متلازمة الحرام والحلال، وتزييف الوعي بالإسلام..
تعودنا على المقابلة بين مفهومي "الحرام" و"الحلال"، عندما نود عرض الأضداد والمتناقضات والمتقابلات والحديث عنها، في دائرة ما لا يُسمح به وما يُسمح به من "الأفعال" و"السلوكات".. "هذا حلال وهذا حرام"، "الحلال بَيِّن والحرام بَيِّن".. إلخ.. وهما مفهومان يعبران عن "غير الجائز فعله"، وعن "الجائز فعله"..
تعتبر هذه المقابلة من أكبر الأخطاء الشائعة التي رافقت السيرورة الذهنية لـ "المسلم" على مدى ألف وأربع مائة عام وما تزال، فأثَّرت بالسلب على أدائه الذهني الذي تميَّعت فيه الكثير من المفاهيم، فلم يعد يستطيع التمييز بينها..
ما معنى هذا الكلام؟!
أي ما هو وجه الخطأ في المقابلة بين "الحرام" و"الحلال"؟!
في حقيقة الأمر، لا يمكن وضع أيِّ مفهومين في وضع المقابلة، إلا إذا انطوى كلٌّ منهما على المعنى النقيض والضد للمفهوم الآخر..
فنقول "الخير" و"الشر"، في دلالة على موقع النقيض الذي يحتله كلٌّ منهما بالنسبة للآخر..
فالخير هو نقيض الشر..
ونقول "الحق" و"الباطل"، لتجسيد الدلالة الضدِّيَّة السابقة نفسِها..
فالحق هو نقيض الباطل..
ونقول "الصواب" و"الخطأ"، للغرض الدلالي نفسه على التقابلية والضدِّيَّة..
فالصواب هو نقيض الخطأ..
وهكذا دواليك..
وبإسقاطنا لهذا الجوهر من التضاد والتقابل والتناقض، على مفهومي "الحرام" والحلال"، سنكتشف أنه غير متحقِّق بينهما على الإطلاق، ما يجعل المقابلة بينهما مقابلة غير صحيحة..
فالحرام ليس نقيضَ الحلال، ولا هو ضده، ولا هو مقابله..
فالحرام هو "ما لا يجوز فعله"، والحلال هو "ما يجوز فعله ويجوز تركه"..
وهو بهذا المعنى لا يمكنه أن يكون نقيضَ الحرام ولا ضده..
فالنقيض لـ "ما لا يجوز فعله"، هو "ما لا يجوز تركه"، وليس ما يجوز فعله ويجوز تركه"..
أي أن نقيض الحرام وضده هو "الواجب" أو "الفرض"..
ومن هنا تجب المقابلة على قواعد التناقض والتضاد، بين "الحرام" و"الواجب/الفرض"، وليس بين "الحرام" و"الحلال"..
أما "الحلال" فهو مفهوم مستقل وقائم بذاته إذا ما قورن بالحرام..
فمن حيث المبدأ لا يوجد مفهوم يقابل "الحلال" اسمه "الحرام"..
وهو ما يعني قطعا، أن المقابلة التي تعوَّدنا عليها بين "الحلال" و"الحرام" من خلال موروثنا الثقافي، رسَّخت في أذهاننا خطأً لا يستهان به..
فما هو هذا الخطأ؟!
"الحلال" في حقيقة الأمر هو تجسيدٌ لمعنى "الحرية"، لأن الحلال هو ما أملك حريتي كاملة في فعله وفي تركه..
بينما الحرام هو تجسيد لمعنى "القَيْدِيَّة"، لأن الحرام هو ما لا يحق لي فعله، تحت طائلة العقاب غالبا..
والواجب يجسِّد أيضا معنى "القَيْدِيَّة" في الجانب المقابل لقيدية الحرام، لأن الواجب هو ما لا يحق لي تركه، تحت طائلة العقاب أيضا..
"الحرام" و"الواجب" إذن يغطيان مساحة "القيدية"، أما "الحلال" فيغطي مساحة "الحرية"..
هذا توصيف غاية في الأهمية..
