منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 9 من 9

العرض المتطور

  1. #1

    رحيل الكاتب السوري الكبير عبدالسلام العجيلي

    رحيل الكاتب السوري الكبير عبدالسلام العجيلي


    --------------------------------------------------------------------------------

    رحيل الكاتب السوري الكبير عبدالسلام العجيلي (1918-2006م)

    * رحل اليوم الكاتب السوري الكبير عبدالسلام العجيلي، وهذه سيرة ذاتية موجزة له:
    * ولد الأديب الدكتور عبد السلام العجيلي في مدينة الرقة على ضفاف الفرات شمال شرق سوريا عام 1918م، لكن الوثائق التي يحملها العجيلي تؤرخ ولادته عام 1912 ذلك لأنه غير من مواليده ليسمح له بدخول البرلمان.
    * تعلم القراءة في الرقة ودرس في حلب ودمشق وتخرج طبيباً من جامعة دمشق عام 1945م.
    * مثل مدينته في البرلمان السوري عام 1947م. شارك مع جيش الإنقاذ في فلسطين عام 1948م.
    * شغل عدداً من المناصب الوزارية (الخارجية الثقافة والإعلام) عام 1962م.
    * بدأ الكتابة بأسماء مستعارة منذ ثلاثينات القرن الماضي.
    * أصدر أول مجموعاته القصصية (بنت الساحرة) 1948م.
    * كتب في الشعر (ديوان الليالي والنجوم) وكتب (المقامات).
    * كتب في القصة القصيرة (ساعة الملازم، الحب والنفس، الخائن، قناديل إشبيلية، بنت الساحرة، رصيف العذراء السوداء، فارس مدينة القنيطرة، الخيل والنساء، مجهولة على الطريق، موت الحبيبة، الحب الحزين، عيادة في الريف).
    * وفي الرواية باسمة بين الدموع، قلوب على الأسلاك، أزاهير تشرين المدماة، ألوان الحب الثلاثة (بالاشتراك مع أنور قصيباتي)، حب أول حب أخير سعاد وسعيد، أرض السياد، أجملهن،حمى الطبيب،قطرات دم، جيش الإنقاذ.
    * وفي أدب الرحلات: (حكايات من الرحلات، دعوة إلى السفر، خواطر مسافر).
    * في المقالات: (في كل واد عصا، فصول أبي البهاء، ادفع بالتي هي أحسن، جيل الدربكة، أشياء شخصية).
    * في المحاضرات: أحاديث العشيات، السيف والتابوت، سبعون دقيقة حكايات، حفنة من الذكريات، محطات في الحياة).
    * في السياسة: فلسطينيات عبد السلام العجيلي ذكريات أيام السياسة (مجلدان 1، 2). ترجمت أعماله إلى عدد من اللغات العالمية (الفرنسية، الإنكليزية، الألمانية، الإيطالية).
    * حصل على وسام الاستحقاق السوري.
    * توفي في 5 أبريل 2006م.

    فيلمون الضاحك

    بقلم: عبدالسلام العجيلي
    ............................

    فيلمون وهبه، الفنان الكبير الراحل، ليس بين المستمعين العرب من لم يعجب بألحانه ويطرب له، ولاسيما في أغانيه الفيروزية، ومن لم يستمتع بمشاهدة أدائه التمثيلي الكوميدي. أما جانبه الفكاهي الذي يتبدى في دعاباته ونكاته وزجله، فقد كان الاستمتاع به من حفظ أصدقائه ومعارفه المقربين. وعلى قلة فرص اجتماعي به، نظرا لتباعد المسافات والاهتمامات بيننا، فقد كانت لنا لقاءات أشركتني بفصول شيقة من ذلك الجانب الفكاهي المرح، كنت في بعض الفصول مجرد مشاهد أو مستمع، وكنت في بعضها الآخر طرفا معنيا. وفي مايلي أروي بعضا من حكايات تلك الفصول التي شهدتها أو سمعتها منه.
    لم تكن تفوتني حفلة من حفلات فيروز والرحابنة على مسرح معرض دمشق الدولي أيام مواسمها القديمة في الصيف. كان من عادتي قبل بدء الحفلة أن أدخل الكواليس في المسرح لأحيي الفنانة الكبيرة وعاصي ومنصور، وأحيي العديدين الذين أعرفهم من الممثلين.. وفي إحدى المرات جئت من بلدتي، ثم إلى صالة العرض، متأخرا، فاتجهت مباشرة إلى مقعدي في المدرج دون أن ألتقى قبل ارتفاع الستارة بأحد من أعضاء الفرقة، ومن بينهم فيلمون، كعادتي.
    كان دور فيلمون في مسرحية الرحابنة الغنائية في ذلك الموسم دور غنام بدوي يأتي بقطعانه من الكويت مارا بالعراق ثم بسورية في طريقه إلى لبنان. دخل إلى المسرح وهو يروي لرفاقه من الممثلين ما مر به من مراحل سفره الطويل هذا. وحين أدار نظره إلى جمهور الحضور في المدرج المزدحم وقعت عينه علي. لعله فوجئ بذلك. إلا أنه استمر في رواية حكاية رحلته بأغنامه فقال: ومن الموصل في العراق دخلنا سورية. وصلنا إلى مدينة الرقة على الفرات.. وهناك نزلنا ضيوفا لمدة ثلاثة أيام على الرجل الطيب الذي هو عبدالسلام العجيلي ..
    كان إقحاماً مرتجلا لاسمي، مفاجئا لي، كما كان كذلك لجمهور المشاهدين. علا التصفيق في أنحاء المدرج ممن يعرفني وممن لا يعرف، كما استدارت الأعناق ليثبت أصحابها مكاني بين المتفرجين، ولأتلقى إشارات التحية من أيدي الكثيرين منهم. وظللت كل أيام إقامتي في دمشق في تلك الفترة يخبرني أصحابي بأنهم عرفوا بوجودي في العاصمة من تلك التحية المسرحية العلنية والجميلة من فيلمون.
    ومع الرحابنة أيضا. دعوتي لحضور واحدة من حفلاتهم، ولكن في بعلبك هذه المرة. كنت يومها متقلدا أحد مناصبي الوزارية، إلا أني جئت بعلبك وحدي، وفي سيارتي الخاصة، صديقا ومتفرجا عاديا بغير أية صفة رسمية. ذلك أمر لم يتعوده الناس في لبنان من الرسميين، والوزراء في أولهم. فالرسميون يكونون في العادة محاطين بعدد قليل أو كثير من الأتباع والمرافقين.
    استرحت بعد وصولي إلى بعلبك في فندق بالميرا مع بعض الأصدقاء، ومنهم فيلمون، في انتظار بدء الحفلة. فلما حان الموعد قصدت ساحة المسرح مع أولئك الأصدقاء، ومشيا على الأقدام، لقرب المكان. أقبل علينا أحد المعارف، وسمعته يصيح: ماهذا يا فيلمون؟ ما هذه المشية؟ التفتّ فرأيت فيلمون ورائي منتصب القامة، يمشي بخطى شبه عسكرية، وقد وضع يده على مقبض مسدس مغروس في خصره ظاهر للعيان. وسمعته يقول، وهو يعنيني بكلماته:
    معالي البك جاي من دون زلامه (يعني أتباعه ومرافقيه كما هي العادة لكل وزير)... أنا زلمته؟
    ضحكت أنا يومها وتأبطت ذراعه مترافقين إلى ساحة المسرح.
    وهذه حكاية ثالثة لفيلمون لم أشهدها، وإنما هو رواها لي. قال:
    كنت في الكويت أشارك في حفلة في مناسبة أحد الأعياد. وقفت على المسرح وأنهيت دوري في الحفلة بقصيدة ألقيتها على الجمهور الحافل من الحضور، المتميزين في طبقاتهم المختلفة.
    أبيات القصيدة كانت هذه:
    جئت الكويت مهنئا بالعيد
    وحملت من لبنان لحن نشيدي
    وحملت من بلد العروبة والمنى
    بلد العلى والمجد والتغريد
    قد جئت في طيارة وحدي أنا
    خايفْ وحاطط قلبي على إيدي
    ياميت هلا يا مرحبا بشيخ العرب
    وبسالم وموفق وسعيد
    لبنان أهلي والكويت أحبتي
    ولأجل حبهما نظمت قصيدي
    ما أجمل الساعات في بلد الرؤى
    يا حبذا كم ساعة في إيدي!
    قال فيلمون: ما أنهيت إنشاد البيت الأخير حتى راحت الساعات تتطاير في جو القاعة لترتمي على أرضية المسرح أمامي.. ساعات يد متعددة الأشكال والألوان والأثمان، قذفها حضور الحفلة، كانت من الكثرة بحيث كونت أمام قدميّ كومة صغيرة..




    العجيلي أديباً وإنساناً في حياة مدفوعة الثمن

    بقلم:علي العائد *
    ...................

