي من أسمّـيها بسِـتِّي
فتنظرني النحاةُ بعـَيْن مَقْتِ
يَرَوْنَ بأنـني قد قلـتُ لَحْـناً
وكيف وإنني لزهـير وَقْتي!
ولكن غـادةٌ ملـكتْ جهاتي
فلا لَحْـنٌ إذا ما قلتُ: سِتِّي!
ومن ثم فلا يُستملح اللحن من الذَّكَر إلاّ شذوذاً، أو من غير عربيّ؛ لأنه دالٌّ على وضاعة الأصل، يوم أن كانت سلامة اللغة العربيّة معيار العروبة. ولذا استحسنه (أبو نواس)(7) في ساقيه الأعجميّ "الذِّمِّيّ":
فيا حُسْنَهُ لحناً بدا من لسانِهِ
ويا حُسْـنَهُ لحظاً ويا حُسْـنَهُ ثَغْرا!
وهكذا تعلّقت قيمة الجمال- صورة لا عقلاً- بالمرأة لا بالرجل، حتى لقد اختارت اللغة أن تسمّي جمال الرجل "وسامةً"، لا "جمالاً".
ويقابل القِيَمَ الحِسّيّة التي استحبوها في الأنثى قِيمٌ ذهنيّة مستحبّة لديهم في الذَّكَر: كـ(العِلم)، و(الحكمة)، و(الفصاحة).(8) كما اختصّت الذكورة بقِيَمٍ أخرى، كـ(البشاشة)(9)، المحظورة على المرأة مطلقًا، وإن كانت تختلف في مفهومها عن "الخضوع بالقول" المنهيّ عنه في القرآن الكريم، والمشير إلى درجةٍ من التكسّر في الخطاب، بما يثير طمع الذي في قلبه مرض. هذا فضلاً عن قِيَم تبدو ذكوريّة صِرفة، كقيمتَي (الحُرّيّة)، و(الغيرة)(10). ولئن كان حديثٌ عن (حُرّيّة المرأة) قد جاء أحيانًا نادرة في المجتمع العربيّ القديم، في مثل قول فتاة:
أيُزْجَرُ لاهينا ونُلْحَى على الصِّبا
وما نحنُ والفِتْيانُ إلاّ شَقائقُ؟!(11)
فإنما يدلّ مثل هذا البيت على احتجاجٍ ضدّ واقعٍ قائمٍ من الحَيْف على النساء في الحُرّيّة. بل لقد نُسب البيت إلى رجلٍ لا إلى امرأة، وهو (جثامة بن عقيل). ومن ثمّ فالبيت يمثّل صوت الرجل لا صوت المرأة أصلاً، وهو إلى هذا، وبهذا، يدلّ على احتجاجٍ على واقعٍ قائمٍ لا تَجْرُؤ المرأةُ حتى على مجرد الاحتجاج عليه. ونِسبة البيت إلى (جثامة بن عقيل)، إنْ صحّتْ، أدلّ على ما كانت تُعانيه المرأة من ضَيم؛ وذلك لما عُرف في أسرة هذا الشاعر من تشدّد في معاملة النساء باسم الغيرة؛ فأبوه (عقيل بن علّفة) مشهور بتطرّفه المقيت في الغيرة على بناته، حتى صار مضرب المثل بغيرته، فقيل "أغير من عقيل".(12)
أمّا القول إن المرأة العربيّة قد عَرفتْ في تاريخها القديم حُرّيّة في الحُكْم والمشاركة السياسيّة، والإشارة النمطيّة إلى نماذج، كـ(بلقيس)، و(الزبّاء بنت عمرو)، وملكات الأنباط، وملكات كِنْدة، كـ(العمرّدة بنت الأعشى)، أو الإشارة إلى (هند) زوجة (المنذر بن ماء السماء)، و(حُرقة بنت النعمان بن المنذر)، و(حليمة بنت الحارث بن جبلة الغسانية)، فشواهد تدلّ على الاستثناء، الدالّ بدوره على تحوّل هذه القِيَمة في المجتمع العربيّ، حتى باتت صفة "الحُرّيّة" في المرأة تعني: "عدم الحُرّيّة". يشهد بهذا ما نُسِب إلى (عُمَر) من أنه قال للنساء اللاتي كنّ يخرجْنَ إلى المسجد: "لأردنكنّ "حرائرَ" "، أي لأُلزمنّكنّ البيوت، فلا تخرجن إلى المسجد."