ولذلك فقد كان الصواب أن تقع المقابلة بين "الحلال" من جهة، و"الحرام" و"الواجب" مجتمعين من جهة أخرى، على أن تكون مقابلة بين "الحرية" و"القيدية"، لا بين "الحلال" بصفته مجسِّدَ "الحرية"، و"الحرام" بوصفه مجسِدا لجزء من مكونات "القَيْدِيَّة"، وترك "الواجب" متحررا من المقابلة ذاتها بينه وبين "الحلال" لجهة التضاد الحاصلة فيهما بين معنيَيْ "الحرية" و"القيدية"..
وعندما لم يحدث ذلك، واقتصر الذهن وعلى مدى زمني طويل، على تلقي المقابلة بين "الحلال" بدلالة "الحرية" فيه، و"الحرام" بدلالة "القَيْدِيَّة الجزئية" فيه، وهي مقابلةٌ عرجاء، فقد كان من الطبيعي أن ينشأ هذا الذهن وتترسَخ في بنيته التداعيات النفسية لهذه المقابلة غير الصحيحة، أو على الأقل غير المتوازنة بسبب عَرَجِها، ليغدوَ ذهنا أعرجا هو أيضا..
وكانت النتيجة أن "ذهنية المسلم" تعودت بسبب هذا الخلل الكبير في توصيف التقابل، على التعامل مع ضد "الحرية" التي يتيحها "الحلال"، والتي هي "القيدية" التي يفرضها "الحرام"، باعتبارها هي "القيدية" الوحيدة الجديرة بالتجاوب معها، وإعطائها القداسة التي تتناسب مع كونها تقابل القداسة التي منحت للمفهوم الضد وهو "الحلال" و"الحرية" الناتجة عنه..
وتمَّ التغاضي في هذا الذهن الأعرج عن قداسة وأهمية "القيدية" التي ينتجُها "الواجب/الفرض"، لأن هذه الأخيرة لم تترسَّخ في الموروث الثقافي الإسلامي باعتبارها ضد "الحلال"..
فلم يسمع مسلم على مدى أربعة عشر قرنا، مقولة "الحلال بَيِّن والواجب بَيِّن"، لكنه ما فتئ يسمع مقولة "الحلال بَيِّن والحرام بَيِّن"، مع أنه لا فرق من حيث التضاد بين مفهومي الحرية" و"القيدية"، بين ذلك التضاد الذي تُنْتِجُه المقابلة التي تتيحها مقولة "الحلال بَيِّن والحرام بَيِّن"، وتلك التي تتيحها مقولة "الحلال بَيِّن والواجب بَيِّن"، لو أنها راجت وشاعت وانتشرت..
فأصبح المسلم يتفاعل على الصعيد المسلكي مع متطلبات "التحريم"، أكثر من تفاعله مع متطلبات "الوجوب والفرض"، ويخاف من "ارتكاب الحرام" أكثر من خوفه من "ترك الواجب"، ويقدس حالة "اجتناب المُحَرَّم" أكثر بكثير من تقديسه لحالة "ترك المفروض"..
وغدت معايير الصلاح والتبتل والاستقامة عنده، هي "ترك المحرمات" أكثر من "الالتزام بالواجبات"، إلا إذا تمت صياغة "الواجبات/الفرائض" بشكل مفهومي يتماهى مع قداسة التحريم، باعتبارها – أي الواجبات – ليس فقط "ما يجب فعلُها"، بل هي أيضا ومن باب أولى "ما يحرم تركها"، كما جرى مع الشعائر التعبُّدِيَّة مثل "الصلاة" و"الصيام"، التي أتاح هذا التلاعب في توصيف "وجوبها" باعتباره "تحريم تركها"، قدرا من التعامل التقديسي معها لا يقل – إن لم يزد – عن ذلك القدر المتعامل به مع "الحرام" و"المحرمات" و"التحريم" أصلا..
ولأن الترك "أداء سلبي" أسهل في الغالب من الفعل الذي هو "أداء إيجابي"، فقد ارتبطت أوصاف مهمة لدى المسلم مثل "التقوى" و"الإحسان" و"الصلاح" و"الخيرية".. إلخ، بهذه "الأفعال السلبية" التي هي "ترك المحرمات"، أكثر من ارتباطها بالأفعال الإيجابية التي هي "فعل الواجبات/المفروضات"..