    العجيلي يتحدث كما يكتب. هنا تأخذ مقولة (الأسلوب هو الرجل) لبوسها في الحالتين؛ إذ الكلمتان المكتوبة والمنطوقة تصدران بذات النكهة، ولن يجد مَن تسنَّى له سماع حديث العجيلي في أيِّ موضوع كان فارقاً يُذكر بين حديثه وما يكتبه، بل سيقرأ كلمات العجيلي بصوت عميق، متتابع الكلمات، فتكاد الكلمات الواضحة النطق، الموقعة بين تلاحق أنفاسه، أن تتشابك متحدة لاهثة في محاولة مجاراة سرعة الأفكار التي يطلقها العجيلي.
    تجد هذه الفكرة ترجمتها في شيئين اثنين، الكاريزما التي يتمتع بها العجيلي، ثم البيئة التي طبعت ذاكرته. فللعجيلي شخصية مهضومة وفق التعبير الدارج، ووجوده في مجلس، قبل حديثه، يشدُّ الانتباه إليه، وتتلمذه شاباً في مجلس آل العجيلي (الأوضة) في حي العجيلي في الرقة على كبار السن من أقاربه وجيرانه أكسبه مرانَ نسجِ القصص والحكايات المعاشة والمتخيلة، فهذه المجالس هي للهو والسمر قبل كل شيء، إضافة إلى دورها في حل المشاكل، وللاجتماع في حالات الفرح أو المآتم، وفيها تدور أحاديث طريفة عُرفت عن آل العجيلي، ليس فيها صفة المحرم الاجتماعي كحديث، بل وصلت في أيام ماضية إلى مجالس طرب، من أغاني الموليَّة المرتجلة على إيقاع الدفوف التي يُطلق فيها المتحاورون على بعضهم سهام التجريح وألوان التعيير في صفات جسمانية أو أخلاقية، حتى يمكن أن نطلق على هذه المجالس تسمية إذاعة أو إعلام ينشر وينتقد ويعمم تفاصيل آخر حدث اجتماعي حصل في حي العجيلي، وربما الرقة في عمومها، عبر تناقل الألسن لأبيات الموليَّة.
    في هذا الجو اكتسب العجيلي شغفه بالمقامات الناقدة. وبدافع ذلك الخيال تفتح وعيه على القص، ثم كان حظه من التعليم والمطالعة رافداً لهذا التوجه، واستمر ذلك مع انتقاله إلى حلب كطالب، وانغماسه في الحياة السياسية في أواخر الثلاثينيات، ومن ثَمَّ إلى دمشق كدارس للطب.
    وما كان لهذا التوجه أن يستمر ويتم لولا الموهبة الكبيرة والذكاء اللمَّاح، ولولا تلك الطفولة وأول الشباب في تلك البيئة الحميمة والمنفتحة.
    ومن هنا أيضاً جاء حبُّه للسفر، فذلك الخيال كان بحاجة إلى تغذية دائمة، ولم تكن القراءة والمطالعة بكافيتين لتلبية تطلُّع العجيلي، فجال أنحاء أوروبا مستكشفاً بعقله وعينه وقلبه، فأضاف إلى مواهبه أدب الرحلات، وكانت جغرافيا ومجتمعات تلك البلدان موضوعات في رواياته وقصصه. وبين هجره للسياسة كنائب عن الرقة في نهاية الأربعينيات، وهجره للوزارات في أوائل الستينيات، كانت عيادته المستنسخة عن (أوضة العجيلي) مصدراً جديداً للواقع والخيال وللمضحك المبكي في بيئة صحراوية ما زال نصيب أهلها الجهل والعلاقات الاجتماعية العشائرية الحائرة في انتمائها بين الريف والمدينة، فالمدينة نفسها هناك، في الرقة، لا تمتلك من المدينة سوى شكل البيوت، نسبياً، واللباس.
    هذا في الوقت الحالي، فالرقة حتى أواخر الستينيات كانت مؤلَّفة من بيوت متناثرة أو أحياء متباعدة. ولا أبالغ إن قلتُ: إن الرقة، المدينة/ القرية، كبرت بالعجيلي، فلا تُذكر الرقة إلا ويُذكر العجيلي، ولا تُذكر القصة القصيرة العربية إلا ويُذكر العجيلي.
    ومن هنا كان اهتمام الشباب المثقَّف، في الرقة خاصة، بالقصة القصيرة؛ اقتداءً بموهبة العجيلي، فكانوا عدداً كثيرين، بل وظهر فيهم عدد من المبدعين من عدة أجيال، ابتداءً من عقد السبعينيات.
    وأقول: لو تابع العجيلي مسيرته السياسية التي ابتدأها نائباً عن قضاء الرقة في مجلس النواب عام 1947م قبل موجة الانقلابات في سوريا لكان بإمكانه وضع الرقة في موقع اقتصادي وسياسي واجتماعي وثقافي أفضل مما تيسر لها، ولتقدمت بخطوات أسرع، ولربَّما كان العجيلي قد دفع ثمن ممارسته العملية لتوجُّهه العروبي، خاصة أنه لم ينتمِ إلى حزبٍ حتى في عزِّ انغماسه في دسم السياسة وثريدها، لكنه فَضَّل عدم وضع نفسه في مرمى عظام المنسف السياسي.
    وفعل خيراً، فكسبته الرقة طبيباً في زمن لم تكن في الرقة مدرسة ثانوية واحدة، وكسبناه في الرقة وسوريا والعالم العربي علَماً في القصة القصيرة والرواية، وأستاذاً في طلاوة الحديث، لا يمتلك ذو إصغاء إلا توفير كل كلامه حتى يستزيد من معين العجيلي دُرراً من الذكريات، والشعر، والمُلح، ونقائض الأدباء، ومقاماتهم. وأجزم أن العجيلي، الشاعر في بداية حياته الأدبية، هو من أكسب قصة العجيلي تلك الروح الحكواتية التي تزخرف عناصر القص لديه بصور تعزُّ على الشعراء، حتى يمكن أن يتماهى السرد لديه مع ما يمكن أن نسميه القصة الحديثة أسوةً بتسميته الشعر الحديث.
    ــــــــــــــــــــ
    *المجلة الثقافية، العدد (106)، في 16/5/2005م.
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  2. #2
    المصطلح المضحك
    بقلم: د.عبد السلام العجيلي
    ــــــــــــــــــــــــــــ
    يكثر في كتابات النقاد التنظيرية في هذه الأيام تردد كلمة المصطلح، وأنا اعترف بأن ما يقال عن هذه الكلمة يتجاوز فهمي في أحيان كثيرة، ولست أدري إذا كان الباحثون فيها قد تطرقوا إلى أثر البيئة وأثر نوعية الوسط الاجتماعي التي يستعمل المصطلح فيها على فهم هذه الكلمة، ومهما يكن، فإني سأدلي بدلوي بين الدلاء في هذا المجال، متحدثا عن كيفية فهم المصطلح عند من يستعمله، بحسب مستواه الفكري أو الاقتصادي أو السياسي، وذلك من خلال محادثاتي وعلاقاتي في الوسط الذي أعيش وأمارس مختلف نشاطاتي فيه.
    أروي للقارئ في البداية ملخص حوار دار بين أحد زملائي الأطباء في بلدتي، وهي معروف عنها أنها مركز منطقة زراعية وبدوية واسعة، وان الزراعة وتربية المواشي فيها هما الشاغل الرئيسي لأبنائها، ومعروف كذلك عن منطقتنا ان نسبة الأمية والبعد عن التحضر فيها أكبر مما هي عليه في مناطق قطرنا الأخرى، كان لزميلي الطبيب، وقد غادر دنيانا هذه إلى رحمة الله منذ سنوات عديدة، مشاركة في النشاط الزراعي، وبسبب هذه المشاركة كان يملك جرارا ميكانيكيا يسميه مزارعونا باسمه الفرنجي، "تراكتور"، يستخدمه في مزرعته ويؤجره أحياناً لمن يطلبه من المزارعين الأخرين، في ذات يوم جاءه أحد هؤلاء المزارعين وقال مخاطباً اياه: يا تراكتور، أريد أن تؤجرني دكتورك لأفلح عليه عشرة دونمات من أرضي المعدة لزراعة القمح.
    قال له زميلي الدكتور في الطب مصححا: انا يا اخي دكتور وأملك تراكتور، وأنا مستعد ان أؤجرك تراكتوري لتفلح عليه أرضا، اصر الرجل على صيغة سؤاله وقال للطبيب الزميل: لا تضحك علي يا تراكتور.. انت تراكتور وعندك دكتور تفلح عليه، انا اريد منك الدكتور!
    في مساء اليوم الذي جرى فيه الحوار قص زميلي علي حكايته، وعليه آثار غيظ من اصرار الرجل على تسميته تراكتورا وتسمية الجرار دكتور، ضحكت أنا يومها وقلت له: يجدر بك ان تشكره بدلاً من أن تغتاظ منه، لقد أعطاك قوة خمسين حصانا بخاريا باعتباره اياك جرارا زراعيا لا طبيبا نطاسيا، ترى أي دكتور منا يستطيع ان يحفر ثلما بطول امتار قليلة في أرض زراعية، مثلما يفعل التراكتور الذي يفلح مساحة خمسة دونمات في أقل من ساعة واحدة؟!
    لم يملك الزميل، رحمه الله، إلا ان يجاريني في الضحك حين اقر معي بفضل الجرار الميكانيكي على الطبيب البشري، على الأقل من ناحية القوة الجسدية..
    وفي إحدى الأمسيات، وفي مضافة الأسرة، مال أحد الأقرباء البسطاء علي وقال: أريدك يا ابن اختي ان تفيدني عن كلمة اسمع عنها، وتقع عيني عليها احيانا في الجريدة، ولا افهمها، كلهم يسبونها ويهاجمونها، لماذا؟ لا أدري، قلت له: ما هي الكلمة؟ قال الامبريالية. ما هي الامبريالية، ولماذا يسبونها ليل نهار؟ كان هذا الكلام بيني وبين قريبي البسيط أيام كان المعسكر الشرقي في ذروة قوته وكان تعاملنا معه كبيرا، ابتسمت وانا اجيبه محاولاً تقريب معنى مصطلح الامبريالية إلى ذهنه، قلت له: الامبريالية تعني تسلط الأجانب، ولا سيما الغربيين منهم، علينا نحن الضعفاء في الشرق، كان تسلطهم قبل اليوم بالجيوش الجرارة والأسلحة الفتاكة يستولون بها على أوطاننا وينهبون ثرواتنا، الآن أصبحوا يفعلون ذلك بقوة الاقتصاد وأسلحة العالم وما يسمونه بالتكنولوجيا، هذه هي الامبريالية، هز محدثي رأسه كأنه لم يفهم، أو كأنه لم يقتنع بتفسيري للمصطلح الذي يسأل عنه وقال: أقول لك الصحيح؟ كان عندي في الضيعة محرك مضخة شطح، يعني افقي، ماركة امبريال، صنع الانكليز، كان احسن محرك اقتنيته، ليس مثل هذه المحركات الواقفة، يعني العمودية، السريعة العطب التي تأتينا من بلغاريا وهنغاريا والبلاد الأخرى التي لا أعرف اسمها، لماذا إذاً يسبون امبريالية ما دامت له صفاته الجيدة التي تحققت بالتجربة والتعامل الطويل؟
    ما الذي كنت استطيع قوله لمحاوري عن تفاوت المعنى في مصطلح مشتق منه كلمتان متباينتان؟ لم أملك في ذلك الوقت إلا الابتسام مؤثراً السكوت على الإجابة عن سؤاله الأخير هذا، وكذلك لم أملك سوى الابتسام، بل والضحك، على ابهام المصطلح في واقعه مستني شخصياً وأرويها فيما يلي:
    فقد مرت بنا فترة ارتفع فيها شعار الدعوة إلى صراع الطبقات في قطرنا، جاري القديم، صطوف الإبراهيم، الذي يعمل دلالا في أحد مرائب السيارات في بلدتنا، كان أحد الأصوات العالية في تلك الدعوة، علاقتي به جيدة، وما قصرت يوما ما في معونته حين كان جاراً لي، ولا في معونة ذويه الذين ظلوا جيرانا لي بعد أن سكن هو في حي مبعد عني، تناهى الخبر إلي بأن الحديث دار عني في أحد الاجتماعات التي حضرها وتكلم هذا الجار العزيز فيها، فقال، متباهيا باطلاعه الواسع على تصنيف الطبقات السياسية والاجتماعية وانتماء المواطنين إليها: اعرفه جيداً.. انه ارتوازي!
    ارتوازي، انه مصطلح زراعي يكثر تردده على ألسن الناس عندنا حين يدور الكلام عن سقاية الأراضي الزراعية بالآبار الارتوازية، كان صطوف الإبراهيم يريد ان يعرف ساميعه بطبعي الليبرالي وانتمائي إلى الطبقة البرجوازية بين طبقات المجتمع، غاب عن ادراكه ومعلوماته مصطلح برجوازي، فنعتني بأني ارتوازي، واظن ان لو نبهه أحد إلى صحة المصطلح الذي يريد ان يستعمله لظل في عناد مثل عناد صاحب زميلي الطبيب، حين قال انه يريد الدكتور ليفلح عليه لا التراكتور ليتعالج عنده.
    هذه بعض مضحكات استعمال المصطلح، ارجو ان اكون نبهت فطاحل النقاد إليها، وانهم فهموها مني بأكثر مما فهمت العديد من نظرياتهم التي لا يسهل علي هضمها واستساغتها، لا حتى ولا الضحك منها.
    ــــــــــــــــــ
    *: المجلة الثقافية ـ العدد (19) في 27/7/2003م
    السلام العجيلي: عشرون بالمئة من كتابنا اليوم يكفون قراءنا
    حاوره: ماهر منصور
    ــــــــــــــــــــــــ
    يكتب بصورة عفوية، ولا يهتم بملاحقة النظريات النقدية
    ما نقرؤه في الصحف اليوم كتابات نقدية لمبتدئين تأثروا سلباً أو إيجاباً بما قرؤوه
    لا يمكن أن تختصر مسافة الرغبة في محادثة د. عبد السلام العجيلي بعدة جمل تتبادلانها مهما طالت، فهذا الرجل الذي اعتاد خلال سنوات عمره الطويلة أن يفرد في لقاءاته المتعددة، وهو المتحدث القديم، مساحة للحديث عن الآخرين أو ما يهمهم، سيحمل لك في كل مرة الجديد المدهش. وعلى هذا النحو سيبدو إجراء (حوار صحفي) معه أشبه بمغامرة، تدرك في نهايتها أن هناك الكثير مما كنت تود أن تقوله، لكنك لم تفعل، تسأله وتتمنى من أعماقك أن لا ينتهي من جوابه، وتسأل مرة أخرى وأنت تمني النفس بسؤال ثالث و رابع، دون أن تنتهي رغبتك في السؤال والاستماع. إنها حقيقة أدركتها منذ بداية معرفتي بالدكتور العجيلي،لذلك لم أحاول الاقتراب من حواره بالمعنى التقليدي واكتفيت بتسجيل حديث جانبي، جمعنا معاً في ندوة النقد الأدبي في المشرق العربي في المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأوسط. وقد ألقى موضوع الندوة ظلاله على حديثنا، بل واختص بالنقد الأدبي في صحفنا، فيما اعتبرته همسة حب ذكية من كاتبنا الكبير العجيلي في أذن رجال الصحافة في بلادنا، يدرك أني سأتلقفها وأسرع بنشرها. سألته في البداية عن طبيعة مشاركته في الندوة...؟ فأجاب:
    ++ ليس لي فعالية أو مشاركة عملية بإلقاء بحث أو مداخلة وإنما دعيت إلى الندوة لترؤس إحدى جلساتها، بوصفي مبدعاً أدبياً أكثر من ناقد، فأنا كاتب وروائي وقاص.
    النقد يأتي ثانوياً بين إنتاجاتي الأدبية الأخرى، وهذه الندوة تكاد أن تكون خاصة للمهتمين بالنقد، والمهتمين بالنقد الأدبي بصورة خاصة، وقد جاؤوا للاجتماع والمشاركة في أبحاث مركزة على النقد الأدبي في المشرق العربي بصورة خاصة. أما أنا فمشاركتي قليلة ومحدودة، لعدم تمكني ملاحقة كل ما يقال ـ ضاحكاً ـ لخلل في سمعي. وما سمعته وانتبهت إليه اليوم كان مهماً عن علاقة النقد الأدبي المعاصر بصورة خاصة في مشرقنا باتجاهات العالمية للنقد، تأثره وتأثيره، سواء كان بالكتّاب أو بالقراء، إنه عمل جميل وإن كان مقتصراً على النخبة من النقاد والكتاب والمهتمين.
    + لكنك مارست النقد الأدبي، إن كنت تعده ثانوياً وسط ما تنتجه إبداعياً، ما الذي يدفعك إلى نقد نتاج إبداعي ما؟ وعلى ماذا تعتمد في تقيميك لما تقرأ؟ هل مخزونك المعرفيّ كافٍ للممارسة النقدية، أم أنك تتكئ على نظريات النقد في ذلك؟
    ++ أنا بعيد عن النظريات والتنظير وحتى النقد نفسه، والأبحاث النقدية التي تدور في هذا المكان في الواقع لا تهمني شخصياً، أو حتى لا أفهمها، لأنني لا أتتبع الحركات النقدية الحديثة في الأوساط الثقافية الأدبية، أنا أديب على الورق، أحياناً أبدي رأيي النقدي في المقدمات التي أكتبها للكتب، كنت أكتب مقدمات كثيرة وتوقفت نهائياً، أو في التعريف بالكتب، وما أكتبه من المقالات النقدية أكتبها عن بعض الكتب التي تثير فيَّ رغبة للتعليق عليها، وأعطي آراء نقدية فيها، ولكنها ليست مبنية على نظريات نقدية، ولا ألاحق النظريات خصوصاً نظريات الأدب الحديث، والآن يوجد منها الكثير.
    + يكثر الحديث عن علاقة شائكة بين الناقد والمبدع باتت موسومة، في وقتنا الراهن، بالخصومة، وأجدك اليوم تدير جلسة بحثية تتناول النقد، على نحو يشجعني لسؤالك: هل يشكل النقد حارساً للإبداع؟
    ++ في الواقع، العلاقة أحياناً تكون جيدة ومفيدة ومنتجة، و لكنها أحياناً قد تكون العكس، حين يمارس النقد بطريقة غير لائقة، فبعض النقاد لا يكتبون بطريقة موضوعية دون تدخل العلاقات الشخصية سواء أكانت حباً أم كرهاً أم سواهما. الناقد الجاد يفيد الكاتب، يعرّفه على بعض الأمور التي لا يدركها كثيراً في الكتاب، وأنا منهم، أكتب بصورة عفوية، ويأتي ناقد ليبصرني بأشياء تعمدتها ولكنها صدرت بصورة عفوية، وعلى هذا يشكر الناقد. بالمقابل وبعد الممارسة الطويلة للكتابة بلغت أكثر من ستين عاما أصبح بوسعي أن أنقد الناقد وعندما أقرأ نقده أقول: هل فهم ما قرأه كما يجب؟ ثم هل هو موضوعي في تناوله للموضوع؟
    على كل حال بصورة عامة، كثيرون ممن يمارسون النقد غير أكفاء، فالناقد منهم يتأثر بقراءة كتاب ما، فيتصدى للكتابة عنه في إحدى المجلات أو الصحف،وقد لا يكون كفئاً لهذا الأمر، فالناقد عليه أن يكون ذا إحاطة شمولية بالأدب، حتى إن على ثقافته أن تكون أوسع من ثقافة الكاتب وهذا لا يتيسر لكل النقاد وأكثر ما نقرؤه في الصحف اليوم هي كتابات نقدية لمبتدئين تأثروا سلباً أو إيجاباً بما قرؤوه، بينما في الغرب والصحف والدوريات الغربية النقاد مهنتهم النقد. في كل مجلة في الغرب يوجد ناقد أو أكثر يكتب بصورة مستمرة، قد يكون كاتباً فيها، ولكن النقد صنعته، على نحو يعتمد القارئ على الآراء التي يعطيها والأعمال الأدبية التي يتصدى لها، أذكر عندما كنت أقرأ كتباً باللغة الفرنسية، أقرأ صفحات النقد في بعض المجلات الفرنسية فأثق بالناقد وأبني رغبتي على اقتناء الكتاب وقراءته على ما يقوله لأنه متمرس ومحترف. بالمقابل خذ مثلاً مجلة (المعرفة) التي تصدر عن وزارة الثقافة السورية، وهي مجلة فكرية يجب أن يكون فيها نقاداً محترفون يعطون رأيهم بصورة مستمرة بما يصدر، ولكن هذا لا يحدث بصورة دائمة وكل ما نقرؤه في أوساط النقد هو ما ينشر في الجرائد اليومية، وإذا أمعنت أكثر في ما يكتب، تجد أن العلاقات الشخصية تدخل في معظمها.
    + أجدك قد تناولت النقاد غير الأكفاء، والصحف التي تتسع لما يكتبونه، وأين المبدع من هذا كله؟ ألا تجد أننا نفتقر أيضاً للمبدعين الخلاقين القادرين على إزاحة الغث الفاسد، خلافاً لما أفرزته ستينيات وسبعينيات القرن الماضي من أسماء مبدعة...؟
    ++ المبدعون اليوم في الساحة الأدبية كثيرون، ولكن الظروف تغيرت، فملاحقة الأعمال الأدبية بات صعباً، بعد أن كثرت الدوريات وتنوعت. في الماضي كان هناك مجلات ودوريات متخصصة يقرؤها الأدباء ويتتبعون الأعمال الأدبية لهذا المبدع أو ذاك، أما اليوم فقد تغير الأمر. أحياناً يصدر لي في الأسبوع أربع مقالات، ومع ذلك يسألونني لماذا لا تكتب؟
    على كل حال لا يوجد نقص موهوبين فالموهوبون كثر، إلا أن هناك من استسهل الكتابة نتيجة العدد الكبير من المجلات التي تصدر، على نحو أصبح لدينا عدد كبير من الكتًاب تذهب بينهم أصداء الصالح مع الطالح، بعد أن صارت ملاحقة نتاج هؤلاء الصالحين صعباً. سابقاً كان رئيس تحرير المجلة وأعضاؤها يحرصون على سوية عالية للمادة التي تنشر، هذا الشيء لم يعد موجوداً الآن، فقد فتحت هذه المجلات أبوابها لكل ما هبّ ودبّ، ونقص الاهتمام بسوية ما ينشر ودقته، على نحو صرت أقرأ في مجلات جادة أشياءً خاطئة جداً. في إحدى المجلات نشروا صورة جامع قرطبة و كتبوا في أسفل الصورة، كاتدرائية قرطبة وهذا أمر لا يحدث عادة إن كان هناك مراقبة وجدية في العمل. وقرأت في مجلة أخرى عن هاجر زوجة إبراهيم الخليل وهي هاجر، ووسط هذا كله ستضيع أسماء كبيرة ولكنها موجودة.
    +ألا تعتقد أن غياب القارئ الجاد ساهم في تكريس هذه المطبوعات في مشهدنا الثقافي الحالي، وإنتاج صورة هزيلة لما ينتج اليوم إبداعياً؟
    ++ لقد قلت في إحدى المنتديات بأن عشرين بالمئة من كتّابنا اليوم يكفون قراءنا، ففي وقت لا يوجد عندنا فيه قراء، تجد مثلاً أن لدينا سيلاً من الشعراء والشاعرات. فيما مضى كان هناك نخبة من القراء تستدعي وجود نخبة من الكتاب، وهذه الآن تغيرت. الآن تقرأ في الصحف قصائد ليس لها أية قيمة، ولا تدري كيف نشرت. الواضح أن تساهلاً ساهم في تمريرها على نحو أساءت للشعر الحديث، وكرست صورة سلبية عنه، رغم وجود شعراء حداثة لهم قيمتهم.
    د.حسين علي محمد
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  3. #3
    عبد السلام العجيلي - مأزقية مخاض النهضة السورية
    بقلم: د.عبد الرزاق عيد
    ..........................
    يتزامن ميلاد د. عبد السلام العجيلي 19181919 في مدينة الرقة الفراتية الصحراوية مع بداية خروج المجتمع السوري من زمن المجتمع التقليدي (العثماني) مجتمع الملة، ودخول زمن التحديث الكولونيالي (الفرنسي)، وبداية تكون المجتمع السوري كمجتمع (أمة / مواطنة) بالتضاد مع الآخر الاستعماري.
    تتكثف في شخصية العجيلي كل العناصر المكونة للمثقف السوري الحديث على المستوى المهني كطبيب وعلى المستوى الإبداعي كأديب: قاص وروائي وشاعر ومنشئ للمقالة وأدب الرحلات والسمر... الخ وكمواطن فاعل في الشأن العام (نائب ووزير) في المرحلة السياسية الليبرالية الديموقراطية الموؤودة والمغدورة سوريا وعربيا، وعلى هذا فكما تتعايش حضارة الماء (نهر الفرات) مع ثقافة الصحراء (بادية الرقة وعجاج غبار الصحراء)، موطن ولادته، تتعايش الثقافة التراثية بنموذجها (الجاحظ) بما تمثله جمالياته النثرية في عصر النهضة العربية الأولى: وصفا، وسردا، وحكايات وأشعارا وأخبارا، بالتوازي مع الأدب الغربي الفرنسي بتنوع نتاجاته النثرية الأدبية والقصصية (أناطول فرانس ? أندرية مالرو).
    هكذا هو العجيلي طبيب لا يملك إلا وأن يكون علمه نثرا، وأديب ينتمي الى الصحراء وميراثها الغنائي الحادي الذي يروي الفرات فيافيها، ولذا فقد كان من المفهوم والمعلوم عربيا أن يبدأ باختبار مواهبه عبر البدء بالشعر ولذا فقد نظم أول قصيدة له عندما كان في الرابعة أو الخامسة عشرة من عمره، وفي الحين ذاته وبعد لأي في الثامنة عشرة، سينشر أول قصة له في (مجلة الرسالة) التي كان يصدرها محمد حسن الزيات، وذلك في عام 1936، لكن تجربة العجيلي في تزاوج الشعر والنثر: سيعبر عنها أولا في القصة وذلك في نشره لأولى مجموعاته القصصية (بنت الساحرة) 1948م.
    هذه المجوعة كانت بمثابة إعلان عن ولادة نثر قصصي متشبع بكثافة حضور اللغة التراثية بأرقى تجلياتها في عصر النهضة العربية الأول القرن الثالث والرابع الهجري، رشيقة جذابة عصرية تؤذن بميلاد اسلوبية نثرية نهضوية سورية حديثة.
    وسيعبر ثانيا عن هذه التجربة شعريا من خلال نشره في فترة لاحقة بعد ثلاث سنوات 1951 لديوان (شعر الليالي والنجوم) فيه رهافة رقة وعذوبة الشعر الحديث، الذي راح نزار قباني يستولده مدنيا وعصريا لكن برديكالية اجتماعية متمردة ضد ذكورية المجتمع البطركي.... وانفعالات القبيلة، متمثلا بديوانه الأول (قالت لي السمراء) 1944 والذي هز الحياة الاجتماعية والثقافية في سوريا، عبر استنفار كل القوى التقليدية المحافظة التي استثارها ما أحدثه الديوان من (وجع عميق في جسد المدينة (دمشق) التي ترفض أن تعترف بجسدها... أو بأحلامها..) حسب تعبيره، مساوقا ومحايثا بتجربته الشعرية تلك لولادة وعي اجتماعي نهضوي متحرر من إرث التقاليد واثق الخطا باتجاه مستقبل الحداثة... بجسدها أو بأحلامها.... حسب تعبير نزار.
    العجيلي بسيط كالماء والصحراء وكائناتها الطبيعية والبشرية: حيث رصد نثريات الحياة اليومية والمعاشية والسلوكية، ومن ثم سبر أغوار عوالمها المنداحة في الزمان والمكان، وهو في الآن ذاته ? مركب مديني ومدني فاعل من حيث الانخراط في الشأن العام كنائب في البرلمان في عام 1947، ومقاتل في حرب فلسطين 1948 ووزير للإعلام 1962م.
    ومنذ الهزيمة القومية الوحدوية 1958 التي انهزم معها المجتمعان المدنيان: السوري والمصري بولادة الدولة البوليسية، النموذج البدئي للنظام الكابوسي العربي، نقول: منذ هذه اللحظة ومرارة الخيبة والإحباط تسكن مفاصل أدبية أدبه كما في روايته (قلوب على الأسلاك)، وتعبير ذلك أن العجيلي هو الوحيد ممن تبقى لنا، من مبدعي زمن تكون المجتمع السوري وصيرورته كمجتمع مدني على أنقاض المجتمع الأبوي التقليدي من خلال التجربة السياسية الديموقراطية البرلمانية التي عاشها وشارك بها وكان أحد ممثليها.
    ولذا ظلت أسئلة العجيلي هي: أسئلة الزمن الليبرالي الذي استشعر غربته وغرابته خلال حقبة أربعين سنة.
    المحاكاة الساحرة: لعل أولى الإشارات التي تومئ الى موهبة حس نقدي نهضوي عبر عنها العجيلي كانت وهو في العشرينات، وذلك من خلال كتابته لمجموعة المقامات الأخوانية الساخرة المفعمة بروح شباب مقبل على الحياة بفرح وثقة بالمستقبل تمنحه الجرأة ليس على التهكم والتندر على المدرسة والدروس والمعلمين والتلاميذ فحسب، أو كتابة صفحات ساخرة ضاحكة على أنفسنا ومن حولنا وعلى الجو الذي كنا نعيش فيه في الأيام الخوالي) بل السخرية والتهكم من أساليب الكتابة التقليدية، فهو إذ يكتب المقامة، إنما كان يستحضرها دونكيشوتيا، أي نقدها بحب، والهزء منها بتودد، عبر استحضار إحدى القيم الأدبية من التراث لمحاكاتها عبر السخرية من فعاليتها الأدبية والأسلوبية عندما تلقى في مجرى الحاضر، والهزء من بنيتها الماضوية عندما توضع في تحد مع أسئلة الحاضر، لكنها ? المقامة فيما يبدو كانت بمثابة القنطرة الضرورية للعبور للأدب القصصي الحديث، وتعبير ذلك في مصر أن المويلحي عبر من خلال قناتها إلى النثر الحكائي الحديث في (حديث عيسى بن هشام).
    ولعل المقامة القنصلية التي كتبها العجيلي جوابا على المقامة النهدية لنزار قباني، عندما كان الأخير قنصلا في أنقرة، تؤشر منذ يفاع الكاتبين الى روح ذلك الجديد الذي راح يتبرعم في أحشاء الزمن السوري ليبدأ اصطدامه بقديم المجتمع (البطركي) ليس عبر الصدام مع قيمه الاجتماعية التقليدية فحسب، بل عبر اصطدامه بأدواته الأسلوبية ومفردات خطابه المحققة لبنيته الذهنية، وعلى هذا، فهو يستهل خطابه المقامي لنزار، بالسخرية من مفردات التراث المهجور، فيحدثنا كاتبنا عن نزار: (أن صاحبنا صريع الغواني، أبا النهد الأشقراني، الذي بعثناه منقبا عن الجفنة المثعنجرة، والطعنة المسحنفرة، قد خاننا في أنقرة) ويعاتبه هازئا بأنه لم يكتف بالتوقف عن البحث عن الغريب المهجور في شعر امرئ القيس ومصيره في جبل عسيب، وعن قبر الغريبة للغريب، بل (أنه تأبط قيثاره وعوده، وامتطى للغزل قعوده، وانشغل عن البعثة والسفارة، بصبايا الحارة وعشق الجارة).
    ويرصع مقامته (القنصلية) بعدد من الأبيات الشعرية يعارض فيها قصيدة نزار (قالت لي السمراء) مداعبا... فتواصل المقامة: (وإذا بأبي النهد الأشقراني، على رواية الأغاني، يقول، بعد الصلاة على طه الرسول:
    قالت لي السمراء... إنك بارد
    فأجبتها بل أنت مني أبرد
    ترمين بالنعل العتيقة عاشقا
    يا حبذا لو أن نعلك أجدد
    هذا حذاؤك يا صبية في يدي
    يروي حكايات الغرام وينشد
    وهو في مقامته هذه، يرد على مقامة نزار (النهدية) التي يداعب صديقه العجيلي، حيث أشد خيبات الرجال تكمن؟ دائما؟ بهدم وتداعي نرجسية مزاعمهم الذكورية، وذلك عندما تكون غادة أحلام العجيلي، معروقة كجرادة! حسب دعابة نزار.