(13) ولا يُدرى أيّ (عُمَر) يعنون؟! أ عُمَر الفاروق؟ المضروب بعدله المثل، والقائل: "أصابتْ امرأةٌ وأخطأ عمر!" وإن كان هذا القول في ذاته- إنْ صحّ- لا يخلو من استكثار أن تكون المرأة "شجعةً" جريئةً، "تصيب الرأي"- على عكس المتوقّع- على حين "يخطئ الرجل"؛ وكأنها أدنى من أن يكون لها رأيٌ صوابٌ وأحقر من ذلك! كما لا يُدْرى أيضاً أيّ عُمَر تعني الروايةُ، أ عُمَر الذي نُسِب إليه في الحُرّيّة قوله مرّة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارًا؟!" أ فليست النساء من الناس؟! أ وليس ما نُسب إليه في حقّهن من الاستعباد؟! حتى لقد أصبحت الحريّة تعني سجنهنّ في البيوت، والعبوديّة تعني خروجهنّ إلى المساجد! أم أن المرأة ما كانت لدى العربيّ إلاّ متاعًا كالخيل والإبل، أو أقلّ؟! وما الغرابة؛ فـ(ابن قتيبة)(14)، يورد أيضًا في بابٍ يسمّيه "باب سياسة النساء ومعاشرتهن"، رواية أخرى لا تليق بعُمَر بن الخطّاب، تقول: "لا تُسْكِنوا نساءكم الغُرَف، ولا تُعلِّموهنّ الكتاب، واستعينوا عليهنّ بالعُرْي، وأكثروا لهنّ من قول لا، فإن نَعَم تُغْريهنّ على المسألة!" إلاّ أنه إذا كان العرب قد وضعوا أحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم- ملأتْ المجلّدات من المكذوبات والموضوعات- فهل يُستغرب أن تلجأ أنفسٌ مريضة إلى وضع أحاديث على أعلام صحابته، كي تُلْبِس قيمها الجاهليّة لبوساً دينياًّ معتبرًا، بعد أن عجزتْ عن أن تجد لها حجّة من نصٍّ قرآنيّ كريم أو حديث نبويّ صحيح؟!
وإذا كانت الحُرّيّة هي- كما يعرّفها المفكّرون الاجتماعيّون- مَلَكة خاصّة تميّز الإنسان من حيث هو مخلوق عاقل يَصْدُر في أفعاله عن إرادته هو، في اختيار فعلٍ أو استطاعة اختيار ضِدّه، لا عن أيّة إرادة أخرى(15)، فإن في مفهوم الحُرّيّة من العموميّة وتعدّد أوجه النظر إليها ما ظلّ يتيح فيها مثل ما أتيح في قيمة (الحياء) في التراث العربيّ من خضوعٍ لتحويراتٍ تتساوق وتوجّه الثقافة في عصر من العصور، أو أهواء الناس في مجتمع من المجتمعات.. وكلٌّ يراها من وجهته، ويوظّفها لأغراضه، رافعًا شعارها حين يكون في خدمة تيّاره.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: الفَيْفي، عبدالله، (2005)، نقد القِيَم- مقارباتٌ تخطيطيّة لمنهاج علميّ جديد، (بيروت: مؤسسة الانتشار العربيّ)، 86- 88.
(2) (1975)، البيان والتبيين، تح. عبد السلام محمّد هارون (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 2: 180.
(3) انظر: (2000)، موسوعة القِيَم ومكارم الأخلاق العربية والإسلامي، (الرياض: دار رواح)، 38: 50.
(4) ابن منظور، لسان العرب المحيط، (لحن).
(5) (1992)، ديوان عمر بن أبي ربيعة، عناية: فايز محمد (بيروت: دار الكتاب العربي)، ص229: 3.