وعلى الصعيد الواقعي تجسيدا لتلك النتيجة الذهنية المضلِّلَة، أصبح "تجنب الزنا" و"عدم شرب الخمر" و"عدم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير"، و"عدم التبرج"، و"عدم ترك الصلاة" و‘عدم ترك الصيام".. إلخ، أهم من "فعل النضال من أجل الحرية"، ومن "فعل السعي إلى إقامة العدل"، ومن "فعل الجهاد في سبيل القضاء على الباطل"، ومن "فعل قول الحق أمام السلطان الجائر".. إلخ.. لأن هذه "الواجبات/الفرائض" لم توضع بمقتضى فرضيتها ووجوبها، على محك المقابلة مع "الحلال" و"الحرية" على النحو الذي وضعت فيه تلك المحرمات والممنوعات..
فضلا عن هذا الشكل من أشكال العَرَج المعرفي الذي ابتُلِيَ به ذهن "المسلم" بسبب الاجتزاء الذي جسَّدته "متلازمة الحرام والحلال" على النحو الذي غزت فيه ذلك الذهن على مدى أربعة عشر قرنا، فإن ذلك الاجتزاء الذي جسَّدته تلك المتلازمة، راكم في لاوعي المسلم أداء ذهنيا، اعتاد على الاجتزاء في كل شيء يتطلب إعمال العقل. فأصبح يقابل بين "اللامتقابلات"، ويوافق بين "اللامتوافقات"، ويتحدث في حقل معرفي بـ "أدوات حقل معرفي مختلف"، ويحاكم مسائل معينة بقواعد محاكمة مسائل أخرى لا علاقة لها بها إلا في "هواه وموروثه الخاص"..
فتكونت لديه – أي لدى المسلم – منظومة ذهنية خاصة به حتى في دائرة ما يفترض أنه "منظومة ذهنية إنسانية مشتركة"، لتتخلَّق أجنة الانعزالية بينه وبين الآخر، وهي الأجنة التي تقوم على مكونات ذهنية مربكة ومعطِّلَة مثل..
"مكوِّن الألفة" الذي أصبح يحرمه من القدرة "على"، بل ومن الرغبة "في"، والخوف "من" التفاعل مع الجديد بسبب ألفته مع القديم..
و"مكوِّن التسَوُّل" الذي أصبح يدفعه إلى استجداء حقوقه من سارقه وجلاده، بدل انتزاعها..
و"مكوِّن القمع" الذي أصبح يدفعه إلى قمع كل من يستخدم عقلَه، بحجة معاداة استخدام العقل لنهج السماء، بعد أن أصبح "العقل" بموجب تداعيات تلك المتلازمة المضلِّلَة، رديفا لـ "الهوى" و"النزوة" و"الرأي"..
و"مكوِّن التَّجَنُّب" الذي تمَّت بموجبه برمجة ذهنه على تقديس "الترك" أكثر من تقديس "الفعل"، وهو التقديس الذي خلق حالة من العزلة بينه وبين "الفاعلية الإيجابية"، إلى درجة أنه أصبح يُقْنِع نفسَه بأن "الجنة" التي يفترض أنه يسعى إلى الحظوة بها، مرهونة بفكرة "التَّجَنُّب" التي وجد كلَّ التأصيلات الفقهية والمعتقدية والكلامية التي تسندها، فتبعث الراحة في نفسه، والسكينة إلى قلبه..
فأصبح كل ما على "المسلم" فعله كي يضمن النجاة في الآخرة بعد ضمان سعادة الدنيا القائمة على ضمان "سلامة البدن والعقل والنفس والحياة" الذاتية، أن "يتجنب".. وأن "يتجنَّب".. وأن "يتجنَّب".. وليس أن "يفعل".. و"يفعل".. و"يفعل"..
فعليه أن يتجنب الحرام.. "زنا، خمر، سرقة، تبرج، سفور، قمار، ترك الصلاة، ترك الصيام".. إلخ..
لا أن يفعل الواجب.. "قول الحق، مواجهة الظلم، الجهاد لأجل المستضعفين، مناددة الاستبداد والفساد".. إلخ..
إلى أن وصل التجنُّب المُنْجِي، حدَّ كونه تجنبا حتى للاحتكاك بالظالم، وبالحاكم المستبد، والفاسد.. إلخ.. وترك هؤلاء لله يقتص منهم، استجابة لدعائنا، الذي أصبحت له أهمية وقداسة أكبر من "فعل الأمة مجتمعة"..