    يقول نزار في مقامته عن صديقه (ربته أمه كعرق شب الظريف... وعجنته كما يعجن الرغيف، وحصنته بشبّة وخرزة والطف يا لطيف، حتى غدا ? ماشاء الله ? طبيبا فوق العادة، له حقنة وعيادة.. يصبو لنقر سبابته بطن كل غادة، معروقة كالجرادة).
    مما لاشك فيه أننا بعد نصف قرن من أدب (القضايا الكبرى) الذي يذهب اليوم كغثاء أحوى بذهاب قضاياه، نستعيد لطافة نسائم تلك النفحات الثقافية التي كانت تنمو نموا طبيعيا تلقائيا حرا نحو مناخات ثقافية / سياسية ليبرالية متسامحة، صافية النفس، بريئة الوجدان والضمير، ترسل قهقهاتها كتحد مدني ديموقراطي تاريخي ضد المقدس: مقدس اللغة، مقدس التراث، مقدس القيم الاجتماعية التقليدية والمحافظة، وهذا ما سيمثله العجيلي في النثر القصصي ونزار قباني في الشعر.
    في عام 1960 اصدر عبد السلام العجيلي رواية صغيرة تحت عنوان رصيف العذراء السوداء. فيبني العجيلي روايته على اللقاء الجسدي بين (عباس) الشرقي (العربي العراقي) و(ماريا لينا) السويدية، والمكان باريس، والزمان غير محدد، والمكان مجرد، عام بدون هوية.
    بل إن هوية المكان تحددها الوظائف الايديولوجية للخطاب الفكري للرواية (مكان فاسق / مكان طاهر) والتناقض بين المكانين يؤدي الى شبكة تناظرات، حيث الأمكنة الفاسقة هي: البارات والملاهي والمقاهي، وبها تتحدد هوية (عباس الشرقي)، بينما الكنائس هي النظير المكاني الدلالي المضاد الذي سيحدد هوية (ماريا لينا) السويدية.
    وعلى هذا فالرواية إذ تصطنع لنفسها إشكالية للمثاقفة مع الغرب من خلال الاتصال الجنسي بين الشاب الشرقي والفتاة الغربية، فإننا لا ندري أين وجد مرجعيتها أو صداها، إذ هو يؤكد افتراق دربنا عن درب الغرب من خلال محوري المعرفة ممثلا ب (عباس) الشرقي، ومحور المحبة ممثلا ب (ماريا لينا) الغربية! تقول ماريا لينا: (طريقانا مختلفان يا عباس بل لعلهما متعاكستان، أنت سرت من المعرفة نحو المحبة، وأنا بدأت من المحبة لأنتهي الى المعرفة، في هاتين الطريقتين المتعاكستين لايمكن أن نلتقي الا مرة واحدة... ويبدو أننا التقينا في تلك المرة، تقاطعت طريقانا مرة واحدة فالتقينا، وذلك على رصيف العذراء السوداء، هل نسيت؟) وسبب عدم القدرة على اللقاء ? وفق هذه المقولة أن عباس يعتقد: إن (الله معرفة) وماريا لينا تعتقد أن (الله محبة)، إن هذه الصياغة لإشكالية المثاقفة مع الغرب من منظور الرواية جعل منها نصا ايديولوجيا واهيا وواهما، وذلك عندما شادت عناصرها الروائية الركنية على هذه الأطروحة الثقافية، أي أن مرجعية البناء المعماري للأحداث الروائية كان الفكرة وليس التجربة، الأطروحة وليس الفعل، وذلك ديدن الرواية السورية في كل الأحوال، لكن العجيلي الذي غامر بروايته ليجعل بؤرة سردها ترتكز الى مشكلة ثيولوجية (الله: محبة أو معرفة)، كان يسجل وعيا ليبراليا محافظا، إن لم يكن يعوزه العمق ومعرفة حقيقية للآخر الغربي! هذا إذا أخذنا في عين الاعتبار أن نجيب محفوظ في تلك الفترة كان قد أصدر (روايته الفلسفية) أولاد حارتنا، فارتفع بالسؤال الفلسفي الى مستوى الارتقاء لمعاورة معنى الكينونة ومغزاها ومصائرها.
    في حين أن القارئ سيقف حائرا أمام عدد من الأسئلة التي تثيرها الترسيمة الفكرية لرواية كاتبنا العجيلي، ومدى اتساقها، فهل يشكل عالم الكنائس السمة المميزة للغرب (ماريا لينا) حيث المحبة؟ وهل عالم اللهو والتسلية (عباس) هو عالم الشرق حقا؟ وأية صلة بين الانهماك في عالم المتع اليومية، وتمثيل المعرفة؟ ليجد القارئ نفسه تجاه أفكار عامية سائدة في المجتمع الشرقي، عن أن ممكنات اللقاء الوحيدة مع الآخر الغربي هي اللقاءات الجسدية (المثاقفة / المناكحة)...!
    لكن العجيلي أراد أن يغلف الأساطير الشرقية عن ذكورة الشرق وأنوثة الغرب، بغلاف فلسفي يشي بالحكمة والتأمل، وذلك على الأغلب ليغطي فوهة لاشعور إسلامي يبيح لنفسه التسري واتخاذ (انثى الآخر) أمة أو سبية أو جارية مباحة خارج الشرعية الزوجية فيما يدخل في إطار ما ملكته الأيمان!.
    ولعل عجز الليبرالية السورية عن التوفر على مصفوفة معرفية نهضوية راديكالية هو الذي يعطي لأطروحة ياسين الحافظ مشروعيتها، وهي الأطروحة القائلة: إن مشروع الليبرالية العربية القومي الديمقراطي بدا مشروعا متأخرا ذا حشوة ماضوية (هاشمية: قومية وعروبة الشريف حسين) تقليدوية محكومة بالفوات، وقد عمم حكمه هذا على الليبرالية العربية عموما، واستثناؤه لبعض جوانب تقدم الليبرالية المصرية لم يحل دون وصمها بالتأخر الذي لا يختلف عن تأخر المؤسسة العسكرية ذاتها.
    ولذا كانت دعوة ياسين مع عبدالله العروي إلى العودة إلى استلهام الليبرالية الغربية، لتملك انجازاتها التنويرية العقلانية النهضوية بغض النظر ? أو بدون مشروعها الاقتصادي، بوصفها مقدمة ضرورية للمشروع القومي الديموقراطي العربي، أي أن هذه الدعوة كانت بسبب فوات وتأخر وغربة وتغرب المشروع الليبرالي العربي، وإن كان العروي تراجع عن رأيه التبخيسي هذا تجاه دور الليبرالية في مشروع النهضة العربية، ولعل ? رأي وموقف ياسين هذا يفسر أن الجيل الثاني الراديكالي (قوميا، يساريا) في سوريا ? ذا الهمة الثورية العالية كان ينظر ونحن منهم إلى تجربة العجيلي النثرية ونزار قباني الشعرية بوصفها تجربة (رجعية)...!
    وتفرد العجيلي عن جيله ورعيله برفض جائزة الدولة التقديرية: حنا مينا وعبد الكريم اليافي، بل وزكريا تامر الذي كان قبوله للجائزة صدمة، نظرا لما تمثله مسألة الحرية من هاجس يخترق لب لباب تجربته القصصية المميزة، لكن العجيلي الذي رفض الجائزة لم يمتلك الشجاعة مع الأسف على إعلان سبب رفضه للجائزة.
    وتلك هي مشكلتنا مع جيل الرواد الليبرالي، الذي كانت قلة شجاعته أو ما سماه أحد أبناء هذا الجيل وهو بشير العظمة رئيس وزراء الحكومة (الانفصالية) التي شارك فيها العجيلي: باسم (جيل الهزيمة)? نقول: إن عجز (جيل الهزيمة) الليبرالي هذا، ربما كان أحد أسباب مصائبنا وشقائنا وهزائم مجتمعاتنا.
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    *المجلة الثقافية، العدد (106)، في 16/5/2005م.
    قالوا في العجيلي
    ...................
    * وفي كل حكايات هذا القاص نجد الرشاقة في وصف المواقف والتوازن المحكم بين الحدث والنفسيات، كما نجد أسلوباً لا يمكن لصرامته المجردة من الجفاف أن تترجم إلى الفرنسية دون تصرف، مما جعل من عبد السلام العجيلي أحد الأساتذة العرب في فن القصة القصيرة والرواية.
    وقد كانت القدرة على تكثيف العقدة الدرامية هي ما أثّر في نفسي، منذ أول نصوص نشرها هذا الإنسان الذي أسهم في معارك جيله بدون أوهام ولكن ليس بدون التزام.
    البروفسور جاك بيرك مستشرق فرنسي
    * أروع بدوي عرفته المدينة، وأروع حضري عرفته الصحراء.
    نزار قباني
    * رائد القصة القصيرة في الأدب العربي الحديث .
    يوسف إدريس
    * غوته وستاندال وفلوبير، أسماء أعلام في الأدب مشهورة وعبد السلام العجيلي يستحق أن يشبه بأساتذة فن الرواية الكلاسيكي هؤلاء، وأنا قادر بسهولة على إقامة البرهان على صحة ذلك، لو كنت أملك الزمان والمكان اللازمين.
    البروفيسورجان غولميه مستشرق فرنسي
    * رؤيا العجيلي واحدة لأنها تنطلق من منبع واحد لتنتهي إلى مصب واحد مهما تباينت التضاريس وتنوعت التعاريج وكثرت أو قلت الالتواءات في مساراها. ونحن نقول إنها شخصية متمايزة، لأن وجه العجيلي يطل علينا منها رائقاً، متفرداً، ذا قسمات واضحة ومحددة لا تشبه من قريب أو بعيد قسمات أي وجه آخر من وجوه الأدب العربي الحديث.
    جورج طرابيشي ناقد عربي معروف
    * يعتبر العجيلي واحداً من أهم كتاب العربية بعد الجاحظ.
    ـــــــــــــــــــــ
    *المجلة الثقافية، العدد (106)، في 16/5/2005م.
    د.حسين علي محمد
    كاتب في أنهآر
    الملف الشخصي
    من مواضيع العضو :
    0 شرخ آخر في المرآة
    0 رحيل الكاتب السوري الكبير عبدالسلام العجيلي
    0 الدار بوضع اليد
    0 مجنون أحلام
    0 البنات .. البنات
    هذا الصّرْح..عبد السلام العجيلي
    بقلم: نبيل سليمان *
    ـــــــــــــــــــــــ
    في تشرين الثاني نوفمبر الماضي نظّم المعهد الفرنسي بدمشق ندوة حولَ النقد الأدبي في المشرق العربي.
    وقد ترأس عبد السلام العجيلي الجلسة التي شاركتُ فيها ببحث في الفعالية النقدية في سوريا خلال العقدين الرابع والخامس من القرن الماضي، وهي الفترة التي كان عبد السلام العجيلي من نجومها. ولقد أسعدني أن يحرض البحث ذاكرة العجيلي فيما عقّب به.
    وفي الجلسة، كما في أيام الندوة، بل وكما في لقاءاتنا المتباعدة خلال السنوات الأخيرة، تأملت هذا الذي ليس من المؤكد أنه ولد عام 1918 أم عام 1919 ونيّف على السبعين ذات لقاء بعيد، بل على الثمانين ذات لقاء قريب، بل على الخامسة والثمانين في تلك الندوة، وبالكاد تقع على أثر للشيخوخة فيه: دقّوا على الخشب! ربما لذلك لا أذكر كيف كان هذا الصوت المميز وهذه القامة الرشيقة وهذا الحضور البهيّ قبل سبعة وثلاثين سنة، حين رأيت عبد السلام العجيلي أول مرة: هو يقترب من الخمسين، وأنا قد تخرجت في الجامعة للتوّ، ويمّمت إلى مدينته (الرقة) مدرّساً للعربية، أتدافر بسنواتي الاثنتين والعشرين.
    في حارة العجيلي هذا هو اسم الحارة في الرقة أقمت مع صديق سنتي الأولى في غرفة من بيت متواضع تفصله أمتار عن بيت الدكتور.
    كنت أتهيب ذلك البيت في الرواح والغدوّ، ليس فقط لأنه كاتب كبير أو للشخصية المرموقة في المدينة، بل لأنه بيت حجري كبير وجميل تتصاغر أمامه بيوت الحارة، ويحرك فيّ ما زرقتني به في غفلة طويلة نشأتي وقراءاتي من الحذر من بيوت (قصور) الأثرياء بعامة، ومن الحذر بخاصة من هذا الذي كان قبل خمس سنوات فقط وزيراً للثقافة والخارجية والإعلام في الحكومة الانفصالية التي انقلبت على الجمهورية العربية المتحدة وجمال عبد الناصر، وشاركتُ في المظاهرات ضدها في الثانوية الصناعية في اللاذقية، وامتلأت شماتة بها عندما انقلب عليها الناصريون والبعثيون عام 1963م.
    وهأنذا إذن جارٌ للانفصالي (والإقطاعي والرجعي) بحسب المنظومة السحرية التي كانت تدوّخني مثل كثيرين من جيلي.. ولكنني أيضاً جارٌ لمن يقال إنه كان نائباً شاباً في البرلمان عندما اندفع يلبي نداء فلسطين، وانخرط في جيش الإنقاذ.
    أما ما كان أكبر إرباكاً لي فقد كان أنّ الرجل نفسه هو من قرأت له خلال السنوات القليلة المنصرمة بين الثانوية والجامعة قصة (كفن حمود) وقصة (سالي) اللتين لن أنساهما فيما قرأت من قصص (بنت الساحرة) أو (ساعة الملازم) أو (الخائن)، كما لن أنسى (رصيف العذراء السوداء) و(باسمة بين الدموع)، وكل هذه الأعمال هي في مكتبتي بطبعاتها الأولى التي تعود إلى خمسينيات القرن الماضي.
    على الرغم من قرب المزار لم أقترب من عبد السلام العجيلي إلا بعد سنتين. كنت أعبر بعيادته المتواضعة القريبة من البيت، وأتهيّبها. وخلال تينك السنتين اللتين أنجزتا إيقاع هزيمة 1967 عجني بين القومية (الناصرية البعثية) والوجودية والماركسية، وكتبت فيهما روايتي الأولى (ينداح الطوفان).. خلال ذلك كنت قد قرأت للعجيلي مجموعة (الحب والنفس) ومن أدب الرحلات (حكايات من الرحلات) و(دعوة إلى السفر)، وكنت أحسد هذا الذي كلما غاب عن الحارة قيل إنه في دمشق أو بيروت أو إسبانيا أو فرنسا أو.. إلى أن حلّ مساء 21 10 1969، ومضيت بصحبة عدد من زملائي المدرسين في ثانوية الرشيد إلى بيت الدكتور. من ذلك اللقاء عدت مسحوراً بظرف الرجل وتواضعه وسعة اطلاعه، كما عدت بهديته: نسخة موقعة من كتابه (المقامات).
    وعلى الرغم من أنني كنت عريساً، لم أنم حتى قرأت الكتاب، فرأيتني أقرب إلى هذا الذي استمالته الكتابة الساخرة فيما قرأ في الكتب المدرسية من المويلحي والهمذاني والحريري، وكان يغافل أساتذته ويكتب على جلد دفتر زميل في تجهيز (ثانوية) حلب أو في معهد الطب العربي الذي صار كلية الطب في جامعة دمشق، وإذا بعبد السلام بن محبّ يحدثنا في المقامة الطبية بدلاً من عيسى بن هشام. وإذا بعبد السلام العجيلي يوقّع المقامة التي نشرت عام 1942 باسم بديع الزمان، ثم يكتب المقامة الحقوقية ليفعل في معهد الحقوق الذي صار كلية الحقوق ما فعله بمعهد الطب.
    وها هو ذا هذا الشاب الثلاثيني وقد غدا نائباً في البرلمان يطلق سخريته من البرلمان في المقامة البرلمانية.. ولأن المقامة القنصلية تتصل بنزار قباني فلن أنساها، وهي التي ردّ بها العجيلي على (المقامة النهدية) للشاعر الذي كان آنئذٍ سفيراً لسورية في تركيا، وأرسل صورة من مقامته إلى العجيلي موقّعةً عن أبي فرج الأصفهاني باسم (أبو النهد الأشقراني).
    إذا كان العجيلي قد تخفّى في البداية باسم بديع الزمان أو باسم أوس أو سواهما من الأسماء المستعارة، فقد أسفر أخيراً عن ذلك الطبيب والسياسي والثري والمثقف الشاب القادم من بلدة منسية إلى عقر العاصمة التي كانت تزخر بظرفائها من الشعراء والكتاب والساسة والمحامين والصحافيين.
    وقد كان أولاء الظرفاء صحبة العجيلي الذين سخروا منه وسخر منهم كما سخروا جميعاً من كل شيء.. وهنا، قد تصدق في العجيلي أكثر من سواه قولة الجاحظ فيمن لا يحسن السخرية من نفسه قبل السخرية من سواه، فمثل هذا لن يحسن السخرية، دعك من نفجته الصريحة أو المواربة.. بعد سنة من هدية (المقامات) أهديته روايتي الأولى.
    وسرعان ما شاع في الرقة أن زيداً وعمرواً (ما جمعهما؟) قد أساءتهما بذاءة الرواية وشخصية الشيخ جوهر فيها، لذلك ستنصبّ اللعنة على الكاتب الذي كان غادر حارة العجيلي إلى حارة البكري المجاورة، وله في هذه سند، لكن من صدَّ عنه الأذى هو ذو الكلمة المسموعة الذي انتصر للكتابة، والذي سأظلّ مديناً له بذلك: عبد السلام العجيلي.
    في ذلك الشتاء كان الكاتب المرحوم أنور قصيباتي قد جاء إلى الرقة مدرساً للفلسفة، ومدرّعاً بروايته (نرسيس). وفي زيارة بصحبته للعجيلي، حدثنا مضيفنا عن رواية كان قد ابتدأ بها منذ حين، ثم استعصت فتوقف.
    وإذا كنت لا أذكر الآن من منا نحن الثلاثة كان البادئ بعرض متابعة الرواية في مشروع ثلاثي مشترك، فلن أنسى أن تلك الزيارة قد أورثتني السّهد.. لقد كانت الغواية كبرى: أن يشارك مثلي ومثل زميلي هذا الكاتب الكبير في رواية!!
    وماذا إذن عن الرواية التي كنت قد شرعت في كتابتها (السجن)؟ تراني خفت من الشراكة فيما لا سابقة له في العربية، وفيما ندر في غير العربية؟ أم خفت على رواية (السجن)؟. مهما يكن، فقد اعتذرت من الشريكين اللذين تابعا المشروع، فكانت رواية (ألوان الحب الثلاثة) التي صدرت عام 1975، وكنت قد غادرت الرقة قبل ذلك بثلاث سنوات إلى حلب، ممتلئاً بالمودة والإكبار لعبد السلام العجيلي، ومتخففاً من الحذر الذي لاقيته به قبل خمس سنوات. وسرعان ما أنجزت مع الصديق الراحل بوعلي ياسين كتاب (الأدب والأيديولوجيا في سورية)، ودرسنا فيه مجموعة العجيلي (فارس مدينة القنيطرة).
    وفي حمأة الهجوم الذي شنّه من أساءهم أن يُدرس لواحدهم نصٌّ من زاوية أيديولوجية، تناهى إلينا غضب عبد السلام العجيلي أيضاً. لكن الرجل لم (يمسح الأرض بنا) كما فعل بخاصة زكريا تامر وممدوح عدوان وهاني الراهب ومحيي الدين صبحي.
    منذ ذلك الحين باتت لقاءاتي بعبد السلام العجيلي هي قراءاتي لما يكتب. وإذا كنت قد درست من ذلك فقط روايتيه (قلوب على الأسلاك) و(أزاهير تشرين المدماة)، فقد تأكد لي، فيهما كما فيما تلاهما من رواية (المغمورون) فرواية (أرض السيّاد) أن السياسي لم يغادر هذا الفنان الذي عرّت روايته (باسمة بين الدموع) الحياة السياسية السورية في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، كما ستعري روايته (قلوب على الأسلاك) سنوات الوحدة السورية المصرية (1958 1961)، سوى أن الهجاء سينتأ في الثانية، كما سينتأ التبسيط في تمجيد حرب 1973 في رواية (أزاهير تشرين المدماة)، بينما يصير ما هو سياسي في الروايتين التاليتين طوع الفنان الذي ظل طوال سبعين سنة نشرت مجلة الرسالة قصته الأولى عام 1936 يبحر في الكتابة، مخلصاً للكلاسيكي في القصة والرواية بقدر ما كانت له بصمته الخاصة فيهما، كما هو شأنه فيما كتب من أدب الرحلات ومن المقالة.
    ولأنه ذلك الذي بالكاد تقع على أثر للشيخوخة فيه ثانية وثالثة: دقوا على الخشب ولأنه عوّدنا على أن تظل مشروعاته الإبداعية سراً حتى النشر، ولأننا نحبه، فسنظلّ ننتظر جديده، وسنظل نعود إلى قديمه، وسنظل نختلف معه.
    ومن يدري، فقد يمنّ علينا بواحدة من سخرياته، فيعوّض الأول والآخر.
    ........
    * ناقد سوري
    ـــــــــــــــــــــ
    *المجلة الثقافية، العدد (106)، في 16/5/2005م.
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  4. #4
    عبد السلام العجيلي - مأزقية مخاض النهضة السورية
    بقلم: د.عبد الرزاق عيد
    ..........................
    يتزامن ميلاد د. عبد السلام العجيلي 19181919 في مدينة الرقة الفراتية الصحراوية مع بداية خروج المجتمع السوري من زمن المجتمع التقليدي (العثماني) مجتمع الملة، ودخول زمن التحديث الكولونيالي (الفرنسي)، وبداية تكون المجتمع السوري كمجتمع (أمة / مواطنة) بالتضاد مع الآخر الاستعماري.
    تتكثف في شخصية العجيلي كل العناصر المكونة للمثقف السوري الحديث على المستوى المهني كطبيب وعلى المستوى الإبداعي كأديب: قاص وروائي وشاعر ومنشئ للمقالة وأدب الرحلات والسمر... الخ وكمواطن فاعل في الشأن العام (نائب ووزير) في المرحلة السياسية الليبرالية الديموقراطية الموؤودة والمغدورة سوريا وعربيا، وعلى هذا فكما تتعايش حضارة الماء (نهر الفرات) مع ثقافة الصحراء (بادية الرقة وعجاج غبار الصحراء)، موطن ولادته، تتعايش الثقافة التراثية بنموذجها (الجاحظ) بما تمثله جمالياته النثرية في عصر النهضة العربية الأولى: وصفا، وسردا، وحكايات وأشعارا وأخبارا، بالتوازي مع الأدب الغربي الفرنسي بتنوع نتاجاته النثرية الأدبية والقصصية (أناطول فرانس ? أندرية مالرو).
    هكذا هو العجيلي طبيب لا يملك إلا وأن يكون علمه نثرا، وأديب ينتمي الى الصحراء وميراثها الغنائي الحادي الذي يروي الفرات فيافيها، ولذا فقد كان من المفهوم والمعلوم عربيا أن يبدأ باختبار مواهبه عبر البدء بالشعر ولذا فقد نظم أول قصيدة له عندما كان في الرابعة أو الخامسة عشرة من عمره، وفي الحين ذاته وبعد لأي في الثامنة عشرة، سينشر أول قصة له في (مجلة الرسالة) التي كان يصدرها محمد حسن الزيات، وذلك في عام 1936، لكن تجربة العجيلي في تزاوج الشعر والنثر: سيعبر عنها أولا في القصة وذلك في نشره لأولى مجموعاته القصصية (بنت الساحرة) 1948م.
    هذه المجوعة كانت بمثابة إعلان عن ولادة نثر قصصي متشبع بكثافة حضور اللغة التراثية بأرقى تجلياتها في عصر النهضة العربية الأول القرن الثالث والرابع الهجري، رشيقة جذابة عصرية تؤذن بميلاد اسلوبية نثرية نهضوية سورية حديثة.
    وسيعبر ثانيا عن هذه التجربة شعريا من خلال نشره في فترة لاحقة بعد ثلاث سنوات 1951 لديوان (شعر الليالي والنجوم) فيه رهافة رقة وعذوبة الشعر الحديث، الذي راح نزار قباني يستولده مدنيا وعصريا لكن برديكالية اجتماعية متمردة ضد ذكورية المجتمع البطركي.... وانفعالات القبيلة، متمثلا بديوانه الأول (قالت لي السمراء) 1944 والذي هز الحياة الاجتماعية والثقافية في سوريا، عبر استنفار كل القوى التقليدية المحافظة التي استثارها ما أحدثه الديوان من (وجع عميق في جسد المدينة (دمشق) التي ترفض أن تعترف بجسدها... أو بأحلامها..) حسب تعبيره، مساوقا ومحايثا بتجربته الشعرية تلك لولادة وعي اجتماعي نهضوي متحرر من إرث التقاليد واثق الخطا باتجاه مستقبل الحداثة... بجسدها أو بأحلامها.... حسب تعبير نزار.
    العجيلي بسيط كالماء والصحراء وكائناتها الطبيعية والبشرية: حيث رصد نثريات الحياة اليومية والمعاشية والسلوكية، ومن ثم سبر أغوار عوالمها المنداحة في الزمان والمكان، وهو في الآن ذاته ? مركب مديني ومدني فاعل من حيث الانخراط في الشأن العام كنائب في البرلمان في عام 1947، ومقاتل في حرب فلسطين 1948 ووزير للإعلام 1962م.
    ومنذ الهزيمة القومية الوحدوية 1958 التي انهزم معها المجتمعان المدنيان: السوري والمصري بولادة الدولة البوليسية، النموذج البدئي للنظام الكابوسي العربي، نقول: منذ هذه اللحظة ومرارة الخيبة والإحباط تسكن مفاصل أدبية أدبه كما في روايته (قلوب على الأسلاك)، وتعبير ذلك أن العجيلي هو الوحيد ممن تبقى لنا، من مبدعي زمن تكون المجتمع السوري وصيرورته كمجتمع مدني على أنقاض المجتمع الأبوي التقليدي من خلال التجربة السياسية الديموقراطية البرلمانية التي عاشها وشارك بها وكان أحد ممثليها.
    ولذا ظلت أسئلة العجيلي هي: أسئلة الزمن الليبرالي الذي استشعر غربته وغرابته خلال حقبة أربعين سنة.
    المحاكاة الساحرة: لعل أولى الإشارات التي تومئ الى موهبة حس نقدي نهضوي عبر عنها العجيلي كانت وهو في العشرينات، وذلك من خلال كتابته لمجموعة المقامات الأخوانية الساخرة المفعمة بروح شباب مقبل على الحياة بفرح وثقة بالمستقبل تمنحه الجرأة ليس على التهكم والتندر على المدرسة والدروس والمعلمين والتلاميذ فحسب، أو كتابة صفحات ساخرة ضاحكة على أنفسنا ومن حولنا وعلى الجو الذي كنا نعيش فيه في الأيام الخوالي) بل السخرية والتهكم من أساليب الكتابة التقليدية، فهو إذ يكتب المقامة، إنما كان يستحضرها دونكيشوتيا، أي نقدها بحب، والهزء منها بتودد، عبر استحضار إحدى القيم الأدبية من التراث لمحاكاتها عبر السخرية من فعاليتها الأدبية والأسلوبية عندما تلقى في مجرى الحاضر، والهزء من بنيتها الماضوية عندما توضع في تحد مع أسئلة الحاضر، لكنها ? المقامة فيما يبدو كانت بمثابة القنطرة الضرورية للعبور للأدب القصصي الحديث، وتعبير ذلك في مصر أن المويلحي عبر من خلال قناتها إلى النثر الحكائي الحديث في (حديث عيسى بن هشام).
    ولعل المقامة القنصلية التي كتبها العجيلي جوابا على المقامة النهدية لنزار قباني، عندما كان الأخير قنصلا في أنقرة، تؤشر منذ يفاع الكاتبين الى روح ذلك الجديد الذي راح يتبرعم في أحشاء الزمن السوري ليبدأ اصطدامه بقديم المجتمع (البطركي) ليس عبر الصدام مع قيمه الاجتماعية التقليدية فحسب، بل عبر اصطدامه بأدواته الأسلوبية ومفردات خطابه المحققة لبنيته الذهنية، وعلى هذا، فهو يستهل خطابه المقامي لنزار، بالسخرية من مفردات التراث المهجور، فيحدثنا كاتبنا عن نزار: (أن صاحبنا صريع الغواني، أبا النهد الأشقراني، الذي بعثناه منقبا عن الجفنة المثعنجرة، والطعنة المسحنفرة، قد خاننا في أنقرة) ويعاتبه هازئا بأنه لم يكتف بالتوقف عن البحث عن الغريب المهجور في شعر امرئ القيس ومصيره في جبل عسيب، وعن قبر الغريبة للغريب، بل (أنه تأبط قيثاره وعوده، وامتطى للغزل قعوده، وانشغل عن البعثة والسفارة، بصبايا الحارة وعشق الجارة).
    ويرصع مقامته (القنصلية) بعدد من الأبيات الشعرية يعارض فيها قصيدة نزار (قالت لي السمراء) مداعبا... فتواصل المقامة: (وإذا بأبي النهد الأشقراني، على رواية الأغاني، يقول، بعد الصلاة على طه الرسول:
    قالت لي السمراء... إنك بارد
    فأجبتها بل أنت مني أبرد
    ترمين بالنعل العتيقة عاشقا
    يا حبذا لو أن نعلك أجدد
    هذا حذاؤك يا صبية في يدي
    يروي حكايات الغرام وينشد
    وهو في مقامته هذه، يرد على مقامة نزار (النهدية) التي يداعب صديقه العجيلي، حيث أشد خيبات الرجال تكمن؟ دائما؟ بهدم وتداعي نرجسية مزاعمهم الذكورية، وذلك عندما تكون غادة أحلام العجيلي، معروقة كجرادة! حسب دعابة نزار.
    يقول نزار في مقامته عن صديقه (ربته أمه كعرق شب الظريف... وعجنته كما يعجن الرغيف، وحصنته بشبّة وخرزة والطف يا لطيف، حتى غدا ? ماشاء الله ? طبيبا فوق العادة، له حقنة وعيادة.. يصبو لنقر سبابته بطن كل غادة، معروقة كالجرادة).
    مما لاشك فيه أننا بعد نصف قرن من أدب (القضايا الكبرى) الذي يذهب اليوم كغثاء أحوى بذهاب قضاياه، نستعيد لطافة نسائم تلك النفحات الثقافية التي كانت تنمو نموا طبيعيا تلقائيا حرا نحو مناخات ثقافية / سياسية ليبرالية متسامحة، صافية النفس، بريئة الوجدان والضمير، ترسل قهقهاتها كتحد مدني ديموقراطي تاريخي ضد المقدس: مقدس اللغة، مقدس التراث، مقدس القيم الاجتماعية التقليدية والمحافظة، وهذا ما سيمثله العجيلي في النثر القصصي ونزار قباني في الشعر.
    في عام 1960 اصدر عبد السلام العجيلي رواية صغيرة تحت عنوان رصيف العذراء السوداء. فيبني العجيلي روايته على اللقاء الجسدي بين (عباس) الشرقي (العربي العراقي) و(ماريا لينا) السويدية، والمكان باريس، والزمان غير محدد، والمكان مجرد، عام بدون هوية.
    بل إن هوية المكان تحددها الوظائف الايديولوجية للخطاب الفكري للرواية (مكان فاسق / مكان طاهر) والتناقض بين المكانين يؤدي الى شبكة تناظرات، حيث الأمكنة الفاسقة هي: البارات والملاهي والمقاهي، وبها تتحدد هوية (عباس الشرقي)، بينما الكنائس هي النظير المكاني الدلالي المضاد الذي سيحدد هوية (ماريا لينا) السويدية.