(6) (1977)، ديوان البهاء زهير، شرح وتحقيق: محمد طاهر الجبلاوي ومحمد أبي الفضل إبراهيم (القاهرة: دار المعارف)، 49.
(7) (1982)، ديوان أبي نواس الحسن بن هانئ، تح. أحمد عبد المجيد الغزالي (بيروت: دار الكتاب العربي)، 125.
(8) انظر: موسوعة القِيَم: المجلدات 23، 38، 44.
(9) انظر: م.ن.، المجلد 11.
(10) انظر: م.ن.، المجلدين 19، 43.
(11) م.ن.، 19: 43.
(12) م.ن.، 43: 71- 00.
(13) ابن منظور، (حرر).
(14) (د.ت)، عيون الأخبار، عناية: مفيد قميحة (بيروت: دار الكتب العلمية)، 4: 77.
(15) انظر: إبراهيم، زكريا، (1966)، الأخلاق والمجتمع، (القاهرة: مكتبة مصر)، 18.
http://www.diwanalarab.com/spip.php?article23602
مكانة المرأة في الخطاب الأدبي العربي (٣)
٥ حزيران (يونيو) ٢٠١٠بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي
(الأب / القبر)
تلعب العادات والتقاليد أدوارًا عميقة في ترسيخ القِيَم، بخيرها وشرّها، حقّها وباطلها، عادلها وظالمها، ومنح تلك القِيَم من القداسة في النفوس ما يجعلها تستحيل مع الزمن إلى محرّمات اجتماعيّة، تابوات ، يُعدّ نقدها، أو الدعوة إلى مراجعتها انتهاكًا لما يُحظر الاقتراب منه أو مسّه. وفي القِيَم العربيّة إلى ذلك ما ينظر إليه بحسب الجنس الذي يقترن بها، من ذكرٍ أو أنثى. ما يعني أن القيمة تتشكّل في حسبان الناس سلبًا وإيجابًا بحسب حاملها، ووفق موقف المجتمع الثقافي من حامل تلك القيمة. ومن ذلك قيمة (الغيرة)، على سبيل المثال، حيث اقترنتْ قيمةً بالرجال في مواقفهم من النساء أو في غيرتهم عليهنّ، حتى قالوا في حِكَمهم: "كُلُّ شيءٍ مَهَهٌ، ما خلا النساءُ وذِكْرُهُنّ"، "أي كل شيء جميل ذِكْرُهُ إلا ذِكْرُ النساء."(1) وجاء في أمثالهم: "أغيرُ من الفَحْل"، و"من جَمَل"، و"من ديك".(2) ولولا غيرة الرجال على النساء الباعث على اتهامهم لهن لما قال (حُجْر بن عمرو) مثلاً:
كُلُّ أنـثى وإن بدا لك منـها
آيـةُ الـوُدّ حُـبّها خَيْـتَعُورُ
إنّ مَنْ غَـرَّهُ النسـاءُ بشيءٍ
بَعـْدَ هـِنْدٍ لجـاهلٌ مغـْرُورُ(3)
ولا قال (الطفيل الغنوي)(4):
إنّ النساءَ كأشـجارٍ نبتْنَ معـاً
منها المُرارُ وبَعْضُ النَّبْتِ مَأْكُوْلُ
إنّ النساءَ متى يُنْهَيْنَ عن خُلُقٍ
فإنه واجــبٌ لا بُـدَّ مَـفْـعُوْلُ
لا يَنْصَرِفْنَ لرُشْـدٍ إنْ دُعِيْنَ لَهُ
وَهُـنّ بَعـْدُ مَلائيـمٌ مخـاذيْـلُ
بل لولا الغيرة المريضة لما بلغ الأمر ببعض العرب إلى وأد البنات(5)، الذي حكت الآيات القرآنية عنه، وعن أن مصاب العربيّ في مولودة تولد له كان جللاً، وسواد وجه، يجعله بين خيارين لا ثالث لهما: الإبقاء على ما ابتُلي به، ومن ثَمّ على هُونٍ سيلحقه بسببه، وهذا أمر يكاد يكون مستحيلاً حسب الأَنَفَة العربيّة وفق تصوّرها العربيّ، وأين سيواري وجهه من القوم وقد صار أبًا لبنت؟! والخيار الآخر، وهو الأسهل والسائغ في بيئة ترى الموت طريقًا لمحو العار: وأد البنت في التراب والتخلّص من شرّها: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ. وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ. يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ، أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ.﴾. (النحل: الآيات 57- 59). وإذا كان الوأد قد انتهى في الممارسة بمنع الإسلام قتل الأولاد (ذكورًا وإناثًا)، فقد استمرّت فكرةُ وأد البنات حيّة في بعض نفوس الإسلاميّين، تمتح من ذاكرة الوأد العريقة، التي سجّلها القرآن. يفضح ذلك، على نحوٍ مباشر، ما يسوقه (الماوردي)(6) من أن (عقيل بن علّفة) لما خُطبتْ إليه ابنته الجرباء، ارتجز:
إنِّي وإنْ سيقَ إليَّ المَهْـرُ
ألفٌ وعِـبدانٌ وذَوْدٌ عَـشْرُ
(أحـَبُّ أصهـارٍ إليَّ القَبْرُ)
كما أورد قول (عبدالله بن طاهر):
لكُلِّ أبٍ بِنْتٌ يُراعي شُـؤونَها
ثلاثةُ أصهارٍ إذا حُـمِدَ الصِّهْـرُ
فَبَعْلٌ يُراعيها، وخِدْرٌ يُكِـنُّها،
وقَبْرٌ يواريها ، (وأفضلُها القَبْرُ)!
وقال (أبو العلاء المعرّي)(7)، "فيلسوف الشعراء، وشاعر الفلاسفة!"- ويا للمفارقة في هذه الألقاب مقارنة بعقليّة الرجل!:
وإنْ تُعْطَ الإناثَ ، فأيّ بُؤْسٍ
تَبَيَّنَ في وُجُوْهِ مُقَسَّـماتِ!
يُرِدْنَ بُعولةً ويُردْنَ حَـلـْياً
ويَلقينَ الخطوبَ مُلوّمـاتِ
ولسـنَ بدافعاتٍ يومَ حـربٍ
ولا في غارةٍ متَغَـشِّمـاتِ
ودَفْـنٌ والحوادثُ مُفْجِعـَاتٌ
لإحداهنَّ إحْدَى المَكْرُمـاتِ
وقد يفقدنَ أزواجـاً كِرامـاً
فيا للنسـوةِ المتأيـّمـاتِ
يَلِدْنَ أعـاديًا ويكُـنَّ عـاراً
إذا أمسينَ في المتهضَّماتِ
و"فيلسوف الشعراء، وشاعر الفلاسفة" هذا إنما يحذو حذو أسلافه، ويأخذ عنهم، ومنهم (البحتري)، الذي وضع المعرّي عنه كتابه "عَبَثُ الوليد". فالبحتري هو الذي لم يمنعه موقف العزاء في ابنة (محمد بن حميد الطُّوسي) من أن يستنكر عليه الحُزن على بنته، فأخذ يعزّيه بأن "موت البنات لا يستحقّ البكاء"، أصلاً، والبكاء عليهن ليس من شيم الفِتْيان، مستشهدًا بأسلافه من الجاهليين، ومنهم (قيس بن عاصم المنقريّ)، الذي كان يئِدُ كلّ بنتٍ تولد له، رغم ضرب العرب المثل به في الحِلْم، والقائل، وقد سئل ما الحِلْم؟: "أن تصل من قطعك، وتُعطي من حرمك، وتعفو عمَّن ظلمك!"(8) بل يذهب البحتري إلى أبعد من هذا، فيستشهد تارةً بالقرآن، حيث الآية: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (الكهف:46)- ولم يقل "البنات" حسب احتجاج الفقيه البحتري- وتارة أخرى يُشرك الأنبياء في فكرته الجاهليّة، وثالثة يستشهد بالأسطورة- غير الإسلاميّة- عن الخطيئة وإخراج حواء آدم من الجنة، إذ يقول:
أَتُبَكِّـي من لا يُنـازلُ بالسَّـيْـ
ـفِ مُشِيْحًا ولا يَهُزُّ اللواءَ؟!