مع أننا نرى صباح مساء أننا ندعو على الظلم وهو يتفاقم، وندعو على الفساد وهو ينتشر، وندعو على الاستبداد فيما عبوديتنا تزداد وتتخذ أشكالا جديدة..
وما لبث أن نتج عن تركيب المكونات الذهنية السابقة بعضها إلى البعض الآخر، مكوِّنٌ ذهني غاية في الخطورة، هو "مكون التناقض بين النظرية والتطبيق"، الذي حوَّل "ذهن المسلم" إلى مرتع لأبشع حالة إرباك وتخبط..
فراحت تظهر في سياق إيجاد الحلول التأويلية الممجوجة للتناقضات المربكة بين "نظرية" يجسِّدها القرآن الكريم، و"تطبيق" يجسِّده "علماء السلطة المستبدة" و"كتبة التاريخ المزوَّر"، مقولات غريبة أسهمت في الإمعان في تشويه "ذهن المسلم"..
ومن هذه المقولات المدمرة..
مقولة "الكفر العملي والكفر الاعتقادي"، التي أعادت تصنيف البشر لا على أساس "العمل" بل على أساس "المعتقد" وهو اسوأ أنماط التصنيف المانع لكل أشكال التعايش مع الآخر على أسس الشراكة..
ومقولة "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة مهما كانت معاصيه، ومن لم يقلها دخل النار مهما كانت خدمته للبشرية"..
ومقولة "لا تنفع مع الكفر طاعة، ولا تضر مع الإيمان معصية"، بكل المردود الكارثي لهذه المقولة على العلاقة بين العقيدة والسلوك، أو بين النظرية والتطبيق..
فضلا عن عشرات المقولات العدمية التصنيفية التي أساءت للمسلم وللمسلمين أكثر مما اساءت لغيرهم ممن وجدت هذه التصنيفات والمقولات لتحدد مصائرهم ومآلاتهم.. إلخ..
ونتج عن ذلك أن أصبحت "السنة" أهم من "القرآن الكريم"، لأن العبث فيها كان أسهل بكثير من العبث في القرآن، للتأصيل لتلك التناقضات..
إلى أن أصبح "التاريخ" و"الفقه" و"التفسير".. إلخ.. أهم من كليهما – أي أهم من القرآن والسنة – لأن تلك المصادر أصبحت هي الأدوات الأسهل استخداما والأكثر متاحيَّة والأيسر تأويلا، للانقلابيين الذين أرادوا توظيف "النبوة" واستخدامها واستثمارها لمشروعهم "الإمبراطوري"..
وهكذا فقد تحول الإسلام الذي ألغى كل أشكال الوساطات بين الإنسان وربه في أيِّ مجال من مجالات الحياتين الدنيا والآخرة بصريح نصِّ القرآن، إلى أكثر الأديان اعتمادا على الوساطة وتكريسا لها..
فقد أصبح المسلم بحاجة إلى وسيط بينه وبين القرآن هو "لسنة"..
وإلى وسيط بينه وبين السنة "هو الفقيه والعالم"..
وإلى وسيط بينه وبين ذلك الفقيه والعالم هو "المقلد".. إلخ..
فأصبح أبعد ما يكون عن "الله" وهو يظن أنه قريب منه ومستمد منه مباشرة..
بعد أن تحولت قراءة القرآن الكريم من أداة من أدوات المعرفة، إلى أداة من أدوات التَّنَسُّك المُفَرَّغَة من أيِّ مضمون علمي ومعرفي وتواصلي حقيقي مع الله..
وبالتالي، فنحن بإزاء هذا القدر من التضليل والانحراف والتزييف في "الوعي بالإسلام" أو في "الوعي بالنبوة"، من خلال هذا النوع من الاجتزاء المؤدي إلى العَرَجِ المعرفي، أمام مطلبٍ جوهري، يتمثل في ضرورة إعادة إنتاج هذا "الوعي" بشكل مختلفٍ، يُدْخِل "النبوة" في حاضنة "العقل"، بعد أن كانت قد حُرِمَت من أن تربو وتنمو في قلب هذه الحاضنة، منذ انزواءِ حاضنة "الوحي" عن أن تكون رحما تربو فيه "النبوة" وتنمو، عقب رحيل النبي محمد عليه السلام إلى الرفيق الأعلى..