    وعلى هذا فالرواية إذ تصطنع لنفسها إشكالية للمثاقفة مع الغرب من خلال الاتصال الجنسي بين الشاب الشرقي والفتاة الغربية، فإننا لا ندري أين وجد مرجعيتها أو صداها، إذ هو يؤكد افتراق دربنا عن درب الغرب من خلال محوري المعرفة ممثلا ب (عباس) الشرقي، ومحور المحبة ممثلا ب (ماريا لينا) الغربية! تقول ماريا لينا: (طريقانا مختلفان يا عباس بل لعلهما متعاكستان، أنت سرت من المعرفة نحو المحبة، وأنا بدأت من المحبة لأنتهي الى المعرفة، في هاتين الطريقتين المتعاكستين لايمكن أن نلتقي الا مرة واحدة... ويبدو أننا التقينا في تلك المرة، تقاطعت طريقانا مرة واحدة فالتقينا، وذلك على رصيف العذراء السوداء، هل نسيت؟) وسبب عدم القدرة على اللقاء ? وفق هذه المقولة أن عباس يعتقد: إن (الله معرفة) وماريا لينا تعتقد أن (الله محبة)، إن هذه الصياغة لإشكالية المثاقفة مع الغرب من منظور الرواية جعل منها نصا ايديولوجيا واهيا وواهما، وذلك عندما شادت عناصرها الروائية الركنية على هذه الأطروحة الثقافية، أي أن مرجعية البناء المعماري للأحداث الروائية كان الفكرة وليس التجربة، الأطروحة وليس الفعل، وذلك ديدن الرواية السورية في كل الأحوال، لكن العجيلي الذي غامر بروايته ليجعل بؤرة سردها ترتكز الى مشكلة ثيولوجية (الله: محبة أو معرفة)، كان يسجل وعيا ليبراليا محافظا، إن لم يكن يعوزه العمق ومعرفة حقيقية للآخر الغربي! هذا إذا أخذنا في عين الاعتبار أن نجيب محفوظ في تلك الفترة كان قد أصدر (روايته الفلسفية) أولاد حارتنا، فارتفع بالسؤال الفلسفي الى مستوى الارتقاء لمعاورة معنى الكينونة ومغزاها ومصائرها.
    في حين أن القارئ سيقف حائرا أمام عدد من الأسئلة التي تثيرها الترسيمة الفكرية لرواية كاتبنا العجيلي، ومدى اتساقها، فهل يشكل عالم الكنائس السمة المميزة للغرب (ماريا لينا) حيث المحبة؟ وهل عالم اللهو والتسلية (عباس) هو عالم الشرق حقا؟ وأية صلة بين الانهماك في عالم المتع اليومية، وتمثيل المعرفة؟ ليجد القارئ نفسه تجاه أفكار عامية سائدة في المجتمع الشرقي، عن أن ممكنات اللقاء الوحيدة مع الآخر الغربي هي اللقاءات الجسدية (المثاقفة / المناكحة)...!
    لكن العجيلي أراد أن يغلف الأساطير الشرقية عن ذكورة الشرق وأنوثة الغرب، بغلاف فلسفي يشي بالحكمة والتأمل، وذلك على الأغلب ليغطي فوهة لاشعور إسلامي يبيح لنفسه التسري واتخاذ (انثى الآخر) أمة أو سبية أو جارية مباحة خارج الشرعية الزوجية فيما يدخل في إطار ما ملكته الأيمان!.
    ولعل عجز الليبرالية السورية عن التوفر على مصفوفة معرفية نهضوية راديكالية هو الذي يعطي لأطروحة ياسين الحافظ مشروعيتها، وهي الأطروحة القائلة: إن مشروع الليبرالية العربية القومي الديمقراطي بدا مشروعا متأخرا ذا حشوة ماضوية (هاشمية: قومية وعروبة الشريف حسين) تقليدوية محكومة بالفوات، وقد عمم حكمه هذا على الليبرالية العربية عموما، واستثناؤه لبعض جوانب تقدم الليبرالية المصرية لم يحل دون وصمها بالتأخر الذي لا يختلف عن تأخر المؤسسة العسكرية ذاتها.
    ولذا كانت دعوة ياسين مع عبدالله العروي إلى العودة إلى استلهام الليبرالية الغربية، لتملك انجازاتها التنويرية العقلانية النهضوية بغض النظر ? أو بدون مشروعها الاقتصادي، بوصفها مقدمة ضرورية للمشروع القومي الديموقراطي العربي، أي أن هذه الدعوة كانت بسبب فوات وتأخر وغربة وتغرب المشروع الليبرالي العربي، وإن كان العروي تراجع عن رأيه التبخيسي هذا تجاه دور الليبرالية في مشروع النهضة العربية، ولعل ? رأي وموقف ياسين هذا يفسر أن الجيل الثاني الراديكالي (قوميا، يساريا) في سوريا ? ذا الهمة الثورية العالية كان ينظر ونحن منهم إلى تجربة العجيلي النثرية ونزار قباني الشعرية بوصفها تجربة (رجعية)...!
    وتفرد العجيلي عن جيله ورعيله برفض جائزة الدولة التقديرية: حنا مينا وعبد الكريم اليافي، بل وزكريا تامر الذي كان قبوله للجائزة صدمة، نظرا لما تمثله مسألة الحرية من هاجس يخترق لب لباب تجربته القصصية المميزة، لكن العجيلي الذي رفض الجائزة لم يمتلك الشجاعة مع الأسف على إعلان سبب رفضه للجائزة.
    وتلك هي مشكلتنا مع جيل الرواد الليبرالي، الذي كانت قلة شجاعته أو ما سماه أحد أبناء هذا الجيل وهو بشير العظمة رئيس وزراء الحكومة (الانفصالية) التي شارك فيها العجيلي: باسم (جيل الهزيمة)? نقول: إن عجز (جيل الهزيمة) الليبرالي هذا، ربما كان أحد أسباب مصائبنا وشقائنا وهزائم مجتمعاتنا.
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    *المجلة الثقافية، العدد (106)، في 16/5/2005م.
    قالوا في العجيلي
    ...................
    * وفي كل حكايات هذا القاص نجد الرشاقة في وصف المواقف والتوازن المحكم بين الحدث والنفسيات، كما نجد أسلوباً لا يمكن لصرامته المجردة من الجفاف أن تترجم إلى الفرنسية دون تصرف، مما جعل من عبد السلام العجيلي أحد الأساتذة العرب في فن القصة القصيرة والرواية.
    وقد كانت القدرة على تكثيف العقدة الدرامية هي ما أثّر في نفسي، منذ أول نصوص نشرها هذا الإنسان الذي أسهم في معارك جيله بدون أوهام ولكن ليس بدون التزام.
    البروفسور جاك بيرك مستشرق فرنسي
    * أروع بدوي عرفته المدينة، وأروع حضري عرفته الصحراء.
    نزار قباني
    * رائد القصة القصيرة في الأدب العربي الحديث .
    يوسف إدريس
    * غوته وستاندال وفلوبير، أسماء أعلام في الأدب مشهورة وعبد السلام العجيلي يستحق أن يشبه بأساتذة فن الرواية الكلاسيكي هؤلاء، وأنا قادر بسهولة على إقامة البرهان على صحة ذلك، لو كنت أملك الزمان والمكان اللازمين.
    البروفيسورجان غولميه مستشرق فرنسي
    * رؤيا العجيلي واحدة لأنها تنطلق من منبع واحد لتنتهي إلى مصب واحد مهما تباينت التضاريس وتنوعت التعاريج وكثرت أو قلت الالتواءات في مساراها. ونحن نقول إنها شخصية متمايزة، لأن وجه العجيلي يطل علينا منها رائقاً، متفرداً، ذا قسمات واضحة ومحددة لا تشبه من قريب أو بعيد قسمات أي وجه آخر من وجوه الأدب العربي الحديث.
    جورج طرابيشي ناقد عربي معروف
    * يعتبر العجيلي واحداً من أهم كتاب العربية بعد الجاحظ.
    ـــــــــــــــــــــ
    *المجلة الثقافية، العدد (106)، في 16/5/2005م.
    د.حسين علي محمد
    كاتب في أنهآر
    الملف الشخصي
    من مواضيع العضو :
    0 شرخ آخر في المرآة
    0 رحيل الكاتب السوري الكبير عبدالسلام العجيلي
    0 الدار بوضع اليد
    0 مجنون أحلام
    0 البنات .. البنات
    هذا الصّرْح..عبد السلام العجيلي
    بقلم: نبيل سليمان *
    ـــــــــــــــــــــــ
    في تشرين الثاني نوفمبر الماضي نظّم المعهد الفرنسي بدمشق ندوة حولَ النقد الأدبي في المشرق العربي.
    وقد ترأس عبد السلام العجيلي الجلسة التي شاركتُ فيها ببحث في الفعالية النقدية في سوريا خلال العقدين الرابع والخامس من القرن الماضي، وهي الفترة التي كان عبد السلام العجيلي من نجومها. ولقد أسعدني أن يحرض البحث ذاكرة العجيلي فيما عقّب به.
    وفي الجلسة، كما في أيام الندوة، بل وكما في لقاءاتنا المتباعدة خلال السنوات الأخيرة، تأملت هذا الذي ليس من المؤكد أنه ولد عام 1918 أم عام 1919 ونيّف على السبعين ذات لقاء بعيد، بل على الثمانين ذات لقاء قريب، بل على الخامسة والثمانين في تلك الندوة، وبالكاد تقع على أثر للشيخوخة فيه: دقّوا على الخشب! ربما لذلك لا أذكر كيف كان هذا الصوت المميز وهذه القامة الرشيقة وهذا الحضور البهيّ قبل سبعة وثلاثين سنة، حين رأيت عبد السلام العجيلي أول مرة: هو يقترب من الخمسين، وأنا قد تخرجت في الجامعة للتوّ، ويمّمت إلى مدينته (الرقة) مدرّساً للعربية، أتدافر بسنواتي الاثنتين والعشرين.
    في حارة العجيلي هذا هو اسم الحارة في الرقة أقمت مع صديق سنتي الأولى في غرفة من بيت متواضع تفصله أمتار عن بيت الدكتور.
    كنت أتهيب ذلك البيت في الرواح والغدوّ، ليس فقط لأنه كاتب كبير أو للشخصية المرموقة في المدينة، بل لأنه بيت حجري كبير وجميل تتصاغر أمامه بيوت الحارة، ويحرك فيّ ما زرقتني به في غفلة طويلة نشأتي وقراءاتي من الحذر من بيوت (قصور) الأثرياء بعامة، ومن الحذر بخاصة من هذا الذي كان قبل خمس سنوات فقط وزيراً للثقافة والخارجية والإعلام في الحكومة الانفصالية التي انقلبت على الجمهورية العربية المتحدة وجمال عبد الناصر، وشاركتُ في المظاهرات ضدها في الثانوية الصناعية في اللاذقية، وامتلأت شماتة بها عندما انقلب عليها الناصريون والبعثيون عام 1963م.
    وهأنذا إذن جارٌ للانفصالي (والإقطاعي والرجعي) بحسب المنظومة السحرية التي كانت تدوّخني مثل كثيرين من جيلي.. ولكنني أيضاً جارٌ لمن يقال إنه كان نائباً شاباً في البرلمان عندما اندفع يلبي نداء فلسطين، وانخرط في جيش الإنقاذ.
    أما ما كان أكبر إرباكاً لي فقد كان أنّ الرجل نفسه هو من قرأت له خلال السنوات القليلة المنصرمة بين الثانوية والجامعة قصة (كفن حمود) وقصة (سالي) اللتين لن أنساهما فيما قرأت من قصص (بنت الساحرة) أو (ساعة الملازم) أو (الخائن)، كما لن أنسى (رصيف العذراء السوداء) و(باسمة بين الدموع)، وكل هذه الأعمال هي في مكتبتي بطبعاتها الأولى التي تعود إلى خمسينيات القرن الماضي.
    على الرغم من قرب المزار لم أقترب من عبد السلام العجيلي إلا بعد سنتين. كنت أعبر بعيادته المتواضعة القريبة من البيت، وأتهيّبها. وخلال تينك السنتين اللتين أنجزتا إيقاع هزيمة 1967 عجني بين القومية (الناصرية البعثية) والوجودية والماركسية، وكتبت فيهما روايتي الأولى (ينداح الطوفان).. خلال ذلك كنت قد قرأت للعجيلي مجموعة (الحب والنفس) ومن أدب الرحلات (حكايات من الرحلات) و(دعوة إلى السفر)، وكنت أحسد هذا الذي كلما غاب عن الحارة قيل إنه في دمشق أو بيروت أو إسبانيا أو فرنسا أو.. إلى أن حلّ مساء 21 10 1969، ومضيت بصحبة عدد من زملائي المدرسين في ثانوية الرشيد إلى بيت الدكتور. من ذلك اللقاء عدت مسحوراً بظرف الرجل وتواضعه وسعة اطلاعه، كما عدت بهديته: نسخة موقعة من كتابه (المقامات).
    وعلى الرغم من أنني كنت عريساً، لم أنم حتى قرأت الكتاب، فرأيتني أقرب إلى هذا الذي استمالته الكتابة الساخرة فيما قرأ في الكتب المدرسية من المويلحي والهمذاني والحريري، وكان يغافل أساتذته ويكتب على جلد دفتر زميل في تجهيز (ثانوية) حلب أو في معهد الطب العربي الذي صار كلية الطب في جامعة دمشق، وإذا بعبد السلام بن محبّ يحدثنا في المقامة الطبية بدلاً من عيسى بن هشام. وإذا بعبد السلام العجيلي يوقّع المقامة التي نشرت عام 1942 باسم بديع الزمان، ثم يكتب المقامة الحقوقية ليفعل في معهد الحقوق الذي صار كلية الحقوق ما فعله بمعهد الطب.
    وها هو ذا هذا الشاب الثلاثيني وقد غدا نائباً في البرلمان يطلق سخريته من البرلمان في المقامة البرلمانية.. ولأن المقامة القنصلية تتصل بنزار قباني فلن أنساها، وهي التي ردّ بها العجيلي على (المقامة النهدية) للشاعر الذي كان آنئذٍ سفيراً لسورية في تركيا، وأرسل صورة من مقامته إلى العجيلي موقّعةً عن أبي فرج الأصفهاني باسم (أبو النهد الأشقراني).
    إذا كان العجيلي قد تخفّى في البداية باسم بديع الزمان أو باسم أوس أو سواهما من الأسماء المستعارة، فقد أسفر أخيراً عن ذلك الطبيب والسياسي والثري والمثقف الشاب القادم من بلدة منسية إلى عقر العاصمة التي كانت تزخر بظرفائها من الشعراء والكتاب والساسة والمحامين والصحافيين.
    وقد كان أولاء الظرفاء صحبة العجيلي الذين سخروا منه وسخر منهم كما سخروا جميعاً من كل شيء.. وهنا، قد تصدق في العجيلي أكثر من سواه قولة الجاحظ فيمن لا يحسن السخرية من نفسه قبل السخرية من سواه، فمثل هذا لن يحسن السخرية، دعك من نفجته الصريحة أو المواربة.. بعد سنة من هدية (المقامات) أهديته روايتي الأولى.
    وسرعان ما شاع في الرقة أن زيداً وعمرواً (ما جمعهما؟) قد أساءتهما بذاءة الرواية وشخصية الشيخ جوهر فيها، لذلك ستنصبّ اللعنة على الكاتب الذي كان غادر حارة العجيلي إلى حارة البكري المجاورة، وله في هذه سند، لكن من صدَّ عنه الأذى هو ذو الكلمة المسموعة الذي انتصر للكتابة، والذي سأظلّ مديناً له بذلك: عبد السلام العجيلي.
    في ذلك الشتاء كان الكاتب المرحوم أنور قصيباتي قد جاء إلى الرقة مدرساً للفلسفة، ومدرّعاً بروايته (نرسيس). وفي زيارة بصحبته للعجيلي، حدثنا مضيفنا عن رواية كان قد ابتدأ بها منذ حين، ثم استعصت فتوقف.
    وإذا كنت لا أذكر الآن من منا نحن الثلاثة كان البادئ بعرض متابعة الرواية في مشروع ثلاثي مشترك، فلن أنسى أن تلك الزيارة قد أورثتني السّهد.. لقد كانت الغواية كبرى: أن يشارك مثلي ومثل زميلي هذا الكاتب الكبير في رواية!!
    وماذا إذن عن الرواية التي كنت قد شرعت في كتابتها (السجن)؟ تراني خفت من الشراكة فيما لا سابقة له في العربية، وفيما ندر في غير العربية؟ أم خفت على رواية (السجن)؟. مهما يكن، فقد اعتذرت من الشريكين اللذين تابعا المشروع، فكانت رواية (ألوان الحب الثلاثة) التي صدرت عام 1975، وكنت قد غادرت الرقة قبل ذلك بثلاث سنوات إلى حلب، ممتلئاً بالمودة والإكبار لعبد السلام العجيلي، ومتخففاً من الحذر الذي لاقيته به قبل خمس سنوات. وسرعان ما أنجزت مع الصديق الراحل بوعلي ياسين كتاب (الأدب والأيديولوجيا في سورية)، ودرسنا فيه مجموعة العجيلي (فارس مدينة القنيطرة).
    وفي حمأة الهجوم الذي شنّه من أساءهم أن يُدرس لواحدهم نصٌّ من زاوية أيديولوجية، تناهى إلينا غضب عبد السلام العجيلي أيضاً. لكن الرجل لم (يمسح الأرض بنا) كما فعل بخاصة زكريا تامر وممدوح عدوان وهاني الراهب ومحيي الدين صبحي.
    منذ ذلك الحين باتت لقاءاتي بعبد السلام العجيلي هي قراءاتي لما يكتب. وإذا كنت قد درست من ذلك فقط روايتيه (قلوب على الأسلاك) و(أزاهير تشرين المدماة)، فقد تأكد لي، فيهما كما فيما تلاهما من رواية (المغمورون) فرواية (أرض السيّاد) أن السياسي لم يغادر هذا الفنان الذي عرّت روايته (باسمة بين الدموع) الحياة السياسية السورية في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، كما ستعري روايته (قلوب على الأسلاك) سنوات الوحدة السورية المصرية (1958 1961)، سوى أن الهجاء سينتأ في الثانية، كما سينتأ التبسيط في تمجيد حرب 1973 في رواية (أزاهير تشرين المدماة)، بينما يصير ما هو سياسي في الروايتين التاليتين طوع الفنان الذي ظل طوال سبعين سنة نشرت مجلة الرسالة قصته الأولى عام 1936 يبحر في الكتابة، مخلصاً للكلاسيكي في القصة والرواية بقدر ما كانت له بصمته الخاصة فيهما، كما هو شأنه فيما كتب من أدب الرحلات ومن المقالة.
    ولأنه ذلك الذي بالكاد تقع على أثر للشيخوخة فيه ثانية وثالثة: دقوا على الخشب ولأنه عوّدنا على أن تظل مشروعاته الإبداعية سراً حتى النشر، ولأننا نحبه، فسنظلّ ننتظر جديده، وسنظل نعود إلى قديمه، وسنظل نختلف معه.
    ومن يدري، فقد يمنّ علينا بواحدة من سخرياته، فيعوّض الأول والآخر.
    ........
    * ناقد سوري
    ـــــــــــــــــــــ
    *المجلة الثقافية، العدد (106)، في 16/5/2005م.
    الوفاء والالتزام
    بقلم: د. سهيل إدريس
    ـــــــــــــــــــــــــ
    كان الدكتور عبد السلام العجيلي واحداً من أقدم أصدقائي الأدباء. وكان يتردد عليَّ على مكتبي في مجلة الآداب، وحين أصدرت المجلة في أوائل عام 1953م شارع لتلبية دعوتي في الإسهام بتحريرها وقد نشرت له المجلة أولى قصصه بالعدد الثالث، وهي بعنوان (الشباك)، ثم نشرت له بعد ذلك قصصاً كثيرة متميزة وقد نشرت له دار الآداب مجموعته الأولى (قناديل إشبيلية) وهي من أوائل منشورات الدار.
    وقد تبادلت مع الدكتور عبد السلام رسائل كثيرة كانت منها رسالةٌ أستوضحه فيها أين سيمارس مهنته الطبية فأجابني أنه سيمارسها في مدينة الرقة مسقط رأسه.
    وحين سألته هل في هذه المدينة الصغيرة عدد كافٍ من المرضى الذين سيعالجهم.
    أجابني إجابةً تثير الإعجاب، هي أنه يفضل معالجة المرضى الفقراء في مدينته الصغيرة على معالجة المرضى الأغنياء في العاصمة الكبيرة، وسوف يكرس جهوده لهذه المهمة.
    الدكتور عبد السلام صديق يتميز بالوفاء وكان يزورني كلما قَدِمَ إلى بيروت، بل أذكر أنه زارني يوماً في باريس حين قصدتها لإعداد شهادة الدكتوراه في الآداب وأنا أحتفظ بصورة لنا معاً في أحد شوارع العاصمة الفرنسية.
    ويعتبر الدكتور عبد السلام العجيلي من رواد القصة العربية القصيرة كما أنه فيما بعد أصدر عدة روايات واستمع الناس إليها تذاع مسلسلة في الb.b.c.
    ولم ينقطع العجيلي أبداً عن كتاب الأدب القصصي حتى أصبح أحد المُجلين فيه، وهو في هذا يختلف عنا نحن الذي توقفنا عن الإنتاج لأسباب كثيرة أهمها انصرافنا إلى الترجمة وإلى العمل بالمعاجم.
    وقد لفتني في سيرة العجيلي أنه شارك في الحرب الفلسطينية، فقصد بصفته متطوعاً أراضي فلسطين وشارك المجاهدين في قتال الإنكليز واليهود.
    ومن وحي هذه المشاركة قرأنا له في الآداب قصة جميلة بعنوان (بنادق في لواء الجليل).*
    ونسجل له في هذا المضمار موقفاً ملتزماً بالنضال القومي بشكل عملي التزمه القليلون من الأدباء.
    وقد بلغني حديثاً أنه مريض فأتمنى له الشفاء العاجل وأبعث إليه بتحيتي وودي.
    * راجع الآداب عدد كانون الثاني سنة 1954 صفحة 20
    ـــــــــــــــــــــ
    *المجلة الثقافية، العدد (106)، في 16/5/2005م.
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  5. #5
    أبحرت إلى كل الموانئ
    بقلم: د.عبد السلام العجيلي
    ...................................
    مرفأ الذاكرة لدى كاتب هذه السطور، على اتساعه وطول أرصفته، يضيق بالأحداث والصور والأقوال التى تزاحم فيه وعليه، وليس ذلك مستغربا على ما مر بي في ثمانين عاما من العمر قد انقضت لي، وعلى ظروف مختلفة عشت فيها ونشاطات مارستها في مجالات العلم والأدب، ومجالات السياسة والحرب، وفي عملي كطبيب، وفي الأسفار والعلاقات الاجتماعية ، وفي غير هذه وتلك وهاتيك.
    أبعد ما استقر في ذاكرتي من صور هي بلا شك صورة ترجع إلى سني طفولتي الأولى، وذلك حين فكنت فى الثالثة من عمري أو حين خطوات أولى خطواتي في سنتي الرابعة، عرفت مبلغى من العمر أيام هذه الصورة بعد ما كبرت وسمعت مارواه من أبنا بلدتي الصغيرة من تاريخ هذه البلدة، وهي الرقة على شاطئ الفرات في شمالي سوريا، ومن حكايات الأحداث التي مرت بها زمن طفولتي، تلك الصورة هي منظر جسم لامع، فضي اللون ، يرتسم على صفحة سماء خفيفة الزرقة ويسير على تلك الصفحة بخط مستقيم وبحركة تبدو بطيئة لبعدها عن عيني، ثم منظر قطع صغيرة، مستطيلة، تتساقط من ذلك الجسم اللامع ، قطعتان أو ثلاث أو أربع، لا أذكر اليوم كم كان عددها على الضبط ، تتساقط ويحجب عن بصري مكان وقوعها جدران المنازل اتلي كانت في الجانب المقابل للقبو الذي كنت أتطلع من بابه الضيق إلى السماء فوقي. ذلك القبو الذي كنت فيه مع أمي، ومع نساء كثيرات معهن أطفالهن، كلهن يتزاحمن ليتطلعن من باب القبو إلى السماء وإلى تلك القطع المتساقطة من ذلك الجسم الفضي السائر على صفحة السماء.
    بداية مع الحرب
    عرفت عندما كبرت أن الجسم السائر ذاك كان طائرة حربية وأن تلك القطع المتساقطة قنابل مهلكة كانت الطائرة تلقيها على مواقع متفرقة من بلدتنا، وأن ذلك حدث في الأيام الأخيرة من شهر سبتمبر من عام 1921. هذه أبعد ما حفظته ذاكرتي من صور. ولعل استقرار هذه الصورة بهذه القوة فى ذاكرة الطفل الصغير الذي كنته قد ترك في لاوعيي تأثيرا اصطبغت به حياتي المقبلة في كثير من جوانبها، والجوانب الفكرية والسياسية منها بصورة خاصة . تلك الطائرة كانت واحدة من طائرات جيش فرنسا الذي غزا بلادنا واحتلها باسم الانتداب بعدما غدر الحلفاء بالعرب وتقاسموا بلادهم . وإلقاء نقابلها على بلدتي الرقة ، كان لأن هذه البلدة أصبحت في ذلك الحين مقرا الحركة وطنية أعلنت الرقة وما حولها دولة عربية مستقلة لا تعترف بانتداب فرنسا، ب جندت جيشا وجهته إلى حلب لمحاولة استنفاذها من يد المحتل الفرنسي، ذلك تاريخ مجهول لبلدتي الصغيرة بسطته في كتاباتي بعد مرور عقود طويلة من السنين على أحداثه، وليس هنا مكان روايته ، ولكنى أردت القول إنه قد يكون فى استقرار هذه الصورة فى خاطرى طيلة ما يفوق ثلاثة أرباع القرن إرهاص لما ستكون عليه أفكار ذلك الطفل ويكون عليه سلوكه وتصرفه حين يغدو شابا وبعد أن يكتهل ثم يشيخ.
    تتزاحم الصور على مرفأ الذكريات بعد تلك الصورة الأولى المفرطة في البعد، كبر الطفل في الخامسة من عمره ، وانتقل بذلك من حضن أمه إلى حضن المدرسة، كان انتقالاً مبكرا بالنسبة لانتقال أنداده الذين كانوا يفوقونه في السن، فأكسبخ ذلك مكاسب وعرضه لبعض الهشاشة في تكوينة العلمي لم يتخلص منها إلا بعد عناء وزمن طويل.
    عالمي الجميل
    كانت المدرسة عالمي الجميل والمفضل، ولكنها لم تكن كل العالم لي، كانت هناك المطحنة التي يملكها والدي، وهناك مضارب أعمامي في البادية حول بلدة الرقة ، أو بالأحرى في سهول تلك البادية التي تعشب فى الربيع ةتحرق أعشابها شمس الصيف الملتهبة فترتد مقفرة جرداء. كنت أتردد على المطحنة لأحمل لأبي طعام غدائه وعلبة دخانة اليومية من منزلنا، ولأتأمل فى الرحى الدائرة وهي تتلقى الحنطة حبوبا قاسية وتقذف بها دقيقا ناعما، و لأتطلع إلى المحرك ذى الدولا بين الضخمين وهما يدفعان بالمكبس إلى جوفه ويجتذبانه من ذلك الجوف، في حركات منتظمة عنيفة ورشيقة في آن واحد ، وحدث في إحدى مرات تطلعي ذاك أن علق طرف القنباز الذي كنت أرتديه بالسير الجلدي لمضخمة الماء التي كانت مركبة فوق بئر في جانب المحرك، وهو يدور على دولابه ، فلم أشعر إلا وأنا مرتبط بذلك الدولاب مرتفعا إلى قمته قبل أن ينحدر فيلقيني في قرارة البئر. سارع أرمين ، ميكانيكي المطحنة الأرمني، إلىّ واجتذبني من يدي بقوة قاذفا بي إلى الأرض بجانب فوهة البئر. وسلم الله ذلك الصبي الطلعة ، القليل الحذر من هلاك محقق آنذاك .
    أما مضارب أعمامي فقد كنت أتردد عليها، في الربيع، في العطل المدرسية وبعد الظهر من كل خميس ويوم الجمعة التالي له . كان أهل بلدتنا، وأسرتنا من بينهم ، نصف حضر يسكنون منازل البلدة الحجرية نصف السنة ويخرجون إلى السهوب المعشبة في الربيع وأوائل الصيف مع أغنامهم يتنقلون بها بين المراعي. والدي كان من أوائل الذين تحضروا وسكنوا البلدة في السنة بكاملها ، ولهذ كنت ألجأ إلى منازل اعمامي في بيوت الشعر في المراعي كلما أتيحت لي الفرصة، فأرعى مع صبيانهم الخراف وأطاردها حافي القدمين معهم ، وأنام تحت سماء الربيع المتألقة النجوم وأستمع في الفجر، وأنا بين النوم واليقظة ، إلى أحاديث المتسامرين المتحلقين حول النار الموقدة في كاسر البيت قبل أن يهب الرجال ليأتوا بنعاج القطيع إلى إلى أمام المضارب وتهب النساء لتحلب تلك النعاج.
    منعطف حياتي
    بعد الدراسة الابتدائية كان علي أن أنتقل إلى جلب لمتاعبة تعليمي لأن الرقة لم تكن تحوي مدرسة ثانوية، وهنا وفي ختام السنة الأولى من الدراسة الثانوية، حدث ما اعتبرته بعد ذلك المنعطف الكبير في حياتي. أصبت في العطلة الصيفية بمرض ألجأ والدي إلى أن ينقلني إلى حلب ليعالجني أطباؤها، لا أذكر اليوم، وأنا الطبيب، ماذا كان ذلك المرض، الذي أذكره أن الدكتور مونييه، وهو الطبيب السويسري الجنسية الذي تولى العناية بي في مستشفاه نحوا من عشرة أيام ، أشار على أبي بأن يقطعني عن الالتحاق بالمدرسة عاما كاملا، بقيت العام التالى بطوله فى الرقة بناء على اشارة الدكتور مونييه، وبقيت عامين بعده فيها بناء على رغبة الوالد الذي أرادني على أن أنقطع عن الدراسة لأعينه في إدارة أعماله وأملاكه ، أنا الذي كنت ولده الوحيد آنذاك.
    كان ذلك مصيرا قاسيا لي أنا الذي فتحت آفاق تفكيره وألهبت خياله قراءاته الكثيرة والمختلفة ، ولكن رب ضارة نافعة، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ، كانت هذه الأعوام الثلاثة المتتابعة ضرورية لنضج تفكيري كما أنها ألحقني بمدرسة من نوع آخر، رحت أتلقى المعرفة فيها لا من أفواه المعلمين أو من صفحات الكتب، بل من مخالطة الناس وممارسة الحياة والتعامل المباشر مع أمورها. تلك هي مدرسة العمل إلى جانب والدى وتحت إشرافه، عملت في المطحنة التي كنا نملكها مشرفا عليها وجابيا على غلتها، أتاح لي ذلك التعرف على أصناف الناس الذين كانوا يتوافدون علينا، نساء ورجالا، من البلدة ومما حولها في المنطقة الواسعة المحيطة بالبلدة، البدو كانوا يأتوننا بقمح مؤونتهم على جمالهم ، والقرويون على الحمير، وسكان البلدة على عرباتهم التي تجرها الكدش، وهي غير الأصائل من الخيل ، أصبحت على معرفة بالقبائل نسبا ولهجات كلام ورزاية أحداث سالفة وجيدة ، هذا في النهار، أما في الليل فقد أتاح لي سن اليفع الذي قاربته أن أكون من رواد مضافة أسرتنا، أجلس منها قريبا من المدخل، مستمعا إلى أحاديث الكهول عن شئون الأقارب والأباعد، في بلدتنا ومنطقتها وفي مدننا وبلادنا بأسرها. وفي شهر رمضان بصورة خاصة كنت أستمع إلى أحد أعمامي ممن كانوا يحسنون القراءة يتلو على رواد المضافة ، بعد صلاة العشاء كل ليلة ، فضلا من كتاب فتوحات الشام للواقدى أو من رواية سرور آغا وصالحة خانم وسلطان عبد الحميد المترجمة عن التركية ، وحين كانت تتأزم أمورنا السياسية مع فرنسا المحتلة كان حضور المضافة يتحلقون حول ذلك العم أو غيره وهو يتلو عليهم آخر افتتاحيات نجيب الريس، في جريدته القبس، في مهاجمة المحتل وتسفيه سياسته ، فتلتهب النفوس حماسة وتعلو الأصوات بالاستنكار والاحتجاج والتنديد.