والفَـتَى من رأى القُبورَ لِما طـا
فَ بهِ من بنـاتـه أكـفـاءَ
لسـنَ من زينةِ الحياةِ كعـَدِّ الـ
ـلّهُ منها الأمـوالَ والأبـناءَ
قد وَلَـدْن الأعداءَ قِدْمًا، ووَرَّثْـ
ـنَ التِّـلادَ الأقاصيَ والبُعَداءَ
لم يئِـدْ كُـثْرَهُنَّ (قـيس تميمٍ)
عـَيْـلـةً بل حميَّـةً وإبـاءَ
وتَغَـشَّى (مُهَلْهِـلَ) الذُّلُّ فيهـ
ـنَّ، وقد أُعْطِيَ الأديمَ حِـباءَ
و(شـقيق بنُ فـاتكٍ) حَذَرَ العـا
رِ عليهِـنَّ فـارقَ الدهـناءَ
وعلى غيرهـنَّ أُحْـزِنَ (يعـقو
بُ) وقـد جـاءَهُ بنوهُ عِشاءَ
و(شُعَيْبٌ) من أجلهنَّ رأى الوَحْـ
ـدَةَ ضَعفـًا فاستأجرَ الأنبياءَ
واستزلَّ الشيطانُ آدمَ في الجنَّـ
ـةِ لمـَّا أغـْرَى بهِ حـوّاءَ
وتلـفَّتْ إلى القبائـلِِ، فانظـرْ
أمَّـهـاتٍ يُنسـبْنَ أمْ آبـاءَ
ولعـَمْري ما العجْـزُ عنديَ إلاَّ
أنْ تبيتَ الرجالُ تبكي النسـاءَ(9)
فإذن لا غرابة أن يبعث حضور المرأة في واقعنا العربيّ التشنّج والجنون، فتلك هي الجذور الثقافيّة الأدبيّة، التي تَدين بها تلك العقليّة المزدرية للمرأة في خطابها وفعلها.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الميداني، (1955)، مجمع الأمثال، تح. محمّد محيي الدين عبد الحميد (مصر: مطبعة السنّة المحمّديّة)، 2: 132.
(2) م.ن، 2: 66.
(3) (2000)، موسوعة القِيَم ومكارم الأخلاق العربيّة والإسلاميّة، (الرياض: دار رواح)، 43: 10.
(4) م.ن، 43: 10- 11.
(5) انظر: م.ن، 43: 70- 71.
(6) (1984)، أدب الدُّنيا والدِّين، شرح وتعليق: كريم راجح (بيروت: دار اقرأ)، 175.
(7) (1342هـ)، اللزوميّات، تح. أمين الخانجي (بيروت: مكتبة الهلال، القاهرة: مكتبة الخانجي)، 1: 178.
(8) ابن عبد ربّه، (1983)، العِقد الفريد، تح. أحمد أمين وآخرَين (بيروت: دار الكتاب العربي)، 2: 278.
(9) البحتري، (1977)، ديوان البحتري، تح. حسن كامل الصيرفي (القاهرة: دار المعارف)، 1: 40- 41.