    القصيدة الأولى
    كان تلامذة مدرستنا الوحيدة في البلدة قد تهيأوا، بإشراف معلميهم، ليقوموا بتمثيل مسرحية عنوانها "وفاء السموءل"، كنت أحضر معهم تجاربها وأشاركهم في إعدادها ، نظمت أنا لهذه المناسبة قصيدة ، كانت أول قصيدة لي صحيحة الوزن وسليمة اللغة على ما أذكر، وعهدت بها إلى أحد الفتيان ليفتتح بها التمثيل مشترطا عليه ألا يذكر اسمى كناظم لها، كان اشتراطي هذا نابعا من انطوائي على نفسى وحياء مفرط يجعلنى أتهيب من كل إشارة إلىّ تميزني عن الآخرين، بدأ تمثيل المسرحية مسبوقا بإلقاء تلك القصيدة، ولكن ما اشترطته على ملقيها لم يدخل فى حيز التنفيذ فقد أعلن ذلك الفتى اسمى بأعلى صوته منوها بأنى أنا ناظم القصيدة، وما جرى فى اليوم التالي لحفلة التمثيل أن أقرباء أبى وأصدقاءه تكاثروا عليه بلومهم إياه على دفن مواهبي في العلم والأدب تحت غبار المطحنة وفي زيتها، وبمطالبتهم له بإعادتي إلى حلب كي أتابع الدراسة التي هجرتها في ثانويته.
    وهكذا عدت إلى حلب ومدرسة التجهيز الثانوية فيها، وقد ضاعت على أربع سنوات من الدراسة ، استدركت سنتين من تلك الأربع في فحص تأهيل، اجتزته بنجاح ، وضاعت مني سنتان، ولكن هل ضاعت منى تلكما السنتان حقا؟ الصحيح أن لا . سنوات الانقطاع التي ضاعت منى، أو على ، اكتشف بعدها أنها اكسبتني فوائد لا تقدر بثمن ، عدا نضج الفكر وتجربة العمل ومعرفة أصناف الناس التي تحدثت عنها، وجدتني قد حصلت من قراءتي على زاد من المعرفة فى علوم شتى أتفوق بها على أقرانى فى المدرسة التي عدت إليها، وأحيانا أتفوق بها على أساتذتي في بعض تلك العلوم . وأهم من ذلك كله اكتشف أن تهيبي من الحساب والرياضيات والعلوم الحقيقية ، الذى كنت أحسبه ضعفا وعجزا مني فيها، اكتشفت أن ذاك التهيب قد فارقنى كليا وتحول إلى مقدرة وولع شديد بتلك العلوم.
    ثابرت في المدرسة الثانوية على قرزمة الشعر ، أعلى نظمه نظما هزيلا فى أول الأمر، إلى أن استقام لي أمره بالاستمرار وبتوسع المعرفة ، إلا أنى لم أتعد فيه المزاح والتسلية ، أسخر فيه من رفاقي وأرسم به صوراً ضاحكة لأساتذتي، وأحيانا أنظم به نظريات الهندسة ودروس الكيمياء في أراجيز ساخرة على طريقة ألفية ابن مالك! ذلك أن تعلقي الكبير والجاد كان بالعلوم الحقيقة من فيزياء ورياضيات ، يعجبنى العناء الذي أتحمله في إتقانها والنجاح في روسها، في حين أن النجاح في الأدب، نثره وشعره ، كان يواتيني بسهولة ويشهد بنتائجي المشرفة فيه المعلمون والرفاق، وإلى جانب هذا نمت في نفسي، مع تقدمي في الصفوف العليا، بذرة حب العمل العام ، العمل لصالح الذين أنا منهم فى مجتمعى وفي الوطن الذى هو وطني. أصبحت في السنين الأخيرة من الدراسة الثانوية الرئيس المنتخب للجان الطلاب، والمؤسس لمجلة أصدرتها مع رفاقي وسميتها "صوت الطالب" ، والمشارك مع إخوانى فى الإضربات والتظاهرات ضد المحتل الفرنسي، والمتكلم باسم أولئك الإخوان حين يقتضى الأمر المديرين والوزراء.
    اسماء مستعار ة
    وبمثل هذا التستر والتوقيع بالأسماء المستعارة نشرت كتابات أدبية كثيرة في عدد من الدوريات المشتهرة في ذلك الزمن ، مثل مجلة "الحديث" في حلب و "المكشوف" فى بيروت ، وهي دوريات كانت تحفل بما يكتبه أساطين الفكر والثقافة ويطمح الكثيرون إلى أن تظهر أسماؤهم فيها. أما أنا فكنت قانعا بأن يجاور إنتاجي الأدبي فى تلك الدوريات إنتاج المشاهير، وبأن يلقى الإعجاب من القراء دون أن يعرف أحد، إلا الندرة من أصحابي، بأني كاتب تلك القصص أو المسرحيات أو ناظم تلك القصائد ، واستمر هذا إلى أن نلت شهادة البكالوريا من صف الرياضيات لا من صفوف الفلسفة أو الآداب، وإلى أن احتضتننى الجامعة السورية في دمشق، في دراستى الطب فيها، بعد احتضان مدرسة التجهيز الثانوية لي في حلب.
    العلم ، والأدب، والعمل العام ، هي المهام الرئيسية الثلاث التي حملتها معي من مرحلة الدراسة الثانوية إلى المرحلة الجامعية، ثم إلى جميع مراحل حياتي التالية لهذه وتلك .
    في العلم كنت الطالب الجاد والدائم النجاح ، ثم المتابع لكل ما هو جديد في الميدان الذي اخترته لحياتي، ميدان الطب والعلوم التي يستند إليها ، والمطبق لمعرفتى بكل إخلاص وتفان على من هم بحاجة إليها فى ذلك الميدان ، وفي الأدب تابعت مسيرتي كهاو له، أعتبره متعة وتسلية ، ولكنى لا أستهين به ولا تهاون في تلمس الإتقان والجودة فيه، ظللت ردحا من الزمن ، سبع سنوات أو ثمان ، أنشر ما أكتبه في الدوريات المختلفة متسترا وراء الأسماء المستعارة، كنت أنتقل من اسم إلى آخر، معميا على من يريد معرفتي، إلى أن وقعت فى فخ أحد الصحفيين الذي كشفني وعرف بي ثم أقنعني، بعد أن أصبح صديقا لي، بأن ليس من حرج في أن يعرفنى قرائي ولا من خطر فى أن تلحق بى الشهرة ! وفي هذا المجال أذكر أن أحد الدارسين أحصى الأسماء المستعارة التى كتبت بها بين عامي 1936 و 1970 فوجدها تتجاوز اثنين وعشرين اسما .
    أما عن العمل العام ، فقد كان استمرارا لما كنت بدأته في دراستي الثانوية ، لا مجال فى العمل العام للمجهولية وللتستر وراء الأسماء المستعارة ، عرفت بين أقراني بالنشاط في هذا الميدان ، وعندما بلغت الصفوف المتقدمة أصبحت رئيس لجنة الطلاب فى معهدي لعدة أعوام ومشاركا مرموقا في فعاليات الأوساط الجامعية من ثقافية ورياضية وسياسيه . وكانت تلك مقدمة لانغماري ، بعد تخرجي فى الجامعة السورية طبيبا، في خصم العمل السياسي فى بلدي، قمت بترشيح نفسى للنيابة فى بداية عملي كطبيب فى بلدتي، الرقة ، وفزت بعضوية المجلس النيابي السوري عنها ، وكان ذلك في صيف عام 1947، أعنى منذ أكثر من نصف قرت مضى .
    ذكريات العمل السياسي، كما باشرته بنفسى فى نحو من سنتين كنت فيهما أحد ممثلى الشعب فى المجلس النيابى ذاك ، هى من الكثرة والأهمية بحيث يضيق بها مرفأ الذاكرة . كانت سوريا قد نات استقلالها التام بجلاء جيوش المحتل عنها منذ سنة واحدة فانصرف حكامها ووراءهم الشعب إلى الجهاد الأكبر بعد الجهاد الأصغر ، أعني إلى معركة البناء واستعادة الحقوق المغتصبة والسعي لتحقيق المثل العليا . الذكرايت كثيرة كما قلت . وأقف منها على ذكريات وقائع معينة كانت من أهم ما مربي تأثيراً لتفكيري وتوجيها لسلوكي. تلك هي الوقائع التي شهدتها أو شاركت فيها ثم تابعت مجرياتها ومازلت لها متابعا ، وأعنى بها وقائع القضية الفلسطينية.
    التطوع من أجل فلسطين
    احتللت مقعدى فى مجلس النواب فى وقت وصلت فيه القضية الفلسطينية إلى قمة التأزم . تألب العالم الغربي، ومعه الاتحاد السوفيتي، على حق العرب وصدر قرار هيئة الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين ، على أن يطبق هذا القرار فى 15 مايو سنة 1948. لم يرض العرب ، شعوبا وحكومات بالقرار الجائر وتنادوا إلى الحيلولة دون تنفيذه بقوة السلاح عن طريق الجهاد الشعبي المتمثل بأفواج جيش الإنقاذ، وهي أفواج تألفت من متطوعى البلاد العربية المختلفة ، أولا ، ثم بتدخل الجيوش السمية إذا اقتضى الأمر بعد ذلك ، وفى غمرة أحداث تلك الفترة الحرجة وجدتنى أهجر مهامى كنائب فى المجلس وألتحق متطوعا بمجاهدي فوج اليرموك الثانى من جيش الإنقاذ، وهو الفوج السوري من ذلك الجيش ، يرافقنى فى ذلك الالتحاق زميلي فى النيابة الأستاذ أكرم الحوراني، أكون فى مقدمة من دخلوا الأرض الفلسطينية من المجاهدين ، سعيا وراء نصرة فلسطين العربية واستنفاذها من مخالب تحالف الصهيونية العالمية وأعداء العرب فى العالم الغربي على أرض العرب المقدسة.
    كان فوج اليرموك الثاني بقيادة أديب الشيشكلي الذي كان ضابطا برتبة رئيس وهي الرتبة التي تحول اسمها اليوم إلى رائد أو مقدم ، وكان دخولنا إلى فلسطين من الحدود اللبنانية، جنوب بنت جبيل والنبطية ، فى ليلة الثامن من شهر يناير سنة 1948. باشرنا عملياتنا الاستكشافية والحربية التي لا مجال للتفصيل عنها طيلة الشهور الخمسة التي سبقت موعد دخول قرار التقسيم مرحلة التنفيذ. واذا كنت قد عدت بعد تلك الشهور إلى ماكني فى مجلس النواب متابعا مسيرتي السياسة تحت قبة البرلمان وفي المحافل المختلفة وعلى صفحات الجرائد والمجلات، فإن التجربة التي عدت بها من المعاناة على أرض الواقع في فلسطين فتحت عيني على أمور كثيرة وبصرتني بأمور كثيرة كنت بعيدا عن معرفتها مثل الآخرين الذين لم يتح لهم معايشة ما عايشته أنا. أكتشفت في تلك التجربة أشياء كثيرة عن سير أمورنا، وعن خصائص شعوبنا، وعن أقدار رجالنا ، ومن سوء الحظ أن تجربتي ، كما رددت في مناسبات كثيرة، قد تكشفت لي عما خيب أمل الشاب المثالي الذي كنته في تلك الأيام، ومن سوء الحظ كذلك أن سير أمورنا القومية منذ عام 1948 إلى اليوم جاء مؤيدا تقديراتي السيئة عن وضعنا وإمكاناتنا، وهي التقديرات التي وضعتها لنفسي في ذلك الحين .
    العودة للأدب
    وأعود إلى الأدب مرة أخرى خاتما به هذا الحديث الطويل. لقد دأبت على أن اعتبره لنفسي وأذكره للآخرين كهواية ، ممتعة وسامية في آن واحد، أمارسها في غير عناء وفي قليل من الجد. ولكن، كما قال الشاعر القديم:
    صار جدا ما لهونا به رب جد جره اللعب!
    فما يطفو على ألوان النشاط المختلفة في حياتي، وما يعرفني به الاخرون ويحاورونني فيه ويتقصون أخبارى فيه، هو الأدب قبل الطب وقبل السياسة وقبل فعاليات مختلفة أخرى أجدني ما قصرت فيها ع أداء ما وجب علي ولا عن تقديم ما قدمته، متطوعا ومفيدا، للناس حولي وللقيم والمعتقدات التي أومن بها، عطاءاتي الأخرى تنحصر معرفتها في حلقات ضيقة وبين أناس محدودين ، أو أن دوامها لا يمتد إلى زمن طويل. أما العطاء الأدبي مني ومن أمثالي فإنه، إذا كان يحمل صفات تؤهله لذلك، طويل الديمومة وعريض الجمهور ، لقد انتهيبي إصرار الآخرين على تقديم صفتي الأدبية على سائر صفاتي الأخرى أن تابعتهم أنا إلى الإيمان بقيمة هذه الصفة وأكاد أقول إن ذلك حدث على الرغم مني !
    ولعلي في هذا الواقعة التي أرويها للقراء في مختتم المطاف أضرب مثلا لهذا الذي ذكرته عن تقدير من عدوني بتقديرهم لما رأوه في من موهبة تستحق التقدير.
    حدث ذلك منذ ستة أعوام أو سبعة ، زارني في بلدتي السيدك. لوشون، وهو الملق الثقافي في السفارة الفرنسية في دمشق أيامذاك ، وكان قارئا لأعمالي المترجمة إلى الفرنسية ومعجبا بها، وف زيارة لي إلى دمشق بعد عودته هو إليها اتصل بي هاتفيا وسألني عما إذا كان بإمكاني أن أمر عليه، في مكتبه، قلت له: أفعل ، وبكل سرور، فوجئت حين دخلت مكتب الملحق الثقافي الفرنسي بأن رأيت صورة كبيرة لي معلقة على أحد جدران المكتب. كانت صورة قديمة، أخذت لي في أيام الصبا، أبدو فيها ممتطيا فرساً أصيلة كنا نملكها في ذلك الزمن ومرتديا ثيابا عربية، استغربت وجود هذه الصورة وسألته عنها. ابتسم وقال إنه عثر عليها بحجم صغير حين زار الرقة ، وإنه كبرها وأحاطها بهذا الإطار في بيروت ، وإنه استدعاني ليرجوني أن أضع توقيعي له عليها. لم أملك إلا أن أجاريه في الابتسام وقلت له: ولكنك تضع صورتي في صدر مكتبك الرسمي، هذا المكان ليس لي ، إنه مكان المسيو ميتران ! كان فرنسوا ميتران يومذاك هو رئيس الجمهورية الفرنسية . كان جواب الملحق الفرنسي ، الموظف في سفارة بلاده، هذه الكلمة الغربية التي قالها بلهجة اقتناع : أنت قيمة أكثر ثباتا من المسيو ميتران!
    بالطبع لم أكن من الغرور، أو من فرط الإعجاب بالنفس، بحيث أصدق أن قيمتي تفوق قيمة رجل كان رئيس جمهورية فرنسا في يوم من الأيام وكان مالىء الدنيا وشاغل الناس في زمن رئاسته، ولكن كلمة المجاملة التي نطق بها مخاطبي الكريم، السيدك. لوشون ، تصور بجلاء اهتمام نخبة المثقفين ، إن لم أقل عامتهم ، في عالمنا الحاضر بالأدب وبمبدعيه وتقديرهم لهم وله. وعلى ما يشبه الرغم مني، كما أسلفت القول، أصبحت مجرورا إلى هذا التقدير وذلك الاهتمام بالفن الذي بدأت فيه هاويا مثل المستهين ثم انتهيت إلى أن أجده أجدر ما أختم به هذا الحديث عن مرفأ الذاكرة ،وعن الخواطر التي رست فيه بعد طول الإبحار.
    الأستاذ الدكتور عبد السلام العجيلي
    بقلم: د. محمود السيد *
    ...........................
    شخصية ثقافية موسوعية، جمع بين الأدب والطب، متعدد الأطياف والأبعاد في المجالات الأدبية شعراً وقصة ورواية ومقالة.
    العفوية سمته، والطيبة معدنه، والموهبة المتقدة ذكاءً وتفوّقاً وإبداعاً أمارة واضحة على غنى ثقافته شمولاً وسعة وعمقاً وامتداداً.
    ومما يزيد شخصيته تميّزاً وألقاً تواضعه اللافت للنظر، فهو شامخٌ في تواضعه، ومتواضعٌ في شموخه، وإنسانيّ في نزعته، ووطني ّ في انتمائه، ومحب للناس كافة.
    ويعد الدكتور العجيلي قامة من المقامات العالية في ثقافتنا العربية المعاصرة. ولم يكن نيله وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة من لدن السيد الرئيس بشار الأسد رئيس الجمهورية العربية السورية عام 2004 إلا تقديراً من سيادته لهذه الشخصية المتميزة صدقاً وعطاءً، والتزاماً ووفاءً.
    * وزير الثقافة السوري
    ــــــــــــــــــــ
    *المجلة الثقافية، العدد (106)، في 16/5/2005م.
    الطبيب..الأديب..الصديق
    بقلم: كوليت سهيل الخوري
    ـــــــــــــــــــــــــــــــ
    ذات يوم من شهر أيار في أواخر الخمسينيات أوائل الستينيات خابرني نزار قباني وقال لي: ماذا تفعلين؟ هيَّا هيِّئي نفسك.. سأمرُّ بك لترافقيني إلى محاضرة.. كان نزار يومها في السابعة والثلاثين من العمر دبلوماسياً مرموقاً وشاعراً تسبقه شهرته.. وكنت أنا في العشرين.. أكتب الشعر والمقالة وأنشر في الصحف.. وأحاول أن أشقَّ طريقي في عالم الأدب.. وكانت المصادفة قد جمعتني بنزار قبل شهرين واستطاع أن يجعل المصادفة، على تموُّجات شعره، تستمر وتدوم.. وحين سألته عن سر اهتمامه بتلك الأمسية، ومَن هو القاص أو المحاضر.. أجابني معاتباً: أراكِ تكتبين في الصحف.. وتهتمين بالأدب وتنظمين الشعر وتؤلفين.. ومع ذلك أنت تجهلين تماماً الحركة الأدبية المعاصرة.. هيا معي لتستمعي إلى أحسن كاتب قصة في بلادنا.. هيا معي لأُعرفك إلى (أروع بدوي عرفته المدينة، وأروع حضري عرفتْهُ البادية).
    ورافقت نزار في ذلك المساء إلى أحد الأندية الأدبية في دمشق.. وتعرفت إلى أديبنا العزيز عبد السلام العجيلي. ومنذ تلك اللحظة البعيدة في مطلع الستينيات حتى الآن وعبد السلام العجيلي بيننا يُشعرني باطمئنان، وبأن الدنيا في خير! ربما لأنه إلى جانب كونه أديباً كبيراً وطبيباً قديراً.. (وهنا أتوقف لأقول عن عبد السلام الطبيب: إنني لطالما لجأتُ إليه كلما داهم المرض صديقاً من أصدقائنا.. كنا نخابره إلى الرقة لنسأله رأيه فنطمئن؛ فهو طبيب ومن علماء الطب عندنا).
    أعود لأقول: إنه إلى جانب كونه أديباً كبيراً وطبيباً قديراً.. هو إنسان كبير (وكبار).. يحترم نفسه ويحترم الآخرين فيتصرف على هذا الأساس. وهو ظريف المعشر.. يجمع في شخصه مزايا كثيرة.. فهو واسع المعرفة، قوي الذاكرة، حلو الحديث، ذكيٌّ وخفيف الظل.. وصداقته، ولا شك، غنية ومفيدة. وأنا شخصياً في هذا الوطن أعتز بوجود عبد السلام العجيلي وأمثال عبد السلام بيننا من مثقفين وأدباء وفنانين.. فهم ثروة من ثرواتنا الوطنية والقومية، فتحية إلى الدكتور عبد السلام في الرقة.. وكل الحب من كوليت الخوري من دمشق.
    ــــــــــــــــــــ
    *المجلة الثقافية، العدد (106)، في 16/5/2005م.
    د.حسين علي محمد
    كاتب في أنهآر
    الملف الشخصي
    من مواضيع العضو :
    0 درس في استئناف القتل
    0 خمس قصص قصيرة جدا، للقاص الكبير محمد جبريل
    0 امتحان
    0 حوار من خمسة وثلاثين عاماً مع نجيب محفوظ
    0 رواية «الزهرة المحترقة»
    ( المستشرقون وهواة القراد )
    بقلم: محمد عبد الله الهادي
    ـــــــــــــــــــــــــــــــ
    في العدد ( 61 ) لعام 1981 م من مجلة الدوحة القطرية ( مجلة ثقافية كانت تصدر في ذلك الوقت ) ، وتحت عنوان ( المستشرقون وهواة القراد )كتب د . عبد السلام العجيلي ـ وهو أديب ومفكر سوري مرموق يكتب في العديد من الصحف والمجلات العربية ـ مقالاً يتحدث فيه عن حرص المستشرقين ودقتهم في الفحص والتمحيص لكل عمل يتصدون له ، وفي مقاله هذا يدلل علي هذا الحرص مستشهداً بقصة كان قد كتبها بعنوان ( الرؤيا ) ، أذيعت في محطة إذاعة عالمية ، وفي إذاعتين عربيتين ، ونشرت في مجلة ذائعة الصيت ، كما نشرت في كتاب له تناوله كثير من النقاد بالشرح والتحليل ، كما تناولت بعض الرسائل الجامعية في القاهرة ودمشق القصة أيضاً ، إلي أن ترجمها مستشرق إنجليزي اسمه ( دينيس جونسون ديفيس ) في كتابه ( قصص عربية حديثة ) ، وأرسل دينيس إلي صاحب القصة د . العجيلي خطاباً يقول له فيه : إن السورة القرآنية التي تضمنتها القصة هي سورة ( النصر ) وليست سورة ( الفتح ) كما ذكر الدكتور في سياق القصة . ويقول د . العجيلي إنه دُهش وتعجب من خطأ لم يفطن إليه ، ولا كل هؤلاء الذين سمعوا أو قرأوا أو تعرضوا للقصة بالنقد والتحليل ، ثم أخيراً لا يفطن للخطأ أو يضع إصبعه عليه سوى هذا المستشرق الإنجليزي .
    وفي سياق المقال أيضاً يتحدث عن ثلاثة من الفتية الألمان يقومون بعمل دراسة عن ( القراد ) ، وكيف أنهم في رحلة طويلة حول العالم من أجل القراد ، ويقول أيضاً إن أحد أصدقائه عندما عرف ذلك ، علق قائلاً : إنهم مجانين ! . لكن الدكتور العجيلي قال له : نعم .. إنهم مجانين ، ولكن سر جنونهم عظيم ، علي أعتابه سجد العقل .وتحدث الدكتور بالطبع عن القراد في أكثر من موضع بالمقال ، وظل في كل مرة يصف القراد بأنه حشرة رغم أنه غير ذلك ، ودهشت وتعجبت بدوري من مقال يدعو في المقام الأول للدقة والتمحيص ثم يخطئ في تصنيف القراد . ووجدتها فرصة لشاب مشاغب مثلي لأرسل تصحيحاً للخطأ الذي وقع فيه الدكتور، وقلت في التصحيح الذي نشر في عدد تال :
    ( في مقال ( المستشرقون وهواة القراد ) قال د . عبد السلام العجيلي إن القراد حشرة ، والصحيح علمياً أن القراد ليس حشرة ، وأن طائفة الحشرات التي تضم 750 ألف نوع ليس من بينها القراد ، ذلك أن القراد يتبع فصيلة أخرى اسمها ( العنكبوتيات ) ، وهناك فرق بين الفصيليتين رغم أن كليهما يتبع شعبة ( مفصليات الأرجل ) .. لذا وجب التنويه حتى يعرف القراء أن القراد لا يمكن أن يكون حشرة )
    والحقيقة أنني لم انتظر رداً من الدكتور ، ذلك أنني بدوت لنفسي كعابث في الطريق أراد مشاغبة الكاتب الكبير لا أكثر ، لكنني فوجئت بالدكتور يكتب رداً مهذباً رقيقاً بالعدد ( 65 ) يقول فيه :
    ( أشكر للسيد محمد عبد الله الهادي من " فاقوس ج . م . ع " تصحيحه العلمي في العدد ( 63 ) من الدوحة في مقالي عن " المستشرقون وهواة القراد " ، وعن تسميتي للقراد حشرة ) .. وأضاف الدكتور قائلاً :
    ( تصف المصادر العربية القديمة القراد بأنه دويبة ، ويسمى قاموس المورد القراد حشرة ، كما أن قاموس وبستر الإنجليزي يطلق هذا الاسم في معنى ثان علي أصناف يصفها بأنها حشرات طفيلية ، هذا عدا أن موسوعة انسيكلوبيديا أو نيفر ساليس الفرنسية الحديثة تقول عن صنف العنكبوتيات الذي ينتسب إليه القراد بأنه كان يعد من الحشرات عديمة الأجنحة قبل أن يزداد التصنيف تفصيلاً ، ويفرد ذلك الصنف في زمرة خاصة به ، وأحسب أنني لو كنت كتبت في مقالي بدلا عن حشرة القراد عنكبية القراد أو عنكبوتية القراد لكان عليَّ أورد شرحاً كي يصبح هذا التركيب مفهوماً ، فليغتفر هذا التعميم أو هذا التجاوز البسيط في مقال مكتوب لغير المتخصصين من المثقفين )
    كان هذا هو الرد البليغ من د . عبد السلام العجيلي .
    وعندما عدت للمقال ، ثم التصحيح ، ثم الرد علي التصحيح .. قلت لنفسي :
    ( جلَّ من لا يسهو ولا ينام )
    د.حسين علي محمد
    كاتب في أنهآر
    الملف الشخصي
    من مواضيع العضو :
    0 أوراد الفتح
    0 أماكن روايات نجيب محفوظ.. مزارات سياحية (حوار)
    0 قراءة في "أصداء السيرة الذاتية" لنجيب محفوظ
    0 امتحان
    0 حوار مجلة «حياة» مع الأديب الدكتور حسين علي محمد
    قراءة في كتاب «أشياء شخصية»
    للدكتور عبد السلام العجيلي
    بقلم: أ.د. حسين علي محمد
    ــــــــــــــــــــــــــــــ
    هذه هي الطبعة الثالثة من كتاب "أشياء شخصية" للدكتور عبد السلام العجيلي، ويقول في مقدمتها: "هذه الطبعة ليست صورة مكرورة من الطبعة الأولى القليلة في صفحاتها، ولا من الطبعة الثانية المزيدة، ولكنها تُشبه أن تكون كتاباً جديداً. إنها كتاب جديد، لأن ما احتوته من حوارات ومقابلات ضاعف حجم الكتاب قي طبعتيه الأوليين، أو جعله يتجاوز الضعف، هذا مع أني لم أثبت فيه إلا القليل مما تحدثت فيه عن أشيائي الشخصية" كما سميتها عندما أعددت طبعتها الأولى، مكتفياً بهذا القليل من عشرات المُقابلات والمُحاورات الأخرى"(1).
    ويضم الكتاب في طبعته الثالثة تسعة وعشرين لقاءً ومحاضرة، يعود أقدمها إلى عام 1965م (حوار مع ياسين رفاعية نُشر في جريدة "النهار" البيروتية (2)، وآخرها كلمة أُلقيت في بيلفور بفرنسا في عام 1999م (3).
    وتضم هذه الحوارات الكثير من المحاور التي تتناول حياة العجيلي الأديب والطبيب والإنسان، ومواقفه الاجتماعية، ورؤاه السياسية، واعترافاته الذاتية .. ممّا يجعله كتاباً لا غنى عنه لمن يريد دراسة هذا الكاتب الكبير، والتعرُّف على عالمه الإبداعي.
    لكننا نجد في الكتاب أربعة محاور، من العسير أن يتجاهلها قارئ الكتاب، لأنها تتردّد بكثرة في أكثر من حوار ومُحاضرة، نشير إليها في هذا العرض إشارات سريعة:
    1-من القومية إلى الإنسانية
    في كثير من الحوارات يُشير العجيلي إلى حبه العرب وتعلقه بهم، ومع هذا فهو لا يحمل نزوعاً عدوانيا نحو الآخرين. يقول له الدكتور محيي الدين صيحي: "على حلاوة ما تعرض من أحاسيس العربي في مواجهة الأقوام الأخرى، منطلقاً من منظور قومي أو عرقي، هناك ناحية تلفت النظر، وهي فقدان الصدام بين المنظور العربي والمنظور الأوربي. هذا الصدام نجده أحياناً مدمراً عند توفيق الحكيم، ونجده أحيانا عابثا في رواية الدكتور سهيل إدريس "الحي اللاتيني" مثلاً، هناك تساوق وتعايش في روايتك … ليس هناك مأساة باللقاء العرقي، مع ما يبدو من أن المأساة تكون في الصدام الحضاري، فهل هذه الملاحظة واردة في نظركم؟".
    فيُجيبه:
    "هذا صحيح. الواقع إنني على تعلقي بقوميتي، وعلى حبي لقومي، لستُ شوفينيا. أنا محب للإنسانية، وأعتبر نفسي ـ كعربي ـ جزءاً من الإنسانية. ليس لي مآخذ عرقية، وليس لي التعصب الشوفيني ضد الآخرين. أحب قومي لأنني منهم، وأحب الآخرين لأنني منهم كذلك … ليس لديّ أو لدى أبطالي حقد حتى إذا حلّت بهم المصائب"(4).
    2-بين الطب والأدب
    يُمارس الدكتور عبد السلام العجيلي مهنة الطب منذ أكثر من خمسين عاماً، وتأخذ مهنته منه وقتاً طويلاً. يقول: "أعترف أني أعمل عشرين ساعة يوميا، فالمرضى لا ينتظرون، ولا يبقى لي كي أكتب سوى النزر اليسير من الوقت، وللقراءة بالتالي وقت أقل"(5).
    ورغم شهرته في الأدب لم يترك مهنة الطب، مما جعل بعض محاوريه يسألونه لماذا لم يتفرّغ للأدب، فكانت إجابته التي تكررت في بعض المحاورات:
    "كثيراً ما أُردِّد كلمة تشيخوف على من يسألني هذا السؤال، حين قال: "الطب زوجتي والأدب عشيقتي"، وهو ما يعني أن الطب هو الواجب والمستقر، بينما الأدب هو المتعة واللذة النفسية. وأضيف للذين يُطالبونني بالتوقف عن ممارسة الطب لأتفرّغ للأدب: إنكم بهذا تُفضلون متعكم الشخصية على الوفاء بحاجة من يحتاجون إلى خدماتي الطبية، هذا من ناحية. ثم ماذا تريدون مني أكثر من إنتاج خمس روايات كبيرة وثلاث عشرة مجموعة قصصية وخمس مجموعات من المحاضرات، وثلاثة كتب على هامش نشاطي الطبي، وثلاثة كتب عن أسفاري، وغير هذا من الكتب المتنوعة؟ ثم إن قيمة الأديب لا تُقاس بالكثرة، فديوان المتنبي يفوق قيمة أبي العلاء المعري الذي ألّف عشرات الكتب، و"أزهار الشر" لبودلير أكثر أهمية من كتب فيكتور هوجو التي تملأ الرفوف"(6).
    وحينما يسأله سائل سؤالاً مستفزا عن الأدب والطب: أيهما يحتل المكانة الأولى في حياته، وأيهما يحتل المكانة الثانية، لا يجد مفرا من الإجابة:
    "أعتبر نفسي طبيباً، ووقتي مشغول كله بالطب، ولا سيما أنني أعيش في بلدتي "الرقة" على ضفاف الفرات حيث عدد الأطباء لا يزال قليلاً، كنت أشعر ـ ولا أزال ـ بضرورة مُعالجة الناس. لكن الأدب بهالته المتسعة وجاذبيته الآسرة يُغطِّي أحياناً على نشاطي الطبي … الأدب يأتي في المقام الثاني، وقد بدأتُ هاوياً، ولا أزال أعتبر نفسي أديباً هاوياً"(7).
    3-العزلة المستحيلة
    يرى الدكتور عبد السلام العجيلي أنه "في عصرنا الحاضر تكاد تكون مستحيلة عزلة المثقف في برجه العاجي، منصرفاً إلى لذائذ المعرفة أو إلى متعة الإبداع الفني؛ فالقضايا العامة من محلية وقومية وإنسانية تنفذ إليه مع خبزه اليومي. والمثقف العربي ـ مثل كل مثقف في العالم ـ مسوق إلى الاهتمام بالقضايا الكبيرة، وباتخاذ موقف منها" ( 8 ).
    واتخاذ موقف يعني أن للكاتب دوراً سياسيا، ومن ثم أصبح الكاتبُ مسيَّساً، لا يُمكنه أن يبتعد عن السياسة، حتى لو أراد. يقول: "في عصور سابقة كان يمكن لأي إنسان أن يبقى بعيداً عن السياسة، لبساطة الحياة وقلة التواصل بين الناس، ولكن السياسة في العصر الحاضر أصبحت طبيعة ثانية لكل إنسان، والأديب مضطر أن يكون سياسيا من قريب أو بعيد … وبهذا يكون عليه أن يعي دوره وأن يقدر إمكاناته ويؤدي واجباً. عليه بألا تكون كتاباته لمجرد الإبداع والتسلية، بل أن ينتهزها وسيلة ويسلكها طريقة لإفادة الآخرين، بفتح عيونهم على ما ينالهم من ظلم أو ما يتهددهم من مخاطر أو على ما يكون سبيلاً لتحسين عيشهم"(9).
    4-استقلاله السياسي
    يشير العجيلي في كثير من مواضع الكتاب إلى ارتباط الحرية الشخصية للأديب أو المفكر بالاستقلال عن المؤسسات الحزبية: "أنا حريص قدر الإمكان على حريتي الشخصية، وإذا كنت لم أنتسب إلى حزب سياسي، وابتعدت عن كل منظمة فكرية أو ثقافية … فذلك حرصاً مني على أن لا يحد انتسابي إلى أي مؤسسة من حريتي"(10).
    ورغم أنَّه تبوّأ منصب الوزارة، إلا أنه ظل حريصاً على استقلاله السياسي، وعلى عدم الانتماء إلى حزب من الأحزاب. يقول:
    "إن تجربتي السياسية والنوع الذي مارست فيه هذه التجربة يتلاءم مع أسلوبي في التعبير ومعتقدي في التفكير، عملت نائباً، وحكتُ وزيراً، وكتبتُ في السياسة دون أن ألتزم بمذهب سياسي معين، وإنما كنتُ أعتقد أن لكل مذهب سياسي في الغالب ناحية تتفق مع المثل الأعلى، وأنا آخذ بها، وأتجنّب نقاط الضعف في ذلك المذهب"(11).
    ويرى في التحزب عدواناً على الحرية الشخصية التي يحرص عليها، يقول في موضع آخر:
    "لقد نفرت من التقولب، أعني في صب نفسي في قالب جاهز من صنعي أنا أو من صنع غيري، كما حرصتُ دوماً على حريتي الشخصية في التفكير، مثل حرصي عليها في السلوك" (12).
    5-حس ساخر
    والدكتور عبد السلام العجيلي يكشف في "أشيائه الشخصية" عن حس ساخر في هذه الحوارات حيث يفسر اهتمام البعض بإجراء حوارات معه على النحو التالي: "لستُ الوحيد في التعرض إلى أسئلة … مثلي في هذا مثل الرياضي الذي يكسر رقماً قياسيا، وبائع الحمص الذي يربح ورقة يانصيب، والفائز بجائزة نوبل، والمتسنم منصباً سياسيا كبيراً، والبائس الذي يفقد زوجته وأطفاله في انهيار سقف المنزل عليهم. كلهم عرضة لمثل هذه الأسئلة التي تُرضي غرورهم أول الأمر، أو تشغلهم عن بؤسهم بعض الوقت، ثم لا تلبث حتى تنقلب، إذا جاوزت حدَّها، جحيماً يُضاعف البؤس، ويُنغِّص الفوز"(13).
    ـــــــــــــــــــــــــــــ
    (1) د. عبد السلام العجيلي: أشياء شخصية، ط3، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق 2000م، ص5.
    (2) السابق، ص ص9-24.
    (3) السابق، ص ص243-246.
    (4) السابق، ص110.
    (5) السابق، ص133.
    (6) السابق، ص240.
    (7) السابق، ص215.
    ( 8 ) السابق، ص51.
    (9) السابق، ص89.
    (10) السابق، ص216 ، 217.
    (11) السابق، ص60، 61.
    (12) السابق، ص75.
    (13) السابق، ص7.
    عبد السلام العجيلي: عشرون بالمئة من كتابنا اليوم يكفون قراءنا
    حاوره: ماهر منصور
    ــــــــــــــــــــــــ
    يكتب بصورة عفوية، ولا يهتم بملاحقة النظريات النقدية
    ما نقرؤه في الصحف اليوم كتابات نقدية لمبتدئين تأثروا سلباً أو إيجاباً بما قرؤوه
    لا يمكن أن تختصر مسافة الرغبة في محادثة د. عبد السلام العجيلي بعدة جمل تتبادلانها مهما طالت، فهذا الرجل الذي اعتاد خلال سنوات عمره الطويلة أن يفرد في لقاءاته المتعددة، وهو المتحدث القديم، مساحة للحديث عن الآخرين أو ما يهمهم، سيحمل لك في كل مرة الجديد المدهش. وعلى هذا النحو سيبدو إجراء (حوار صحفي) معه أشبه بمغامرة، تدرك في نهايتها أن هناك الكثير مما كنت تود أن تقوله، لكنك لم تفعل، تسأله وتتمنى من أعماقك أن لا ينتهي من جوابه، وتسأل مرة أخرى وأنت تمني النفس بسؤال ثالث و رابع، دون أن تنتهي رغبتك في السؤال والاستماع. إنها حقيقة أدركتها منذ بداية معرفتي بالدكتور العجيلي،لذلك لم أحاول الاقتراب من حواره بالمعنى التقليدي واكتفيت بتسجيل حديث جانبي، جمعنا معاً في ندوة النقد الأدبي في المشرق العربي في المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأوسط. وقد ألقى موضوع الندوة ظلاله على حديثنا، بل واختص بالنقد الأدبي في صحفنا، فيما اعتبرته همسة حب ذكية من كاتبنا الكبير العجيلي في أذن رجال الصحافة في بلادنا، يدرك أني سأتلقفها وأسرع بنشرها. سألته في البداية عن طبيعة مشاركته في الندوة...؟ فأجاب:
    ++ ليس لي فعالية أو مشاركة عملية بإلقاء بحث أو مداخلة وإنما دعيت إلى الندوة لترؤس إحدى جلساتها، بوصفي مبدعاً أدبياً أكثر من ناقد، فأنا كاتب وروائي وقاص.
    النقد يأتي ثانوياً بين إنتاجاتي الأدبية الأخرى، وهذه الندوة تكاد أن تكون خاصة للمهتمين بالنقد، والمهتمين بالنقد الأدبي بصورة خاصة، وقد جاؤوا للاجتماع والمشاركة في أبحاث مركزة على النقد الأدبي في المشرق العربي بصورة خاصة. أما أنا فمشاركتي قليلة ومحدودة، لعدم تمكني ملاحقة كل ما يقال ـ ضاحكاً ـ لخلل في سمعي. وما سمعته وانتبهت إليه اليوم كان مهماً عن علاقة النقد الأدبي المعاصر بصورة خاصة في مشرقنا باتجاهات العالمية للنقد، تأثره وتأثيره، سواء كان بالكتّاب أو بالقراء، إنه عمل جميل وإن كان مقتصراً على النخبة من النقاد والكتاب والمهتمين.
    + لكنك مارست النقد الأدبي، إن كنت تعده ثانوياً وسط ما تنتجه إبداعياً، ما الذي يدفعك إلى نقد نتاج إبداعي ما؟ وعلى ماذا تعتمد في تقيميك لما تقرأ؟ هل مخزونك المعرفيّ كافٍ للممارسة النقدية، أم أنك تتكئ على نظريات النقد في ذلك؟
    ++ أنا بعيد عن النظريات والتنظير وحتى النقد نفسه، والأبحاث النقدية التي تدور في هذا المكان في الواقع لا تهمني شخصياً، أو حتى لا أفهمها، لأنني لا أتتبع الحركات النقدية الحديثة في الأوساط الثقافية الأدبية، أنا أديب على الورق، أحياناً أبدي رأيي النقدي في المقدمات التي أكتبها للكتب، كنت أكتب مقدمات كثيرة وتوقفت نهائياً، أو في التعريف بالكتب، وما أكتبه من المقالات النقدية أكتبها عن بعض الكتب التي تثير فيَّ رغبة للتعليق عليها، وأعطي آراء نقدية فيها، ولكنها ليست مبنية على نظريات نقدية، ولا ألاحق النظريات خصوصاً نظريات الأدب الحديث، والآن يوجد منها الكثير.
    + يكثر الحديث عن علاقة شائكة بين الناقد والمبدع باتت موسومة، في وقتنا الراهن، بالخصومة، وأجدك اليوم تدير جلسة بحثية تتناول النقد، على نحو يشجعني لسؤالك: هل يشكل النقد حارساً للإبداع؟
    ++ في الواقع، العلاقة أحياناً تكون جيدة ومفيدة ومنتجة، و لكنها أحياناً قد تكون العكس، حين يمارس النقد بطريقة غير لائقة، فبعض النقاد لا يكتبون بطريقة موضوعية دون تدخل العلاقات الشخصية سواء أكانت حباً أم كرهاً أم سواهما. الناقد الجاد يفيد الكاتب، يعرّفه على بعض الأمور التي لا يدركها كثيراً في الكتاب، وأنا منهم، أكتب بصورة عفوية، ويأتي ناقد ليبصرني بأشياء تعمدتها ولكنها صدرت بصورة عفوية، وعلى هذا يشكر الناقد. بالمقابل وبعد الممارسة الطويلة للكتابة بلغت أكثر من ستين عاما أصبح بوسعي أن أنقد الناقد وعندما أقرأ نقده أقول: هل فهم ما قرأه كما يجب؟ ثم هل هو موضوعي في تناوله للموضوع؟
    على كل حال بصورة عامة، كثيرون ممن يمارسون النقد غير أكفاء، فالناقد منهم يتأثر بقراءة كتاب ما، فيتصدى للكتابة عنه في إحدى المجلات أو الصحف،وقد لا يكون كفئاً لهذا الأمر، فالناقد عليه أن يكون ذا إحاطة شمولية بالأدب، حتى إن على ثقافته أن تكون أوسع من ثقافة الكاتب وهذا لا يتيسر لكل النقاد وأكثر ما نقرؤه في الصحف اليوم هي كتابات نقدية لمبتدئين تأثروا سلباً أو إيجاباً بما قرؤوه، بينما في الغرب والصحف والدوريات الغربية النقاد مهنتهم النقد. في كل مجلة في الغرب يوجد ناقد أو أكثر يكتب بصورة مستمرة، قد يكون كاتباً فيها، ولكن النقد صنعته، على نحو يعتمد القارئ على الآراء التي يعطيها والأعمال الأدبية التي يتصدى لها، أذكر عندما كنت أقرأ كتباً باللغة الفرنسية، أقرأ صفحات النقد في بعض المجلات الفرنسية فأثق بالناقد وأبني رغبتي على اقتناء الكتاب وقراءته على ما يقوله لأنه متمرس ومحترف. بالمقابل خذ مثلاً مجلة (المعرفة) التي تصدر عن وزارة الثقافة السورية، وهي مجلة فكرية يجب أن يكون فيها نقاداً محترفون يعطون رأيهم بصورة مستمرة بما يصدر، ولكن هذا لا يحدث بصورة دائمة وكل ما نقرؤه في أوساط النقد هو ما ينشر في الجرائد اليومية، وإذا أمعنت أكثر في ما يكتب، تجد أن العلاقات الشخصية تدخل في معظمها.
    + أجدك قد تناولت النقاد غير الأكفاء، والصحف التي تتسع لما يكتبونه، وأين المبدع من هذا كله؟ ألا تجد أننا نفتقر أيضاً للمبدعين الخلاقين القادرين على إزاحة الغث الفاسد، خلافاً لما أفرزته ستينيات وسبعينيات القرن الماضي من أسماء مبدعة...؟
    ++ المبدعون اليوم في الساحة الأدبية كثيرون، ولكن الظروف تغيرت، فملاحقة الأعمال الأدبية بات صعباً، بعد أن كثرت الدوريات وتنوعت. في الماضي كان هناك مجلات ودوريات متخصصة يقرؤها الأدباء ويتتبعون الأعمال الأدبية لهذا المبدع أو ذاك، أما اليوم فقد تغير الأمر. أحياناً يصدر لي في الأسبوع أربع مقالات، ومع ذلك يسألونني لماذا لا تكتب؟
    على كل حال لا يوجد نقص موهوبين فالموهوبون كثر، إلا أن هناك من استسهل الكتابة نتيجة العدد الكبير من المجلات التي تصدر، على نحو أصبح لدينا عدد كبير من الكتًاب تذهب بينهم أصداء الصالح مع الطالح، بعد أن صارت ملاحقة نتاج هؤلاء الصالحين صعباً. سابقاً كان رئيس تحرير المجلة وأعضاؤها يحرصون على سوية عالية للمادة التي تنشر، هذا الشيء لم يعد موجوداً الآن، فقد فتحت هذه المجلات أبوابها لكل ما هبّ ودبّ، ونقص الاهتمام بسوية ما ينشر ودقته، على نحو صرت أقرأ في مجلات جادة أشياءً خاطئة جداً. في إحدى المجلات نشروا صورة جامع قرطبة و كتبوا في أسفل الصورة، كاتدرائية قرطبة وهذا أمر لا يحدث عادة إن كان هناك مراقبة وجدية في العمل. وقرأت في مجلة أخرى عن هاجر زوجة إبراهيم الخليل وهي هاجر، ووسط هذا كله ستضيع أسماء كبيرة ولكنها موجودة.
    +ألا تعتقد أن غياب القارئ الجاد ساهم في تكريس هذه المطبوعات في مشهدنا الثقافي الحالي، وإنتاج صورة هزيلة لما ينتج اليوم إبداعياً؟
    ++ لقد قلت في إحدى المنتديات بأن عشرين بالمئة من كتّابنا اليوم يكفون قراءنا، ففي وقت لا يوجد عندنا فيه قراء، تجد مثلاً أن لدينا سيلاً من الشعراء والشاعرات. فيما مضى كان هناك نخبة من القراء تستدعي وجود نخبة من الكتاب، وهذه الآن تغيرت. الآن تقرأ في الصحف قصائد ليس لها أية قيمة، ولا تدري كيف نشرت. الواضح أن تساهلاً ساهم في تمريرها على نحو أساءت للشعر الحديث، وكرست صورة سلبية عنه، رغم وجود شعراء حداثة لهم قيمتهم.
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  6. #6
    حوار مع العجيلي
    حاوره: ماجد رشيد العويد
    .................................
    في عيادته يلقاك طبيباً كريماً، وفي بيته يلقاك محباً صادقاً، تشغف به نبيلاً ما إن تجلس إليه، فهو بتواضعه قامة شامخة، رقيق الحاشية، عذب الكلام، يرسله سخياً في أناة وتبصر، وفي غير منة أو عجلة، يعيش على كتف فرات عذب عرشت على جنبيه الحضارات. إنه الدكتور عبد السلام العجيلي الأديب الإنسان، وإذا ما رأيت إليه قاصاً وروائياً، تجده ولا ريب ينهل من روح تراثه، ما يقيم به أود حاضر أدبي أعياه اللغب، وليعيد الحياة إلى روح تحتضر أقام روائعه، ومنها على سبيل الذكر رائعتيه " قناديل إشبيلية " و " الحب والنفس " .
    هل يقبل الحاضر الشقي أن يشفى من شقائه، ويصب نقياً في مستقبل يكون أكثر إشراقاً وأكثر جمالاً؟ لعل الإجابة تكون " أجل"، ولأجلها كان لي هذا الحوار مع العجيلي الإنسان والطبيب والأديب.
    ..............................
    س1 ـ تؤكدون فيما يجرى معكم من لقاءات على أن علاقتكم بالأدب علاقة هاو. وبالمقابل لكم الاسم الذي ترجم إلى ما يزيد على اثنتي عشرة لغة. كيف تفهمون الهواية ولكم أربعون كتاباً؟
    ج1 ـ أفهم الهواية على أنها نشاط ثانوي في حياة الإنسان، جانب المتعة فيه أكثر من جانب الفائدة، يأتي بعد النشاط الرئيسي الذي ينفق فيه الإنسان أكثر وقته والذي يستمد منه قوام معيشته ويوليه أكثر اهتمامه. نشاطي الرئيسي في حياتي ليس للأدب. يتقدم عليه عملي كطبيب الذي يستهلك كل ساعات نهاري وبعضاً من ساعات الليل والذي أعتمد عليه كمورد رزق أساسي لي. واهتمامي بعملي الطبي يفوق بكثير اهتمامي بالأدب، كما أن تقديري الشخصي للطب كفن يعتمد على علوم حقيقية يفوق تقديري للأدب. ليس الطب وحده الذي يتقدم على الأدب في مقاربتي إياه. هناك واجبات اجتماعية أجد أن تأديتها تأخذ الأولوية على الانصراف إلى الإنتاج الأدبي في حياتي. وهناك الأسفار التي إذا أتيحت لي مناسباتها فإني أعطيها الأولوية أيضاً في الانصراف إليها. ومثلها أيضاً ما تضطرني الظروف إليه من العمل في مجال السياسة أحياناً، فأبتعد في زمن هذا العمل عن الأدب ابتعاداً شبه تام.
    كل هذا الذي ذكرته يبين لك أن تأكيدي على أن علاقتي بالأدب هي علاقة هواية يرتكز على واقع محقق. ما تشير إليه من اسمي كأديب، أو أن إنتاجي كأديب، قد ترجم إلى لغات متعددة، لا ينفي صفة الهواية عني. ذلك لأني لست أنا الذي سعى إلى جعل اسمي وإنتاجي معروفين في الأوساط الأدبية، العربية منها والأجنبية، لأكون مسؤولاً عن حشر نفسي في عداد محترفي الأدب. بل إني طالما كتبت بأسماء مستعارة، وطالما تهربت من الانضمام إلى التجمعات الأدبية، وطالما أنكرت على نفسي الصفة الأدبية، بغرض الاحتفاظ بصفتي كهاو. ولكن الآخرين هم الذين تكلفوا التعريف بي وسعوا إلى ترجمة أعمالي، وهم الذين قدموا الصفة الأدبية على كل صفاتي الأخرى بدون استشارتي، بل إني أقول لك إنهم فعلوا ذلك بدون رضاي.
    أما غزارة إنتاجي الأدبي، وهي الموحية لمن لا يعرف طباعي وصفاتي الشخصية بأني كاتب محترف، أما هذه الغزارة فإنها تعود إلى سهولة الكتابة في الأدب عندي. لدي، على الدوام كثير مما يستحق أن يقال وما أريد القول فيه، وأداة الإبداع الفني، من خيال وأفكار وقدرة على التعبير، متوفرة عندي. فلا يلزمني إلا القليل من الوقت لإنجاز ما يحتاج كثيرون سواي إلى وقت طويل لإنجازه. بل إن اهتماماتي الرئيسية الأخرى التي قلت إن لها الأولوية على الأدب تزودني، بما أكتسبه في الوقت الطويل الذي أنفقه في ممارستها، بمادة للأدب الذي أنتجه في ما أبقته لي تلك الممارسة من وقت قليل.
    إذن، وعلى الرغم من كل ما يظن بي من احتراف للأدب، أظل على تأكيدي بأني كنت ولا أزال فيه مجرد هاو، هواية سامية ولا شك أقد قيمتها وأسعى إلى أن أحسن الإبداع فيها. غير أن الهواية تبقى عندي نشاطاً ثانوياً، أنصرف إليه حين أفرغ من نشاطاتي الأخرى وبعد أن أنجز ما يترتب علي من واجبات في تلك النشاطات الأخرى.
    س2 ـ شخصية آلسيدو أو السيد بوقلادة في رائعتكم " قناديل إشبيلية " تعطينا صورة شديدة الوضوح لعربي أضاع حاضره، وعبث في بحثه عن ماضيه. فهل تراه يفلح في التقاط مستقبله، وقد صدئ مفتاحه من شدة تعلقه بثوب " هياسنتا " ؟
    ج2 ـ حين كتبت قصة " قناديل إشبيلية "، منذ ما يقارب خمسين عاماً، لم أخطط لتصوير شخص عربي معاصر وللحديث عن واقعه في الحاضر وعن تطلعاته المستقبلية. لعلي أشترك معك الآن في رؤية بطل هذه القصة، السيد بوقلادة، إنساناً عربياً يحن إلى ماضيه، أو يفاخر بذلك الماضي، ولكنه يقعد عن العمل لاستعادة مقومات ما يفاخر وينزلق إلى أن يصبح تابعاً لمن طردوه من داره وسلبوه خيراتها. إنه يكتفي من أمجاد الماضي بالتحدث عنها أحاديث جذابة. وحتى هذه الأحاديث لا تلبث أن تنقص من قدره في عين المراقب له حين يكتشف هذا المراقب كيف تحول سليل الأمجاد الميامين إلى حامل شفوف راقصة. قد لا نكون مخطئين في التفكير بالمصير الذي آل إليه السيد بوقلادة حين نتطلع إلى مواقف كثير من سادات العرب في هذا العصر وإلى بعض أشكال تبعيتهم للدول التي الراقصة " هياسنتا " من رعاياها. الصحيح أني حين كتبت القصة لم أفكر، كما سبق وقلت، بالتخطيط للتعبير عن هذه القضية. لعل القصد فيها كان كامناً في لا وعيي. أما الآن فإني أجد المقارنة بين هذين الحدين واردة كل الورود.
    هل يفلح العربي المعاصر في التقاط مستقبله كما تسألني أنت؟ إني أعتقد بأنه يمتلك المؤهلات التي تمكنه من أن يفعل .. على شرط أن يتغلب هذا العربي على شهواته اليومية والرخيصة، وعن مطامعه الشخصية والأنانية، وأن يتحلى بالشجاعة التي أوصلت أسلافه إلى ما أوصلتهم إليه. بتحقيق هذا الشرط سنراه يفلت من أصابعه ثوب " هياسنتا " ويطرح شفوفها أرضاً ويحتل المكانة التي تليق به في الحياة وفي العالم. لا أنكر أنه شرط صعب التحقق ولكنه، رغم ذلك، قابل للتحقق.
    س3 ـ … وتكاد الأندلس أن تكون فردوساً مفقوداً بالنسبة للعرب، وفلسطين أصبحت كذلك، فهل قدر العربي البحث عن فردوس مفقود؟
    ج3 ـ ليس هذا قدراً محتماً، وإنما هو نتيجة لمقدمات يخلقها العرب لأنفسهم ويتيحون للآخرين فرصة إمعان زجهم فيها. لا تظن أن قوة الآخر هي ما تغريه بالعدوان عليك، بل هو ضعفك أنت. وهو ضعف غير مبرر، فأنت تملك كل الإمكانيات التي تؤهلك لأن تكون قوياً. إلا أنك تهمل هذه الإمكانيات، أو تتنازل عنها، أو تخاف استخدامها. ما الذي أضعف العرب إلى هذه الدرجة وأطمع فيهم القريب والبعيد؟ إنه ضياع القيم الأخلاقية وضعف الإيمان بهذه القيم وإيثار المصلحة الشخصية والمنفعة العاجلة، عند الحاكم والمحكوم في مجتمعاتنا وفي دولنا، في هذا القرن المنقضي من الزمن. وهذا ما أدى بنا إلى التناحر فيما بيننا وإلى التفكك مكان التوحد الذي يصنع القوة.
    فراديسنا المفقودة كثيرة في الماضي، نعد منها الأندلس وفلسطين والأهواز والإسكندرون والجولان اليوم. وأخشى أن نعد منها في المستقبل جنوب السودان وشمال العراق وجزراً في الخليج العربي وقرب باب المندب... إلا إذا انتبه العرب إلى أنفسهم وعادوا إلى ميزاتهم التي أعلتهم في القديم، فنفضوا عنها صدأ الفساد والكذب والنفاق والجبن والتخاذل، وتسلحوا بها للحفاظ على ما بين أيديهم في الحاضر كمقدمة لاستعادة ما استلب منهم قبل اليوم.
    س4 ـ " أيامي في جزيرة شاور " القصة النبوءة. فشاور المتخيلة، بسكانها الخمسة آلاف وتعدادها البالغ عشرين ألفاً من الدخلاء، بحزبيها التقدمي والمحافظ، شاور هذه تدب اليوم روحها. فـ " دحمان " بتقدميته قدم وما يزال أكثر من شاور. فما تعليقكم؟
    ج4 ـ تعليقي يتلخص في كلمة كتب بها إلي الناقد المصري المأسوف عليه أحمد محمد عطية، من بلد ألجأته الظروف إلى العمل فيه، وصفات هذا البلد قريبة من الصفات التي رسمتها أنا لجزيرة شاور المتخيلة. كان المرحوم أحمد محمد عطية قد انتقد هذه القصة بشدة قائلاً إني في مهاجمتي لدحمان والزمرة المسيطرة على الجزيرة معه أهاجم التقدمية. الصحيح أن القصة لم تكن تهاجم التقدمية ذاتها بل كانت تحمل على المتاجرين بالتقدمية، أولئك الذين يدعونها بأفواههم ويخالفونها أو يحاربونها بأفعالهم، ويسوقون بذلك الشعب إلى المذلة والوطن إلى الضياع. كل هذا لم ينتبه إليه أحمد محمد عطية، أو لم يدركه، إلا حين عمل في البلد الذي قلت إنه يشبه جزيرة شاور في صفاته. من ذلك البلد جاءتني منه عندئذ بطاقة يقول لي فيها بالحرف الواحد: " كل ما كتبته أنت عن جزيرة شاور يطبق هنا على التمام! ".
    كتبت قصة " أيامي في جزيرة شاور " في عام 1969 ، وأرسل إلي أحمد محمد عطية كلمته هذه بعد ذلك التاريخ بنحو من خمسة عشر عاماً. وكلي أسف وتألم من أن ما هاجمته في تلك القصة وما رآه بعينه أحمد محمد عطية لا يزال مطبقاً في أكثر من شاور واحدة من جزر الوطن العربي ومن مدنه ومن دوله.
    س5 ـ تلتقون مع القاص الكبير المرحوم يوسف إدريس في أنكم أبرزتم أهمية الحكاية، رغم افتراقكم عنه في الحوار، وفي اللغة. فلديكم الحوار بالفصحى، واللغة أميل إلى الكلاسية. ولدى يوسف إدريس الحوار بالعامية، واللغة أكثر معاصرة. وتلتقون في قدرتكما على التشويق والإمتاع. ما تقييمكم لأدب يوسف إدريس؟
    ج5 ـ أعجبت بقصص يوسف إدريس منذ قراءاتي الأولى لها. وعبرت عن هذا الإعجاب في كثير من المرات التي سئلت فيها، في الحوارات الصحفية المجراة معي، عن من هم أبرز كتاب القصة المعاصرين. وبالمقابل فقد قرأت أكثر من مرة كلمات قالها المرحوم إدريس في تقدير المنزلة التي تحتلها قصصي. ولعل هذا التقدير هو الذي ساقه إلى أن يبدأني بالحديث هاتفياً إلى الرقة في المرتين اللتين زار فيهما دمشق. في المرة الأولى حادثني من مكتب المرحوم الدكتور محمود سعدة، وزير الصحة السورية آنذاك، وقال إنه راغب في رؤيتي. اعتذرت بأني لا أستطيع المجيء إليه في الوقت الحاضر، فقال إنه مستعد أن يأتي لزيارتي الآن. ولما قلت له إن ستمائة كيلومتر تفصل بين دمشق التي يكلمني منها والرقة التي أنا فيها في تلك اللحظة، ضحك واعتذر باضطراره إلى العودة إلى القاهرة في اليوم التالي. بعد ذلك بسنوات دعينا معاً إلى واحد من مهرجانات الجنادرية في الرياض، عاصمة المملكة العربية السعودية، فأضاف لقاؤنا في ذلك المهرجان إلى إعجابنا المتبادل أدبياً إعجاباً شخصياً وثق الأول وقواه. وأذكر بهذه المناسبة أن أحد المصورين التقط لنا صورة أوقفت أنا فيها بين يوسف إدريس وعبد الوهاب البياتي، رحمهما الله جميعاً. ولما كانت العلاقات السياسية على قدر من السوء في تلك الأيام بين سورية وشقيقتيها مصر والعراق، فقد قلت آنذاك لصاحبي المأسوف عليهما، وأنا أضحك: هذه مؤامرة منكما عليّ... إنكما تريدان أن تخلقا لي المتاعب والمضايقات حين أعود إلى وطني بعد اختتام المهرجان، وحين يكتشف أولو الأمر فيه أني، أنا السوري، قبلت بأن أتصور بين مصري وعراقي!
    لقد بعد بي العهد اليوم بقراءاتي لأدب الدكتور إدريس التي أثارت إعجابي في وقتها، لذلك لا أستطيع أن أفصّل في تقييم هذا الأدب الآن. أكتفي من التقييم بترديد إعجابي بصورة إجمالية، بعد أن أصبحت قراءاتي المتأخرة تحول بيني وبين الرجوع إلى ما كنت قرأته من إنتاج هذا الأديب الكبير الراحل في القديم.
    س6 ـ يكاد يخلو الأدب العربي مما يمكن تسميته بأدب السيرة الذاتية. وإن وجدت بعض التجارب فهي هزيلة بالقياس إلى السيرة الغربية. ما هي برأيكم الأسباب؟ وهل من عمل لديكم في الأدراج سجلتم فيه سيرتكم وهي غنية؟
    ج6 ـ تأخر المثقفون العرب، بين أدباء ومفكرين وسياسيين، في كتابة سيرتهم الذاتية عن أمثالهم في الغرب لدواع عديدة، ولكنهم في العقود الأخيرة من هذا القرن بدءوا باللحاق بهؤلاء. لا تنس أننا لم نكتب القصة القصيرة والرواية إلا متأخرين عن الغرب كذلك. وأذكر أن جائزة الملك فيصل في العربية السعودية خصصت في إحدى السنين للسيرة الذاتية، مما يدل على أنها أصبحت صنفاً أدبياً مميزاً ومعترفاً به. دواعي التأخر في كتابتها، كما قلت، عديدة. منها بلا شك أن المجتمعات العربية، بتقاليدها المتشددة، لا تقبل البوح بكل عناصر السيرة الذاتية الصادقة، ولا سيما في التجارب ذات الصلة بالعواطف وبالعلاقة بين الرجل والمرأة، وهي تجارب تحتل جانباً مهماً من كل سيرة ذاتية وروايتها تشوق القراء وتلقي أضواء كاشفة على حياة كل إنسان. أما رواية التجارب السياسية فإن الصدق فيها والإفصاح عنها جديران بإثارة المشاكل لراويها ولناشرها، مما يشكل مانعاً لصدورها في كتاب أو لتوزيع هذا الكتاب. وأعرف بعضاً من كتب السيرة الذاتية تعذر نشرها أو احتفظ بها في الأدراج لهذا المانع أو لذاك.
    أما عن شخصي فإن أحد موانعي من كتابة سيرتي الذاتية هو أني لا أملك عقلية توثيقية. فأنا لا أسجل يوميات لي ولا أحتفظ بتاريخ لما أمر به أو يمر بي من أحداث. أكتفي بذكريات وقائع حياتي، والذاكرة خوانة. إضافة إلى أني قليل الميل إلى التحدث عن ذاتي بصورة مباشرة، وهذا ما يجعلني أفرغ أحداث حياتي بصورة قصصية فأنسب كثيراً مما مر بي إلى أبطال قصصي ورواياتي. ومع ذلك فقد تحدثت كثيراً عن نفسي بصورة مباشرة استجابة لطلب الآخرين مني. أذكر مما كتبته في هذا المجال مقالين طويلين في مجلة العربي أحدهما في باب " كاتب ومدينة " والثاني في باب " مرفأ الذاكرة "، إلى جانب مقالين قصيرين في المجلة نفسها أحدهما عن طفولتي والثاني عن حادث مرّ بي أثناء دراستي الثانوية. فإذا أضفت إلى هذه المقالات محاضرة طويلة ألقيتها بعنوان " محطات في حياتي " أمكنني أن أؤلف بها كتاباً في سيرتي الذاتية يحمل أجزاء متفرقة منها وليس كلها كاملاً.
    على أني أطالب من كثيرين بكتابة سيرتي الذاتية من الألف إلى الياء ... أو إلى ما قبل الياء بقليل! لا أظنني قادراً على أن أفعل هذا في يوم من الأيام. استجبت مؤخراً إلى بعض الإلحاح علي فكتبت، لا مذكراتي كما طلب مني، بل ذكرياتي عن فترة من فترات عملي في الميدان السياسي، فتألف من الذكريات كتاب في نحو مائتين وخمسين صفحة. الكتاب جاهز وسأعهد به إلى الناشر قريباً. وضعت له عنواناً " ذكريات أيام السياسة " ، وأرجو أن يصدر في نهاية هذا العام إنشاء الله.
    س7 ـ لكم في مهرجان الجنادرية السعودي حضور ملحوظ. إلى أي حد هو المهرجان ملتقى ثقافي عربي، وما هي مساهماتكم فيه؟