http://www.diwanalarab.com/spip.php?article23695
مكانة المرأة في الخطاب الأدبي العربي
(٤)
١٧ حزيران (يونيو) ٢٠١٠بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي
(الحارس الغيور)
خطابنا الثقافي العربي، عبر تراثنا الأدبي، ضالع في احتقار المرأة. ومن ثَمَّ فلا غرابة أن يتغنّى كبار الشعراء العرب بامتهان منزلة المرأة، بل بإنكار حقّها في الحياة، في الوقت الذي بلغ بهم احتفاؤهم ببعض الحيوان إلى التقديس أو حتى العبادة، كما هو معلوم من حياتهم في الجاهلية، وآدابهم في الإسلام. وما المرأة في الشِّعر العربي إلاّ متاع، قيمتها بمقدار ما تمنحه ذكوريّة الرجل من اللذّات، وحبّه إيّاها ليس حبًّا لذاتها، بل حبٌّ لذاته ولَذّته، وإلاّ فهي لديه عارٌ وعورة، ووجودها شرٌّ لا بُدّ منه في الحياة. ولقد تجلّى هذا الفكر المريض لدى شاعرين كبيرين، أدبًا وثقافةً ونمذجةً للنسق الفكريّ والأدبيّ العربيّ، وفي ذروة الحضارة الإسلاميّة، هما البحتري والمعرّي. فالأوّل يُنشدنا:
والفَـتَى من رأى القُبورَ لِما طـا
فَ بهِ من بنـاتـه أكـفـاءَ(1)
والآخر يُنشدنا:
ودَفْـنٌ والحوادثُ مُفْجِعـَاتٌ
لإحداهنَّ إحْدَى المَكْرُمـاتِ(2)
وكِلا الشاعرين، البحتري والمعريّ، كانا يتبعان سنة من سبقوهما من الشعراء، ومنهم (الفرزدق)(3)، الذي كان بدوره يتبع سنة (قيس بن عاصم)، حينما قال في وفاة زوجته، مع أنه يفاخر بها (جريرًا):
يقولونَ زُرْ حدْراءَ، والتُّرْبُ دونها،
وكيفَ بـشيءٍ وصْـلُهُ قد تقَطَّعَا
ولستُ ، وإنْ عَـزَّتْ عليَّ ، بزائرٍ
تُرابًا على مرْموسَةٍ قد تَضَعْضَعَا
وأهونُ مفقودٍ، إذا الموتُ نالـهُ،
على المرْءِ مِنْ أصحابهِ مَنْ تَقَنَّعَا
يقولُ ابنُ خِنْزِيْرٍ: بكيتَ، ولم تكُنْ
على امرأةٍ عَينيْ، إخَالُ، لِتَدْمَعَا
وأهْـوَنُ رُزْءٍ لامرئٍ غير عاجـزٍ،
رَزِيَّـةُ مُرْتَـجِّ الرَّوادِفِ أفْـرَعَا
وما مـاتَ عندَ ابنِ المُراغةِ مثلُها،
ولا تَبِعَـتْهُ ظاعنًا حيثُ دَعْـدَعَا
وهذا برهان على أن هؤلاء ورثة القِيَم الجاهلية، وإن تسمّوا بالإسلام. والغريب أن تُثْبت أكثر هذه الشواهد الشاذّة وغيرها في كتب الأدب، في مقام عرض "القِيَم ومكارم الأخلاق"، لمخاطبة الناشئة، كي يستعيدوا سويّاتهم القيميّة! وكأنما تلك الكتب إذن تدفع الناشئة دفعاً- وإن بطريق غير مباشر- إلى التحلّي بهذه الأمراض العربيّة المستفحلة القديمة. بل لقد تُشفع ببعض الآراء التي تكتسب احتراماً لدى عامة الناس، وذلك بعَزْو تلك الآراء إلى بعض العلماء والمفكّرين والحكماء. فبالإضافة إلى ما يُنسب إلى (عمر بن الخطاب) من مقولات في هذا السياق، هناك (الجاحظ)، وما ساقه في كتاب "الحيوان"(4)، أو (ابن المقفّع)، الذي يُستشهد بمعظم قوله السقيم هذا:
"إيّاكَ ومُشاورة النساء، فإنّ رأيهنّ إلى أفنٍ، وعزمهنّ إلى وَهنٍ. واكففْ عليهنّ من أبصارهن بحجابك إيّاهنّ، فإن شدّة الحجاب خيرٌ لك من الارتياب. وليس خروجهن بأشدّ من دخول من لا تثق به عليهنّ، فإن استطعت أن لا يعرفن غيرك، فافعل! ولا تُمَلّكنّ امرأة من الأمر ما جاوز نفسها، فإن ذلك أنعم لحالها وأرخى لبالها، وأدوم لجمالها، وإنما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، فلا تَعْدُ بكرامتها نفسها، ولا تُعْطِها أن تَشْفَعَ عندكَ لغيرها. (…) وإيّاكَ والتغاير في غير موضع غيرة، فإن ذلك يدعو الصحيحة منهن إلى السقم!"(5)
وحين تعلّق "موسوعة القِيَم ومكارم الأخلاق العربيّة والإسلاميّة" على بعض تلك النصوص يأتي تعليقها أحياناً "ضغثاً على إبّالة". وليأخذ القارئ مثلاً على هذا من التعليق على أبيات (طفيل الغنوي) السابقة، حيث قالت أكثر مما قالته الأبيات، جاعلة مصدر الفضيلة والأخلاق الحميدة (الرجل)؛ إذ ذهبت إلى أن: "المرأة إن أُبْعِدَتْ عن كلّ سوء في حال حضور الرجل الغَيور عندها، فإنه لن يتمكّن من حمايتها في غيابه، إلاّ إذا حصّنها بالأخلاق الحميدة، وإذا لم تحصّن بها، فإن أقلّ غياب له عن منزله- ولو كان يوماً أو بعض يوم- سيكون مجالاً للتنفيس عن رغبةٍ كان حضور الرجل قد أطبق عليها، وترى الفرصة سانحة لفعل ما تريد في غياب الحارس الغيور."(6) فأي تنشئة سليمة تُرجى واستقامة نفسية وذهنية تُتوخى من سَوْق تلك الشواهد أو التعليق عليها؛ فالأمر في مستكنّ خطابه من ذلك كمن أراد أن يكحل عيناً فأعماها! وإن الرجل- كما تؤكّد الموسوعة تلك- هو "الحارس الغيور"! وكأنه حارسٌ على حيوان، وإنّ من الحيوان للمستأنس الأمين الوفيّ، كالكلب، أمّا المرأة فـ"أقلّ غياب للرجل عن منزله- ولو كان يوماً أو بعض يوم- سيكون مجالاً للتنفيس عن رغبة المرأة"! لأن أدنى غفلة هي كمئة عام، بقرينة التناص هنا في عبارة "يوما أو بعض يوم" مع الآية: ﴿قَالَ: كَمْ لَبِثْتَ؟ قَالَ: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. قَال:َ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ﴾ (البقرة: 259). وكيف يقال إن المرأة تحتاج إلى "الحارس الغيور"، إلاّ وقد افتُرض فيها انتفاء الوازع الأخلاقيّ وانعدام القِيَم، بل أنها بلا عقل ولا روح! مع أن الله قد حمّلها مسؤوليّتها وحدها، كالرجل تماماً، وكلّفها مثله، دون اشتراط "حارس غيور" لتحمّلها المسؤولية أو نهوضها بالتكليف، فجاء في الآية القرآنية: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى.﴾ (فاطر: 18). أ فما كان أضعف الإيمان يقتضي- إن لم تكن مبادرة إلى نقد الأفكار والنصوص- أن لا تُسهم ثقافتنا في تسويق سلع قيميّة فاسدة قديمة؟!
ولئن وُجد في تراثنا ردّ قولٍ أدبيّ متطرّف في حقّ المرأة بقولٍ آخر منصف، فأغلب الظنّ أن طرح قيمة (الغيرة) ونحوها، على ذلك الوجه الشتيم، هو الذي سيقع موقعه من النفس العربية، المستجيبة له أصلاً، بقيمها التربويّة والاجتماعيّة الموروثة، ولن تمحوه بعدئذٍ أقوالُ أسوياء مهما كثروا.(7) وبالمحصّلة، فإن تصوير ألوان الغيرة على المرأة في خطابنا الأدبي لا يخدم هدفاً تربويًّا قويماً؛ ما دام غالبه قد جاء تسجيلاً لمواقف الغيرة بلهجةٍ مفرطةٍ في مرضها، نامّة على عدم ثقة الرجل نفسه بنفسه. ثم أليس لقيمة "الغيرة" بعد ذلك من وجوهٍ أخرى غير غيرة الرجل على المرأة؟ بل أليس للمرأة بدورها نصيبٌ من الغيرة على نفسها، فضلاً عن الغيرة على الرجل؟!
لقد انصبّ الخطاب الخاص بقيمة "الغيرة" في الثقافة العربيّة على (غيرة الرجل على المرأة)، دون سواها من أصناف الغيرة. كما لا صدى فيه لغيرة المرأة، وإنما كلّ المرويّات تدور على الغيرة في عالم الرجال، وأعلامهم الأشاوس، وقيمة ما يقولون ويفعلون. بل إنه ليُنظر إلى غيرة المرأة على الرجل- إن حدثتْ- على أنها قيمة سلبية، بعكس غيرة الرجل على المرأة. وفي حكاية (هند الهمدانيّة)، وما صوّرته من إمكانيّة افتضاح المرأة بفعل غيرتها على زوجها، دليل على ذلك(8). حتى لقد جاء في أمثال المولّدين: "غَيْرةُ المرأةِ مفتاح طَلاقها"، إلى جانب قولهم: "الغيرة من الإيمان"(9)، والمقصود هنا: "إيمان الرجل"، بطبيعة الحال! ولهذا كانت غيرة المرأة تنمّ عن شعور بالنقص، يصحّ أن تشبّه بالنيران. وكأنما هذه الثقافة إذن تُصادر إنسانيّة المرأة، وتُنكر عليها أن تحمل مشاعر تشبه مشاعر الرجل، لتنحدر بها إلى قِيَمٍ أحطّ ممّا يتّصف به بعض الحيوان، ذلك المخلوق الذي احترم الشاعر العربيّ وجوده، حتى لقد أَنْسَنَهُ، وأجرى على لسانه المحاورات، أليفاً كان أو حتى وحشيًّا.
وبهذا فإن خطابنا الأدبيّ يكشف فيما يكشف عن أن جُلّ ما يُطرح عادة على أنه قيمٌ عربيّة، ويُفرض على أنه أخلاق إسلاميّة، إنما يمثّل قيماً انحيازيّة إلى مجتمع الرجال، بصفة خاصة، بحيث يصحّ القول إنها: قيم ذكوريّة في منطلقاتها، أعرابيّة في أهوائها، ترتاب في المرأة، وتنظر إليها على أنها باب كلّ شرّ في المجتمع. هذا على الرغم ممّا تؤكّده الدراسات من أن المرأة كانت- حتى في لحظات التاريخ التحوّليّة وانهيار المجتمعات- هي مخزن القِيَم، ومرجعيّتها الإيجابيّة، المعاندة لخراب الحياة(10).. في وقتٍ يسعى الرجال فيه، بأرجلهم وأيديهم، إلى خرابها.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: البحتري، (1977)، ديوان البحتري، تح. حسن كامل الصيرفي (القاهرة: دار المعارف)، 1: 40- 41.
(2) انظر: المعرّي، (1342هـ)، اللزوميّات، تح. أمين الخانجي (بيروت: مكتبة الهلال، القاهرة: مكتبة الخانجي)، 1: 178.
(3) (1987)، ديوان الفرزدق، شرح: علي فاعور (بيروت: دار الكتب العلمية)، 364.
(4) انظر(2000)، موسوعة القِيَم ومكارم الأخلاق العربيّة والإسلاميّة، (الرياض: دار رواح)، 43: 52- 53.
(5) ابن قتيبة، (د.ت)، عيون الأخبار، عناية: مفيد قميحة (بيروت: دار الكتب العلمية)، 4: 87، وموسوعة القِيَم، 43: 54.
(6) موسوعة القِيَم، 43: 11.
(7) انظر: م.ن، 43: 11-12.
(8) انظر: يموت، بشير، (1998 )، شاعرات العرب في الجاهليّة والإسلام، تح. عبد القادر محمد مايو (حلب: دار القلم العرب)، 232- 233.
(9) الميداني، (1955)، مجمع الأمثال، تح. محمّد محيي الدين عبد الحميد (مصر: مطبعة السنّة المحمّديّة)، 2: 67.
(10) انظر: كلاّب، إلهام، (1994)، " نسق القِيَم في لبنان"، مجلة المستقبل العربي، (مركز دراسات الوحدة العربية)، 101.
http://www.diwanalarab.com/spip.php?article23880