    ج7 ـ تلقيت دعوات لحضور عديد من دورات مهرجان الجنادرية، إلا أن ظروف حياتي وعملي لم تتح لي غير المشاركة في ثلاث دورات، كانت الأخيرة منها مندمجة باحتفالات مئوية تأسيس المملكة. المهرجان فرصة لا مثيل لها للقاء المثقفين المبدعين من البلاد العربية المختلفة والمتباعدة، يصعب تحققها على غير أرض العربية السعودية الرحبة والمضيافة. وعدا توثيق العلاقات الشخصية والتعارف بين هؤلاء المثقفين فإن المشاركة بالجنادرية تتيح لهم التعرف على المملكة في جوانبها الكثيرة وملاحظة ما هي عليه من تقدم مستمر ومتسارع في كل هذه الجوانب. كما تصحح كثيراً من الأفكار الخاطئة التي يروجها الإعلام الغربي، الخاضع للقوى المناهضة لكل ما هو عربي، حين يركز هذا الإعلام على نقاط معينة من جوانب الحياة في المجتمع السعودي معتبراً إياها متخلفة أو مشينة، وحين يتجاهل كل وجوه الخير والرقي في هذا المجتمع. أضف إلى ذلك أن نشاط الجانب الثقافي من المهرجان، المتمثل بمحاضرات وندوات تعالج في كل دورة مواضيع على غاية من الأهمية ويساهم فيها المفكرون والأدباء من كل الأقطار العربية، هذا النشاط يجعل من المهرجان ملتقى مميزاً لبحث القضايا العربية والإسلامية وتدبر أمورها وتلمس الحلول لمشاكلها.
    أما عن مساهمتي في الدورات التي حضرتها فهي، على ما أراها، مساهمة متواضعة. تمثلت هذه المساهمة بالمشاركة في بعض ندواتها وبالأحاديث الصحفية التي نشرت لي، وباللقاءات التي أجريت لي في الصحف والإذاعتين المسموعة والمرئية. كانت لي، في المواضيع المطروحة للنقاش، مداخلاتي التي اعتبرها المستمعون في كثير من الأحيان مهمة. أما اللقاءات الإعلامية فهي من التعدد والتنوع بحيث كانت تستغرق من وقتي في كل دورة أحضرها من دورات المهرجان.
    س8 ـ القارئ لأدبكم يخيل إليه أنكم إنما تكتبون عن أنفسكم. فهل يعود هذا إلى استخدام ضمير المتكلم؟ أم لأنكم استطعتم تمثل الشخصيات التي رسمتموها؟
    ج8 ـ أعتقد أن الاحتمال الثاني هو الصحيح. فليس كل ما تبادر إلى ذهن القارئ من قصصي أني البطل فيه مروياً بضمير المتكلم. يحدث أن أسمي بطلاً باسم معين وأروي أحداث قصته بضمير الغائب، ويظل كثير من قرائي يسألونني عن صحة وقوع تلك الأحداث لي أنا شخصياً. ألقيت علي الأسئلة في هذا المجال مرات كثيرة في الندوات وكتب عنه عدد من النقاد، على الرغم من وضوح التباين بين صفات البطل وبين صفاتي أنا الكاتب، وضوحه للسائل في الندوة وللناقد الذي يعرفني معرفة شخصية. هذا الأمر يسبب لي أحياناً بعض المضايقات، ولكنه يرضيني عن نفسي في أحيان أخرى حين يدل على قدرتي في إقناع القارئ بأن ما أتخيله حدث حقاً، وبأنه حدث لي أنا بالذات.
    س9 ـ ألا ترون أن الفرق شاسع بين قصصكم التي بلغت في معظمها حد الروعة والإدهاش، وبين ما كتبتم في أدب الرحلات، وألم يكن بالإمكان تحويل مشاهداتكم إلى قصص باللغة ذاتها التي كتبتم بها أدبكم القصصي؟
    ج9 ـ ما كتبته في أدب الرحلات ليس قصصاً. إنه وقائع حقيقية لم يدخل الأدب إلا في أسلوب صياغتها. ليس فيها من الخيال إلا الضئيل، أحياناً وليس دوماً. ثم إني لا أقصد من كتابتها غاية أو أعرض فكرة، كما هو أمري في كتابة القصص. أدب الرحلات نوع مستقل ومتميز بذاته من أنواع الكتابة، ولا أريد لقارئي أن يقرأ كتبي في الأسفار على أنها قصص، وإنما حكايات لوقائع ووصف لمشاهد.
    ومع ذلك فإني، من ناحية أخرى، لم أقصر في تحويل مشاهداتي في أسفاري وانطباعاتي عنها إلى قصص فنية. بل إن أهم قصصي، على ما يراه القراء والنقاد، مستقاة أو مبنية على ما رأيته في أسفاري. أعد لك منها قناديل إشبيلية، سالي، الحب والنفس، موت الحبيبة، وغيرها كثيرات. بالطبع لا أملك، ولست أريد، أن أحول كل واقعة كتبت عنها في كتب رحلاتي إلى قصة. فلكل مقام مقال ولكل حادث حديث ولون من ألوان التعبير الأدبي.
    س10 ـ " أرض السياد " روايتكم الأخيرة، اقتربت في روحها من رواية " المغمورون " ربما يؤخذ عليها خلوها من عنصري الشد والإدهاش اللذين اعتدناهما في معظم ما كتبتم، رغم أنها كتبت بأسلوب الرسائل، وه أسلوب ترتاحون إليه، وبلغتم فيه غاية الفن في قصة " الحب والنفس " على سبيل المثال. ما قولكم؟
    ج10 ـ الإدهاش، بصورة خاصة، هو عنصر تختص به قصصي القصيرة. أما رواياتي فإن هذا العنصر قليل البروز فيها لأني أتوخى بكتابتها وصف واقع المجتمعات التي أكتب عنها، بغاية دراسة نفسيات الشخصيات في هذه الروايات. تلتقي روايتي " أرض السياد " برواية " المغمورون ". في معالجتهما لواقع منطقتنا في وادي الفرات. والواقع بصورة عامة قد يكون مستغرباً، ولكنه قل أن يكون مدهشاً.
    وربما كانت " أرض السياد " أقل إدهاشاً من رفيقتها " المغمورون ". ولكني أعتقد أني عوضت عن ذلك بتعرضي فيها إلى الكشف عن خصائص مدينة كبيرة من قطرنا مجهولة عند القراء العرب، أعني مدينة حلب. هذا ما أكده لي قراء للرواية غير سوريين. وإذا وجد قارئ ما أن روايتي هذه أدنى منزلة في أحد جوانبها من رواية أخرى فإني لن أحاول دفع التهمة عني فيما يجده، بل أقول إن هذا قصارى جهدي وكل ما في وسعي.
    س11 ـ جورج طرابيشي في دراسة له " العجيلي بين الرؤية والرؤيا " ضمها كتابه " الأدب من الداخل " يميل إلى القول بأن أدبكم يصدر عن الرؤيا بمعناها الغيبي ويقول " ولكننا لن نستطيع مع ذلك أن ننكر أن العجيلي قد خلق أجواء ساحرة، متفردة، أخاذة، وأننا قد أخـذنا بها بالرغم من احتجاج العقل فينا ". ويقول عنكم أيضاً " ويفوق الشاعر والروائي والقاص ذكاء وعمقاً وفناً ". ما قولكم؟
    ج11 ـ لم يبعد جورج طرابيشي عن الحقيقة فيما قاله، وإن كان قوله لا ينطبق على كل ما أنتجته في الأدب. جانب الإعجاب في ما أورده يفوق جانب الانتقاد. إلا أن هناك بعض من اعتبروا ما أعجب به جورج طرابيشي مأخذاً علي، حين راحوا ينسبون إلي تفضيل الأوهام على الحقائق وتفضيل الجهل على العلم. هؤلاء يتجاهلون، أو لا يدركون، بعض مقاصدي من رواية أمور غيبية بلغة التشكيك والارتياب لا بلغة الجزم والحتم. إني أقصد فيما أقصده القول إن علمنا الحاضر، على ما بلغه من تقدم على طول تاريخ الإنسانية، لا يزال قاصراً عن إدراك كل حقائق الكون، سواء في عناصر هذا الكون الدقيقة أو في عناصره العملاقة. لا تزال أمام العلم مجاهيل كثيرة يترتب علينا السعي الحثيث للكشف عنها وإدخالها في دائرة معارفنا. وأنا حين أروي قصة يتغلب فيها تصرف الجاهل أو المشعوذ على تصرف العالم المتمكن لا أقصد تفضيل ذاك على هذا. وإنما أرمي إلى حث العالم على متابعة البحث لمعرفة الأسباب الحقيقية لوقائع لا تنطبق عليها القوانين التي تعلمها في الجامعات وفي الدراسات الأكاديمية، والتي جعله الجهل بها مغلوباً في أعين الناس أمام ذاك الجاهل أو المشعوذ. إني آخذ دوماً في أحاديثي، وفي قصصي، على أنصاف العلماء إيمانهم المطلق بأن العلم العصري قد أدرك كل المعارف عن جسد الإنسان مثلاً، أو عن سيرورة الأحداث في الكون الذي يعيش فيه هذا الإنسان. وهو إيمان باطل تدل على بطلانه الشواهد الكثيرة حولنا في كل يوم. كما إنه إيمان ضار حين يدعو إلى التواكل والتوقف عن متابعة التقصي العلمي، وإلى محاربة كل جديد إذا كان هذا الجديد غير منطبق على القوالب الجامدة.
    وكما قلت، فإن الرؤيا والغيبيات ليست كل ما أكتبه أو أكتب عنه. إنها تتظاهر أكثر ما تتظاهر في قصصي القصيرة، وهي تثير الإدهاش الذي أشرت إليه في أسئلتك السابقة. أما رواياتي الطويلة فإن نصيب الغيبيات فيها ضئيل. تظاهر هذا النصيب مثلاً في ما تضمنته رواية " باسمة بين الدموع " عن الرادييستيزي الذي سميته الاستهداء الإشعاعي، وما جاء في رواية " أرض السياد " عن الضرب بالشيش وخوارق الدراويش الذين هم السياد. وأنا على كل حال أشكر لجورج طرابيشي الناقد الجاد والمتعمق، حسن ظنه وجميل تقديره لأعمالي الأدبية في دراساته المتعددة لما كتبته من قصص وروايات.
    *مجلة الكويت ـ الشهر السادس 2000م.
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  7. #7
    حوار مجلة "فواصل" مع الأديب الطـبـيـب عبد السلام العجيلي:
    الأدب لا يطــعم خبزاً في البلاد العربية
    .............................................
    عنه قال الشاعر الكبير نزار قباني «أروع بدوي عرفته المدينة، وأروع حضري عرفته الصحراء». إنه الدكتور عبد السلام العجيلي الذي حظي ويحظى بمحبة القراء وباهتمام النقد العربي والأجنبي، فهو رائد من رواد القصة العربية، بالإضافة لإسهاماته كشاعر مبدع.
    *بعد ثمانية وثلاثين كتاباً صدرت لك لماذا تصر دائماً على اعتبار نفسك هاوياً؟
    - من يعرفني من خلال كتبي فقط يظن أن الأدب هو شاغلي الشاغل، وهذا الأمر ليس صحيحاً برأيي أن الأدب بالنسبة لي هو مرفأ أعود إليه بعد تجوالي في مناخ الحياة المختلفة، فأنا طبيب وعملت دبلوماسياً في السابق، وفوق ذلك أهوى السفر كثيراً وعندما أتعب من كل هذا أعود إلى الأدب لأفرغ فيه أحاسيسي وأفكاري وحصيلة تجاربي ومازلت أتذكر حتى الآن أنني في سنوات صباي الجامعية كنت مولعاً بدراسة الفيزياء والرياضيات، أما الأدب فكان وقتها هواية وتسلية في كتابته.. إنها هواية وتسلية لذيذتان وساميتان حقاً رغم أنني أنتجت كثيراً حتى الآن في الأدب.
    *هل لاعتبارك الأدب كهواية علاقة ما بقلة اختلاطك مع الكتاب السوريين والعرب؟
    - أنا أفضل منذ سني شبابي أن تكون علاقتي مع الأدباء والقراء من خلال الورق فقط، وربما لهذا السبب فأنا دائم الاعتذار عن حضور المؤتمرات الأدبية التي أُدعى إليها باستمرار.. إن الأدباء الكبار الذين لم أعرفهم سابقاً لا يثيرون في نفسي الفضول لمعرفتهم. هذا ما أحسه منذ الخمسينات وحتى الآن، لكن هذا لا يعني أن معارفي في سوريا ولبنان وبعض البلدان العربية قليلون، ولكن ارتباطي بهم هو على الصعيد الأدبي أكثر منه على الصعيد الإنساني.
    *ربما بسبب تجاربك وأسفارك الكثيرة يعتبرك البعض كاتباً واقعياً؟
    - لا أعرف فيما إذا كنت كاتباً رومانسياً أو واقعياً.. فقد بدأت بالرومانسية. ولكنني بمرور الوقت تحولت بفضل تجاربي ومعارفي إلى كاتب واقعي ولا أدري لماذا.. إن بعض القراء ينظرون إلى قصصي الواقعية العاطفية، والتي أرويها بصيغة المفرد المتكلم كما لو أنها قصص غرامياتي وهذا غير صحيح. أما بالنسبة لقصصي البدوية والتي كان محورها حوادث جرت معي أو مع أهلي فقد سببت لي مشاكل كثيرة على اعتبارها سيرة ذاتية مع أنني أضفت إليها الكثير من خيالي ككاتب مما غير في مضامين ووقائع أحداثها.. وأنا في خريف العمر أشعر أنني لم أكن مخطئاً حين انقطعت عن الحياة الاجتماعية الصاخبة ومارست الطب.. إن الطب هو معشوقي الأول أما الأدب فهو يأتي فيما بعد.
    *إلى أي حد أثرت فيك البيئة الصحراوية التي عشت وولدت فيها؟
    - لست بدوياً بالمطلق، كما أنني لست حضرياً بالمطلق.. وإذا كانت الصحراء علمتني التأمل والمجاهرة بقول الحق والبداهية، إلا أن المدينة علمتني الكثير أيضاً. منذ العام 1951م زرت معظم مدن العالم وتعرفت خلال ذلك على معظم البلاد وسلوكيات الناس المختلفة.. لقد عرفت باريس وأسرني جمالها وزرت الهند وسحرتني غرائبها ومضيت إلى أمريكا اللاتينية وأعجبني غنى ثقافتها.. ولك أن تختار أي مدينة من مدن العالم لأحكي لك عنها.
    *ماذا يعني سوء الفهم هذا لك ككاتب؟
    - لم أنزعج يوماً من سوء الفهم هذا، فقد اعتبرته برهاناً على أنني قادر على إقناع القارئ بما أكتبه له حتى ولو كان بعيداً عن الواقع أو قريباً منه.
    *وما رأيك بسوء الفهم الآخر لك واعتبارك كاتباً قصصياً فقط؟
    - إن ربع إنتاجي الكتابي ينتمي إلى جنس القصة القصيرة، فهناك الشعر وأدب الرحلات... إلخ. وربما يعود مرد سوء الفهم هذا إلى أنني كاتب ملتزم بفنون كتابة القصة وأخلص لها.. ومع هذا فأنا أميل إلى اعتبار نفسي شاعراً رغم أنني توقفت عن الشعر منذ سنوات طويلة.
    *لماذا توقفت عن نشر الشعر بعد ديوانك اليتيم «الليالي والنجوم»؟
    - لابد من اعترافي هنا أن انصرافي عن الشعر إلى ميدان القصة القصيرة يعود إلى عيب في موهبتي الشعرية.. كنت في بداية حياتي أكتب الشعر المفعم بالعاطفة الجياشة، وكنت أضع في الشعر الذي أنظمه نظراتي المعمقة في الحياة، ولكنني سرعان ما وجدت أن تجاربي الحياتية لم تعد تصلح لكتابة قصيدة عاطفية، وهكذا هجرت الشعر إلى القصة. إن عجزي الذي شعرت به هو نفسه الذي أستشعره الشعراء العرب في أربعينات وخمسينات هذا القرن، ولذلك راحوا يحطمون ميزان الشعر العربي، ولكنني أرى الآن وبحيادية أن ما فعلوه لم يحل المشكلة أبداً. فالتفعيلة ومعها قصيدة النثر وصلت إلى طريق شبه مسدود لولا وجود بعض الأسماء الشعرية اللاحقة التي تمنحنا الأمل بإمكانية العودة بالشعر إلى آفاقه الرحبة.
    *والرواية أين تضعها في إبداعك الأدبي؟
    - أنا قاص وشاعر روائي في نفس الوقت، ولولا إلحاح الأصدقاء علي لاكتفيت بأن أكون قاصاً وشاعراً فقط.. الرواية عندي نتجت من إصرار الأصدقاء على أن نفسي الأدبي يجب أن لا يظل محصوراً في القصة القصيرة التي ربما لا تساعد كتابتها على قول كل شيء، أو إنها تفرض عليه قول ما يريده ضمن صفحات محدودة. من هنا جاء حبي وكتابتي للرواية، ولكنني أفضل القصة القصيرة عليها.
    *ما أسباب ذلك التفضيل؟
    - أنا بدأت قاصاً، حتى أنني شعرت أن القصائد التي كتبتها ونشرتها كتبت بطريقة قصصية. القصة فن مدهش ويحتاج إلى سنوات طويلة من الكاتب كي يمتلك أدواتها كما أنها تحتاج إلى الصبر والمعرفة والدراسة. إن ما نراه من استسهال كتابة القصة القصيرة منذ الخمسينات وحتى الآن أمر محزن، وربما لهذا السبب من النادر أن نقع عربياً على كاتب قصصي رفيع المستوى. لقد استهواني في السابق قراءة قصص يوسف إدريس وغسان كنفاني وزكريا تامر ووليد إخلاصي، وللأسف هؤلاء قلة في عالمنا العربي، وسيظلون قلة حتى لو أضفت إليهم قائمة بكتاب لم أتمكن من قراءة نتاجاتهم لأسباب شتى. وللأسف أيضاً فإنه من النادر أن نرى أديباً تجاوز الخامسة والأربعين من عمره ولا يزال يكتب القصة القصيرة لأنها ليست فناً سهلاً، ولأنها فوق كل شيء جنس أدبي لا يطعم خبزاً في البلاد العربية ويضطر الكاتب إلى تركها ليضمن عيشه من موارد أخرى، ومن يدري لو كنت فقيراً ومعوزاً في شبابي لتخليت عن القصة لصالح الأكل والعيش.
    *هل مازلت تعتقد أن الأديب هو مرب للأرواح ومعلم للأخلاق؟
    - نعم مازلت أؤمن بذلك ولا أكف عن الدعوة إليه.. إن الكاتب هو ذلك الإنسان المدافع عن نبل الأفكار الإنسانية والمثل التي عرفتها البشرية على مدى العصور المتعاقبة. لقد عرفت كتاباً عظاماً كانت سر عظمتهم ترتكز في أنهم يكتبون عن أفكار عظيمة ومن هؤلاء مكسيم غوركي ودويستويفسكي وعبدالكريم الكرمي «أبو سلمى» ويوسف إدريس.
    *لكنك لا تنصح الأدباء بالانخراط في العمل السياسي؟
    - أنا لا أنصح أحداً لأنني أكره دور المعلم والمنظر. أما إذا كنت تريد الحديث عن رأيي في عمل الأدباء كسياسيين فهذا وارد. لقد شغلت منذ العام 1947م منصب نائب في البرلمان وفي العام 1962م شغلت مناصب وزارية رفيعة كالخارجية والثقافة والإعلام. حدث ذلك منذ أربعين عاماً تقريباً، وبعدها قررت اعتزال العمل السياسي، لكن هذا لا يعني أنني لا أهتم بالسياسة التي أصر على ضرورة أن يكون الأديب مهتماً بها لأنها جزء من حياته وجزء من همومه ككاتب وإنسان.
    *أنت لا تنصح أيضاً الكتاب الشباب ما السبب؟
    - أنا أرفض إسداء النصائح لأي كان لأنني أكره دور المعلم المنظر. لقد تعاملت مع كثير من الشبان الكتاب بود واحترام دون أن أمارس الأستذة عليهم كما يفعل كثير من كتابنا العرب المعاصرين. إن الأدب برأيي لا يعلم، ولا أحد بإمكانه أن يعلمك كيف تصبح أديباً أو قاصاً أو شاعراً ناجحاً. أقول هذا استناداً إلى تجربتي الشعرية، فقد قرأت وسافرت وكتبت آلاف الصفحات ومزقت الآلاف منها.. لقد أصبحت أديباً بجدي ونشاطي وبإصراري على المعرفة الدقيقة لكيفية التعبير المكثف عن أفكاري وعواطفي عبر الأدب، وتحديداً عبر القصة القصيرة. لم يعلمني أحد كيفية الكتابة، لكنني تعلمت ذلك بنفسي وما يصلح لي قد لا يصلح لغيري، وتبقى الجدية والاهتمام مصدر غذاء روحي لكل موهبة عظيمة وبدون ذلك تتقوقع حتى المواهب العظيمة.
    قبل الهزيع الأخير، وصوفية أبي نواس
    بقلم: د. عبد السلام العجيلي
    ................................
    هذا مقال كنت أود كتابته قبل اليوم وعن كتاب غير الكتاب الذي وضعت عنوانه في أول هذه الصفحة. الكتابان، هذا وذاك، هما ديوانا شعر تلقيتهما هدية من شاعرهما الأستاذ جميل حسن، أولهما في العام الفائت والثاني في هذا العام. تلقيت "قبل الهزيع الأخير" منذ أيام قليلة فذكرتني قراءة قصائده بسابقه الذي كنت أود الكتابة عنه ومنعت عن تلك الكتابة بالظروف المعيقة المتلاحقة وبابتعادي في السنين الأخيرة عن التعريف والتعليق على ما أقرأه من جديد الكتب المنشورة، وأغلبها مما يتفضل مؤلفوها بإهدائها إلي. الكتاب السابق الذي أعنيه، والذي كنت أود الكتابة عنه وأعاقتني عن ذاك العوائق، هو ديوان الأستاذ جميل حسن الذي أصدره في العام الفائت وسماه "ملاحم على الورق".‏
    على أني أبدأ الآن بالحديث عن "قبل الهزيع الأخير" لجدة صدوره أولاً، وثانياً لأن الشاعر تفضل فجعل إهداء الديوان إلى شخصي معرّفاً قراء قصائده، ومذكراً إياي أنا الإنسان الكثير النسيان، بأني كنت أول من قرأ شعره وشجعه عندما كنت أحتل منصباً رسمياً رفيعاً وكان هو معلماً منسياً في ربوع هذا الوطن! إن في تصدير الأستاذ جميل حسن ديوانه بهذه الكلمات دلالة، لا على طبع الوفاء الذي جبل عليه هو فقط، بل شهادة لي أنا بصدق الفراسة وسلامة الذوق وحسن تقدير المواهب، ما دمت قد تنبأت من قراءتي أوائل أشعاره، في أول الستينات من القرن الماضي، بأن المعلم المنسي جميل حسن سيكون هذا الشاعر المتفوق والمبدع الذي صدرت له متتابعة مؤلفاته في الشعر والنثر: بواكير غضة، لوحات غير ملونة، شهرزاد في العاصفة، نديم محمد، ملاحم على الورق، ثم الديوان الأخير الذي أتكلم عنه في هذا المقال.‏
    هذا الديوان الأخير الذي يقع في مائة وأربعين صفحة يحتوي قصائد منظومة كلها نظماً تقليدياً على بحور الخليل الكلاسيكية. الدواوين الشعرية التي تغص بها السوق الأدبية في هذه الأيام تبعد في أكثريتها الغالبة عن بحور الخليل، منتسبة إلى الحداثة في الشكل على الأقل، إذا لم تفلح في أن نجعل حداثتها في المضمون ذات قيمة. أما في الديوان الذي نتكلم عنه فحداثة المضمون طاغية على قصائده بالرغم من كلاسيكيتها الشكلية. وهذا ما يجعل هذا الديوان مختلفاً، ومتميزاً، عن كثير من الدواوين التي تمطرنا بها المطابع في هذه الأيام.‏
    كلاسيكية الظاهر في قصائد الديوان واضحة بالتزامها بحور الخليل في مجموعها، مع أن بعض دواوين جميل حسن الأخرى احتوت قصائد خارجة عن هذه البحور، دليل على أن شاعرنا لا يرى في الخروج عليها ما يعتبر مطعناً أدبياً أو هرطقة قومية، كما يرى ذلك بعضهم. أتراها ردة كردة نازك الملائكة إلى الكلاسيكية بعد أن كانت هذه الشاعرة الكبيرة معدودة من أوائل رواد الشعر الحديث؟ لا أظن الأمر هذا، ولكنه إعجاب من جميل حسن بالشعر العربي الأصيل وقراءة منه للقديم بصورة خاصة، كما سبق وسجل هو ذلك على نفسه في أول دواوينه "بواكير غضة". بل إن شاعرنا وضع لإحدى قصائد ديوانه الأخير هذا عنواناً لواحد من تلك البحور مسمياً إياها "البحر البسيط"، كأنه يعبر بذلك عن تعلقه ببحور الخليل. وقد يكون أراد بهذا أن يثبت أن المضمون الحداثي لا يضيره ولا ينقص من قيمته أن يكون الإطار الذي يحتويه ممعناً في الكلاسيكية أو التقليدية.‏
    ذلك أن الإطار الكلاسيكي في قصيدة "البحر البسيط" وفي سائر قصائد الديوان، وهو إطار لا يتوقف على الالتزام بالبحر والقافية، بل يتعداهما إلى اللغة النقية الصافية والمفردات الممعنة في الفصاحة، هذا الإطار يضم مضموناً بالغ الحداثة في تعابيره وتصاويره وأفكاره وتساؤلاته. إنها الحداثة التي نبحت عنها مجردة من ضباب الغموض المفتعل ومن هلهلة النسيج ومن تناقض التعبير، ومصورة أحاسيس أنفسنا واضطرابات أفكارنا في هذا العصر الذي نعيشه والذي يغرقنا كل يوم بجديد يصدمنا، ويدعونا إلى التساؤل، ويحثنا على التصرف بما يوصلنا إلى الفهم ثم إلى التلاؤم.‏
    لن أطيل الكلام أكثر من هذا عن "قبل الهزيع الأخير" إذ أريد أن التحدث عن الديوان السابق له، والذي قلت إني كنت أتهيأ للكتابة عنه قبل اليوم ثم أعاقتني عن ذلك العوائق. إنه ديوان صدر للأستاذ جميل حسن في العام 2002 الفائت وعنوانه كما قلت "ملاحم على الورق".‏
    و"ملاحم على الورق" ثلاث قصائد طويلة أدارها الشاعر على ثلاث شخصيات بارزة في التاريخ الأدبي، الشعري والفكري، للغتنا وثقافتنا العربيتين. والشخصيات الثلاث هي أبو نواس وأبو الطيب المتنبي وأبو العلاء المعري. في قصائد هذا الديوان تبرز بوضوح إحدى السمات الرئيسية لشاعرية جميل حسن، وهي تمتعها بالنفس الطويل الذي يتيح لها أن تستوعب مخزوناً كبيراً وتفاصيل واسعة من الأحاسيس والأفكار في ما تبدعه، دون أن تخرج عن الموضوع الذي تعالجه في القصيدة الواحدة. إنها سمة تتصف بها أغلب قصائد جميل حسن في كل دواوينه، وهي إحدى مظاهر الحداثة في شعره بتميزها عن طول النفس في شعرنا الكلاسيكي الذي تظل قصائده، حتى المفرطة في طولها كالمعلقات، تعتمد على استقلال المعنى وتكامله في البيت الواحد. طبيعي إذن أن يكون الإسهاب أحد عناصر البناء في هذه القصائد الملحمية. وهو إسهاب يتبدى أكثر ما يتبدى في الملحمة الأولى، وهي "أبو نواس".‏
    والواقع أن هذه الملحمة هي التي أثارت اهتمامي ودعتني إلى التفكير بالكتابة عن ديوان "ملاحم على الورق" في حينها. كتابتي التي فكرت بها آنذاك لم أردها كتابة تعريفية أو نقدية لملحمة أبي نواس كعمل فني، بل كنت أود أن أتحدث فيها عن الهالة التي أضفاها، أو خلقها، الأستاذ جميل حسن لأبي نواس في ملحمته عنه. فقد أبرز فيها أبا نواس لنا نحن قراءه، لا في الصورة التي نحملها عن الحسن بن هاني كشاعر ماجن متهتك راكض وراء الملذات الحسية، بل أبرزها كشخصية ذات أبعاد فكرية وإنسانية، وفوق ذلك شخصية صوفية المعتقدات والأحاسيس والتعابير!‏
    أبو نواس صوفي؟! تقبلت أنا في أول الأمر هذا التصور من ناظم الملحمة على أنه إحدى وجهات نظر الحداثيين من الشعراء، حين يرون كل ما حولهم ومن حولهم من خلال مناظيرهم الشخصية، ملونينها وملونينهم بألوان تلك المناظير. فلعل المزاج الصوفي لجميل حسن قد دفعه إلى غض النظر عن أكثرية ما اشتمل عليه ديوان أبي نواس في الخمرة والغلمان والقيان، وأوقفه على أبيات متفرقة له يؤوب فيها إلى ربه بعد الأوبة إلى رشده، أو يتطرق في هذه الأبيات إلى نظرات له في الحكمة وفي أحوال المجتمع حوله. إلى هذا صرفت وصف جميل حسن لأبي نواس بالصوفية في أول الأمر. وفي رسالة مني إليه أشكره فيها على إهدائه إياي كتاب الملاحم ذاك كتبت له مستغرباً وصفه شاعراً داعرا، على تقديري الكبير لإبداع هذا الداعر من الناحية الفنية، بالصوفية. والذي حدث هو أني تلقيت الرد على استغرابي هذا في رسالة شخصية تضمنت إصرار الأستاذ جميل حسن علي اعتبار أبي نواس صوفياً، كما تضمنت احتجاجه الشديد علي لوصفي هذا الشاعر بالداعر.‏
    لا أريد أن أدخل في هذه السطور في جدل حول الشك في دعارة أبي نواس أو الاعتقاد بزهده وتنسكه. لقد دعاني الأستاذ جميل حسن في رسالة الرد إلى إعادة قراءة ديوان أبي نواس لأغير حكمي عليه في هذا الموضوع. والصحيح إني إذا لم أعد إلى قراءة ديوان الحسن بن هاني كاملاً فإني كنت، ولا زلت، كثير الرجوع إليه لاستعادة حفظي لبعض أشعاره بين حين وآخر. لم يفد هذا الرجوع الكثير في إقناعي بصوفية هذا العبقري في إبداعه. ربما لأن فكرتي عنه قد ترسخت في خاطري منذ الصبا، وذلك لقراءتي في ذلك الزمن البعيد لمؤلف ابن منظور المشهور عنه، أعني كتابه "أخبار أبي نواس"، واطلاعي على ما تضمنه من أشعار مغرقة في المجون وحكايات مفرطة في الدعارة. على أني أطمئن الأستاذ جميل حسن بأن فكرتي الراسخة هذه عن أبي نواس لم تنقص مقدار ذرة من إعجابي به شاعراً وبسيرته كإنسان ظريف فكه ومحبب. فأنا أتطلع إليه وأقدره على أن له من المآخذ على سلوكه الغرم ولنا من جميل إبداعه الغنم. وأذكر في هذا حكاية عمر الفاروق مع المغيرة بن شعبة، وهي الحكاية الآتية:‏
    فقد رووا أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، اشتكى مرة أمام المغيرة بن شعبة من أنه لا يجد ضالته من العمال والولاة الأكفاء ليعهد إليهم بأمور الرعية. قال في شكواه: تأملت في من أريد توليته فوجدته إما براً ضعيفاً أو قوياً فاجراً، فأين أجد الوالي الكفؤ؟ قال له المغيرة: يا أمير المؤمنين، الوالي البر إذا كان ضعيفاً قله برّه وعليك ضعفه، أما القوي الفاجر فلك قوته وعليه فجوره. فاختر من تريد. وتقول الرواية إن الفاروق رضي الله عنه تطلع إلى المغيرة وقال له: والله إنك للقوي الفاجر، لذلك فقد وليتك أمارة العراق!‏
    وهكذا نحن مع أبي نواس، الحسن بن هاني، رضينا لأنفسنا التمتع بإبداعه وتركناه لرحمة الله في ما نراه منه مجوناً ودعارة وفجوراً، أو في ما يراه الأستاذ جميل حسن صوفية وزهداً.‏
    ............................................
    *جريدة الاسبوع الادبي العدد 861 تاريخ 7/6/2003م.

    للاستزادة تابع هذا الرابط

    http://www.anhaar.com/vb/showthread.php?t=17741&page=3
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  8. #8

  9. #9
    لتتغمد السماء روحه وتسكنها فسيح جناتها

    ولتنعم عليك وعلى كل اهل الادب الصبر السلوان
    على فقيد اعطى وقدم الكثير

    محبتي
    جوتيار

المواضيع المتشابهه

  1. رحيل الكاتب والدبلوماسي المغربي محمد العربي المساري
    بواسطة رغد قصاب في المنتدى أسماء لامعة في سطور
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 07-27-2015, 07:16 AM
  2. (رحيل الشاعر و الباحث الآثري و التاريخي السوري الشاب:حسين نصر جبر)
    بواسطة مهتدي مصطفى غالب في المنتدى أسماء لامعة في سطور
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 10-02-2009, 06:38 AM
  3. رحيل الكاتب الصحفى عصام بصيلة
    بواسطة ابراهيم خليل ابراهيم في المنتدى فرسان الأخبار.
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 05-19-2009, 10:32 PM
  4. رحيل الشاعر السوري المبدع حسين هاشم
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى أسماء لامعة في سطور
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 12-12-2008, 11:21 AM
  5. رحيل الصحفي الكبير صلاح الدين حافظ
    بواسطة أبو فراس في المنتدى فرسان الأخبار.
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 11-27-2008, 07:52 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •